وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد الثلاثمائة
قالـت: بلغنـي أيهــا الملــك السعيــد أن خــواً الملــك لمــا نظــروا الفــرس تضاحكــوا وقالــوا وعلــى مثــل هــذا
الفــرس يكــون مــا ذكــره الفتــى فمــا أظنــه إلا مجنونــاً ولكــن ســوف يظهــر لنــا أمــره وربمــا يكــون لــه شــأن
عظيــم ثــم إنهــم رفعــوا الفـــرس علـــى أيديهـــم ولـــم يزالـــوا حامليـــن لهـــا حتـــى وصلـــوا إلـــى قـــدام الملـــك
وأوقفوهـــا بيـــن يديـــه فاجتمـــع عليهـــا النـــاس ينظـــرون مـــن حســـن صنعتهـــا وحســـن سرجهــــا ولجامهــــا
واستحسنهــا الملــك أيضــاً وتعجــب منهــا غايـــة العجـــب ثـــم قـــال لبـــن الملـــك: يـــا فتـــى أهـــذه فرســـك
فقال: نعم أيها الملك هذه فرسي وسوف ترى منها العجب.
===
فقـال لـه الملــك: خــذ فرســك واركبهــا قــال: لا أركبهــا إلا إذا بعــد عنهــا العساكــر فأمــر الملــك العسكــر
الذيــن حولــه أن يبتعــدوا عنهــا مقــدار رميــة السهــم فقـــال لـــه: أيهـــا الملـــك هاأنـــا رائـــح أركـــب فرســـي
وأحمــل علــى جيشــك فأفرقهــم يمينــاً وشمــالاً وأصــدع قلوبهــم فقــال لــه الملــك: افعــل مــا تريــد ولا تبــق
عليهـم فإنهـم لا يبقـون عليـك ثــم إن ابــن الملــك توجــه إلــى فرســه وركبهــا واصطفــت لــه الجيــوش وقــال
بعضهــم لبعــض: إذا وصــل الغلــام بيــن الصفــوف نأخــذه بأسنــة الرمــاح وشفــار الصفــاح. فقــال واحـــد
منهــم: واللــه غنهــا مصيبــة كيــف نقتــل هــذا الغلــام صلحــب الوجــه المليــح والقــد الرجيــح فقــال واحـــد
آخـر: واللـه لــن تصلــوا إليــه إلا بعــد أمــر عظيــم ومــا فعــل الفتــى هــذه الفعــال إلا لمــا علــم مــن شجاعــة
نفســه وبراعتـــه فلمـــا استـــوى ابـــن الملـــك علـــى فرســـه فـــرك لولـــب الصعـــود فتطاولـــت إليـــه الأبصـــار
لينظــروا مــاذا يريــد أن يفعــل فماجــت فرســه واضطربــت حتــى عملــت أغــرب حركــات تعملهــا الخيـــل
وامتلأ جوفها بالهواء ثم ارتفعت وصعدت في الجو.
فلمـا رآه الملــك قــد ارتفــع وصعــد علــى جيشــه قــال: ويلكــم خــذوه قبــل أن تفوتكــم فعنــد ذلــك قــال
لـه وزرائـه ونوابـه: أيهـا الملـك هــل أحــد يلحــق الطيــر الطائــر ومــا هــذا إلا سحــر عظيــم قــد نجــاك اللــه
منـه فاحمـد اللـه تعالـى علـى خلاصـك مــن يــده فرجــع الملــك إلــى قصــره بعدمــا رأى مــن ابــن الملــك مــا
رأى ولمـا وصـل إلـى قصـره ذهـب إلـى ابنتـه وأخبرهـا بمـا جـرى لـه مـع ابـن الملـك فــي الميــدان فوجدهــا
===
فلمـا رآهـا أبوهـا علـى تلـك الحالــة ضمهــا وقبلهــا بيــن عينيهــا وقــال لهــا: يــا ابنتــي احمــدي اللــه تعالــى
واشكريــه حيــث خلصنــا مــن هــذا الساحــر الماكــر وجعــل يكــرر عليهــا مـــا رآه مـــن ابـــن الملـــك ويذكـــر
لهـا صفـة صعـوده فـي الهـواء وهــي لا تصغــي إلــى شــيء مــن قــول أبيهــا واشتــد بكاؤهــا ونحيبهــا ثــم
قالت في نفسهـا: واللـه لا آكـل طعامـاً وأشـرب شرابـاً حتـى يجمـع اللـه بينـي وبينـه فحصـل لأبيهـا الملـك
هـم عظيـم مـن أجـل ذلـك وشـق عليـه حــال ابنتــه وصــار حزيــن القلــب عليهــا وكلمــا يلاطفهــا لا تــزداد
إلا شغفاً به. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التسعين بعد الثلاثمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيــد أن الملــك صــار حزيــن القلــب علــى ابنتــه وكلمــا يلاطفهــا لا تــزداد إلا
شغفاً به هذا ما كان من أمر الملك وابنته.
وأمـا مـا كـان مـن أمـر ابـن الملـك فإنـه لمـا صعـد فـي الجــو اختلــى بنفســه وتذكــر حســن الجاريــة وجمالهــا
وكــان قــد ســأل أصحــاب الملـــك عـــن اســـم المدينـــة واســـم الملـــك واســـم ابنتـــه وكانـــت تلـــك المدينـــة
صنعاء ثم أنه جد في السيرحتـى أشـرف علـى مدينـة أبيـه ودار حـول المدينـة ثـم توجـه إلـى قصـر أبيـه
ونـزل فـوق السطـح وتـرك فرسـه هنـاك ونـزل إلــى والــده ودخــل عليــه فوجــده حزينــاً كئيبــاً لأجــل فراقــه
===
فلمـا رآه والـده قـام إليـه واعتنقـه وضمـه إلـى صـدره وفــرح بــه فرحــاً شديــداً ثــم أنــه لمــا اجتمــع بوالــده
وسألــه عــن الحكيــم الــذي عمــل الفــرس وقــال: يــا والــدي مــا فعــل الدهــر بــه فقــال لــه والــده: لا بــارك
الله في الحكيـم ولا فـي الساعـة التـي رأيتـه فيهـا لأنـه هـو الـذي كـان سببـاً لفراقـك منـا وهـو مسجـون يـا
ولدي من يوم غبت عنا فأمر ابن الملك بالإفراج عنه وإخراجه من السجن وإحضاره بين يديه.
فلمـا حضـر بيـن يديـه خلـع عليـه وأحسـن إليـه غايـة الإحســان إلا أنــه لــم يزوجــه ابنتــه فغضــب الحكيــم
مـن أجـل ذلـك غضبـاً شديـداً ونـدم علــى مــا فعــل وعلــم أن ابــن الملــك قــد عــرف ســر الفــرس وكيفيــة
سيرهــا ثــم أن الملــك قــال لابنــه: الــرأي عنــدي أنــك لا تقــرب هــذا الفــرس بعــد ذلــك ولا تركبهــا أبـــداً
بعـد يومـك هـذا لأنـك لا تعـرف أحوالهـا فأنــت منهــا علــى غــرور وكــان ابــن الملــك قــد حــدث أبــاه بمــا
جرى له مع ابنة الملك صاحب نلك المدينة وما جرى له مع أبيها.
فقــال لــه أبــوه: لــو أراد الملــك قتلــك لقتلــك ولكــن فــي أجلــك تأخيــر ثــم إن ابــن الملــك هاجـــت بلابلـــه
بحـب الجاريـة ابنـة الملـك صاحــب صنعــاء فقــام إلــى الفــرس وركبهــا وفــرك لولــب الصعــود فطــارت بــه
فـي الهـواء وعلـت بـه إلـى عنـان السمــاء فلمــا أصبــح الصبــاح افتقــده أبــوه فلــم يجــده فطلــع إلــى أعلــى
القصــر وهــو ملهــوف فنظــر إلــى ابنــه وهــو صاعــد فــي الهــواء فتأســف علــى فراقــه ونــدم كـــل النـــدم
حيـث لـم يأخـذ الفـرس ويخفـي أمـره ثـم قـال فـي نفسـه: واللـه إن رجـع إلـي ولـدي مـا بقيـت أخلـي هــذا
===
الفـرس لأجــل أن يطمئــن قلبــي علــى ولــدي ثــم إنــه عــاد إلــى بكائــه ونحيبــه. وأدرك شهــرزاد الصبــاح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والتسعين بعد الثلاثمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الملـك عـاد إلــى بكائــه ونحيبــه مــن حزنــه علــى ولــده هــذا مــا كــان
من أمره.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر ابنــه فإنــه لــم يــزل سائــراً فــي الجــو حتــى وقــف علــى مدينــة صنعــاء ونــزل فــي
المكـان الـذي كـان فيـه أولاً ومشـى مستخفيـاً حتـى وصـل إلـى محـل ابنــة الملــك فلــم يجدهــا لا هــي ولا
جواريهــا ولا الخــادم الــذي كــان محافظــاً عليهــا فعظــم عليــه ذلــك ثــم إنــه دار يفتــش عليهــا فــي القصــر
فوجدهــا فــي مجلــس آخــر غيــر محلهــا الــذي اجتمــع معهــا فيــه وقــد لزمــت الوســـاد وحولهـــا الجـــواري
والدايات فدخل عليهن وسلم عليهن.
فلمــا سمعــت الجاريــة كلامــه قامــت إليــه واعتنقتــه وجعلــت تقبلــه بيــن عينيــه وتضمـــه إلـــى صدرهـــا
فقـال لهــا: يــا سيدتــي أوحشتينــي هــذه المــدة فقالــت لــه: أنــت الــذي أوحشتنــي ولــو طالــت غيبتــك
عنــي لكنــت هلكــت بــلا شــك فقــال لهــا: يــا سيدتــي كيــف رأيــت حالــي مــع أبيــك ومــا صنــع بـــي
===
ولـولا محبتـك يـا فتنـة العالميـن لقتلتــه وجعلتــه عبــرة للناظريــن ولكــن أحبــه مــن أجلــك فقالــت لــه: كيــف
تغيـب عنـي وهـل تطيـب حياتـي بعـدك فقــال لهــا: أتطيعينــي وتصغــي إلــى قولــي فقالــت لــه: قــل مــا
شئـت فإنـي أجيبـك إلـى مـا تدعونـي إليـه ولا أخالفـك فـي شــيء فقــال لهــا: سيــري معــي إلــى بلــادي
وملكي فقالت له: حباً وكرامة.
فلمــا سمــع ابــن الملــك كلامهــا فـــرح فرحـــاً شديـــداً وأخـــذ بيدهـــا وعاهدهـــا بعهـــد اللـــه تعالـــى علـــى
ذلــك ثــم صعــد بهــا إلــى أعلــى سطــح القصــر وركــب فرســه وأركبهــا خلفــه ثــم ضمهــا إليــه وشدهــا
شــداً وثيقـــاً وحـــرك لولـــب الصعـــود الـــذي فـــي كتـــف الفـــرس فصعـــدت بهمـــا إلـــى الجـــو فعنـــد ذلـــك
زعقــت الجــواري وأعلمــن الملــك أباهــا وأمهــا فصعــدا مبادريــن إلــى سطــح القصــر والتفــت الملــك إلـــى
الجـو فـرأى الفـرس الآبنـوس وهـي طائـرة بهمـا فـي الهـواء فعنـد ذلـك انزعـج الملــك وزاد انزعاجــه وقــال:
يا ابن الملك سألتك بالله أن ترحمني وترحم زوجتي ولا تفرق بيننا وبين بنتنا فلم يجبه ابن الملك.
ثـم أن ابـن الملـك ظــن فــي نفســه أن الجاريــة ندمــت علــى فــراق أمهــا وأبيهــا فقــال لهــا: يــا فتنــة الزمــان
هـل لــك أن أردك إلــى أمــك وأبيــك فقالــت لــه: يــا سيــدي واللــه مــا مــرادي ذلــك إنمــا مــرادي أن أكــون
معك أينما تكون لأنني مشغولة بمحبتك عن كل شيء حتى أبي وأمي.
فلمـا سمـع ابــن الملــك كلامهــا فــرح بذلــك فرحــاً شديــداً وجعــل يسيــر الفــرس بهمــا سيــراً لطيفــاً لكيــلا
===
يزعجهـا ولـم يـزل يسيـر بهـا حتـى نظـر إلـى مـرج أخضـر وفيـه عيـن جاريـة فنـزلا هنـاك وأكـلا وشربـا ثـم
أن ابـن الملـك ركـب فرسـه وأردفهـا خلفـه وأوثقهـا بالربـاط خوفـاً عليهـا وسـار بهــا ولــم يــزل فــي الهــواء
حتى وصل إلى مدينة أبيه فاشتد فرحه.
ثـــم أراد أن يظهـــر للجاريـــة محـــل سلطانـــه وملـــك أبيـــه ويعرفهـــا أن ملـــك أبيـــه أعظـــم مـــن ملــــك أبيهــــا
فأنزلهـا فـي بعـض البساتيـن التـي يتفـرج فيهـا والـده وأدخلهـا فــي المقصــورة المعــدة لأبيــه واوقــف الفــرس
الآبنــوس علــى بــاب تلــك المقصــورة وأوصــى الجاريــة بالمحافظــة علــى الفــرس وقـــال لهـــا اقعـــدي ههنـــا
حتــى أرســل إليــك رسولــي فإنــي متوجــه إلــى أبــي لأجـــل أن أهـــيء لـــك قصـــراً وأظهـــر لـــك ملكـــي
ففرحـــت الجاريـــة عندمـــا سمعـــت منـــه هـــذا الكلـــام وقالـــت لـــه: افعــــل مــــا تريــــد. وأدرك شهــــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة فرحــت عندمـــا سمعـــت منـــه هـــذا الكلـــام وقالـــت لـــه:
افعـل مــا تريــد ثــم خطــر ببالهــا أنهــا لا تدخــل إلا بالتبجيــل والتشريــف كمــا يصلــح لأمثالهــا ثــم أن ابــن
الملــك تركهــا وســار حتــى وصــل إلــى المدينــة ودخـــل علـــى أبيـــه فلمـــا رأى أبـــوه فـــرح بقدومـــه وتلقـــاه
===
ورحـب بـه ثـم أن ابـن الملـك قـال لوالـده: اعلـم أننــي أتيــت ببنــت الملــك التــي كنــت أعلمتــك بهــا وقــد
تركتهـا خـارج المدينـة فـي بعـض البساتيـن وجئـت أعلمـك بهـا لأجــل أن تهــيء الموكــب وتخــرج لملاقاتهــا
وتظهـر لهـا ملكـك واعوانــك وجنــودك. فقــال لــه الملــك: حبــاً وكرامــة ثــم أمــر مــن وقتــه وساعتــه أهــل
المدينــة أن يزينــوا المدينــة أحســـن زينـــة وركـــب فـــي أكمـــل هيبـــة وأحســـن زينـــة هـــو وجميـــع عساكـــره
وأكابــر دولتــه وسائــر مملكتــه وخدمــه وأخــرج ابــن الملــك مــن قصــره الحلـــي والحلـــل ومـــا تدخـــره الملـــوك
وهيـــأ لهـــا عمـــارة مـــن الديبـــاج الأخضـــر والأحمـــر والأصفـــر وأجلــــس علــــى تلــــك العمــــارة الهنديــــات
والروميات والحبشيات وأظهر من الذخائر شيئاً عجيباً.
ثـم أن ابـن الملـك تـرك العمـارة بمـن فيهـا وسبـق إلــى البستــان ودخــل المقصــورة التــي تركهــا فيهــا وفتــش
فيهـا فلـم يجدهـا ولـم يجـد الفـرس فعنـد ذلـك لطـم علـى وجهـه ومـزق ثيابـه وجعـل يطـوف فـي البستـان
وهـو مدهـوش العقـل ثـم بعـد ذلـك رجـع إلــى عقلــه وقــال فــي نفســه: كيــف علمــت بســر هــذا الفــرس
وأنـا لـم أعلمهـا بشــيء مــن ذلــك ولعــل الحكيــم الفارســي الــذي عمــل الفــرس قــد وقــع عليهــا وأخذهــا
جـزاء مـا عملـه والـدي معـه ثـم أن ابـن الملـك طلـب حـراس البستـان وسألهــم عمــن مــر بهــم وقــال لهــم:
هـل نظرتـم أحـداً مـر بكـم ودخـل هـذا البستـان فقالــوا: مــا رأينــا أحــداً دخــل البستــان ســوى الحكيــم
الفارســـي فإنـــه دخـــل ليجمـــع الحشائـــش النافعـــة فلمـــا سمـــع كلامهـــم صـــح عندهــــم أن الــــذي أخــــذ
===
وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن ابــن الملــك لمــا سمــع كلامهــم صــح عنــده أن الــذي أخـــذ الجاريـــة
هـو ذلـك الحكيـم وكـان بالأمـر المقـدر أن ابـن الملــك لمــا تــرك الجاريــة فــي المقصــورة التــي فيهــا البستــان
وذهـب إلـى قصـر أبيـه ليهـيء أمـره دخـل الحكيـم الفارسـي البستـان ليجمـع شيئـاً مــن الحشيــش النافــع
فشـم رائحـة المسـك الطيـب التـي عبـق منهـا المكـان وكـان ذلــك الطيــب مــن رائحــة ابنــة الملــك فقصــد
الحكيــم تلــك الرائحــة حتــى وصــل إلــى تلــك المقصــورة فـــرأى الفـــرس التـــي صنعهـــا بيـــده علـــى بـــاب
المقصورة.
فلمــا رأى الحكيــم الفــرس امتــلأ قلبــه فرحــاً وســروراً إلا أنــه كــان كثيــر التأســف علــى الفـــرس حيـــث
خرجـــت مـــن يـــده فتقـــدم إلـــى الفـــرس وافتقـــد جميــــع أجزائهــــا فوجدهــــا سالمــــة ولمــــا أراد أن يركبهــــا
ويسيـر قـال فـي نفسـه: لا بـد أن أنظـر مـا جـاء بــه ابــن الملــك وتركــه مــع الفــرس ههنــا فدخــل المقصــورة
فوجـد الجاريـة جالسـة وهـي كالشمـس الصاحيــة فــي السمــاء الصافيــة ثــم توجــه إلــى المدينــة ليجــيء
لهـا بموكـب ويدخلهـا المدينـة فقالـت لـه: مـن أنـت فقـال لهــا: يــا سيدتــي أنــا رســول الملــك قــد أرسلنــي
إليــك وأمرنــي أن أنقلــك إلــى بستــان آخــر قريــب مــن المدينــة. فلمــا سمعــت الجاريــة منـــه ذلـــك الكلـــام
===
وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الحكيــم الفــارس لمــا أخبــر الجاريــة بأحـــوال ابـــن الملـــك صدقـــت
كلامـه ودخـل فـي عقلهـا وقامـت معـه ووضعـت يدهـا فـي يـده ثـم قالـت لـه: يـا والـدي مـا الــذي جئــت
لـي بـه معـك حتـى أركبـه فقـال: يـا سيدتـي الفـر سالتـي جئـت عليهـا تركبينهـا فقالـت لــه: أنــا لا أقــدر
علـى ركوبهـا وحـدي فتبسـم الحكيـم عندمـا سمـع ذلــك وعلــم أنــه قــد ظفــر بهــا فقــال لهــا: أنــا أركــب
معــك بنفســي ثــم ركــب وأركــب الجاريــة خلفـــه وضمهـــا إليـــه وشـــد وثاقهـــا وهـــي لا تعلـــم مـــا يريـــد
بهـــا ثـــم إنـــه حـــرك لولـــب الصعـــود فامتــــلأ جــــوف الفــــرس بالهــــواء وتحركــــت وماجــــت ثــــم ارتفعــــت
صاعـدة فـي الجـو ولـم تـزل سائـرة بهمـا حتـى غابـت عـن المدينـة. فقالـت لـه الصبيـة: يـا هـذا أيـن الـذي
قلتــه عــن ابــن الملــك حيــث زعمــت أنــه أرسلـــك إلـــي فقـــال لهـــا الحكيـــم: قبـــح اللـــه ابـــن الملـــك فإنـــه
خبيـث لئيـم فقالـت لــه: يــا ويلــك كيــف تخالــف أمــر مولــاك فيمــا أمــرك بــه فقــال لهــا: ليــس هــو مولــاي
فهــل تعرفيــن مــن أنــا فقالــت: لا أعرفــك إلا بمــا عرفتنــي بــه عــن نفســك فقــال لهــا: إنمــا إخبـــاري لـــك
بهــذا الخبــر حيلــة منــي عليــك وعلــى ابــن الملــك ولقــد كنــت متأسفــاً طــول عمــري علــى هــذه الفـــرس
التـي تحتـك فإنهـا صناعتـي وكـان قـد استولـى عليهــا والــآن قــد ظفــرت بهــا وبــك أيضــاً وقــد أحرقــت
===
فلمــا سمعــت الجاريــة كلامــه لطمــت علـــى وجههـــا ونـــادت: يـــا أسفـــاه لا حصلـــت حبيبـــي ولا بقيـــت
عنـد أبـي وأمـي وبكــت بكــاءً شديــداً علــى مــا حــل بهــا ولــم يــزل الحكيــم سائــراً بهــا إلــى بلــاد الــروم
حتــى نــزل بهــا فــي مــرج أخضــر ذي أنهــار وأشجــار واكــن ذلــك المــرج بالقــرب مــن مدينـــة وفـــي تلـــك
المدينــة ملــك عظيــم الشــأن فاتفــق فــي ذلــك اليــوم أن ملـــك تلـــك المدينـــة خـــرج إلـــى الصيـــد والنزهـــة
فجــاز علــى ذلــك المــرج فـــرأى الحكيـــم واقفـــاً والفـــرس والجاريـــة بجانبـــه فلـــم يشعـــر الحكيـــم إلا وقـــد
هجـم عليـه عبيـد الملـك وأخـذوه هـو والجاريـة والفـرس وأوقفـوا الجميــع بيــن يــدي الملــك فلمــا نظــر إلــى
قبـح منظـره وبشاعتـه ونظــر إلــى حســن الجاريــة وجمالهــا قــال لهــا: يــا سيدتــي مــا نسبــة هــذا الشيــخ
منـك فبـادر الحكيــم بالجــواب وقــال: هــي زوجتــي وابنــة عمــي كذبتــه الجاريــة عندمــا سمعــت قولــه
وقالت: أيها الملك والله لا أعرفه ولا هو بعلي بل أخذني قهراً بالحيلة.
فلمـا سمـع الملــك مقالهــا أمــر بضربــه فضربــوه حتــى كــاد أن يمــوت ثــم أمــر الملــك أن يحملــوه إلــى المدينــة
ويطرحــوه فــي السجــن ففعلــوا بــه ذلــك ثــم إن الملــك أخــذ الجاريــة والفــرس منــه ولكنــه لـــم يعلـــم بأمـــر
الفرس ولا بكيفية سرها. هذا ما كان من أمر الحكيم والجارية.
وأمـا مـا كــان مــن أمــر ابــن الملــك فإنــه لبــس ثيــاب السفــر وأخــذ مــا يحتــاج إليــه مــن المــال وسافــر وهــو
فـي أسـوأ حـال وسـار مسرعـاً يقتـص الأثـر فـي طلبهمـا مـن بلـد إلـى بلـد ومـن مدينـة إلـى مدينـة ويســأل
===
عـن الفـرس الآبنـوس وكـل مـن سمـع منــه خبــر الفــرس الآبنــوس يتعجــب منــه ويستعظــم ذلــك منــه فأقــام
علـى هـذا الحــال مــدة مــن الزمــان ومــع كثــرة الســؤال والتفتيــش عليهمــا لــم يقــع لهمــا علــى خبــر ثــم إنــه
ســار إلــى مدينــة أبــي الجاريــة وســأل هنــاك فلــم يسمــع لهــا بخبــر ووجـــد أباهـــا حزينـــاً علـــى فقدهـــا
فرجــع وقصــد بلــاد الــروم وجعــل يقتــص أثرهمـــا ويســـأل عنهمـــا. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت
عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن ابــن الملــك قصــد بلــاد الــروم وجعــل يقتــص أثرهمــا ويســأل عنهمــا
فاتفـق أنـه نـزل فـي خـان مـن الخانـات فـرأى جماعــة مــن التجــار جالسيــن يتحدثــون فجلــس قريبــاً منهــم
فسمــع أحدهــم يقــول: لقــد رأيــت عجبــاً مــن العجائــب فقالــوا: ومــا هــو قــال: إنـــي كنـــت فـــي بعـــض
الجهــات مـــن مدينـــة كـــذا وذكـــر اســـم المدينـــة التـــي فيهـــا الجاريـــة فسمعـــت أهلهـــا يتحدثـــون بحديـــث
غريــب وهــو أن ملــك المدينــة خــرج يومــاً مــن الأيــام إلـــى الصيـــد والقنـــص ومعـــه جماعـــة مـــن أصحابـــه
وأكابــر دولتــه. فلمــا طلعــوا إلــى البريــة جــازوا علــى مــرج أخضــر فوجــدوا هنــاك رجـــلاً واقفـــاً وإلـــى
جانبــه امــرأة جالســة ومعــه فــرس مــن آبنــوس فامــا الرجــل فإنــه قبيــح المنظــر مهــول الصــورة جـــداً وأمـــا
===
المــرأة فإنهــا صبيــة ذات حســن وجمــال وبهــاء وكمـــال وقـــد واعتـــدال وأمـــا الفـــرس فإنهـــا مـــن العجائـــب
التــي لــم يــر الــراؤون أحســن منهــا ولا أجمــل مــن صنعتهـــا فقـــال لـــه الحاضـــرون: فمـــا فعـــل الملـــك بهـــم
فقـال: أمـا الرجـل فإنــه أخــذه الملــك وسألــه عــن الجاريــة فادعــى أنهــا زوجتــه وابنــة عمــه وامــا الجاريــة
فإنهـا كذبتـه فـي قولـه فاخذهـا الملـك منـه وامـر بضربـه وطرحــه السجــن وأمــا الفــرس الآبنــوس فمــا لــي
بها علم.
فلمـا سمـع ابـن الملـك هـذا الكلــام مــن التاجــر دنــا منــه وصــار يسألــه برفــق وتلطــف حتــى أخبــره اســم
المدينـة واسـم ملكهـا فلمـا عـرف ابـن الملـك اسـم المدينـة واســم ملكهــا بــات ليلتــه مســرور فلمــا أصبــح
الصبــاح خــرج وسافــر ولــم يــزل مسافــراً حتـــى وصـــل إلـــى تلـــك المدينـــة فلمـــا أراد أن يدخلهـــا أخـــذه
البوابــون وأرادوا إحضــاره قــدام الملــك ليسألــه عــن حالــه وعــن سبــب مجيئــه إلــى تلـــك المدينـــة وعمـــا
يحسنـــه مـــن الصنائـــع وكانـــت هـــذه عـــادة الملـــك مـــن ســـؤال الغربــــاء عــــن أحوالهــــم وصنائعهــــم وكــــان
وصــول ابــن الملــك إلــى تلــك المدينــة فــي وقــت لا يمكــن الدخــول فيــه علــى الملـــك ولا المشـــاورة عليـــه
فأخذه البوابون وأتوا به إلى السجن ليضعوه فيه.
فلمـا نظـر السجانــون إلــى حسنــه وجمالــه لــم يهــن عليهــم أن يدخلــوه السجــن بــل أجلســوه معهــم خــارج
السجــن فلمــا جاءهــم الطعــام أكــل معهــم بحســب الكفايــة فلمــا فرغــوا مــن الأكــل جعلــوا يتحدثـــون ثـــم
===
أقبلــوا علــى ابــن الملــك وقالــوا لــه: مــن أي البلــاد أنــت فقــال: أنــا مـــن بلـــاد فـــارس بلـــاد الكاســـرة فلمـــا
سمعــــوا كلامــــه ضحكــــوا وقــــال بعضهــــم: يـــــا كســـــروى لقـــــد سمعـــــت حديـــــث النـــــاس وأخبارهـــــم
وشاهـدت احوالهـم فمـا رأيــت أكــذب مــن هــذا الكســروى الــذي عندنــا فــي السجــن فقــال آخــر: ولا
رأيـت أقبـح مـن خلقتـه ولا أبشـع مـن صورتـه فقـال لهــم: مــا الــذي بــان لكــم مــن كذبــه. فقالــوا: زعــم
أنـه حكيـم وكـان الملـك قـد رآه فـي طريقـه وهـو ذاهـب إلـى الصيـد ومعــه امــرأة بديعــة الحســن والجمــال
والبهــاء والكمــال والقــد والإعتــدال ومعــه أيضــاً فــرس مــن الآبنــوس الأســود مارأينـــا قـــط أحســـن منهـــا
فأمــا المــرأة فهــي عنــد الملــك وهــو لهــا محــب ولكــن تلــك المــرأة مجنونـــة ولـــو كـــان ذلـــك الرجـــل حكيمـــاً
لداواهــا والملــك مجتهــد فــي علاجهــا وغرضــه مداواتهــا ممــا هــي فيــه وأمــا الفــرس الآبنــوس فإنهـــا فـــي
خزانــة الملــك وامــا الرجــل القبيـــح المنظـــر الـــذي كـــان معهـــا فإنـــه عندنـــا فـــي السجـــن فـــإذا جـــن الليـــل
يبكــي وينتحــب أسفــاً علــى نفســه ولا يدعنـــا ننـــام. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن الكلـــام
المباح.
وفي الليلة السادسة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن المزكليــن فــي السجــن لمــا اخبــروه بخبــر الحكيــم الفارســـي الـــذي
===
عندهـم فـي السجـن وبمـا هـو فيـه مـن البكـاء والنحيـب خطـر ببالـه أن يدبـر تدبيـراً ليبلــغ غرضــه فلمــا
أراد البوابـــون النـــوم أدخلوهالسجـــن وأغلقـــوا عليـــه البـــاب فسمـــع الحكيـــم يبكـــي وينـــوح علـــى نفســـه
بالفارسيـة ويقـول فـي نوحـه: الويـل لـي بمــا جنيــت علــى نفســي وعلــى ابــن الملــك وبمــا فعلــت بالجاريــة
حيـث لـم أتركهـا ولـم أظفـر بمـرادي وذلـك كلــه مــن ســوء تدبيــري فإنــي طلبــت لنفســي مــا لا أستحقــه
وما لا يصلح لمثلي ومن طلب ما لا يصلح له وقع في مثل ما وقعت فيه.
فلمـا سمــع ابــن الملــك كلــام الحكيــم كلمــه بالفارسيــة وقــال لــه: إلــى كــم هــذا البكــاء والعويــل هــل تــرى
أنــه أصابــك مــا لــم يصــب غيــرك فلمــا سمــع الحكيــم كلامــه أنــس بــه وشكــا إليــه حالـــه ممـــا يجـــده مـــن
المشقــة فلمــا أصبــح الصبــاح أخــذ البوابــون ابــن الملــك واتــوا بـــه إلـــى ملكهـــم وأعلمـــوه أنـــه وصـــل إلـــى
المدينـة بالأمـس فـي وقـت لا يمكـن الدخـول فيـه علــى الملــك فسألــه الملــك وقــال لــه: مــن أي البلــاد ومــا
اسمـك ومـا صنعتـك ومـا سبـب مجيئــك إلــى هــذه المدينــة فقــال ابــن الملــك أمــا اسمــي فإنــه بالفارسيــة
حرجـــة وأمـــا بلـــادي فهـــي بلـــاد فـــارس وانــــا مــــن اهــــل العلــــم وخصوصــــاً علــــم الطــــب فإنــــي أداوي
المرضـى والمجانيــن ولهــذا أطــوف فــي الأقاليــم والمــدن لأستفيــد علمــاً علــى علمــي وإذا رأيــت مريضــاً
فإني أداويه فهذه صنعتي.
فلمـا سمـع الملـك كلامــه فــرح بــه فرحــاً شديــداً وقــال لــه: أيهــا الحكيــم الفاضــل لقــد وصلــت إلينــا فــي
===
وقــت الحاجــة إليــك ثــم أخبــره بخبــر الجاريــة وقــال لــه: إن داويتهـــا وأبرأتهـــا مـــن جنونهـــا فلـــك عنـــدي
جميـع مـا تطلبـه فلمـا سمـع كلـام الملـك قـال لــه: أعــز اللــه الملــك صــف لــي كــل شــيء رأيتــه مــن جنونــي
وأخبرنـي منـذ كــم يــوم عــرض لهــا هــذ الجنــون وكيــف أخذتهــا هــي والفــرس والحكيــم فأخبــره بالخبــر
مـن أولـه إلـى آخـره ثـم قـال لـه: إن الحكيـم فـي السجـن فقـال لــه: أيهــا الملــك السعيــد مــا فعلــت بالفــرس
التي كانت معهما فقال له: باقية عندي إلى الآن في بعض المقاصير.
فقـال ابـن الملـك فـي نفسـه: إن مـن الــرأي عنــدي أن اتفقــد الفــرس وأنظرهــا قبــل كــل شــيء فــإن كانــت
سالمـة لـم يحـدث فيهـا أمـر فقـد تـم لـي كــل مــا أريــد وإن رأيتهــا قــد بطلــت حركتهــا تحيلــت بحيلــة فــي
خلــاص مهجتــي ثــم التفــت إلــى الملــك وقـــال لـــه: ينبغـــي أن أنظـــر الفـــرس المذكـــور لعلـــي أجـــد شيئـــاً
يعيننــي علــى بــرء الجاريــة فقــال لــه الملــك: حبــاً وكرامــة ثــم قــام الملــك وأخــذه بيــده ودخــل معـــه إلـــى
الفــرس فجعــل ابــن الملـــك يطـــوف حـــول الفـــرس ويتفقدهـــا وينظـــر أحوالهـــا فوجدهـــا سالمـــة لـــم يعبهـــا
شـيء ففــرح ابــن الملــك بذلــك فرحــاً شديــداً وقــال: أعــز اللــه الملــك إنــي أريــد الدخــول علــى الجاريــة
حتـى أنظـر مـا يكـون منهـا وأرجـو اللـه أن يكــون برؤهــا علــى يــدي بسبــب الفــرس إن شــاء اللــه تعالــى
ثم أمر بالمحافظة على الفرس ومضى به الملك إلى البيت الذي فيه الجارية.
فلمـا دخـل عليهــا ابــن الملــك وجدهــا تتخبــط وتنصــرع علــى عادتهــا ولــم يكــن بهــا جنــون وإنمــا تفعــل
===
ذلــك حتــى لا يقربهــا أحــد فلمــا رآهــا ابــن الملــك علــى هــذه الحالــة قــال لهــا: لا بــأس عليــك يـــا فتنـــة
العالميـن ثـم أنـه جعـل يرفـق بهـا ويلاطفهــا إلــى أن عرفهــا بنفســه فلمــا عرفتــه صاحــت صيحــة عظيمــة
حتـى غشــي عليهــا مــن شــدة مــا حصــل لهــا مــن الفــرح فظــن الملــك أن هــذه الصرعــة مــن فزعهــا منــه
ثــم إن ابــن الملــك وضــع فمــه علــى أذنهــا وقــال لهــا: يــا فتنـــة العالميـــن احقنـــي دمـــي ودمـــك واصبـــري
وتجلـدي فقالـت لـه: سمعـاً وطاعـة ثـم إنـه خــرج مــن عندهــا وتوجــه إلــى الملــك فرحــاً مســروراً وقــال:
أيهــا الملــك السعيــد قــد عرفــت بسعادتــك داءهــا ودواءهــا وقــد داويتهــا لــك فقــم الـــآن وادخـــل إليهـــا
وليــن كلامــك لهــا وترفــق بهــا وعدهــا بمــا يسرهــا فإنــه يتــم لــك كـــل مـــا تريـــد منهـــا. وأدرك شهـــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن ابــن الملــك لمــا جعــل نفســه حكيمــاً ودخــل علــى الجاريــة وأعلمهــا
بنفسـه وأخبرهـا بالتدبيـر الـذي يدبـره فقالـت لـه: سمعـاً وطاعـة ثـم خـرج مـن عندهـا وتوجـه إلـى الملـك
وقـال لـه: قـم ادخـل عليهـا وليـن كلامـك لهـا وترفــق بهــا وعدهــا بمــا يسرهــا فإنــه يتــم لــك كــل مــا تريــد
منهــا فقــام الملــك ودخــل عليهــا فلمــا رأتــه قامــت إليــه وقبلـــت الـــأرض بيـــن يديـــه ورحبـــت بـــه ففـــرح
===
الملــك بذلــك فرحــاً شديــداً ثــم أمــر الجــواري والخـــدم أن يقومـــوا بخدمتهـــا ويدخلوهـــا الحمـــام ويجهـــزوا
لهـا الحلـي والحلـل فدخلــوا إليهــا وسلمــوا عليهــا فــردت عليهــم السلــام بألطــف منطــق وأحســن كلــام ثــم
ألبسوهــا حلــلاً منملابــس الملــوك ووضعـــوا فـــي عنقهـــا عقـــداً مـــن الجواهـــر وســـاروا بهـــا إلـــى الحمـــام
وخدموهــا ثــم أخرجوهــا مــن الحمــام كأنهــا بــدر التمــام ولمــا وصلــت إلــى الملــك سلمــت عليــه وقلبــت
الـأرض بيـن يديـه فحصـل للملـك بهــا ســرور عظيــم وقــال لابــن الملــك كــل ذلــك ببركتــك زادنــا اللــه مــن
نفحاتـك. فقـال لـه ابـن الملـك: إن تمـام برئهــا وكمــال أمرهــا أنــك تخــرج أنــت وكــل مــن معــك مــن أعوانــك
وعسكــرك إلــى المحــل الــذي كنــت وجدتهــا فيــه وتكــون صحبتــك الفــرس الآبنـــوس التـــي كانـــت معهـــا
لأجــل أن أعقــد عنهـــا العـــارض هنـــاك وأسجنـــه وأقتلـــه فـــلا يعـــود إليهـــا أبـــداً فقـــال لـــه الملـــك: حبـــاً
وكرامــة ثــم أخــرج الفــرس الآبنــوس إلــى المــرج الــذي وجدهـــا فيـــه هـــي والجاريـــة والحكيـــم الفارســـي
وركـب الملـك مـع جيشــه وأخــذ الجاريــة معــه وهــم لا يــدرون مــا يريــد أن يفعــل فلمــا وصــل إلــى ذلــك
المـرج أمـر ابـن الملـك الــذي جعــل نفســه حكيمــاً أن توضــع الجاريــة والفــرس بعيــداً عــن الملــك والعساكــر
بمقـدار مـد البصـر وقـال للملـك: دستــور عــن إذنــك أنــا أريــد أن أطلــق البخــور وأتلــو العزيمــة وأسجــن
العـارض هنــا حتــى لا يعــود إليهــا أبــداً ثــم بعــد ذلــك أركــب الفــرس الآبنــوس وأركــب الجاريــة خلفــي
فـإذا فعلـت ذلـك الفــرس تضطــرب وتمشــي حتــى تصــل إليــك وأدرك شهــرزاد الصبــاح فسكتــت عــن
===
وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن ابـن الملـك لمـا قــال لملــك الــروم: حتــى تصــل إليــك فعنــد ذلــك يتــم
الأمـر فافعـل بهـا بعـد ذلـك مـا تريـد فلمـا سمـع الملـك كلامـه فـرح فرحـاً شديــداً ثــم أن ابــن الملــك ركــب
الفــرس ووضــع الصبيــة خلفــه وصــار الملــك وجميــع عساكــره ينظـــرون إليـــه ثـــم إنـــه ضمهـــا إليـــه وشـــد
وثاقهــا وبعــد ذلــك فــرك ابــن الملــك لولــب الصعــود فصعــدت بهمــا الفــرس فــي الهــواء والعساكـــر تنظـــر
إليـه حتـى غـاب عـن اعينهـم ومكـث الملــك نصــف يــوم ينتظــر عودتــه إليــه فلــم يعــد فيئــس منــه ونــدم
ندمــاً عظيمــاً وتأســف علــى فــراق الجاريــة ثــم أخــذ عسكــره وعــاد إلــى مدينتــه. هــذا مــا كــان مـــن
أمره.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر ابــن الملــك فإنــه قصــد مدينــة أبيــه فرحــاً مســروراً ولــم يـــزل سائـــراً إلـــى أن نـــزل
علـى قصـره وأنــزل الجاريــة فــي القصــر وامــن عليهــا ثــم ذهــب إلــى أبيــه وأمــه فسلــم عليهمــا وأعلمهمــا
بقدوم الجارية ففرحا بذلك فرحاً شديداً. هذا ما كان من أمر ابن الملك والفرس والجارية.
وأمــا ماكــان مــن أمــر ملــك الــروم فإنــه لمــا عــاد إلــى مدينتــه احتجــب فــي قصــره حزينـــاً كئيبـــاً فدخـــل
عليــه وزراؤه وجعلــوا يسلونــه ويقولــون لــه أن الــذي أخــذ الجاريــة ساحــراً والحمــد للــه الــذي نجــاك مـــن
===
سحــره ومكــره ومــا زالــوا بــه حتـــى تسلـــى عنهـــا وأمـــا ابـــن الملـــك فإنـــه عمـــل الولائـــم العظيمـــة لأهـــل
المدينة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيــد أن ابــن الملــك عمــل الولائــم العظيمــة لأهــل المدينــة وأقامــوا فــي الفــرح
شهــراً كامــلاً ثــم دخــل علــى الجاريــة وفرحــا ببعضهمــا فرحــاً شديــداً هــذا مــا كــان مــن أمــره وأمــا مــا
كـان مـن أمـر والــده فإنــه كســر الفــرس الآبنــوس وأبطــل حركاتهــا ثــم إن ابــن الملــك كتــب كتابــاً إلــى أبــي
الجاريــة وذكــر لــه فيهــا حالهــا وأخبــره أنــه تــزوج بهــا وهــي عنــده فــي أحســن حـــال وأرسلـــه إليـــه مـــع
الرســول وصحبتــه هدايــا وتحفــاً نفيســة فلمــا وصــل الرســول إلـــى مدينـــة أبـــي الجاريـــة وهـــي صنعـــاء
اليمـن اوصــل الكتــاب والهدايــا إلــى ذلــك الملــك. فلمــا قــرأ الكتــاب فــرح فرحــاً شديــداً وقبــل الهدايــا
واكـرم الرسـول ثـم جهـز هديـة سنيــة لصهــره ابــن الملــك وأرسلهــا إليــه مــع ذلــك الرســول فرجــع بهــا إلــى
ابـن الملـك وأعلمـه بفـرح الملـك أبـي الجاريـة حيـن بلغـه خبـر ابنتـه فحصـل لـه سـرور عظيــم وصــار ابــن
الملـك فـي كـل سنــة يكاتــب صهــره ويهاديــه ولــم يزالــوا كذلــك حتــى توفــي الملــك أبــو الغلــام وتولــى هــو
بعــده فــي المملكــة فعــدل فــي الرعيــة وســار فيهــم بسيــرة مرضيــة فدانــت لـــه البلـــاد واطاعتـــه البلـــاد
===
واستمــروا علــى هــذه الحالــة فـــي ألـــذ عيـــش وأهنـــأه وأرغـــده إلـــى أن أتاهـــم هـــازم اللـــذات ومفـــرق
الجماعات ومخرب القصور ومعمر القبور فسبحان الذي لا يموت وبيده الملك والملكوت.
===
حكاية أنس الوجود مع محبوبته الورد في الأكمام
وممـا يحكـى أيضـاً أنـه فــي قديــم الزمــان وسالــف العصــر والــأوان ملــك عظيــم الشــأن ذو عــز وسلطــان
وكــان لــه وزيــر يسمــى ابراهيــم وكانــت لــه ابنــة بديعــة الحســن والجمـــال فائقـــة فـــي البهجـــة والكمـــال.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد بـــأن بنـــت الملـــك كانـــت فائقـــة البهجـــة والكمـــال ذات عقــــل وافــــر
وأدب باهــر إلا أنهــا تهـــوى المنادمـــة والـــراح والوجـــوه الملـــاح ورقائـــق الأشعـــار ونـــوادر الأخبـــار تدعـــو
العقول إلى الهوى رقة معانيها كما قال فيها بعض واصفيها:
كلفت بها فتانة التـرك والعـرب تجادلني في الفقه والنحو والأدب
تقول أنا المفعول بي وخفضتني لماذا وهذا فاعل فلـم أنتصـب
فقلت لها نفسي وروحي لك الفدا ألم تعلمي أن الزمان قد انقلـب
وإن كنت يوماً تنكريـن انقلابـه فها انظري ما عقدة الرأس في الذنب
وكـان اسمهـا الـورد فـي الأكمـام وسبــب تسميتهــا بذلــك فــرط رقتهــا وكمــال بهجتهــا وكــان الملــك محبــاً
===
منادمــاً لكمــال أدبهــا ومــن عــادة الملــك أنــه فــي كــل عــام يجمــع أعيــان مملكتــه ويلعــب بالكــرة فلمـــا كـــان
ذلـك اليـوم الـذي يجمـع فيـه النـاس للعـب بالكـرة جلسـت ابنـة الوزيـر فـي الشبـاك لتتفـرج فبينمـا هـم فــي
اللعـب إذ لاحـت منهـا التفاتـة فـرأت بيـن العسكـر شابـاً لـم يكـن أحسـن منـه منظــراً ولا أبهــى طلعــة نيــر
الوجـه ضاحـك السـن طويـل البـاع واسـع المنكـب فكـررت فيـه مــراراً فيــه النظــر فلــم تشبــع منــه النظــر
فقالـت لدايتهـا: مــا اســم هــذا الشــاب المليــح الشمائــل الــذي بيــن العسكــر فقالــت لهــا: يــا بنتــي الكــل
ملــاح فمــن هــو فيهــم فقالــت لهــا: اصبــري حتــى أشيـــر لـــك عليـــه ثـــم أخـــذت تفاحـــة ورمتهـــا عليـــه
فرفـع رأسـه فـرأى ابنـة الوزيـر فـي الشبــاك كأنهــا البــدر فــي الأفلــاك فلــم يــرد إليــه طرفــه وهــو بعشقهــا
مشغول الخاطر فأنشد قول الشاعر:
أرمانـــي القــــواس أم جفنــــاك فتكا بقلب الصـب حيـن رآك
وأتانــي السهــم المفـــوق برهـــة من جحفل أم جاء من شبـاك
فلمــا فــرغ اللعــب قالــت لدايتهــا: مــا اســم هــذا الشـــاب الـــذي أريتـــه لـــك قالـــت اسمـــه أنـــس الوجـــود
فهزت رأسها ونامت في مرتبتها وقدحت فكرتها ثم صعدت الزفرات وانشدت هذه الأبيات:
ما خاب من سماك أنس الوجود يا جامعاً ما بين أنـس الوجـود
يـا طلعـة البــدر الــذي وجهــه قـد نـور الكـون وعـم الوجــود
===
حاجبـك النـون التــي حــررت ومقلتـاك الصـاد صنـع الــودود
وقـدك الغصـن الرطيـب الـذي إذا دعي في كـل شـيء يجـود
قد فقت فرسان الورى سطوة ولم تـزل بفـرط حسنـك تسـود
فلمـا فرغـت مـن شعرهـا كتبتـه فـي قرطـاس ولفتـه فـي خرقـة الحريــر مطــرزة بالذهــب ووضعتــه تحــت
المخــدة وكانــت واحــدة مـــن داياتهـــا تنظـــر إليهـــا فجاءتهـــا وصـــارت تمارسهـــا حتـــى فاقـــت وسرقـــت
الورقـــة مـــن تحـــت المخـــدة وقرأتهـــا فعرفـــت أنهـــا حصـــل لهـــا وجــــد بأنــــس الوجــــود وبعــــد أن قــــرأت
الورقــة وضعتهــا فــي مكانهـــا فلمـــا استفاقـــت سيدتهـــا الـــورد فـــي الأكمـــام مـــن نومهـــا قالـــت لهـــا: يـــا
سيدتــي إنــي لــك مـــن الناصحـــات وعليـــك مـــن الشفيقـــات اعلمـــي أن الهـــوى شديـــد وكتمانـــه يذيـــب
الحديـد ويـورث الأمـراض والأسقـام ومـا علـى مــن يبــوح بالهــوى ملــام فقالــت لهــا الــورد فــي الأكمــام: يــا
دايتـــي ومـــا دواء الغـــرام قالـــت: دواؤه الوصـــال قالـــت: وكيـــف يوجــــد الوصــــال قالــــت: يــــا سيدتــــي
يوجــد بالمراسلــة وليــن الكلــام وإكثــار التحيـــة والسلـــام فهـــذا يجمـــع بيـــن الأحبـــاب وبـــه تسهـــل الأمـــور
والصعاب وإن كان ذلك أمر يا مولاتي فانا اولى بكتم سرك وقضاء حاجتك وحمل رسالتك.
فلمــا سمعــت منهــا الــورد فــي الأكمــام ذلــك طــار عقلهــا مــن الفــرح لكـــن أمسكـــت نفسهـــا عـــن الكلـــام
حتـى تنظـر عاقبـة أمرهـا وقالـت فـي نفسهـا: إن هخـذا الأمـر مـا عرفـه أحــد منــي فــلا أبــوح بــه لهــذه
===
المـرأة إلا بعـد أن أختبرهـا فقالـت المــرأة: يــا سيدتــي إنــي رأيــت فــي منامــي كــأن رجــلاً جاءنــي وقــال
لــي: أن سيدتــك وأنــس الوجــود متحابــان فمارســي أمرهمــا واحملـــي رسائلهمـــا واقضـــي حوائجهمـــا
واكتمــي أمرهمــا وأسرارهمــا يحصــل لــك خيــر كثيـــر وهاأنـــا قـــد قصصـــت مـــا رأيـــت عليـــك والأمـــر
إليــك فقالــت الــورد فــي الأكمــام لدايتهــا لمــا أخبرتهــا بالمنــام. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن
الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهــا الملــك السعيــد أن الــورد فــي الأكمــام قالــت لدايتهــا لمــا أخبرتهــا بالمنــام الــذي رأتــه:
هـــل تكتميـــن الأســـرار يـــا دايتـــي فقالـــت لهــــا: كيــــف لا أكتــــم الأســــرار وأنــــا مــــن خلاصــــة الحــــرار
فأخرجـت لهـا الورقـة التـي كتبـت فيهــا الشعــر وقالــت لهــا: اذهبــي برسالتــي هــذه إلــى أنــس الوجــود
فلمـا دخلـت عليـه قبلـت يديـه وحيتـه بألـف سلـام ثـم أعطتـه القرطـاس فقـرأه وفهـم معنـاه ثـم كتـب فــي
ظهره هذه الأبيات:
أعلـل قلبـي فـي الغــرام وأكتــم ولكن حالي عـن هـواي يترجـم
وإن فاض دمعي قلت جرح بمقلتي لئلا يرى حالي العـذول فيفهـم
===
رفعت إليكم قصتي أشتكي بها غرامي ووجدي كي ترقواوترحموا
وسطرتها من دمع عيني لعلهـا بما حل بي منكم إليكم تترجم
رعى الله وجهاً بالجمال مبرقـاً له البدر عبد والكواكب تخدم
على حسن ذات ما رأيت مثيلها ومن ميلها الأغصان عطفاً تتعلم
وأسألكم من غير حمـل مشقـة زيارتنـــا إن الوصـــال معظــــم
وهبت لكم روحي عسى تقبلونها فلي الوصل خلد والصدود جهنم
ثــم طــوى الكتــاب وقبلـــه واعطـــاه لهـــا وقـــال للهـــا: يـــا دايـــة استعطفـــي خاطـــر سيدتـــك فقالـــت لـــه:
سمعــاً وطاعــة ثــم أخــذت منــه المكتــوب ورجعــت إلــى سيدتهــا وأعطتهــا الققرطــاس فقبلتــه ورفعتــه
فوق رأسها ثم فتحته وقرأته وفهمت معناه وكتبت في أسفله هذه الأبيات:
يـــا مـــن تولــــع قلبــــه بجمالنــــا أصبر لعلك في الهوى تحظى بنا
لمــا علمنــا أن حبــك صـــادق وأصاب قلبك ما أصاب فؤادنا
زدناك فوق الوصل وصلاً مثله لكن منـع الوصـل مـن حجابنـا
وإذا تجلى الليل من فرط الهوى تتوقــد النيــران فــي أحشائنـــا
===
وقد انحشى مني الحشا بهوى الرشا يـا ليتـه مـا غـاب عـن أوطاننـا
فلمــا فرغــت مــن شعرهــا طــوت القرطــاس وأعطتــه للدايــة. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن
الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الـــورد فـــي الأكمـــام طـــوت القرطـــاس وأعطتـــه للدايـــة فأخذتـــه
وخرجـــت مـــن عنـــد الـــورد فـــي الأكمـــام بنـــت الوزيـــر فصادفهـــا الحاجـــب وقـــال لهــــا: أيــــن تذهبيــــن
فقالـت: إلــى الحمــام وقــد انزعجــت منــه فوقعــت الورقــة حيــن خرجــت مــن البــاب وقــت انزعاجهــا.
هــذا مــا كــان مــن امرهــا. وأمــا مــا كــان مــن أمــر الورقــة فــإن بعــض الخــدام رآهــا مرميــة فـــي الطريـــق
فأخذهـا ثـم أن الوزيـر خـرج مـن بـاب الحريــم وجلــس علــى سريــره فقصــد الخــادم الــذي التقــط الورقــة
فبينمـا الوزيـر جالــس علــى سريــره وإذا بذلــك الخــادم تقــدم إليــه وفــي يــده الورقــة وقــال لــه: يــا مولــاي
إنـي وجـدت هـذه الورقـة مرميـة فـي الـدار فاخذتهــا فتناولهــا الوزيــر مــن يــده وهــي مطويــة فــرأى فيهــا
الأشعـار التـي تقـدم ذكرهـا فقرأهـا وفهـم معناهـا ثـم تأمـل كتابتهـا فرآهـا بخـط ابنتــه فدخــل علــى أمهــا
وهــو يبكــي بكــاءً شديــداً حتــى ابتلــت لحيتــه. فقالــت لــه زوجتــه: مــا أبكــاك يــا مولـــاي فقـــال لهـــا:
===
خــذي هــذه الورقــة وانظــري مــا فيهــا فأخــذت الورقــة وقرأتهـــا فوجدتهـــا مشتملـــة علـــى مراسلـــة مـــن
بنتهـا الـورد فـي الأكمـام إلـى أنـس الوجـود فجاءهـا البكـاء لكنهــا غلبــت فــي نفسهــا وكفكفــت دموعهــا
وقالــت للوزيــر: يــا مولــاي إن البكــاء لا فائــدة فيــه وإنمــا الــرأي الصــواب أن تبصــر أن تتبصـــر فـــي أمـــر
يكـون فيـه صـون عرضـك وكتمـان أمــر ابنتــك وصــارت تسليــه وتخفــف عنــه الأحــزان فقــال لهــا: إنــي
خائـف علـى ابنتـي مـن العشـق امـا تعلميـن أن السلطـان يحــب أنــس الوجــود محبــة عظيمــة ولخوفــي مــن
هـذا الأمـر سببـان: الـأول مـن جهتـي وهـو أنهـا ابنتـي والثانـي مـن جهــة السلطــان وهــو أن أنــس الوجــود
محظــي عنــد السلطــان وربمــا يحـــدث مـــن هـــذا أمـــر عظيـــم فمـــا رأيـــك فـــي ذلـــك. وأدرك شهـــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الوزيــر لمــا أخبــر زوجتــه بخبــر ابنتــه وقــال لهــا: فمــا رأيـــك فـــي
ذلــــك قالــــت لــــه: اصبــــر علــــي حتــــى أصلــــي صلــــاة الإستخــــارة ثــــم إنهــــا صلـــــت ركعتيـــــن سنـــــة
الإستخــارة فلمــا فرغــت مــن صلاتهــا قالــت لزوجهـــا: فـــي وســـط بحـــر الكنـــوز جبـــلاً يسمـــى جبـــل
الثكلــى وسبــب تسميتـــه بذلـــك سيأتـــي وذاك الجبـــل لا يقـــدر علـــى الوصـــول إليـــه أحـــد إلا بالمشقـــة
===
فاجعــل لهــا موضعــاً هنــاك فاتفــق الوزيــر مــع زوجتـــه علـــى أن يبنـــي فيـــه قصـــراً منيعـــاً ويجعلهـــا فيـــه
ويضـــع عندهـــا مؤونتهـــا عامـــاً بعـــد عـــام ويجعـــل عندهـــا مــــن يؤنسهــــا ويخدمهــــا ثــــم جمــــع النجاريــــن
والبنائيــن والمهندسيــن وأرسلهــم إلــى ذلــك الجبــل فبنــوا لهــا قصــر منيعــاً لــم يــر الــراؤون ثــم هيــأ الــزاد
والراحلـة ودخـل علـى ابنتـه فـي الليـل وأمرهـا بالسيـر فأحـس قلبهـا بالفــراق فلمــا خرجــت ورأت هيئــة
الأسفــار بكــت بكــاءً شديــداً وكتبــت علــى البــاب تعـــرف أنـــس الوجـــود بمـــا جـــرى لهـــا مـــن الوجـــد
الذي تقشعر منه الجلود ويذيب الجلمود ويجري العبرات والذي كتبته هذه الأبيات:
باللــه يــا دار إن مـــر ضحـــى مسلمـــــاً بإشـــــارات يحيينــــــا
اهديه منا سلاماً زاكياً عطراً لأنـه ليـس يـدري أيـن أمسينــا
ولست أدري إلى أين الرحيل بنا لما مضوا بي سريعاً مستخفياً
في جنح ليل وطير الأيل قد عكفت علـى الغصـن تباكينــا وتنعينــا
وقال عنها لسان الحال واحرباه مــن التفــرق مـــا بيـــن المحبينـــا
لما رأيت كؤوس البعدقد ملئت والدهر من صرفها بالقهر يسقينا
مزجتها بجميل الصبر معتـذراً وعنكم الآن ليس الصبر يسلينا
فلمـا فرغـت مــن شعرهــا ركبــت وســاروا بهــا يقطعــون البــراري والقفــار والأوعــار حتــى وصلــوا إلــى
===
بحـــر الكنـــوز ونصبـــوا الخيـــام علـــى شاطـــئ البحـــر ومـــدوا لهـــا مركبــــاً عظيمــــة وأنزلوهــــا فيهــــا هــــي
وعائلتهـا وقـد أمرهـم أنهـم إذا وصلـوا إلـى الجبـل وأدخلوهـا فـي القصـر هــي وعائلتهــا يرجعــون بالمركــب
وبعـد أن يطلعــوا مــن المركــب يكسرونهــا فذهبــوا وفعلــوا جميــع مــا أمرهــم بــه ثــم رجعــوا وهــم يبكــون
على ما جرى. هذا ما كان من أمرهم.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر أنــس الوجــود فإنــه قــام مــن نومــه وصلــى الصبــح ثــم ركــب وتوجــه إلـــى خدمـــة
السلطـان فمـر فـي طريقـه علـى بـاب الوزيــر علــى جــري العــادة لعلــه يــرى أحــداً مــن أتبــاع الوزيــر الذيــن
كان يراهم ونظر إلى الباب فرأى الشعر المتقدم ذكره مكتوباً عليه.
فلما غاب عن وجوده واشتعلـت النـار فـي أحشائـه ورجـع إلـى داره ولـم يقـر لـه قـرار ولـم يـزل فـي قلـق
ووجـد إلـى أن دخـل فكتـم أمـره وتنكـر وخـرج فـي جـوف الليـل هائمـاً علـى غيـر طريـق وهـو لا يــدري
أيـن يسيـر فسـار الليـل كلـه وثانـي يـوم إلـى أن اشتــد الحــر وتلهبــت الجبــال واشتــد عليــه العطــش فنظــر
إلـى شجــرة فوجــد بجانبهــا جــدول مــاء يجــري فقصــد تلــك الشجــرة وجلــس فــي ظلهــا علــى شاطــئ
ذلـك الجـدول وأراد أن يشـرب فلـم يجـد للمـاء طعـم فــي فمــه وقــد تغيــر لونــه واصفــر وجهــه وتورمــت
قدماه من المشي والمشقة فبكى بكاءً شديداً وسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
سكر العاشق في حب الحبيب كلمـــــا زاد غرامـــــاً ولهيــــــب
===
كيف يهنأ العيش للصب الذي فارق الأحباب ذا شيء عجيب
ذبـــــت لمـــــا ذكــــــا وجــــــدي بهم وجرى دمعي على خدي صبيب
هـــل أراهـــم أو أرى ربعهــــم أحداً يبرى بـه القلـب الكئيـب
فلمـا فـرغ مـن شعـره بكـى حتـى بـل الثـرى ثــم قــام مــن وقتــه وساعتــه وســار مــن ذلــك المكــان فبينمــا
هــو سائــر فــي البــراري والقفــار إذ خــرج عليــه سبــع رقبتــه مختنقــة بشعــره ورأســه قــدر القبــة وفمـــه
أوسـع مـن البـاب وأنيابـه مثــل أنيــاب الفيــل فلمــا رآه أنــس الوجــود أيقــن بالمــوت واستقبــل القبلــة وتشهــد
واستعــد للمــوت وكــان قــد قــرأ فــي الكتــب أن مــن خــادع السبـــع انخـــدع لـــه لـــه لأنـــه ينخـــدع بالكلـــام
الطيـب وينتحـي بالمديـح فشـرع يقـول لــه: يــا أســد الغابــة يــا ليــث الفضــاء يــا ضرغــام يــا أبــا الفتيــان يــا
سلطـان الوحـوش إننــي عاشــق مشتــاق وقــد أتلفنــي العشــق والفــراق وحيــن فارقــت الأحبــاب غبــت
عــن الصــواب فاسمــع كلامــي وارحــم لوعتــي وغربتــي. فلمــا سمــع الأسدمقالتــه تأخـــر عنـــه وجلـــس
مقعيــاً علــى ذنبــه ورفــع رأســه إليــه وصــار يلعــب ذنبــه ويديــه فلمــا رأى أنــس الوجــود هــذه الحركـــات
أنشد هذه الأبيات:
أســـد البيـــداء هــــل تفلتنــــي قبــل مــا ألقــى الـــذي تيمنـــي
لسـت صيـداً لا ولا بـي سمـن فقـد مـن أهــواه قــد أسقمنــي
===
يـا أبـا الحـرث يـا ليــث الوغــى لا تشمت عاذلي فـي شجنـي
أنـــا صـــب مدمعـــي غرقنـــي وفـــراق الحــــب قــــد أقلقنــــي
واشتغالي في دجـى الليـل بهـا عن وجودي في الهـوى غيبنـي
فلمـــا فـــرغ مـــن شعـــره قـــام الأســـد ومشــــى نحــــوه. وأدرك شهــــرزاد الصبــــاح فسكتــــت عــــن الكلــــام
المباح.
وفي الليلة الرابعة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن أنـس الوجـود لمــا فــرغ مــن شعــره قــام الأســد ومشــى نحــوه بلطــف
وعينـاه مغرغرتــان بالدمــوع ولمــا وصــل إليــه لحســه بلسانــه ومشــى قدامــه وأشــار إليــه أن اتبعنــي ولــم
يــزل سائــراً وهــو معــه ساعــة مــن الزمــان حتــى طلــع بــه فــوق جبــل ثــم نــزل بــه مــن فـــوق ذلـــك الجبـــل
فرأى أثر المشي في البـراري فعـرف أن ذلـك الأثـر أثـر مشـي قـوم بالـورد فـي الأكمـام فتبـع الأثـر ومشـى
فيه فلما رآه الأسد يتبع الأثر وعرف أنه أثر مشي محبوبته رجع الأسد إلى حال سبيله.
وأمـا أنــس الوجــود فإنــه لــم يــزل ماشيــاً فــي الأثــر أيامــاً وليالــي حتــى أقبــل علــى بحــر عجــاج متلاطــم
الأمـواج ووصـل الأثـر إلـى شاطـئ البحـر وانقطـع فعلـم أنهــم ركبــوا البحــر وســاروا فيــه وانقطــع رجــاؤه
===
منهــم والتفــت يمينــاً وشمــالاً فلــم يــر أحــداً فــي البريــة فخشــي علــى نفســه مــن الوحــوش فصعــد علــى
جبـل عـال فبينمـا هـو فـي الجبــل إذ سمــع صــوت آدمــي يتكلــم مــن مغــارة فصغــى إليــه وإذا هــو عابــد
قــد تــرك الدنيــا واشتغــل بالعبــادة فطــرق عليــه المغــارة ثلــاث مــرات فلــم يجبــه العابــد فصعــد الزفـــرات
وأنشد هذه الأبيات:
كيف السبيل إلى أن أبلـغ الربـا وأتـرك الهـم والتكديـر والتعبــا
وكل هول مـن الأهـوال شيبنـي قلباً ورأساً مشيباً في زمان صبا
ولم أجد لي معيناً في الغرام ولا خلاص يخفف عني الوجد والنصبا
وكم أكابد في الأشواق من وله كأن دهري علي الآن قد انقلبا
وارحمتـاه لصـب عاشـق قلـق كأس التفرق والهجران قد شربا
فالنار في القلب والأحشاء قد محيت والعقل من لوعة التفريق قد سلبا
ما كان أعظم يوم جئت منزلهم وقد رأيت على الأبواب ما كتبا
بكيت حتى سقيت الأرض من حرق لكن كتمت على الدانين والغربا
يا عابداً قد تغاضى في مغارته كأن ذلك طعم العشق وانسلبا
===
فلمــا فــرغ مــن شعــره وإذا ببــاب المغــارة قــد انفتــح وسمــع قائــلاً يقــول: وارحمتــاه فدخــل البــاب وسلــم
علــى العابــد وقــال لــه: مــا اسمــك قــال: اسمــي أنــس الوجــود فقــال لــه: مـــا سبـــب مجيئـــك إلـــى هـــذا
المكـان فقـص عيـه قصتـه مـن أولهـا إلــى آخرهــا وأخبــره مــا جــرى لــه فبكــى العابــد وقــال لــه: يــا أنــس
الوجــود إن لــي فــي هــذا المكــان عشريــن عامــاً مــا رأيــت فيــه أحــداً إلا بالأمــس فإنــي سمعــت بكـــاءً
وغواشـاً فنظـرت إلـى جهـة الصـوت فرأيـت ناسـاً كثيريـن وخيامـاً منصوبــة علــى شاطــئ البحــر وأقامــوا
مركبــاً ونــزل فيــه قــوم منهــم وســاروا بــه فــي البحــر ثــم رجـــع بالمركـــب بعـــض مـــن نـــزل فيـــه وكســـروه
وتوجهـوا إلـى حـال سبيلهـم وأظـن أن الذيـن سـاروا علـى ظهـر البحـر ولــم يرجعــوا هــم الذيــن أنــت فــي
طلبهــم يــا أنــس الوجــود وحينئــذٍ يكــون همــك عظيمــاً وأنــت معــذور ولكــن لا يوجـــد محـــب إلا وقـــد
قاسى الحسرات ثم أنشد العابد هذه الأبيات:
أنس الوجود خلي البال تحسبني والشوق والوجد يطويني وينشرني
إني عرفت الهوى والعشق من صغري من حين كنت صبياً راضع اللبن
مارسته زمناً حتى عرفت به إن كنت تسأل عني فهو يعرفني
شربت كأس الجوى من لوعةٍ وضنى فصرت محواً بهمـن رقـة البـدن
قد كنت ذا قوة لكن هي جلدي وجيش صبري بأسياف اللحاظ فني
===
قضى الغرام على العشاق أجمعهم إن السلــو حــرام بدعــة الفنـــن
فلمــــا فــــرغ العابــــد مــــن إنشــــاد شعــــره قــــام إلــــى أنــــس الوجــــود وعانقـــــه. وأدرك شهـــــرزاد الصبـــــاح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن أن العابـــد لمـــا فـــرغ مـــن إنشـــاد شعـــره قـــام إلـــى أنـــس الوجــــود
وعانقــه وتباكيــا حتــى دوت الجبــال مــن بكائهمــا. ولــم يـــزالا يبكيـــان حتـــى وقعـــا مغشيـــاً عليهمـــا ثـــم
أفاقا وتعاهـدا علـى أنهمـا أخـوان فـي عهـد اللـه تعالـى ثـم قـال العابـد لأنـس الوجـود: أنـا فـي هـذه الليلـة
أصلي وأستخير الله على شيء تعمله فقال له أنس الوجود: سمعاً وطاعة.
هــذا مــا كــان مــن أنــس الوجــود وامــا مــا كــان مـــن أمـــر الـــورد فـــي الأكمـــام فإنهـــا لمـــا وصلـــوا بهـــا إلـــى
الجبــل وأدخلوهــا القصــر ورأتــه ورأت ترتيبــه بكــت وقالــت: واللــه إنــك مكــان مليــح غيــر أنــك ناقــص
وجـــود الحبيـــب فيـــك ورأت فـــي تلـــك الجزيـــرة أطيـــاراً فأمـــرت بعـــض أتباعهـــا أن ينصـــب لهـــا فخــــاً
ويصطـاد بـه منهـا وكـل مـا اصطـاده يضعـه فـي أقفـاص مـن داخــل القصــر ففعــل مــا أمرتــه بــه ثــم قعــدت
فــي شباكالقصــر وتذكــرت مــا جــرى لهــا وزاد بهــا الغــرام والوجــد والهيـــام فبكـــت العبـــرات وأنشـــدت
===
يا لمن أشتكي الغرام الذي بي وشجوني وفرقتني عن حبيبي
ولهيبـــاً بيـــن الضلــــوع ولكــــن لست أبديه خفيـة مـن رقيـب
ثـم أصبحـت رق عـود خلــال مـــن بعــــاد وحرقــــة ونحيــــب
أين عيـن الحبيـب حتـى ترانـي كيف أصبحت مثل حال السليب
قـد تعــدو علــي إذ حجبونــي في مكـان لـم يستطعـه حبيبـي
أسأل الشمس حمل ألف سلام عند وقت الشروق ثم الغروب
أحبيب قد أخجل البدر حسناً منذ تبدى وفاق قد القضيب
إن حكى الورد خده قلت فيه لست تحكي إن لم تكن من نصيبي
إن فـــي ثغـــره لسلســـال ريـــق يجلب البـرد عنـد حـر اللهيـب
كيف أسلوه وهو قلبي وروحي مسقمي ممرضي حبيبي طبيبي
هـذا مـا كـان مـن أمـر الـورد فـي الأكمــام وأمــا مــا كــان مــن أنــس الوجــود فــإن العابــد قــال لــه: انــزل إلــى
الــوادي وائتنــي مــن الفخيـــل بليـــف فنـــزل وجـــاء لـــه بليـــف فأخـــذه العابـــد وقتلـــه وجعلـــه شنفـــاً مثـــل
أشنـاف التبـن وقـال لـه: يـا أنـس الوجـود إن فـي جـوف الـوادي فرعـاً يطلـع وينشــف علــى أصولــه فانــزل
===
تبلـغ قصـدك فـإن مـن لـم يخاطـر بنفسـه لـم يبلـغ المقصـود فقــال: سمعــاً وطاعــة ثــم ودعــه وانصــرف مــن
عنـد إلـى مـا أمـره بـه بعـد أن دعـا لـه العابـد ولـم يـزل أنـس الوجـود سائـر إلـلا جــوف الــوادي وفعــل كمــا
قـال لـه العابـد ولمـا وصـل بالشنـف إلـى وسـط البحـر هبـت عليـه ريـح فزقـه الشنــف حتــى غــاب عــن
عيـن العابـد ولـم يـزل سابحـاً فـي لجـة البحــر ترفعــه موجــة وتحطــه أخــرى وهــو يــرى مــا فــي البحــر مــن
العجائــب والأهــوال إلــى أن رمتــه المقاديــر علــى جبــل الثكلــى بعــد ثلاثــة أيــام مــن فنــزل إلــى البــر مثــل
الفـرخ الدايــخ لهفــان مــن الجــوع والعطــش فوجــد فــي ذلــك المكــان أنهــاراً جاريــة وأطيــاراً مغــردة علــى
الأغصــان وأشجــاراً مثمــرة صنوانــاً وغيــر صنــوان فأكــل مــن الأثمــار وشــرب مــن الأنهــار وقــام يمشـــي
فـرأى بياضـاً علـى بعـد فمشـى جهتـه حتـى وصـل إليـه فوجــده قصــراً منيعــاً حصينــاً فأتــى إلــى بــاب
القصر فوجده مقفولاً فجلس عنده ثلاثة أيام.
فبينمــا هــو جالــس وإذا ببــاب القصــر قــد فتــح وخــرج منــه شخـــص مـــن الخـــدم فـــرأى أنـــس الوجـــود
قاعــداً فقــال لـــه: مـــن أيـــن أتيـــت ومـــن أوصلـــك إلـــى هنـــا فقـــال أنـــس الوجـــود: مـــن أصبهـــان وكنـــت
مسافـراً فـي البحـر بتجـارة فانكسـر المركـب الـذي كنـت فيــه فرمتنــي الأمــواج علــى ظهــر هــذه الجزيــرة
فبكــى الخــادم وعانقــه وقــال: حيــاك اللــه يــا وجــه الأحبــاب أن أصبهـــان بلـــادي ولـــي فيهـــا بنـــت عـــم
كنــت أحبهــا وأنــا صغيــر وكنــت مولعــاً بهــا فغــزى بلادنــا قــوم أقــوى منــا وأخذونــي فــي جملـــة الغنائـــم
===
وكنـت صغيـراً فقطعـوا إحليلــي ثــم باعونــي خادمــاً وهاأنــا فــي تلــك الحالــة. وأدرك شهــرزاد الصبــاح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الخــادم الــذي خــرج مـــن قصـــر الـــورد فـــي الأكمـــام حـــدث أنـــس
الوجـود بجميـع مـا حصـل وقـال لـه أن القـوم الذيـن أخذونـي قطعــوا إحليلــي وباعونــي خادمــاً وهاأنــا فــي
تلــك الحالــة وبعدمــا سلــم عليــه وحيــاه أدخلــه ساحــة القصــر فلمــا دخــل رأى بحيــرة عظيمـــة وحولهـــا
أشجــار وأغصــان وفيهــا أطيــار فــي أقفــاص مــن فضــة وأبواباهــا مــن الذهــب وتلــك الأقفـــاص معلقـــة
علــى الأغصــان والأطيــار فيهــا تناغــي وتسبــح الديــان فلمــا وصــل إلــى أولهــا تأملـــه فـــإذا هـــو قمـــري
فلمــا رآه الطيــر مــد صوتــه وقــال: يــا كريــم فغشــي علــى أنــس الوجــود فلمــا أفــاق مــن غشيتــه صعـــد
الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
أيهـا القمــري هــل بمثلــي تهيــم فاسـأل المولـى وغـرد يـا كريــم
يــا تــرى نوحــك هــذا طـــرب أو غرام منك في القلـوب مقيـم
أن تنح وجـداً لأحبـاب مضـوا أو خلفـت بهـم مضنـى سقيــم
===
يــا رعــى اللــه محبـــاً صادقـــاً لست أسلوه ولو عظمي رميم
فلمـا فـرغ مـن شعـره بكـى حتــى وقــع مغشيــاً عليــه وحيــن أفــاق مــن غشيتــه مشــى حتــى وصــل إلــى
ثانـــي قفـــص فوجـــده فاختـــاً فلمـــا رآه الفاخـــت غـــرد وقـــال: يـــا دايـــم أشكـــرك فصعـــد أنـــس الوجـــود
الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
وفاخـت قـد طـال فــي نوحــه يــا دائمــاً شكــراً علــى بلوتــي
عســى لعــل اللـــه مـــن فضلـــه يقضي بوصل الحب في سفرتي
ورب معســول اللمــى زارنــي فزادنـي عشقـاً علــى صبوتــي
قلــت والنيــران قــد أضرمــت في القلب حتى أحرقت مهجتي
والدمــع مسفــوك يحاكــي دمــاً قد فـاض يجـري علـى وجنتـي
مــــا تــــم مخلــــوق بــــلا محنـــــة لكـن لــي صبــراً علــى محنتــي
بقـــــدرة اللــــــه متــــــى لمنــــــي وقت الصفا يوماً على سادتي
جعلــت للعشــاق مالــي قـــرى لأنهـــــم قـــــوم علـــــى سنتــــــي
وأطلـق الأطيــار مــن سجنهــا واتــرك الأحــزان مــن فرحتـــي
===
إن الهزار لطيف الصوت يعجبني كأنه صوت صب في الغرام فني
وارحمتاه على العشاق ثم قلقوا من ليلة بالهوى والشوق والمحن
كأنهم من عظيم الشوق قد خلفوا بلا صباح ولا نوم مـن الشجـن
لمـا جننـت بمـن أهــواه قيدنــي فيــه الغــرام ولمــا فيــه قيدنـــي
تسلسل الدمع من عيني فقلت له سلاسل الدمع قد طالت فسلسلني
زاد اشتياقي وطال البعد وانعدمت كنوز صبري وفرط الوجد أتلفني
إن كان في الدهر أنصاف ويجمعني بمن أحب وستـر اللـه يشملنـي
قلعت ثوبي لحبي كي يرى جسدي بالصد والبعد والهجران كيف ضني
فلمـا فـرغ مـن شعـره تمشــى إلــى رابــع قفــص فوجــده بلبــلاً فنــاح وغــرد عنــد رؤيــة أنــس الوجــود فلمــا
سمع تغريده سكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
إن للبلبــل صوتــاً فــي السحــر شعل العاشق من حسن التوتر
في الهوى أنس الوجود المشتكي مـن غــرام قــد محــا منــه الأثــر
كم سمعنا صـوت ألحـان محـت طربــاً صلــد الحديــد والحجــر
===
وتذكرنـــــــا حبيبــــــــاً غائبــــــــاً فجــرى الدمــع سيــولاً ومطـــر
ولهيــب النــار فـــي أحشائنـــا مضمـــر ذاك كجمـــر بالشــــرر
متـــــع اللــــــه محبــــــاً عاشقــــــاً مـــن حبيـــب بوصــــال ونظــــر
إن للعشـــاق عـــذراً واضحـــاً ليس يدري العذر إلا ذو النظر
فلمـا فـرغ مـن شعـره مشـى قليـلاً فـرأى قفصـاً حسنـاً لـم يكـن هنـاك أحسـن منـه فلمــا قــرب منــه وجــده
حمـام الأيـك وهـو اليمـام المشهـور مــن بيــن الطيــور فوجــده ذاهــلاً باطــلاً ينــوح الغــرام وفــي عنقــه عقــد
مــن جوهــر بديــع النظــام ونأملــه فوجــده ذاهــلاً باطــلاً باهتــاً فــي قفصـــه فلمـــا رآه بهـــذا الحـــال أفـــاض
العبرات وأنشد هذه الأبيات:
يـا حمـام الأيـك أقرئـك السلــام يا أخا العشاق من أهل الغرام
إننــــي أهــــوى غــــزالاً أهيفـــــاً لحظـة أقطـع مـن حــد الحســام
في الهوى أحرق قلبي والحشـى وعــلا جسمــي تحــول وسقــام
ولذيــــذ الــــزاد قــــد أحرمتــــه مثل ما احرمت من طيب المنام
واصطبــاري وسلــوى رحـــلا والهوى بالوجد عندي قد أقام
===
وفي الليلة السابعة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيــد أن أنــس الوجــود لمــا فــرغ مــن شعــره التفــت إلــى صاحبــه الأصبهانــي
وقــال لــه: مــا هــذا القصــر ومــن هــو الــذي بنــاه قــال لــه: بنــاه وزيــر الملــك الفلانــي لابنتــه خوفـــاً عليهـــا
مـن عـوارض الزمـان وطـوارق الحدثــان وأسكنهــا فيــه هــي وأتباعهــا ولا تفتحــه إلا فــي كــل سنــة مــرة
لمـا تأتـي إليهـم مؤونتهـم فقـال فـي نفسـه: قـد حصــل المقصــود ولكــن المــدة طويلــة هــذا مــا كــان مــن أمــر
أنـس الوجـود وأمـا مـا كـان مـن أمـر الـورد فـي الأكمـام فإنهــا لــم يهنــأ لهــا شــراب ولا طعــام ولا قعــود ولا
منــام فقامــت وقــد زاد بهــا الغــرام والهيــام ودارت فــي أركــان القصــر فلــم تجــد لهــا مصرفـــاً فسكبـــت
العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
حبسونـــي عـــن حبيبـــي قــــوة وأذاقونــــي بسجنــــي لوعتـــــي
أحرقــوا قلبـــي بنيـــران الهـــوى حيث ردوا عن حبيبي نظرتي
حبسوني فـي قصـور شيـدت فــي جبــال خلقــت فـــي لجـــة
إن يكونـــوا قـــد رأوا سترتـــي لـم تـزد فــي الحــب إلا محنتــي
كيــف أسلــو والــذي بــي كلــه أصله فـي وجـه حبـي نظرتـي
===
وأنيسـي ذكرهـم فـي وحدتـي حين ألقى منم لقاهم وحشتـي
يــا تــرى هــل بعــد هــذا كلـــه يسمـــح الدهـــر بلقيـــا منيتــــي
فــلا فرغــت مــن شعرهــا طلعــت إلــى سطــح القصـــر وأخـــذت أثوابـــاً بعلبكيـــة وربطـــت نفسهـــا فيهـــا
حتــى وصلــت إلــى الــأرض وقــد كانــت لابســة أفخــر مــا عندهــا مــن اللبـــاس وفـــي عنقهـــا عقـــد مـــن
الجواهر وسارت في تلـك البـراري والقفـار حتـى وصلـت إلـى شاطـئ البحـر فـرأت صيـاداً فـي مركـب
دائـر فـي البحـر يصطـاد فرمـاه الريـح علـى تلـك الجزيـرة فالتفـت فـرأى الـورد فـي الأكمـام فـي تلـك الجزيـرة
فلما رآها فزع منها وخرج بالمركب هارباً فنادته وأكثرت إليه الإشارات وأنشدت هذه الأبيات:
يا أيها الصياد لا تخشى الكدر غننــــي إنسيــــة مثــــل البشـــــر
أريـد منـك أن تجيـب دعوتـي وتسمعـن قولـي بإسنــاد الخبــر
فارحم وقال الله حر صبوتـي إن أبصـرت عينـاك محبوبـاً نفــر
فإننــي أهـــوى مليحـــاً وجهـــه فاق وجـه الشمـس نـور القمـر
والظبـــــي لمـــــا رأى ألحاظــــــه قد قال إنـي عبـده ثـم اعتـذر
قد كتب الحسـن علـى وجنتـه سطراً بديعاً في المعاني مختصر
فمن رأى نور الهوى قد اهتدى أمـا الـذي ضــل تعــدى وكفــر
===
ومـــن يواقيـــت ومـــا أشبههــــا ولؤلــؤ رطــب وأنــواع الـــدرر
عسى حبيبي أن يوحي بالمنـى فـإن قلبـي ذاب شوقـاً وانفطـر
فلمـا سمـع الصيـاد كلامهـا أرسـى مركبـه علـى البـر وقـال لهـا: انزلـي فـي المركـب حتــى أعــدي بــك إلــى
أي موضـع تريديـن فنزلـت فـي المركــب وعــوم بهــا فلمــا فــارق البــر بقليــل هبــت علــى المركــب ريــح مــن
خلفهــا فســارت المركــب بسرعــة حتــى غــاب البــر عــن أعينهمــا وصــار الصيـــاد لا يعـــرف أن يذهـــب
ومكـث اشتـداد الريــح مــدة ثلاثــة أيــام ثــم سكــن الريــح بــإذن اللــه تعالــى ولــم تــزل المركــب تسيــر بهمــا
حتـــى وصلـــت إلـــى مدينـــة علـــى شاطـــئ البحـــر. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتــــت عــــن الكلــــام
المباح.
وفي الليلة الثامنة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن المركـب لمـا وصلـت بالصيـاد والــورد فــي الأكمــام إلــى مدينــة علــى
شاطـئ البحـر أراد الصيـاد أن يرسـي مركبــه علــى تلــك المدينــة وكــان فيهــا ملــك عظيــم السطــوة يقــال
لـه دربـاس وكـان فـي ذلـك الوقـت جالسـاً هـو وابنـه فـي قصـر مملكتـه وصـارا ينظـران مـن شبـاك القصـر
فالتفتـا إلـى جهـة البحـر فرأيـا تلـك المركـب فتأملاهـا فوجـدا فيهــا صبيــة كأنهــا البــدر فــي أفــق السمــاء
===
وفـي أذنيهـا حلـق مـن البلخـش الغالـي وفـي عنقهـا عقـد مـن الجوهـر النفيـس فعـرف الملـك أنهـا مـن بنـات
الأكابــر والملـــوك فنـــزل الملـــك مـــن قصـــره وخـــرج مـــن بـــاب القيطـــون فـــرأى المركـــب قـــد رســـت علـــى
الشاطـئ وكانــت البنــت نائمــة والصيــاد مشغــولاً بربــط المركــب فأيقظهــا الملــك مــن منامهــا فاستيقظــت
وهـي تبكــي فقــال لهــا الملــك: مــن أيــن أنــت وابنــة مــن أنــت ومــا سبــب مجيئــك هنــا فقالــت لــه الــورد
فـي الأكمـام: أنـا ابنـة إبراهيـم وزيـر الملـك الشامـخ وسبـب مجيئـي هنــا أمــر عجيــب وحكــت لــه جميــع
قصتها من أولها إلى آخرها ولم تخف عنه شيئاً ثم صعدت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:
قد قرح الدمع جفني فاقتضى عجباً من التكدر لما فاض وانسكبا
من أجل خل سوى في مهجتي أبداً ولم أنل في الهوى من وصله أربا
لـــه محيـــا جميـــل باهـــر نضـــر وفي الملاحة فاق الترك والعربـا
والشمس والبدر قد مالا لطلعته كالصب والتزما في حبه الأدبا
وطرفه بعجيب السحر مكتحل يريك قوساً لرمي السهم منتصبا
يا من له حالتي أوضحت معتذراً ارحم محباً به صرف الهوى لعبا
إن الهوى قد رماني في وسط ساحتكم ضعيف عزم ومنكم ارتجى حسبا
إن الكرام إذا ما حل ساحتهم مستحسب فحماهم يرفع الحسبا
===
فلمـا فرغـت مـن شعرهـا حكـت للملــك قصتهــا مــن أولهــا إلــى آخرهــا فقــال لهــا: لا خــوف عليــك ولا
فـزع قـد وصلـت إلــى مــرادك فــلا بــد أن أبلغــك مــا تريدينــه وأوصــل إليــك مــا تطلبينــه فاسمعــي منــي
هذه الكلمات ثم أنشد هذه الأبيات:
بنت الكرام بلغت القصد والأربا لك البشارات لا تخشى هنا نصبا
اليــوم أجمــع أمـــوالاً وأرسلهـــا لشامخ صحبة الفرسان والنجبا
نوافح المسك والديباج أرسلها وأرسل الفضة البيضاء والذهبا
نعــم وتخبــره عنـــي مكاتبتـــي أني مريـداً لـه صهـراً ومنتسبـا
وأبذل اليوم جهدي في معاونـه حتى يكون الذي تهوين مقتربا
قد ذقت طعم الهوى دهراً وأعرفه وأعذر اليوم من كأس الهوى شربا
فلمــا فــرغ مــن شعـــره خـــرج إلـــى عسكـــره ودعـــا بوزيـــره وحـــزم لـــه مـــالاً لا يحصـــى وأمـــره أن يذهـــب
بذلـك إلـى الملــك الشامــخ وقــال لــه: لا بــد أن تأتينــي بشخــص اسمــه أنــس الوجــود وقــل لــه: أنــه يريــد
مصاهرتـك بـأن يـزوج ابنتـه لأنـس الوجــود تابعــك فــلا بــد مــن إرسالــه معــي حتــى نعقــد عقــده عليهــا
فـي مملكـة أبيهـا ثـم أن الملـك دربـاس كتـب مكتوبـاً للملــك الشامــخ بمضمــون ذلــك وأعطــاه لوزيــره وأكــد
عليـه فـي الإتيـان بأنـس الوجـود وقـال لـه: إن لـم تأتنـي بـه تكــون معــزولاً عــن مرتبتــك فقــال لــه: سمعــاً
===
وطاعـة ثـم توجـه بالهديـة إلـى الملــك الشامــخ فلمــا وصــل إليــه بلغــه السلــام عــن الملــك دربــاس وأعطــاه
المكاتبـة والهديـة التـي معـه فلمـا رآه الملـك الشامـخ وقـرأ المكاتبــة ونظــر اســم أنــس الوجــود بكــى بكــاءً
شديــداً وقــال للوزيـــر المرســـل إليـــه: وأيـــن أنـــس الوجـــود فإنـــه ذهـــب ولا نعلـــم مكانـــه فأتنـــي بـــه وأنـــا
أعطيــك أضعــاف مــا جئــت بــه مــن الهديــة ثـــم بكـــى وأنّ واشتكـــى وافـــاض العبـــرات وأنشـــد هـــذه
الأبيات:
ردوا علــــــــــــــي حبيبــــــــــــــي لا حاجــــــــــة لــــــــــي بمـــــــــــال
ولا أريـــــــــــــــــد هدايــــــــــــــــــا مــــــــــن جواهــــــــــر ولآلـــــــــــي
قـــــد كـــــان عنــــــدي بــــــدراً سمـــــــــــا بأفــــــــــــق جمــــــــــــال
وفــــــــاق حسنــــــــاً ومعنــــــــى ولـــــــــــم يقــــــــــــس بغــــــــــــزال
وقـــــــــــد غصــــــــــــن بــــــــــــان أثمــــــــــــاره مــــــــــــن دلـــــــــــــال
وليــــس فــــي الغصـــــن طبـــــع يسبــــــــي عقــــــــول الرجـــــــــال
ربيبـــــــــــه وهـــــــــــو طفـــــــــــل علــــــــــى مهــــــــــاد الدلـــــــــــال
وإننـــــــــــــــــــــي لحزيــــــــــــــــــــــن عليـــــــــه مشغــــــــــول البــــــــــال
ثــن التفــت إلــى الوزيــر الــذي جــاء بالهديــة والرسالــة وقــال لـــه: اذهـــب إلـــى سيـــدك وأخبـــره أن أنـــس
===
الوجــود مضــى عــام وهــو غائــب وسيــده لــم يــدر أيــن ذهــب ولا يعــرف لــه خبــر فقــال لـــه الوزيـــر: يـــا
مولـاي إن سيـدي قـال لـي إن لـم تأتنـي بـه تكـن معـزولاً عـن الـوزارة ولا تدخـل مدينتـي فكيـف أذهـب
إليـــه بغيـــره فقـــال الملـــك الشامـــخ لوزيـــره ابراهيـــم: اذهـــب معـــه صحبـــة جماعـــة وفتشـــوا علـــى أنـــس
الوجــود فــي سائــر الأماكــن فقـــال لـــه: سمعـــاً وطاعـــة ثـــم أخـــذ مـــن أتباعـــه واصطحـــب وزيـــر الملـــك
درباس وساروا في طلب أنس الوجود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة بعد الأربعمائة
قالــــت: بلغنــــي أيهــــا الملــــك السعيــــد أن ابراهيــــم وزيــــر الملــــك الشامـــــخ أخـــــذ جماعـــــة مـــــن أتباعـــــه
واصطحــب وزيــر الملــك دربــاس وســاروا فــي طلــب أنــس الوجــود فكانــوا كلمــا مــروا بعـــرب أو قـــوم
يسألونهـــم عـــن أنـــس الوجـــود فيقولـــون لهـــم: هـــل مـــر بكـــم شخـــص اسمـــه كـــذا وصفتـــه كــــذا وكــــذا
فيقولـــون: لا نعلمـــه ومـــا زالـــوا يسألـــون المدائــــن والقــــرى ويفتشــــون فــــي السهــــول والأوعــــار والبــــراري
والقفــار حتــى وصلــوا إلــى شاطــئ البحــر وطلعــوا فــي مركــب ونزلــوا فيهــا وســاروا بهــا حتــى أقبلــوا
علــى جبــل الثكلــى. فقــال وزيــر الملــك دربــاس لوزيــر الملــك الشامــخ: لــأي شــيء سمـــي هـــذا الجبـــل
بذلـك الاسـم فقـال لـه: لأنـه نزلـت بـه جنيـة فـي قديـم الزمـان وكانـت نلــك الجنيــة مــن جــن الصيــن وقــد
===
أحبــت إنسانــاً ووقــع لــه معهــا غــرام وخافــت علــى نفسهــا مــن أهلهــا فلمــا زاد بهــا الغــرام فتشــت فـــي
الــأرض علــى مكــان تخفيــه فيــه عــن أهلهــا فوجــدت هــذا الجبــل منقطعــاً مــن الإنــس والجـــن بحيـــث لا
يهتــدي إلــى طريقــه أحــد مــن الإنــس والجــن فاختطفــت محبوبهــا ووضعتــه فيــه وصــارت تذهـــب إلـــى
أهلهــا وتأتيــه فــي خفيــة ولــم تــزل علــى ذلــك زمنــاً طويــلاً حتــى ولــدت منــه فــي ذلــك الجبــل أطفـــالاً
متعــددة وكــا كــل مــن يمــر علــى هــذا الجبــل مــن التجــار والمسافريــن فـــي البحـــر يسمـــع بكـــاء الأطفـــال
كبكـاء المـرأة التـي ثكلــت أولادهــا أي فقدتهــم فقيقــول: هــل هنــا ثكلــى فتعجــب وزيــر الملــك دربــاس
من هذا الكلام.
ثــم إنهــم ســاروا حتــى وصلــوا إلــى القصــر وطرقــوا البـــاب فانفتـــح البـــاب فخـــرج لهـــم خـــادم فعـــرف
ابراهيـم وزيـر الملـك الشامـخ فقبـل يـده ثـم دخـل القصـر فوجـد فـي فسحتـه رجـلاً فقيـراً بيــن الخداميــن
وهـو أنــس الوجــود فقــال لهــم: مــن أيــن هــذا فقالــوا لــه: إنــه رجــل تاجــر غــرق مالــه ونجــا بنفســه وهــو
مجـذوب فتركـه ثـم مشـى إلـى داخـل القصـر فلـم يجـد لابنتـه أثــراً فســأل الجــواري التــي هنــاك فقلــن لــه:
ما عرفنا كيف راحت ولا أقامت معنا سوى مدة يسيرة فسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
أيهـــا الـــدار التـــي أطيارهــــا قـد تغنـت وازدهـت أعتابهــا
فأتاهــا الصــب ينعــي شوقـــه ورآهـــــــا فتحـــــــت أبوابهــــــــا
===
كــان فيهــا كــل شــيء فاخـــر واستطاعت واعتلـى حجابهـا
وكسوهــا حلــل مــن سنـــدس يـا تـرى أيـن غــدت أصحابهــا
فلمــا فــرغ مــن شعــره بكــى وأنّ واشتكــى وقــال: لا حيلــة فــي قضــاء اللــه ولا مفــر ممـــا قـــدره وقضـــاه
ثـم طلـع إلـى سطـح القصـر فوجـد الثيـاب البعلبكيـة مربوطـة فـي شـرارف واصلـة إلـى الــأرض فعــرف
أنهـــا نزلـــت مـــن ذلـــك المكـــان وراحـــت كالهائـــج الولهــــان والتفــــت فــــرأى هنــــاك طيريــــن غرابــــاً وبومــــة
فتشاءم من ذلك وصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
أتيت إلـى دار الأحبـة راجيـاً بآثارهم اطفاء وجدي ولوعتي
فلم أجد الأحباب فيها ولم أجد بها غير مشؤمي غـراب وبومـة
وقال لسان الحال قد كنت ظالماً وفرقـت بيـن المغرميــن الأحبــة
فذق طعم ما ذاقوه من ألم الجوى وعش كمداً ما بين دمع وحرقة
ثـم نـزل مــن فــوق القصــر وهــو يبكــي وقــد أمــر الخــدام أن يخرجــوا إلــى الجبــل ويفتشــوا علــى سيدتهــم
ففعـلا ذلـك فلـم يجدوهـا. هـذا مـا كــان مــن أمرهــا وأمــا مــا كــان مــن أمــر أنــس الوجــود فإنــه لمــا تحقــق
أن الورد في الأكمـام قـد ذهبـت صـاح صيحـة عظيمـة ووقـع مغشيـاً عليـه واستمـر فـي غشيتـه فظنـوا
أنـه أخذتـه جذبــة مــن الرحمــن واستغــرق فــي جمــال هيبــة الديــان ولمــا يئســوا مــن وجــود أنــس الوجــود
===
واشتغـل قلـب الوزيـر ابراهيـم بفقـد ابنتـه الـورد فــي الأكمــام أرارد وزيــر الملــك دربــاس أن يتوجــه إلــى
بلـاده وإن لـم يفـز مـن سفـره بمـراده. فأخـذ يودعـه الوزيـر ابراهيـم والـد الـورد فـي الأكمــام فقــال لــه وزيــر
الملــك دربــاس: إنــي أريــد أن آخــذ هــذا الفقيــر معــي عســى اللــه أن يعطــف علــى الملـــك ببركتـــه لأنـــه
مجــذوب ثــم بعــد ذلــك أرسلــه إلــى بلـــاد أصبهـــان لأنهـــا قريبـــة مـــن بلادنـــا فقـــال: افعـــل مـــا تريـــد ثـــم
انصــرف كـــل منهمـــا متوجـــه إلـــى بلـــاده وقـــد أخـــذ وزيـــر الملـــك دربـــاس أنـــس الوجـــود معـــه. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة العاشرة بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن وزيـــر الملـــك دربـــاس أخـــذ أنـــس الوجـــود وهـــو مغشـــي عليـــه
وسـار ثلاثـة أيـام وهـو فـي غشيتـه محمـولاً علـى البغـال ولا يـدري هــل هــو محمــول أو لا فلمــا أفــاق مــن
غشيتــه قــال: فــي أي مكــان أنــا فقالــوا لــه: أنــت صحبــة وزيــر الملــك دربــاس ثـــم ذهبـــوا إلـــى الوزيـــر
وأخبــروه أنــه قــد أفــاق فأرســل إليــه مــاء الـــورد والسكـــر فيقـــوه وأنعشـــوه ولـــم يزالـــوا مسافريـــن حتـــى
قربـوا مـن مدينـة الملـك دربـاس فأرسـل الملـك إلـى الوزيـر يقــول لــه: إن لــم يكــن أنــس الوجــود معــك فــلا
تأتي أبداً.
===
فلمــا قــرأ مرســوم الملــك عســر عليــه ذلــك وكــان الوزيــر لا يعلــم أن الـــورد فـــي الأكمـــام عنـــد ولا يعلـــم
سبــب إرســال الملــك إيــاه إلــى أنــس الوجــود ولا يعلــم أن الوزيــر مرســل فــي طلبـــه والوزيـــر لا يعلـــم أن
هـذا هـو أنـس الوجـود فلمـا رأى الوزيـر أن أنـس الوجــود قــد استفــاق قــال لــه: إن الملــك أرسلنــي فــي
حاجة وهي لـم تقـض ولمـا علـم بقدومـي أرسـل إلـي مكتوبـاً يقـول لـي فيـه: إن لـم تكـن الحاجـة قضيـت
فـلا تدخــل مدينتــي فقــال لــه: ومــا حاجــة الملــك فحكــى لــه جميــع الحكايــة فقــال لــه أنــس الوجــود: لا
تخـف واذهـب إلــى الملــك وخذنــي معــك وأنــا أضمــن مجــيء أنــس الوجــود. ففــرح الوزيــر بذلــك وقــال
لــه: أحــق مــا تقــول فقــال: نعــم فركــب وأخــذه معــه وســار بــه إلــى الملــك فلمــا وصــلا إلــى الملــك قـــال
لــه: أيــن أنــس الوجــود فقــال لــه أنــس الوجــود: أيهــا الملــك أنــا أعــرف مكــان أنــس الوجــود فقربـــه الملـــك
إليــه وقــال لــه: فــي أي مكــان هــو قــال: فــي مكــان قريــب جــداً ولكـــن أخبرنـــي مـــاذا تريـــد منـــه وأنـــا
أحضـــره بيـــن يديـــك فقـــال لـــه: حبـــاً وكرامـــة ولكـــن هـــذا الأمـــر يحتـــاج إلــــى خلــــوة. ثــــم أمــــر النــــاس
بالإنصــراف ودخــل معــه خلــوة وأخبــره الملــك بالقصــة مـــن أولهـــا إلـــى آخرهـــا فقـــال لـــه أنـــس الوجـــود:
ائتينـي بثيـاب فاخـرة وألبسنـي إياهـا وأنـا آتيـك بأنـس الوجـود سريعـاً فأتـاه ببدلـة فاخـرة فلبسهــا وقــال:
أن أنس الوجود وكمد الحسود ثم رمى القلوب باللحظات وأنشد هذه الأبيات:
يؤانسنـي ذكـر الحبيـب بخلوتـي ويطرد عني في التباعد وحشتي
===
وشوقي شديد ليس يوجد مثله وأمري عجيب في الهوى والمحبة
فأقطع ليلي ساهر الجفن لم أنم وفي العشق أسعى بين ناروجنة
وقد كان لي صبر جميل عدمته وما منحني في الحب إلا بمحنتي
وقد رق جسمي من أليم بعادهم وغيرت الأشواق وصفي وصورتي
وأجفان عيني بالدموع تقرحت ولم أستطع أنـي أرجـع دمعتـي
وقد قل حيلي والفؤاد عدمتـه وكم ذا لاقـى لوعـة بعـد لوعـة
وقلبي ورأسي بالمشيب تشابها على سادة بالحسن أحسن سادة
على زعمهم كان التفرق بيننـا وما قصدهم إلا لقائي ووصلتي
فيا هل ترى بعد التقاطع والنوى أيمنعنـي دهـري بوصـل أحبتـي
ويطوي كتاب البعد من بعد نشره وتمحى براحات الوصال مشقتي
ويبقى حبيبي في الديار منادمي وتبدل أحزاني بصفو سريرتـي
فلمــا فــرغ مــن شعــره قــال لــه الملــك: واللــه إنكمــا لمحبــان صادقـــان وفـــي سمـــاء الحســـن كوكبـــان نيـــران
===
عليـه وأكرمـه وأحسـن إليـه ثـم أرسـل الملـك دربــاس إلــى الملــك الشامــخ وأخبــره بجميــع مــا اتفــق لــه مــن
أمــر أنــس الوجــود والــورد فــي الأكمــام ففــرح الملــك الشامـــخ بذلـــك غايـــة الفـــرح وأرســـل إليـــه مكتوبـــاً
مضمونه حيث حصل عقد العقد عندك ينبغي أن يكون الفرح والدخول عندي.
ثـــم جهـــز الجمـــال والخيـــل والرجـــال وأرســـل فـــي طلبهمـــا فلمـــا وصلـــت الرسالـــة إلـــى الملـــك دربــــاس
أمدهمــا بمــال عظيــم وأرسلهمــا مــع جملــة عسكــره فســاروا بهمـــا جتـــى دخلـــوا مدينتهمـــا وكـــان يومـــاً
مشهـــوداً لـــم يـــر أعظـــم منـــه وجمـــع الملـــك الشامـــخ سائـــر المطربـــات مـــن آلـــات المغانـــي وعمــــل الولائــــم
ومكثــوا علــى ذلــك سبعــة أيــام وفــي كــل يــوم يخلــع الملــك الشامــخ علــى النـــاس الخلـــع السنيـــة ويحســـن
إليهــم ثــم إن أنــس الوجـــود دخـــل علـــى الـــورد فـــي الأكمـــام فعانقهـــا وأخـــذا يبكيـــان مـــن فـــرط الفـــرح
والمسرات وأنشد هذه الأبيات:
جاء السرور أزال الهم والحزنا ثم اجتمعنا وأكمدنا حواسدنا
ونسمة الوصل قد هبت معطرة فأحيت القلب والأحشاء والبدنا
وبهجة الأنس قد لاحت مخلقة وفي الخوافق قد دقـت بشائرنـا
لا تحسبوا اننا باكون من حـزن لكن من فرح فاضت مدامعنا
فكم رأينا من الأهوال وانصرفت وقد صبرنا على من هيج الشجنا
===
فلمـا فــرغ مــن شعــره تعانقــا ولــم يــزالا متعانقيــن حتــى وقعــا مغشيــاً عليهمــا. وأدرك شهــرزاد الصبــاح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية عشرة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن أنــس الوجــود والــورد فــي الأكمــام لمــا اجتمعــا متعانقيــن ولــم يــزالا
متعانقيــن حتــى وقعــا مغشيــاً عليهمــا مــن لــذة الإجتمــاع فلمــا أفاقــا مــن غشيتهمــا أنشــد أنــس الوجــود
هذه الأبيات:
مــــا أحلاهــــا ليلـــــات الوفـــــا حيث أمسى لي حبيبي منصفا
وتوالـــى الوصـــل فيمـــا بيننــــا وانفصال الهجر عنـا قـد وفـى
وإلينــا الدهـــر يسعـــى مقبـــلاً بعــد مـــا مـــال وعنـــا انحرفـــا
نصـــب السعـــد لنـــا أعلامــــه وشربنـا منـه كأسـاً قـد صفــا
واجتمعنــا وتشاكينـــا الآســـى ولليلــــــات تقضــــــت بالجفـــــــا
ونسينـا مـا مضـى يـا سادتــي وعفـــا الرحمــــن عمــــا سلفــــا
مـــا ألـــذ العيـــش مـــا أطيبــــه لــم يزدنــي الوصــل إلا شغفـــا
===
فلمـــا فـــرغ مــــن شعــــره تعانقــــا واضطجعــــا فــــي خلوتهمــــا ولــــم يــــزالا فــــي منادمــــة وأشعــــار ولطــــف
وحكايـات وأخبـار حتـى غرقـا فــي بحــر الغــرام ومضــت عليهمــا سبعــة أيــام وهمــا لا يدريــان ليــلاً مــن
نهــار لفــرط مــا همــا فيــه مــن لـــذة وســـرور وصفـــو وحبـــور فكـــأن السبعـــة أيـــام يـــوم واحـــد ليـــس لـــه
ثانـــي ومـــا عرفــــا يــــوم الأسبــــوع إلا بمجــــيء آلــــات المغانــــي فأكثــــرت الــــورد فــــي الأكمــــام المتعجبــــات
وأنشدت هذه الأبيات:
على غيظ الحواسـد والرقيـب بلغنــا مــا نريـــد مـــن الحبيـــب
وأسعفنـــا التوصـــل باعتنــــاق علـى الديبــاج والقــز القشيــب
وفـرش مـن أديــم قــد حشونــا بريش الطير من شكـلٍ غريـب
وعن شرب المدام قـد اغتنينـا بريق الحب جـل عـن الضريـب
ومن طيب الوصال فليس ندري بأوقــات البعيــد مـــن القريـــب
ليالــــي سبعــــة مــــرت علينــــا ولم نشعر بهـا كـم مـن عجيـب
فهنونــــــي بأسبـــــــوع وقولـــــــوا أدام اللــــه وصلــــك بالحبيــــب
فلما فرغت من شعرها قبلها أنس الوجود ما ينوف عن المئات ثم أنشد هذه الأبيات:
أتـى يـوم الشـرور مــع التهانــي وجـاء الحــب مــن صدوفانــي
===
وأسقاني شراب الأنـس حتـى ذهلت عن الوجود بما سقانـي
فطربنا وانشرحنا واضطجعنا وصرنا فـي شـراب مـع أغانـي
ومن فرط السرور فليس ندري مـــــن الأيـــــام أولهــــــا وثانــــــي
ولا يــدري لمــر الصــد طعمـــاً وربــي قــد حبــاه بمــا حبانــي
فلمـا فـرغ مــن شعــره قامــا وخرجــا مــن مكانهمــا وأنعمــا علــى النــاس بالمــال والخلــع وأعطيــا ووهبــا إلــى
أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات فسبحان من لا يحول ولا يزول وإليه كل الأمور تؤول.
وممــا يحكــى أن الخليفــة هــارون الرشيــد كــان يحــب السيــدة زبيــدة محبــة عظيمــة وخصــص لهــا مكانــاً
للتنــزه وعمــل لهــا سياجــاً مــن الأشجــار وأرســل إليهــا المــاء مــن كــل جانــب فالتفــت عليهـــا الأشجـــار
حتـى لـو دخـل أحـد يغتسـل فـي تلــك البحيــرة لــم يــره أحــد مــن كثــرة أوراق الشجــر فاتفــق أن السيــدة
زبيـدة دخلــت ذلــك المكــان يومــاً وأتــت إلــى البحيــرة. وأدرك شهــرزاد الصبــاح فسكتــت عــن الكلــام
المباح.
وفي الليلة الثانية عشرة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهــا الملــك السعيــد أن السيــدة زبيــدة لمــا دخلــت ذلــك المكــان يومــاً وأتــت إلــى البحيــرة
===
وتفرجـت علـى حسنهـا وجمالهـا فأعجبهـا رونقهــا والتفــاف الأشجــار عليهــا وكــان ذلــك فــي يــوم الحــر
فقلعــت أثوابهــا ونزلــت إلــى البحيــرة ووقفــت وكانــت البحيـــرة لا تستـــر مـــن يقـــف فيهـــا فجعلـــت تمـــلأ
بإبريـق مـن عيـن وتصـب علـى بدنهــا فعلــم الخليفــة بذلــك فنــزل مــن قصــره يتجســس عليهــا مــن خلــف
أوراق الأشجــار فرآهــا عريانــة وقــد بــان منهــا مــا كــان مستــور فلمــا أحســـت بأميـــر المؤمنيـــن خلـــف
أوراق الأشجــار وعرفــت أنــه رآهــا عريانــة التفتــت إليــه ونظرتــه فاستحسنــت منــه ووضعـــت يدهـــا
علــى فرجهــا ففــاض مــن بيــن يديهــا لفـــرط كبـــره وغلظـــه فولـــى مـــن ساعتـــه وهـــو يتعجـــب مـــن ذلـــك
وينشد هذا البيت:
نظــــــــرت عينـــــــــي لحينـــــــــي وزكــــــــا وجــــــــدي لبينـــــــــي
ولـم يـدر بعـد ذلـك مـا يقـول فأرسـل خلــف أبــي نــواس يحضــره فلمــا حضــر بيــن يديــه قــال لــه الخليفــة:
أنشدني شعراً في أوله:
نظــــــــرت عينـــــــــي لحينـــــــــي وزكــــــــا وجــــــــدي لبينـــــــــي
فقال أبو نواس: سمعاً وطاعة وارتجل في أقرب اللحظات وأنشد هذه الأبيات:
نظــــــــرت عينـــــــــي لحينـــــــــي وزكــــــــا وجــــــــدي لبينـــــــــي
مـــــن غــــــزال قــــــد سبانــــــي تحـــــــــت ظـــــــــل الدرتيـــــــــن
===
نظرتنــــــــــــــــــي سترتـــــــــــــــــــه فــــــاض مــــــن بيــــــن اليديــــــن
ليتنــــــــــي كنـــــــــــت عليـــــــــــه ساعــــــــــــــة أو ساعتيــــــــــــــن
فتبسم أمير المؤمنين من كلامه وأحسن إليه وانصرف من عنده مسروراً.
وممــا يحكــى أن الملــك العــادل كســرى أنوشـــروان ركـــب يومـــاً إلـــى الصيـــد فانفـــرد عـــن عسكـــره ظبـــي
فبينمـا هـو سـاع خلـف الظبـي إذ رأى ضيعـة قريبـة منـه وكـان قـد عطـش عطشـاً شديـداً فتوجـه إلـى
تلــك الضيعــة وقصــد دار بــاب قــوم فــي طريقــه فطلــب مــاء ليشــرب فخرجــت صبيـــة فأبصرتـــه ثـــم
عـادت إلـى البيـت وعصـرت لـه عـوداً مـن قصـب السكـر ومزجـت مـا عصرتـه منـه بالمـاء ووضعتــه فــي
قـدح ووضعـت عليـه شيئـاً مـن الطيـب يشبـه التـراب ثـم سلمتـه إلـى أنوشـروان فنظـر فـي القـدح فــرأى
فيـه شيئـاً يشبـه التـراب فجعـل يشـرب منـه قليـلاً حتـى انتهـى إلـى آخـره ثـم قـال للصبيـة: أيتهــا الصبيــة
نعــم المــاء مــا أحلــاه لــولا ذلــك القــذي الــذي فيــه فإنــه كــدره فقالــت الصبيـــة: أيهـــا الضيـــف أنـــا عمـــداً
ألقيــت فيــه ذلـــك القـــذي الـــذي كـــدره فقـــال الملـــك: ولـــم فعلـــت ذلـــك فقالـــت: لأنـــي رأيتـــك شديـــد
العطــش وخفــت أن تشربــه نهلــة واحــدة فيضــرك فلــو لــم يكــن فيــه قــذي لكنــت شربتــه بسرعــة نهلـــة
واحــدة وكــان يضــرك شربــه علــى هــذه الطريقــة فتعجــب الملــك العـــادل أنوشـــروان مـــن كلامهـــا وذكـــاء
عقلهـا وعلـم أن مـا قالتـه ناشـئ عــن ذكــاء وفطنــة وجــودة عقــل فقــال لهــا: مــن أي عــود عصــرت ذلــك
===
المـــاء فقالـــت: مـــن عـــود واحـــد فتعجـــب أنوشـــروان وطلـــب جريـــدة الخـــراج الـــذي يحصـــل مـــن تلـــك
القريـة فـرأى خراجهـا قليـلاً فأضمـر فـي نفسـه أنـه إذا عـاد إلـى تختـه يزيـد فــي خــراج تلــك القريــة وقــال:
قريـة يكـون فـي عـود واحـد منهـا هـذا المـاء كيــف يكــون خراجهــا هــذا القــدر القليــل ثــم انصــرف عــن
تلــك القريــة إلــى الصيــد وفــي آخــر النهــار رجــع إليهــا واجتــاز علــى ذلــك البــاب منفــرداً وطلــب المــاء
ليشـــرب فخرجـــت تلـــك الصبيـــة بعينهـــا فرأتـــه فعرفتـــه ثـــم عـــادت لتخـــرج لـــه المـــاء فأبطــــأت عليــــه
فاستعجلهـــا أنوشـــروان وقـــال: لـــأي شـــيء أبطـــأت وأدرك شهــــرزاد الصبــــاح فسكتــــت عــــن الكلــــام
المباح.
وفي الليلة الثالثة عشرة بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الملـــك أنوشـــروان لمـــا استعجـــل الصبيـــة قـــال لهـــا: لـــأي شـــيء
أبطــأت فقالــت: لأنـــه لـــم يخـــرج مـــن عـــود واحـــد قـــد تغيـــرت فقـــال لهـــا: ومـــا سبـــب ذلـــك فقالـــت:
سببـــه أن نيـــة السلطـــان قـــد تغيـــرت فقـــال لهـــا: مـــن أيـــن جـــاءك قالـــت: سمعنـــا مـــن العقـــلاء أنــــه إذا
تغيـرت نيـة السلطـان علـى قـوم زالـت بركتهـم وقلـت خيراتــه فضــح أنوشــروان وأزال مــن نفســه مــا كــان
أضمر لهم عليه وتزوج بتلك الصبية حالاً حيث أعجبه فرط ذكائها وفطنتها وحسن كلامها.
===
وممــا يحكــى أنــه كــان رجــل بخــاري بمدينــة سقــا يحمــل بالمــاء إلــى دار رجـــل صائـــغ ومضـــى لـــه علـــى
تلـــك الحالـــة ثلاثـــون سنـــة وكـــان لذلـــك الصائـــغ زوجـــة فـــي غايـــة الحســـن والجمـــال والبهـــاء والكمــــال
موصوفـة بالديانـة والحفـظ فجـاء السقـا علــى عادتــه يومــاً وصــب المــاء فــي الخبــاب وكانــت قائمــة فــي
وسـط الــدار فدنــا منهــا السقــا وأخــذ بيدهــا وفركهــا وعصرهــا ثــم مضــى وتركهــا فلمــا جــاء زوجهــا
مـن السـوق قالـت لـه: إنـي أريـد أن تعرفنـي أي شـيء صنعـت هـذا اليــوم فــي الســوق مــا يغضــب اللــه
تعالـى فقـال الرجـل: مـا صنعـت شيئــاً يغضــب اللــه تعالــى فقالــت المــرأة: بلــى واللــه إنــك فعلــت شيئــاً
يغضب الله تعالى وإن لم تحدثنـي بمـا صنعـت وتصدقنـي فـي حديثـك لا أقعـد فـي بيتـك ولا ترانـي ولا
أراك فقال: أخبرك بما فعلته في يومـي هـذا علـى وجـه الصـدق اتفـق لـي أننـي جالـس فـي الدكـان علـى
عادتــي إذا جــاءت امــرأة إلــى دكانــي وأمرتنــي أن أصــوغ لهــا إســواراً وانصرفــت فصغــت لهـــا ســـواراً
مـــن ذهـــب ورفعتـــه فلمـــا حضـــرت أتيتهـــا بـــه فأخرجـــت يدهــــا ووضعــــت الســــوار فــــي ساعدهــــا
فتحيرت من بياض يدها وحسن زندها الذي يسبي الناظر وتذكرت قول الشاعر:
وسواعد تزهو بحسـن أسـاور كالنار تضـرم فـوق مـاء جـار
فكأنمــــا والتبــــر محتــــاط بهــــا مـــاء تمنطـــق معجبـــاً بالنــــار
فأخـذت يدهـا وعصرتهـا ولويتهـا فقــال لــه المــرأة: اللــه أكبــر لــم فعلــت هــذا الجــرم إن ذلــك السقــا الــذي
===
كـان يدخـل بيتنـا منــذ ثلاثيــن سنــة ولــم نــر فيــه خيانــة أخــذ اليــوم يــدي وعصرهــا ولواهــا فقــال اللــه:
نسـأل اللـه الأمـان أيتهـا المـرأة إنـي تائــب ممــا كــان منــي فاستغفــري اللــه فقالــت المــرأة: غفــر اللــه لــي ولــك
ورزقنــا حســن العاقبــة فلــم كــان الغــد جــاء الرجــل السقــا وألقــى نفســـه بيـــن يـــدي المـــرأة وتمـــرغ علـــى
التـراب واعتــذر إليهــا وقــال: يــا سيدتــي اجعلينــي فــي حــل ممــا أغرانــي بــه الشيطــان حيــث أضلنــي
وأغواني. فقالـت لـه المـرأة: امـض إلـى حـال سبيلـك فـإن ذلـك الخطـأ لـم يكـن منـك وإنمـا كـان سببـه مـن
زوجـي حيـث فعـل مـا فعـل فـي الدكـان فاقتـص اللـه منـه فـي الدنيـا وقيـل أن الرجـل الصائــغ لمــا أخبرتــه
زوجتــه بمــا فعــل السقــا معهــا قــال: دقــة بدقــة ولــو زدت لــزاد السقــا فصــار هــذا الكلــام مثـــلاً سائـــراً
بيــن النــاس فينبغــي للمــرأة مــع زوجهــا ظاهــراً وباطنـــاً وتقنـــع منـــه بالقليـــل إن لـــم يقـــدر علـــى الكثيـــر
وتقتدي بعائشة الصديقة وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما لتكون مع حواشي السلف.
وممـا يحكـى أنـه كـان فـي قديـم الزمـان وسالـف العصـر والــأوان امــرأة صالحــة فــي بنــي إسرائيــل وكانــت
تلــك المــرأة دينــة عابــدة تخــرج كــل يــوم إلــى المصلــى بستـــان فـــإذا خرجـــت إلـــى المصلـــى تدخـــل ذلـــك
البستــان وتتوضــأ منــه وكــان فــي البستــان شيخــان يحرسانــه فتعلــق الشيخــان بتلــك المــرأة وراوداهـــا
عــن نفسهــا فأبــت فقــالا لهــا: إن لــم تمكنينــا مــن نفســك لنشهــدن عليــك بالزنــا فقالـــت لهمـــا الجاريـــة:
اللــه يكفينــي شركمــا ففتحــا بــاب البستــان وصاحــا فأقبــل عليهمــا النــاس مــن كـــل مكـــان وقالـــوا: مـــا
===
خبركمـــا فقـــالا: إنـــا وجدنـــا هـــذه الجاريـــة مـــع شـــاب يفجــــر بهــــا وانفلــــت الشــــاب مــــن أيدينــــا وكــــان
النــاس فــي ذلــك الوقــت ينــادون بفضيحــة الزانــي ثلاثــة أيــام ثــم يرجمونــه فنــادوا عليهــا ثلاثـــة أيـــام مـــن
أجـل الفضيحـة وكــان الشيخــان فــي كــل يــوم يدانــون منهــا ويضعــان أيديهمــا علــى رأسهــا ويقولــان لهــا:
الحمـد للـه الـذي أنـزل بـك نقمتـه. فلمـا أرادوا رجمهـا تبعهـم دانيـال وهـو ابــن اثنتــي عشــرة سنــة وهــذه
أول معجـزة علـى نبينــا عليــه الصلــاة والسلــام ولــم يــزل تابعــاً لهــم حتــى لحقهــم وقــال: لا تعجلــوا عليهــا
بالرجم حتى أقضي بينهم فوضعوا له كرسياً.
ثــم جلــس وفــرق الشيخيــن وهــو أول مــن فــرق بيــن الشهــود فقــال لأحدهمــا: مــا رأيــت فذكــر لـــه مـــا
جــرى فقــال لــه: حصــل ذلــك فــي أي مكــان فــي البستــان فقــال: فــي الجانــب الشرقــي تحـــت شجـــرة
كمثـري ثـم سـأل الثانـي عمـا رأى فأخبــره بمــا جــرى فقــال لــه: فــي أي مكــان فــي البستــان فقــال: فــي
الجانــب الغربــي تحــت شجــرة تفـــاح هـــذا والجاريـــة واقفـــة رافعـــة رأسهـــا ويديهـــا إلـــى السمـــاء وهـــي
تدعـو اللـه بالخلـاص فأنـزل اللـه تعالـى صاعقـة مـن العـذاب فأحرقـت الشيخيــن وأظهــر اللــه تعالــى بــراءة
الجارية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة عشرة بعد الأربعمائة
===
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيـــد أن الصاعقـــة نزلـــت علـــى الشيخيـــن فأحرقتهمـــا وأظهـــر اللـــه بـــراءة
الجارية وهذا أول ما جرى من المعجزات لنبي الله دانيال عليه السلام.
ويحكــى أن أميــر المؤمنيــن هـــارون الرشيـــد خـــرج يومـــاً مـــن الأيـــام هـــو وأبـــا إسحـــاق النديـــم وجعفـــر
البرمكـي وأبـو نـواس وسـاروا فـي الصحـراء فـرأوا شيخـاً متكئـاً علـى حمــار لــه فقــال هــارون الرشيــد
لجعفــر: اســأل هــذا الشيــخ مــن أيــن هــو فقــال لــه جعفـــر: مـــن أيـــن جئـــت قـــال: مـــن البصـــرة فقـــال لـــه
جعفـــر: وإلـــى أيـــن سيـــرك قـــال إلـــى بغـــداد قـــال: ومـــا تصنـــع فيهـــا قـــال: ألتمـــس دواء لعينـــي فقــــال
هــارون الرشيــد: يــا جعفــر مازحـــه فقـــال: إذا مازحتـــه أسمـــع منـــه مـــا أكـــره فقـــال: بحقـــي عليـــك أن
تمازحــه فقــال جعفــر للشيــخ: إن وصفــت لــك دواء ينفعــك مـــا الـــذي تكافئنـــي بـــه فقـــال لـــه: إن اللـــه
تعالـى يكافئـك عنـي مـا هـو خيـر لـك مـن مكافئتـي فقـال: انصـت إلـي حتــى أصــف لــك هــذا الــدواء
الــذي لا أصفــه لأحــد غيــرك فقــال لــه: ومــا هــو فقــال جعفــر: خــذ لــك ثلــاث أواق مـــن هبـــوب الريـــح
وثلـــاث أواق مـــن شعـــاع الشمـــس وثلـــاث أواق مـــن زهـــر القمـــر وثلـــاث أواق مـــن نـــور الســـراج واجمـــع
الجميـع وضعهـا فـي الريـح ثلاثـة أشهـر ثـم بعـد ذلـك ضعهـا فـي هـون بـلا قعـر ودقهــا ثلاثــة أشهــر فــإذا
دققتها تضعها في جفنـك مشقوقـة وضـع الجفـة فـي الريـح ثلاثـة أشهـر ثـم استعمـل مـن هـذا الـدواء فـي
كــل يــوم ثلاثــة دراهــم عنــد النــوم واستمــر علــى ذلــك ثلاثــة أشهــر فإنــك تعافــى إن شــاء اللــه تعالـــى
===
فلمـا سمـع الشيـخ كلـام جعفـر انسطـح علـى حمــاره وضــرط ضرطــة منكــرة وقــال: خــذ هــذه الضرطــة
مكافـأة لـك علـى وصفـك هـذا الـدواء فـإذا استعملتـه ورزقنــي اللــه العافيــة أعطيتــك جاريــة تخدمــك
فـي حياتـك خدمـة يقطـع اللـه بهـا أجلـك فـإذا مــت وعجــل اللــه بروحــك إلــى النــار وسخمــت وجهــك
بخراهـا مـن حزنهـا عليـك وتنـدب وتلطــم وتنــوح وتقــول فــي نياحهــا: يــا ساقــع الذقــن مــا أسقــع ذقنــك
فضحك هارون الرشيد حتى استلقى على قفاه وأمر لذلك الرجل بثلاثة آلاف دينار.
وحكــى الشريــف حسيــن بــن ريــان أن أميــر المؤمنيــن عمــر بــن الخطــاب كــان جالســاً فــي بعــض الأيــام
للقضـاء بيــن النــاس والحكــم بيــن الرعايــا وعنــده أكابــر الصحابــة مــن أهــل الــرأي والإصابــة فبينمــا هــو
جالــس إذ أقبــل عليــه شــاب مــن أحســن الشبــاب نظيــف الثيــاب وقــد تعلــق بـــه شابـــان مـــن أحســـن
الشبـاب وقـد جذبـه الشابـان مـن طوقـه وأوقفـاه بيـن يـدي أميــر المؤمنيــن عمــر بــن الخطــاب فنظــر أميــر
المؤمنيــن إليهمــا وإليــه فأمرهمــا بالكــف عنــه وأدنــاه منــه وقــال للشابـــان: مـــا قصتكمـــا معـــه فقـــالا: يـــا
أميـر المؤمنيـن نحـن أخـوان شقيقـان وباتبـاع الحـق حقيقـان كـان لنـا أب شيـخ كبيــر حســن لتدبيــر معظــم
فـــي القبائـــل منــــزه عــــن الرذائــــل معــــروف بالفضائــــل ربانــــا صغــــاراً واولانــــا كبــــاراً. وأدرك شهــــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الشابيـن قـالا لأميـر المؤمنيـن عمـر بـن الخطـاب إن أبانـا كــان معظمــاً
فــي القبائــل منــزه عــن الرذائـــل معروفـــاً بالفضائـــل ربانـــا صغـــاراً وأولانـــا كبـــاراً جـــم المناقـــب والمفاخـــر
حقيقاً بقول الشاعر:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم كلا لعمري ولكـن منـه شيبـان
فكم أب قد علا بابن ذوي شرف كما علت برسـول اللـه عدنـان
فخـرج يومـاً إلـى حديقـة لـه ليتنـزه فـي أشجارهـا ويقتطـف يانـع ثمارهـا فقتلــه هــذا الشــاب وعــدل عــن
طريــق الرشــاد ونسألــك القصــاً كمــا جــاء والحكــم فيــه بمـــا أمـــرك اللـــه فنظـــر عمـــر إلـــى الشـــاب نظـــرة
مرهبــة وقــال لــه: قــد سمعــت مــن هذيــن الغلاميــن الخطــاب فمــا تقــول أنــت فــي الجـــواب وكـــان ذلـــك
الغلـام ثابـت الجنـان جـريء اللسانقـد خلـع ثيـاب الهلــع ونــزع لبــاس الجــزع فتبســم وتكلــم بأفصــح لســان
وحيـا أميـر المؤمنيـن بكلمـات حسـان ثـم قـال: واللـه يـا أميـر المؤمنيـن لقـد وعيـت مـا ادعـوا صدقــاً فيمــا
قالــاه حيــث أخبــرا بمــا جــرى وكــان أمــر اللــه قــدراً مقــدوراً ولكــن سأذكــر قصتــي بيــن يديـــك والأمـــر
فيهـا إليـك اعلـم يـا أميـر المؤمنيـن أنــي مــن صميــم العــرب العربــاء الذيــن هــم أشــرف مــن تحــت الجربــاء
نشـأت فـي منـازل الباديـة فأصابـت قومـي سـود السنيـن العاديـة فأقبلـت إلـى ظاهــر هــذا البلــد بالأهــل
والمـال والولـد وسلكـت بعـض طرائقهـا إلـى المسيـر بيـن حدائقهـا بنيـاق كريمـة عزيـزات علــي بينهــن فحــل
===
كريـم الأصـل كثيـر النســل مليــح الشكــل يكثــر منهــن النتــاج ويمشــي بينهــن كأنــه ملــك عليــه تــاج فنــدت
بعـض النيـاق إلـى حديقـة أبيهـم وقـد ظهـر مـن الحائـط أشجارهـا فتناولتـه بمشفرهــا فطردتهــا عــن تلــك
الحديقــة وإذا بشيــخ مــن الحائــط قــد ظهــر وزفيــر غيظــه يرمــي الشــرر وفــي يــده اليمنــى حجـــر وهـــو
يهــادى كالليــث إذا حضــر فضــرب الفحــل بذلــك الحجــر فقتلــه لأنــه أصــاب مقتلـــه فلمـــا رأيـــت الفحـــل
قــد سقــط بجانبــي آنســت إلــى قلبــي قــد توقــدت فيــه جمــرات الغضــب قتناولــت ذلــك الحجــر بعينــه
وضربتـه بـه فكـان سببـاً لحينـه ولقـي سـوء مقبلـه والمـرء مقتــول بمــا قتــل وعنــد إصابتــه بالحجــر صــاح
صيحــــة عظيمــــة وصــــرخ صرخــــة أليمــــة فأسرعــــت بالسيــــر مـــــن مكانـــــي فأســـــرع هـــــذا الشابـــــان
وأمسكانـي وإليـك أحضرانـي وبيـن يديـك أوقفانـي فقـال عمـر رضـي اللـه تعالـى عنـه: قــد اعترفــت بمــا
اقترفــت وتعــذر الخلــاص ووجــب القصــاً ولــات حيــن منــاً فقــال الشــاب: سمعــاً وطاعــة لمــا حكـــم بـــه
الإمـام ورضيـت بمـا اقتضتـه شريعـة الإسلـام ولكــن لــي أخ صغيــر كــان لــه أب كبيــر خصــه قبــل وفاتــه
بمـال جزيـل وذهـب جليـل وقـد سلـم أمـره لــي وأشهــد اللــه علــي وقــال: هــذا لأخيــك عنــدك فاحفظــه
جهــدك فأخــذت ذلــك المــال ودفنتــه ولا أحــد يعلــم بــه إلا أنــا فـــإن حكمـــت الـــآن بقتلـــي ذهـــب المـــلا
وكنـت السبـب فـي ذهابـه وطالبـك الصغيـر بحقـه يـوم يقضــي اللــه بيــن خلقــه وإن أنــت انتظرتنــي ثلاثــة
أيـام أقمـت مـن يتولـى أمـر الغلــام وعــدت وافيــاً بالذمــام ولــي مــن يضمننــي علــى هــذا الكلــام. فأطــرق
===
أميـر المؤمنيـن رأسـه ثـم نظــر إلــى مــن حضــره وقــال: مــن يقــوم بضمانــه والعــود إلــى مكانــه فنظــر الغلــام
إلى وجـوه مـن فـي المجلـس وأشـار إلـى أبـي ذر دون الحاضريـن وقـال: هـذا يكفلنـي ويضمننـي. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة عشرة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الشـاب لمـا أشـار إلـى أبـي ذر وقـال: هـذا يكفلنـي ويضمننـي قــال
عمــر رضــي اللــه عنــه: يــا أبــا ذر أسمعــت هــذا الكلــام وتضمــن لــي حضـــور هـــذا الغلـــام قـــال: نعـــم
يـا أميـر المؤمنيــن أضمنــه إلــى ثلاثــة أيــام فرضــي بذلــك وأذن للغلــام فــي الإنصــراف فلمــا انقضــت مــدة
الإمهــال وكــاد وقتهــا أن يــزول أو زال ولــم يحضــر الشــاب إلــى مجلـــس عمـــر والصحابـــة حولـــه كالنجـــوم
حـول القمـر وأبـو ذر قـد حضـر والخصمــان ينتظــران فقــالا: أيــن الغريــم يــا أبــا ذر كيــف رجــوع مــن فــر
ولكــن نحــن لا نبــرح مــن مكاننــا حتــى تأتينــا للأخــذ بثأرنــا بــه. فقــال أبــو ذر: وحــق الملـــك العلـــام أن
انقضـت الثلاثـة أيـام ولـم يحضــر الغلــام وفيــت بالضمــان وسلمــت نفســي للإمــام فقــال عمــر رضــي اللــه
عنـه: واللـه إن تأخـر الغلـام لأقضيـن فـي أبـي ذر مـا اقتضتـه شريعـة الإسلـام فهملـت عبــرات الحاضريــن
وارتفعـــت زفـــرات الناظريـــن وعظـــم الضجيـــج فعـــرض أكابـــر الصحابــــة علــــى الشابيــــن أخــــذ الديــــة
===
واغتنـام الاثنيــة فأبيــا ولــم يقبــلا إلا الأخــذ بالثــأر فبينمــا النــاس يموجــون ويضجــون تأسفــاً علــى أبــي
ذر إذ أقبـل الغلـام ووقــف بيــن يــدي الإمــام وسلــم عليــه بأحســن سلــام ووجهــه مشــرق يتهلــل وبالعــرق
يتكلـل وقـال لـه: قـد أسلمـت الصبـي إلـى أخوالـه وعرفتهـم بجميـع أحوالـه وأطلعتهـم علــى مكــان مالــه.
ثـم اقتحمـت هاجـرة الحـر ووفيــت فــاه الحــر فتعجــب النــاس مــن صدقــه ووفائــه وإقدامــه علــى المــوت
واجترائــه فقــال لــه بعضهــم: ماأكرمـــك مـــن غلـــام وأوفـــاك بالعهـــد والزمـــام فقـــال الغلـــام: أمـــا تحققتـــم أن
المــوت إذا حضــر لا ينجــو منــه أحــد وغنمــا وفيــت كيــلا يقــال ذهــب الوفــاء مــن النــاس فقــال أبــو ذر:
واللــه يــا أميــر المؤمنيــن لقــد ضمنـــت هـــذا الغلـــام ولـــم أعرفـــه مـــن أي قـــوم ولا رأيتـــه قبـــل ذلـــك اليـــوم
ولكــن لمــا أعــرض عمــر حضــر وقصدنــي وقـــال: هـــذا يضمننـــي ويكفلنـــي لـــم أستحســـن رده وأبـــت
المـروة أن تخيـب قصـده إذ ليـس فـي إجابـة القصـد مـن بـاس كيــلا يقــال ذهــب الفضــل مــن النــاس فعنــد
ذلـك قــال الشابــان: يــا أميــر المؤمنيــن قــد وهبنــا لهــذا الشــاب دم أبينــا حيــث بــدل الوحشــة بالإينــاس
كيــلا يقــال ذهــب المعــروف مـــن النـــاس فاستبشـــر الإمـــام بالعفـــو عـــن الغلـــام وصدقـــه ووفائـــه بالذمـــام
واستكبــر مــروءة إبــي ذر دون جلسائــه واستحســن اعتمــاد الشابيــن فـــي اصطنـــاع المعـــروف وأثنـــى
عليهما ثناء الشاكر وتمثل بقول الشاعر:
مــن يصنــع الخيــر بيــن الــورى لا يذهب الخير بين الله والناس
===
ثــم عــرض عليهمــا أن يصــرف ديـــة أبيهمـــا مـــن بيـــت المـــال فقـــالا: إنمـــا عفونـــا عنـــه ابتغـــاء وجـــه اللـــه
الكريم المتعال ومن بيته كذا لا يتبع إحسانه مناً ولا أذى.
وممـا يحكـى أن أميـر المؤمنيـن هـارون الرشيـد كــان لــه ولــد قــد بلــغ مــن العمــر ستــة عشــرة عامــاً وكــان
معـرض عـن الدنيـا وسالكـاً طريقــة الزهــاد والعبــاد فكــان يخــرج لإلــى المقابــر ويقــول: قــد كنتــم تملكــون
الدنيـا فمـا ذلكـم بمنجيكـم وقـد صرتـم إلـى قبوركـم فيـا ليـت شعــري مــا قلتــم ومــا قيــل لكــم ويبكــي
بكاء الخائف الوجل وينشد قول القائل:
تروعني الجنائـز فـي كـل وقـت ويحزننـــــي بكـــــاء النائحـــــات
فاتفـق أن أبــاه مــر عليــه فــي بعــض الأيــام وهــو فــي موكبــه وحولــه وزرائــه وكبــراء دولتــه وأهــل مملكتــه
فـرأوا ولـد أميـر المؤمنيـن وعلـى جسـد جبـة مـن صـوف وعلــى رأســه مئــزر مــن صــوف فقــال بعضهــم
لبعــض: لقــد فضــح هــذا الولــد أميــر المؤمنيــن بيــن الملــوك فلــو عاتبــه لرجــع عمــا هــو فيــه فسمـــع أميـــر
المؤمنين كلامهـم فكلمـه فـي ذلـك وقـال لـه: لقـد فضحتنـي بمـا أنـت عليـه فنظـر إليـه ولـم يجبـه. ثـم نظـر
إلــى طائــر علــى شرفــة مــن شرفــات القصــر فقــال لــه: أيهــا الطائــر بحــق الــذي خلقــك أن تسقـــط علـــى
يـدي فانقـض الطائـر علـى يـد الغلـام ثــم قــال لــه: ارجــع إلــى موضعــك فرجــع إلــى موضعــه ثــم قــال لــه:
اسقــط علــى يــد أميــر المؤمنيــن فأبــى أن يسقــط علــى يــده فقــال الغلـــام لأبيـــه: يـــا أميـــر المؤمنيـــن أنـــت
===
الـذي فضحتنـي بيـن الأوليـاء بحبـك الدنيـا وقـد عزمـت علـى مفارقتــك مفارقــة لا أعــود إليــك بعدهــا
إلا في الآخرة.
ثـم انحـدر فـي البصـرة فكـان يعمـل مـع الفعلـة فـي الطيــن وكــان لا يعمــل فــي كــل يــوم إلا بدرهــم ودانــق
فيتقـــوت بالدانـــق ويتصـــدق بالدرهـــم قــــال أبــــو عامــــر البصــــري وكــــان قــــد وقــــع فــــي داري حائــــط
فخرجـت إلـى موقـف الفعلـة لأنظــر رجــلاً يعمــل لــي فيــه فوقعــت عينــي علــى شــاب مليــح ذي وجــه
صبيـح فجئـت إليـه وسلمـت عليـه وقلــت لــه: يــا حبيبــي أتريــد الخدمــة فقــال: نعــم فقلــت: قــم معــي
إلـى بنـاء الحائـط فقـال لـي: بشــروط أشترطهــا عليــك قلــت: يــا حبيبــي مــا هــي قــال: الأجــرة درهــم
ودانق وإذا أذن المؤذن تتركني حتى أصلي مع الجماعة قلت: نعم.
ثـم أخذتـه وذهبـت بـه إلـى المنـزل فخــدم خدمــة لــم أر مثلهــا وذكــرت لــه الغــداء فقــال: لا فعلمــت أنــه
صائـم فلمـا سمـع الـآذان قـال لـي: قـد علمـت الشـرط فقلـت: نعـم فحـل حزامــه وتفــرغ للوضــوء وتوضــأ
وضـوءاً لـم أر أحسـن منـه. ثـم خـرج إلـى الصلـاة فصلـى مــع الجماعــة ثــم رجــع إلــى خدمتــه فلمــا أذن
العصـر توضـأ وذهـب إلـى الصلـاة ثـم عـاد إلـى الخدمـة فقلــت لــه: يــا حبيبــي قــد انتهــى وقــت الخدمــة
فــإن خدمــة الفعلــة إلــى العصــر فقــال: سبحــان اللــه إنمــا خدمتــي إلــى الليــل ولــم يــزل يخــدم إلــى الليـــل
فأعطيتــه درهميــن. فلمــا رآهمــا قــال: مــا هــذا قلــت: واللــه إن هــذا بعــض أجرتــك لاجتهـــادك فـــي
===
خدمتـي فرمــى بهمــا إلــي وقــال: لا أريــد زيــادة علــى مــا كــان بينــي وبينــك فرغبتــه فلــم أقــدر عليــه
فأعطيتــه درهمــاً ودانقــاً وســار فلمــا أصبــح الصبــاح بكـــرت إلـــى الموقـــف فلـــم أجـــده فسألـــت عنـــه
فقيـل لـي: أنـه لا يأتـي ههنـا إلا فــي يــوم السبــت فقــط فلمــا كــان يــوم السبــت الثانــي ذهبــت إلــى ذلــك
المكان فوجدته فقلت لـه: باسـم اللـه تفضـل إلـى الخدمـة. فقـال لـي: علـى الشـروط التـي تعلمهـا قلـت:
نعـم فذهبـت بــه إلــى داري ووقفــت وهــو لا يرانــي فأخــذ كفــاً مــن الطيــن ووضعــه علــى الحائــط فــإذا
الحجـارة يتركــب بعضهــا علــى بعــض فقلــت: هكــذا أوليــاء اللــه فخــدم يومــه ذلــك وزاد فيــه علــى مــا
تقــدم فلمــا كــان الليــل دفعــت لــه أجرتــه فأخذهــا وســـار فلمـــا جـــاء يـــوم السبـــت الثالـــث أتيـــت إلـــى
الموقــف فلــم أجــده فسألــت عنــه فقيــل لــي: هــو مريــض راقـــد فـــي خيمـــة فلانـــة وكانـــت تلـــك المـــرأة
مشهــورة بالصلــاح ولهــا خيمــة مــن قصــب الجبانـــة فســـرت إلـــى الخيمـــة ودخلتهـــا فـــإذا هـــو مضطجـــع
علـى الـأرض وليـس تحتـه شـيء وقـد وضـع رأســه علــى لبنــة ووجهــه يتهلــل نــوراً فسلمــت عليــه فــرد
علي السلام فجلس عند رأسه أبكي على صغر سنه وغربته وتوفيقه لطاعة ربه.
ثــم قلــت لـــه: ألـــك حاجـــة قـــال: نعـــم قلـــت: ومـــا هـــي قـــال: إذا كـــان الغـــد تجـــيء إلـــي فـــي وقـــت
الضحى فتجدني ميتاً فتغسلني وتحفر قبري ولا تعلم بذلـك أحـداً وتكفننـي فـي هـذه الجبـة التـي علـي
بعـد أن تفتقهـا وتفتـش جيبهـا وتخـرج مـا فيـه وتحفظـه عنـدك فـإذا صليـت علـي وواريتنــي فــي التــراب
===
فاذهـب إلـى بغـداد وارتقـب الخليفـة هـارون الرشيـد حتـى يخـرج وادفـع لـه مـا تجـده فـي جيبـي واقرئـه
من السلام ثم تشهد وأثنى على ربه بأبلغ الكلمات وأنشد هذه الأبيات:
بلــغ أمانــة مـــن وافـــت منيتـــه إلى الرشيد فإن الأجر في ذاكا
وقل غريب له شـوق لرؤيتكـم على تمادي الهوى والبعد لباكا
ما صده عنك لا بغض ولا ملل لـــأن قربتـــه مـــن لثــــم يمناكــــا
وإنمــا أبعدتــه عنــك يـــا أبتـــي نفس لها عفة عـن نيـل دنياكـا
ثــــم أن الغلــــام بعــــد ذلــــك اشتغــــل بالإستغفــــار. وأدرك شهـــــرزاد الصبـــــاح فسكتـــــت عـــــن الكلـــــام
المباح.
وفي الليلة السابعة عشرة بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الغلـــام بعـــد ذلـــك اشتغـــل بالإستغفـــار والصلـــاة والسلـــام علـــى
سيد الأبرار وتلاوة بعض الآيات ثم أنشد هذه الأبيات:
يــــا والــــدي لا تفتـــــر بتنعـــــم فالعمرينفـــــد والنعيـــــم يـــــزول
وإذا علمت بحال قوم ساءهـم فاعلــم بأنــك عنهمــو مســـؤول
===
قـال أبـو عامـر البصـري: فلمــا فــرغ الغلــام مــن وصيتــه وإنشــاده ذهبــت عنــه وتوجهــت إلــى بيتــي فلمــا
أصبــح الصبــاح ذهبــت إليــه مــن الغــد وقــت الضحــى فوجدتـــه قـــد مـــات رحمـــة اللـــه عليـــه فغسلتـــه
وفتقت جبته فوجد فـي جيبـه ياقوتـة تسـاوي آلافـاً مـن الدنانيـر فقلـت فـي نفسـي: واللـه إن هـذا الفتـى
لقـد زهـد فـي الدنيــا غايــة الزهــد ثــم بعــد أن دفنتــه توجهــت إلــى بغــداد ووصلــت إلــى دار الخلافــة
وصـرت أترقــب خــروج الرشيــد إلــى أن خــرج فتعرضــت لــه فــي بعــض الطــرق ودفعــت إليــه الياقوتــة
فلمـــا رآهـــا عرفهـــا فخـــر مغشيـــاً عليـــه فقبـــض علـــي الخـــدم فلمـــا أفـــاق قـــال للخـــدم: أفرجـــوا عنــــه
وأرسلـوه برفـق إلـى القصـر ففعلـوا مأمرهـم بـه فلمــا دخــل قصــره طلبنــي وأدخلنــي محلــه وقــال لــي: مــا
فعــل صاحــب هــذه الياقونــة فقلــت: قــد مــات ووصفــت لــه حالـــه فجعـــل يبكـــي ويقـــول: انتفـــع الولـــد
وخـاب الوالـد ثـم نـادى: يــا فلانــة فخرجــت امــرأة فلمــا رأتنــي أرادت أن ترجــع فقــال لهــا: تعالــي ومــا
عليــك منــه فدخلــت وسلمــت فرمــى إليهـــا الياقوتـــة فلمـــا رأتهـــا صرخـــت صرخـــة عظيمـــة ووقعـــت
مغشيـــاً عليهـــا فلمـــا أفاقـــت مـــن غشيتهـــا قالـــت: يـــا أميـــر المؤمنيـــن مـــا فعـــل اللـــه بولـــدي فقـــال لـــي:
أخبرهـا بشأنـه وأخذتـه العبــرة فأخبرتهــا بشأنــه فجعلــت تبكــي وتقــول بصــوت ضعيــف: مــا أشوقنــي
إلـى لقائـك يـا قـرة عينـي ليتنـي كنـت أسقيـك إذا لـم تجـد مـن يسقيـك ليتنـي كنـت أؤانسـك إذا لــم تجــد
مؤانساً ثم سكبت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
===
من بعد عز وشمل كان مجتمعاَ أضحى فريداً وحيداً لا يرى أحدا
يبيـن للنـاس مـا الأيــام تضمــره لم يترك الموت منـا واحـداً أبـدا
يا غائباً قد قضى ربي بغربته وصار منيبعد القـرب مبتعـدا
إن أيأس الموت من لقياك يا ولدي فإننا نلتقـي يـوم الحسـاب غـدا
فقلـــت: يـــا أميـــر المؤمنيـــن أهـــو ولـــدك قـــال: نعـــم وقـــد كـــان قبـــل ولايتـــي هـــذا الأمــــر يــــزور العلمــــاء
ويجالــس الصالحيــن فلمــا وليــت هــذا الأمــر نفــر منــي وباعــد نفســه عنــي فقلــت لأمــه: إن هـــذا الولـــد
منقطـع إلـى اللـه تعالـى وربمــا تصيبــه الشدائــد ويكابــد الإمتحــان فادفعــي إليــه هــذه الياقوتــة ليجدهــا
وقـت الإحتيـاج إليهــا فدفعتهــا إليــه وعزمــت عليــه أن يمسكهــا فامتثــل لأمرهــا وأخذهــا منهــا ثــم تــرك
لنـا دنيانـا وغـاب عنـا ولـم يـزل غائبـاً عنـا حتـى لقـي اللـه عـز وجـل تقيــاً نقيــاً ثــم قــال: قــم فأرنــي قبــره
فخرجـت معـه وجعلـت أسيـر إلـى أن أريتـه إيـاه فجعـل يبكـي وينتحــب حتــى وقــع مغشيــاً عليــه فلمــا
أفــاق مــن غشيتــه استغفــر اللــه وقــال: إنــا للــه وإنــا إليــه راجعــون ودعــا لــه بخيــر ثــم سألنــي الصحبـــة
فقلت له: يا أمير المؤمنين إن لي في ولدك أعظم العظات ثم انشدت هذه الأبيات:
أنا الغريب فلا آوي إلـى أحـد أنا الغريب وإن أمسيت في بلدي
أنـا الغريـب فـلا أهـل ولا ولـد وليس لي أحد يأوي إلى أحـد
===
فالحمد للـه رب العالميـن علـى أفضاله لبقاء الروح في الجسـد
وممـا يحكـى عــن بعــض الفضــلاء أنــه قــال: مــررت بفقيــه فــي كتــاب وهويقــريء الصبيــان فوجدتــه فــي
هيئــة حسنــة وقمــاش مليــح فأقبلــت عليــه فقــام لــي وأجلسنــي معــه فمارستــه فــي القــراءات والنحـــو
والشعـر واللغــة فــإذا هــو كامــل فــي كــل مــا يــراد منــه فقلــت لــه: قــوى اللــه عزمــك فإنــك عــارف بكــل
مايـراد منـك ثـم عاشرتـه مـدة وكـل يـوم يظهـر فيـه حسـن فقلـت فـي نفسـي: إن هـذا شيـئ عجيـب مــن
فقيـه يعلـم الصبيــان مــع أن العقــلاء اتفقــوا علــى نقــص عقــل معلــم الصبيــان ثــم فارقتــه وكنــت كــل أيــام
قلائــل أتفقــده وأزوره فأتيــت إليــه فــي بعــض الأيــام علــى عادتــي مــن زيارتــه فوجــدت الكتــاب مغلقــاً
فسألـت جيرانـه فقالــوا: أنــه مــات عنــده ميــت فقلــت فــي نفســي: وجــب علينــا أن نعزيــه فجئــت إلــى
بابــه وطرقتــه فخرجــت لــي جاريــة وقالــت: مــا تريــد فقلــت: أريــد مولــاك فقالــت: إن مولـــاي قاعـــداً
فــي العــراء وحــده فقلــت لهــا: قولــي لــه أن صديقــك فلانــاً يطلـــب أن يعزيـــك فراحـــت وأخبرتـــه فقـــال
لهـا: دعيـه يدخـل فأذنـت لـي فـي الدخـول فدخلــت إليــه فرأيتــه جالســاً وحــده ومعصبــاً رأســه فقلــت
لـه: عظـم اللـه أجـرك وهـذا سبيـل لا بـد لكـل أحـد منــه فعليــك بالصبــر ثــم قلــت لــه: مــن الــذي مــات
لــك فقــال: أعــز النـــاس علـــي وأحبهـــم إلـــي فقلـــت: لعلـــه والـــدك فقـــال: لا قلـــت: والدتـــك قـــال: لا.
قلــت: أخــوك قــال: لا. قلــت: أحــد مــن اقاربــك قــال: لا. قلــت فمــا نسبتــه إليــك قــال: حبيبتـــي.
===
فقلت في نفسـي: هـذا أول المباحـث فـي قلـة عقلـه ثـم قلـت لـه: قـد يوجـد غيرهـا ممـا هـو أحسـن منهـا
فقـال: أنـا مـا رأيتهـا حتـى أعـرف إن كـان غيرهـا أحســن منهــا أو لا فقلــت فــي نفســي: وهــذا مبحــث
ثــان فقلــت لــه: وكيــف عشقــت مــن لا تراهــا فقــال: اعلــم أنــي كنــت جالســاً فــي الطاقـــة وإذا برجـــل
عابر طريق يغني هذا البيت:
يا أم عمرو جزاك اللـه مكرمـة ردي علـي فـؤادي أينمــا كانــا
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة عشرة بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الفقيــه قــال: لمـــا غنـــى الرجـــل المـــار فـــي الطريـــق بالشعـــر الـــذي
سمعتـه منـه قلـت فـي نفسـي أولاً أن أم عمـرو هـذه مـا فـي الدنيــا مثلهــا مــا كــان يتغزلــون فيهــا فتعلقــت
بحبها فلما كان بعد يومين عبر ذلك الرجل وهو ينشد هذا البيت:
إذا ذهـب الحمــار بــأم عمــرو فلا رجعت ولا رجـع الحمـار
فعلمــت أنهــا ماتــت فحزنــت عليهــا ومضــى لــي ثلاثــة أيــام وأنــا فــي العـــزاء فتركتـــه وانصرفـــت بعدمـــا
تحققت قلة عقله.
===
وممـا يحكـى مـن قلـة عقـل معلـم الصبيــان أنــه كــان رجــل فقيــه فــي مكتــب فدخــل عليــه رجــل ظريــف
وجلــس عنــده ومارســه فــرآه فقيهــاً نحويــاً لغويــاً شاعــراً أديبــاً فهيمــاً لطيفــاً فتعجــب مـــن ذلـــك وقـــال:
إن الذيــن يعلمــون الصبيــان فــي المكاتــب ليــس لهــم عقــل كامــل فلمــا هــم بالإنصــراف مــن عنــد الفقيـــه
قـال لـه: أنـت ضيفـي فـي هـذه الليلـة فأجابـه إلـى الضيافـة وتوجـه صحبتـه إلـى منزلــه فأكرمــه وأتــى لــه
بالطعـام فأكـلا وشربـا ثـم جلسـا بعـد ذلـك يتحدثـان إلـى ثلـث الليـل وبعـد ذلـك جهــز لــه الفــراش وطلــع
إلـى حريمـه فاضطجـع الضيـف وأراد النـوم وإذا بصــراخ كثيــر ثــار فــي حريمــه فســأل: مــا الخبــر فقالــوا
لـه: أن الشيـخ حصـل لـه أمـر عظيــم وهــو فــي آخــر رمــق فقــال: أطلعونــي لــه فطلعــوه لــه ودخــل عليــه
فــرآه مغشيــاً عليــه ودمــه سائــل فــرش المــاء علـــى وجهـــه. فلمـــا أفـــاق قـــال لـــه: مـــا هـــذا الحـــال أنـــت
طلعــت مــن عنــدي فــي غايــة مــا يكــون مــن الحــظ وأنــت صحيـــح البـــدن فمـــا أصابـــك فقـــال لـــه: يـــا
أخـي بعدمـا طلعتمـن عنـدك جلسـت أتذكـر فـي مصنوعـات اللـه تعالـى وقلـت فــي نفســي: كــل شــيء
خلقـه اللـه للإنسـان فيـه نفـع لـأن اللــه سبحانــه وتعالــى خلــق اليديــن للبطــش والرجليــن للمشــي والعينيــن
للنظـر والأذنيـن للسمـاع والذكـر للجمــاع وهلــم جــرا إلا هاتيــن البيضتيــن ليــس لهمــا نفــع فأخــذت مــوس
كـان عنـدي وقطعتهمـا فحصـل لـي هـذا الأمـر فنـزل مـن عنـده وقـال: صـدق مـن قـال أن كـل فقيــه يعلــم
الصبيان ليس له عقل كامل ولو كان يعرف جميع العلوم.
===
وممــا يحكــى أيضــاً أن بعــض المجاوريــن كــان لا يعــرف الخــط ولا القــراءة وإنمــا يحتـــال علـــى النـــاس بحيـــل
يأكــل منهــا الخبــز فخطــر ببالــه يومــاً مــن الأيــام أنــه يفتــح لــه مكتبــاً ويقــريء فيــه الصبيــان فجمــع ألواحــاً
وأوراقــاً مكتوبــة وعلقهــا فــي مكــان وكبــر عمامتــه وجلــس علــى بــاب المكتــب فصـــار النـــاس يمـــرون
عليـه وينظـرون إلـى عمامتــه وإلــى الألــواح فيظنــون أنــه فقيــه جيــد فيأتــون إليــه بأولادهــم فصــار يقــول
لهـذا: اكتـب ولهـذا: اقــرأ فصــار الأولــاد يعلــم بعضهــم بعضــاً فبينمــا هــو ذات يــوم جالــس علــى بــاب
المكتـب علـى عادتـه وإذا بامـرأة مقبلـة مـن بعيـد وبيدهـا مكتـوب فقــال فــي بالــه: لا بــد أن هــذه المــرأة
تقصدنـي لأقـرأ لهـا المكتــوب الــذي معهــا فكيــف يكــون حالــي معهــا وانــا لا أعــرف قــراءة الخــط وهــم
بالنــزول ليهــرب منهـــا فلحقتـــه قبـــل أن ينـــزل وقالـــت لـــه: إلـــى أيـــن فقـــال لهـــا: أريـــد أن أصلـــي الظهـــر
وأعـود فقالـت لـه: الظهـر بعيـد فاقـرأ لــي هــذا الكتــاب فأخــذه وجعــل أعلــاه أسفلــه وصــار ينظــر إليــه
ويهــز عمامتــه تــارة ويرقــص حواجبـــه أخـــرى ويظهـــر غيظـــاً وكـــان زوج المـــرأة غائبـــاً والكتـــاب مرســـل
إليهـا مـن عنـده فلمـا رأت الفقيــه علــى تلــك الحالــة قالــت فــي نفسهــا: لا شــك أن زوجــي مــات وهــذا
الفقيــه يستحــي أن يقــول لــي أنــه مــات فقالــت لــه: هــل أشــق ثيابــي فقــال لهــا: شقــي فقالــت لــه: هــل
ألطـم علـى وجهـي فقــال لهــا: الطمــي فأخــذت الكتــاب مــن يــده وعــادت إلــى منزلهــا وصــارت تبكــي
هــي وأولادهــا فسمــع بعــض جيرانهــا البكــاء فسألــوا عــن حالهــا فقيــل لهــم: أنــه جاءهـــا كتـــاب بمـــوت
===
زوجهــا فقــال رجــل: إن هــذا الكلــام كــذب لــأن زوجهــا أرســل لــي مكتوبـــاً بالأمـــس يخبرنـــي فيـــه أن
طيـب بخيـر وعافيـة وأنـه بعـد عشـرة أيـام يكـون عندهــا فقــام مــن ساعتــه وجــاء إلــى المــرأة وقــال لهــا:
أيــن الكتــاب الــذي جــاء فجــاءت بــه إليــه وأخــذه منهــا وقــرأه وإذا فيـــه: أمـــا بعـــد فإنـــي طيـــب بخيـــر
وعافيـــة وبعـــد عشـــرة أيـــام أكـــون عندكـــم وقـــد أرسلـــت إليكـــم ملحفـــة ومكمـــرة فأخــــذت الكتــــاب
وعـادت فيـه إلـى الفقيـه وقالـت لـه: مـا حملـك علـى الـذي فعلتــه معــي وأخبرتــه بمــا قالــه جارهــا منــس
سلامـة زوجهـا وأنــه أرســل إليهــا ملحفــة ومكمــرة فقــال لهــا: لقــد صدقــت ولكــن يــا حرمــة اعذرينــي
فإني كنت في تلك الساعة مغتاظاً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة عشرة بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيـــد أن المـــرأة قالـــت للفقيـــه: مـــا حملـــك علـــى الـــذي فعلتـــه معـــي فقـــال
لهـا: إنـي كنـت فـي تلـك الساعـة مغتاظـاً مشغـول الخاطـر ورأيـت المكمـرة ملفوفــة فــي الملحفــة فظننــت
أنـــه مـــات وكفنـــوه وكانـــت المـــرأة لا تعـــرف الحيلـــة فقالـــت لــــه: أنــــت معــــذور وأخــــذت الكتــــاب منــــه
وانصرفت.
وحكــي أن ملكــاً مــن الملــوك خــرج مستخفيـــاً ليطلـــع علـــى أحـــوال رعيتـــه فوصـــل إلـــى قريـــة عظيمـــة
===
فوقــف ببــاب دار مــن دور القريـــة وطلـــب مـــاء فخرجـــت إليـــه امـــرأة جميلـــة بكـــوز مـــاء فناولتـــه إيـــاه
فشـرب فلمـا نظـر إليهـا افتتـن بهـا فراودهــا عــن نفسهــا وكانــت المــرأة عارفــة بــه فدخلــت بــه وأجلستــه
وأخرجـت لـع كتابـاً وقالـت: انظـر فـي هـذا الكتــاب إلــى أن أصلــح أمــري وأرجــع إليــك فجلــس يطالــع
فـي الكتـاب وإذا فيـه الزجـر عـن الزنـا ومـا أعـده اللـه لأهلـه مـن العـذاب فاقشعــر جلــده وتــاب إلــى اللــه
وصــاح بالمــرأة واعطاهــا الكتــاب وذهــب وكــان زوج المــرأة غائبــاً فلمــا حضـــر أخبرتـــه بالخبـــر فتحيـــر
وقــال فــي نفســه: أخـــاف أن يكـــون وقـــع غـــرض الملـــك فيهـــا فلـــم يتجاســـر علـــى وطئهـــا بعـــد ذلـــك
ومكـث علـى ذلـك مـدة فأعلمـت المـرأة أقاربهـا بمـا حصـل لهــا مــع زوجهــا فعرفــوه إلــى الملــك فلمــا مثــل
بيـن يديـه قـال أقـارب المـرأة: أعـز اللـه الملـك إن هـذا الرجــل استأجــر منــا أرضــاً للزراعــة فزرعهــا مــدة
ثــم عطلهــا فــلا هــو يتركهــا حتــى نؤجرهــا لمــن يزرعهـــا ولا هـــو يزرعهـــا وقـــد حصـــل الضـــرر للـــأرض
فنخاف فسادها بسبب التعطيل لأن الأرض إذا لم تزرع فسدت.
فقــال الملــك: مــا الــذي يمنعــك مــن زرع أرضــك فقــال: أعــز اللــه الملــك أنــه قــد بلغنــي أن الأســد قـــد
دخـل الـأرض فهبتـه ولـم أخــاف علــى الدنــو منهــا لعلمــي أنــه لا طاقــة لــي بالأســد وأخــاف منــه ففهــم
الملــك القصــة وقــال لــه: يــا هــذا إن أرضــط لــم يطاهــا الأســد وأرضــك طيبــة الــزرع فازرعهــا بــارك
الله لك فيها فإن الأسد لا يعدو عليها ثم أمر له ولزوجته بصلة حسنة وصرفهم.
===
وممـــا يحكـــى أن إسحـــق بـــن ابراهيـــم الموصلـــي قـــال: اتفـــق أننـــي ضجـــرت مـــن ملازمـــة دار الخليفــــة
والخدمـــة بهـــا فركبـــت وخرجـــت ببكـــرة النهـــار وعزمـــت علـــى أن أطـــوف الصحـــراء وأتفـــرج وقلـــت
لغلمانـي: غـا جـاء رسـول الخليفـة أو غيـره فعرفـوه أننـي بكـرت فـي بعـض مهماتـي وأنكـم لا تعرفـون أيـن
ذهبـت ثـم مضيـت وحـدي وطفـت فـي المدينـة وقـد حمـي النهـار فوقفـت فــي شــارع يعــرف بالحــرم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة العشرين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن اسحــق بــن ابراهيــم الموصلــي قــال: لمــا حمــي النهــار وقفــت فــي
شــارع يعــرف بالحــرم لأستظــل مــن حــر الشمــس وكــان للــدار جنـــاح بـــارز علـــى الطريـــق فلـــم ألبـــث
حتـى جـاء خـادم أســود يقــود حمــاراً فرأيــت جاريــة راكبــة وتحتهــا منديــل مكلــل بالجواهــر وعليهــا مــن
اللبــاس الفاخــر مــلا غايــة بعــده ورأيــت لهــا قوامــاً حسنــاً وطرفــاً فاتــراً وشمائــل ظريفــة فسألـــت عنهـــا
بعـض الماريـن فقـال لــي: إنهــا مغنيــة وقــد تعلــق بحبهــا قلبــي عنــد نظــري إليهــا وقــد قــدرت أن أستقــر
على ظهر دابتي.
ثـم أنهـا دخلـت الـدار التـي كنـت واقفـاً علـى بابهـا فجعلــت أتفكــر فــي حيلــة أتوصــل بهــا إليهــا فبينمــا
===
أنــا واقــف إذ أقبــل رجلــان شابــان جميلــان فاستأذنــا فــأذن لهمــا صاحــب الــدار فنــزلا ونزلــت معهمــا
ودخلـت صحبتهمـا فظنـا أن صاحــب الــدار دعانــي فجلسنــا ساعــة فاتــى بالطعــام فأكلنــا ثــم وضــع
الشـراب بيـن يدينـا ثـم خرجـت الجاريـة وفـي يدهـا عـود فغنـت وشربنـا وقمـت لأقضـي حاجــة فســأل
صاحــب المنــزل الرجليــن عنــي فأخبــراه أنهمــا لا يعرفانــي فقــال: هــذا طفيلــي ولكنــه ظريـــف فأجملـــوا
عشرته ثم جئت فجلست في مكاني فغنت الجارية بلحنلطيف وأنشدت هذين البيتي:
قـل للغزالـة وهــي غيــر غزالــة والجؤذر المكحول غير الجـؤذر
لمذكــر الخلـــوات غيـــر مؤنـــث ومؤنـث الخطـوات غيـر مذكــر
فأدتــه أداءً حسنــاً وشــرب القــوم وأعجبهــم ذلــك ثــم غنــت طرقـــاً شتـــى بألحـــان غريبـــة وغنـــت مـــن
جملتها طريقة هي لي وأنشدت تقول:
الطلــــــــــــــــول الــــــــــــــــدوارس فارقتهــــــــــــــــــا الوانـــــــــــــــــــي
أوحشـــــــت بعــــــــد أنسهــــــــا فهـــــــــي قفـــــــــراء طامـــــــــس
فكــان أمرهــا أصلـــح فيهـــا مـــن الأولـــى ثـــم غنـــت طرقـــاً شتـــى بألحـــان غريبـــة مـــن القديـــم والحديـــث
وغنت في أثنائها طريقة هي لي وأنشدت تقول:
قـــــــل لمـــــــن صـــــــد عاتبـــــــاً ونــــــــــأى عنــــــــــك جانبــــــــــا
===
فاستعدتـه منهـا لأصححـه فأقبـل علـي أحـد الرجليـن وقــال: مــا رأينــا طفيليــاً أصفــق وجهــاً منــك أمــا
ترضـى بالتطفـل حتـى اقترحـت وقـد صـح فيـك المثــل: طفيلــي فأطرقــت حيــاء فأطرقــت حيــاء ولــم
أجبــه فجعــل صاحبــه يكفــه عنــي فــلا ينكــف ثــم قامــوا إلــى الصلــاة فتأخــرت قليـــلاً وأخـــذت العـــود
وشــددت طرفيــه وأصلحتــه إصلاحــاً محكمــاً وعــدت إلــى موضعــي فصليــت معهـــم ولمـــا فرغنـــا مـــن
الصلـاة رجـع ذلــك الرجــل إلــى اللــوم علــي والتعنيــف ولــج فــي عربدتــه وأنــا صامــت فأخــذت الجاريــة
العود وجسته فانكرت حاله وقالت: من جس عودي فقالوا: ما جسه أحد منا.
قالـــت: بلـــى واللـــه لقـــد جســـه حـــاذق متقـــدم فـــي الصناعـــة لأنـــه أحكــــم أوتــــاره وأصلحــــه إصلــــاح
حــاذق فــي صنعتــه فقلــت لهــا: أنــا الــذي أصلحتــه. فقالــت: باللــه عليــك أن تأخــذه وتضــرب عليـــه
فأخذتــه وضربــت عليــه طريقــة عجيبـــة صعبـــة تكـــاد أن تميـــت الأحيـــاء وتحيـــي الأمـــوات وانشـــدت
عليه هذه الأبيات:
وكــان لـــي قلـــب أعيـــش بـــه فاكتــــــوى بالنــــــار واحترقــــــا
أنــــــــا لـــــــــم أرزق محبتهـــــــــا وإنمــــــا للعبــــــد مــــــا رزقــــــا
إن لم يكن ما ذقت طعم الهوى ذاقــــه لا شــــك مــــن عشقــــا
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن إسحـق بـن ابراهيـم الموصلـي قـال: لمـا فرغـت مـن شعــري لــم يبــق
===
أحـد مـن الجماعـة إلا ووثـب مــن موضعــه وجلســوا بيــن يــدي وقالــوا: باللــه عليــك يــا سيدنــا أن تغنــي
لنا صوتاً آخر فقلت: حباً وكرامة ثم أحكمت الضربات وغنيت بهذه الأبيات:
ألا مـن لقــب ذوائــب بنوائــب أناخت به الأحزان من كل جانب
حرام على رامي فؤادي بسهمه دم صبـه بيـن الحشــا والتــراب
تبيـــن بيــــن البيــــن إن اقترابــــه على البين من ضمن الظنون الكواذب
أراق دماً لولا الهوى ما أراقـه فهل لدمـي مـن ثائـر ومطالـب
فلمـا فـرغ مـن شعـره لـم يبـق أحـد منهـم إلا وقـام علـى قدميـه ثــم رمــى بنفســه علــى الــأرض مــن شــدة
مــا اصابــه مـــن الطـــرب قـــال: فرميـــت العـــود مـــن يـــدي فقالـــوا: باللـــه عليـــك أن لا تفعـــل هـــذا وزدنـــا
صوتــاً آخــر زادك اللــه مــن نعمتــه فقلــت لهــم: يــا قــوم أزيدكــم صوتــاً آخــر وآخــر وآخــر وأعرفكــم مــن
انـا أنـا إسحـق بـن ابراهيـم الموصلــي واللــه غنــي لآتيــه علــى الخليفــة إذا طلبنــي وانتــم قــد أسمعتمونــي
غليــظ مــا أكرهــه فـــي هـــذا اليـــوم فواللـــه لا نطقـــت بحـــرف ولا جلســـت معكـــم حتـــى تخرجـــوا هـــذا
العربيد من بينكم فقال له صاحبه: من هذا حذرتك وخفت عليك.
ثــم أخــذوا بيــده وأخرجــوه فأخــذت العــود وغنيــت الأصــوات التــي غنتهـــا الجاريـــة مـــن صنعتـــي ثـــم
أسـررت إلـى صاحـب الـدار أن الجاريـة قـد وقعـت محبتهـا فـي قلبـي ولا صبـر لـي عنهـا فقــال الرجــل:
===
هـي لـك بشــرط فقلــت: ومــا هــو قــال: أن تقيــم عنــدي شهــراً فأقمــت عنــده شهــراً ولا يعــرف أحــد
أين أنا والخليفة يفتش علي في كل موضع ولا يعرف لي خبراً.
فلمــا انقضــى الشهـــر سلـــم لـــي الجاريـــة ومـــا يتعلـــق بهـــا مـــن الأمتعـــة النفيســـة وأعطانـــي خادمـــاً آخـــر
فجئــت بذلــك إلــى منزلــي كانــي حــزت الدنيـــا باسرهـــا مـــن شـــدة فرحـــي بالجاريـــة ثـــم ركبـــت إلـــى
المأمــون مــن وقتــي فلمــا حضــرت بيــن يديــه قــال: ويحــك يــا إسحــق وأيــن كنــت فأخبرتــه بخبــري فقـــال
علـي بذلـك الرجـل فـي هــذه الساعــة فدللتهــم علــى داره فأرســل إليــه الخليفــة فلمــا حضــر سألــه عــن
القصـة فأخبـره بهـا فقـال لــه: أنــت رجــل ذو مــروءة والــرأي أن تعــان علــى مروءتــك فأمــر لــه بمائــة ألــف
درهـم وقـال لـي: يـا إسحــق أحضــر الجاريــة فأحضرتهــا وغنــت لــه وأطربتــه فحصــل لــه منهــا ســرور
عظيــم فقــال قــد جعلــت عليهــا نوبــة كــل يــوم خميــس فتحضــر وتغنــي مــن وراء الستــارة ثــم أمـــر لهـــا
بخمسين ألف درهم فوالله لقد ربحت في تلك الركبة.
وممــا يحكــى أن القاســم بــن عــدي حكــى عــن رجــل مــن بنــي تميــم قــال: خرجــت فـــي طلـــب ضالـــة
فـوردت علـى ميـاه بنـي طـي فرأيـت فريقيـن أحدهمـا قريـب مـن الآخـر وإذا فـي أحـد الفريقيـن كلـام مثـل
كلــام الفريــق الآخــر فتأملــت فرأيــت فــي أحــد الفريقيــن شابــاً قــد أنهكــه المــرض وهــو فــي مثـــل الشنـــن
البالي فبينما أنا أتأمله وإذا هو ينشد هذه الأبيات:
===
مرضت فعادنـي أهلـي جميعـاً فمــا لــك لا تــري فيمــن يعــود
لو كنت المريضة جئت أسعى إليـــك ولــــم ينبهنــــي الوعيــــد
عدمتك منهمو فبقيت وحدي وفقد الألف يا سكني شديـد
فسمعــت كلامــه جاريــة مـــن الفريـــق الآخـــر فبـــادرت نحـــوه وتبعهـــا أهلهـــا وجعلـــت تضاربهـــم فأحـــس
الشـاب فوثـب نحوهـا فبـادر إليـه أهـل فريقـه وتعلقـوا بــه فجعــل يجــذب نفســه وهــي تجــذب نفسهــا مــن
فريقهـا حتـى تخلصـا وقصـد كـل واحــد منهمــا صاحبــه حتــى التقيــا بيــن الفريقيــن وتعانقــا ثــم خــرا إلــى
الأرض ميتين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أنــه ممــا يحكــى أن محمـــد الأنبـــاري قـــال: خرجـــت مـــن الأنبـــار فـــي
بعـض الأسفـار إلـى عموريـة مـن بلــاد الــروم فنزلــت فــي أثنــاء الطريــق بديــر الأنــوار فــي قريــة مــن قــرى
عموريـة فخـرج إلـي صاحـب الديـر والرئيــس علــى الرهبــان وكــان اسمــه عبــد المسيــح فأدخلنــي الديــر
فوجدت فيه أربعـون راهبـاً فأكرمونـي فـي تلـك الليلـة بضيافـة حسنـة ثـم رحلـت عنهـم فـي الغـد وقـد
رأيـت مـن كثـرة اجتهادهــم وعبادتهــم مــا لــم أره مــن غيرهــم فقضيــت أربــي مــن عموريــة ثــم رجعــت
===
فلمــا كــان العــام المقبــل حججــت إلــى مكــة فبينمـــا أنـــا أطـــوف حـــول البيـــت إذ رأيـــت عبـــد المسيـــح
يطـوف أيضـاً ومعــه خمســة أنفــار مــن أصحابــه الرهبــان فلمــا تحققــت معرفتــه تقدمــت إليــه وقلــت لــه:
هــل أنــت عبــد المسيــح الراهــب قــال: بــل أنــا عبــد اللـــه الراغـــب فجعلـــت أقبـــل شيبتـــه وأبكـــي ثـــم
أخــذت بيــده وملــت إلــى جانــب الحــرم وقلــت لــه: أخبرنــي سبــب إسلامـــك فقـــال: إنـــه مـــن أعجـــب
العجائـب وذلـك أن جماعـة مـن زهـاد المسلميـن مـروا فـي القريـة التـي فيهـا ديرنـا فأرسلــوا شابــاً يشتــري
لهـم طعامـاً فـرأى فــي الســوق جاريــة نصرانيــة تبيــع الخبــز وهــي مــن أحســن النســاء صــورة فلمــا نظــر
إليها فتن بها وسقط على وجهه مغشياً عليه.
فلمـا أفـاق عـاد إلـى أصحابـه وأخبرهـم بمـا أصابـه وقـال: امضــوا إلــى شأنكــم فلســت بذاهــب معكــم
فعدلــوه ووعظــوه فلــم يلتفــت إليهــم فانصرفــوا عنــه ودخــل القريــة وقعــد عنــد بــاب حانــوت تلــك المــرأة
فسألتـه عـن حاجتـه فاخبرهـا أنـه عاشـق لهـا فأعرضـت عنـه فمكـث فـي موضعـه ثلاثـة أيـام لــم يطعــم
طعامـاً بـل صـار شاخصـاً إلـى وجههـا فلمـا رأتـه لا ينصــرف عنهــا ذهبــت إلــى أهلهــا وأخبرتهــم بخبــره
فسلطــوا عليــه الصبيــان فرمـــوه بالحجـــارة حتـــى رضـــوا أضلاعـــه وشجـــوا رأســـه وهـــو مـــع ذلـــك لا
ينصـــرف فعـــزم أهـــل القريـــة علـــى قتلـــه فجاءنـــي رجـــلاً منهـــم وأخبرنـــي بحالـــه فذهبـــت إليـــه فرأيتـــه
طريحــاً فمسحــت الــدم عــن وجهــه وحملتــه إلــى الديــر وداويــت جراحاتــه وأقـــام عنـــدي أربعـــة عشـــر
===
يومـــاً فلمـــا قـــدر علــــى المشــــي خــــرج مــــن الديــــر. وأدرك شهــــرزاد الصبــــاح فسكتــــت عــــن الكلــــام
المباح.
وفي الليلة الثانية والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الراهــب عبــد اللــه قــال: فحملتــه إلــى الديـــر وداويـــت جراحاتـــه
وأقــام عنــدي أربعــة عشــر يومــاً فلمــا قــدر علــى المشــي خــرج مـــن الديـــر إلـــى بـــاب حانـــوت الجاريـــة
وقعــد ينظــر إليهــا فلمــا أبصرتــه قامــت إليــه وقالــت لــه: واللــه لقـــد رحمتـــك فهـــل لـــك أن تدخـــل فـــي
دينــي وانــا أتزوجــك فقــال: معــاذ اللــه أن أنسلــخ مــن ديــن التوحيـــد وأدخـــل فـــي ديـــن الشـــرك فقالـــت:
قـم وادخـل معــي إلــى داري واقــض منــي أربــك وانصــرف راشــداً فقــال: لا مــا كنــت لأذهــب عبــادة
اثنــي عشـــرة سنـــة بشهـــوة لحظـــة واحـــدة فقالـــت: انصـــرف عنـــي حينئـــذ قـــال: لا يطاوعنـــي قلبـــي
فأعرضــت عنــه بوجههــا. ثــم فطــن بــه الصبيــان فأقبلــوا عليــه يرمونــه بالحجــارة فسقــط علـــى وجهـــه
وهـو يقــول: إن ولــي اللــه الــذي نــزل الكتــاب وهــو يتولــى الصالحيــن فخرجــت مــن الديــر وطــردت عنــه
الصبيـان ورفعـت رأسـه عـن الـأرض فسمعتـه يقـول: اللهــم اجمــع بينــي وبينهــا فــي الجنــة فحملتــه إلــى
الديـر فمـات قبـل أن أصـل بـه إليـه فخرجـت بـه عـن القريـة وحفــرت لــه قبــراً ودفنتــه. فلمــا دخــل الليــل
===
وذهــب نصفــه صرخــت تلــك المــرأة وهــي فــي فراشهــا صرخــة فاجتمــع غليهــا أهـــل القريـــة وسألوهـــا
عـن قصتهـا فقالـت: بينمـا أنـا إذ دخـل علــي هــذا الرجــل المسلــم فأخــذ بيــدي وانطلــق بــي إلــى الجنــة
فلمـا صـار بـي إلـى بابهـا منعنـي خازنهـا مـن دخولهـا وقـال: إنهــا محرمــة علــى الكافريــن فأسلمــت علــى
يديــه ودخلــت معــه فرأيــت فيهــا مــن القصــور والأشجــار مــا لــم يمكــن أناصفــه لكــم ثــم غنـــه أخذنـــي
إلـى قصـر مــن الجوهــر وقــال لــي: إن هــذا القصــر لــي ولــك وانــا لا أدخلــه إلا معــك وبعــد خمــس ليــال
تكونيـن عنـدي فيـه إن شـاء اللـه ثـم مـد يـده إلـى شجـرة علـى بـاب ذلـك القصـر فقطـف منهــا تفاحتيــن
وأعطانيهمـا وقـال: كلـي هـذه واخفـي الأخـرى حتـى يراهــا الرهبــان فأكلــت واحــدة فمــا رأيــت أطيــب
منها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة قالـــت: لمـــا قطـــف التفاحتيـــن وأعطانيهمـــا وقـــال: كلـــي
هــذه واخفــي الأخــرى حتــى يراهــا الرهبــان فأكلــت واحــدة فمــا رأيــت أطيــب منهــا ثــم أخـــذ بيـــدي
حتـى أوصلنـي إلـى داري فلمـا استيقظـت مـن منامـي وجـدت طعـم التفـاح فــي فمــي والتفاحــة الثانيــة
عنــدي ثــم أخرجــت التفاحــة فأشرقــت فــي ظلــام الليــل كانهــا كوكــب دري فجــاؤوا بالمــرأة إلــى الديـــر
===
ومعهــا التفاحــة فقصــت علينـــا الرؤيـــا وأخرجـــت لنـــا التفاحـــة فلـــم نـــر شيئـــاً مثلهـــا فـــي سائـــر فواكـــه
الدنيــا. فأخــذت سكينــاً وشققتهــا علــى عــدد أصحابــي فــلا رأينــا ألــذ مــن طعمهــا ولا أطيـــب مـــن
رائحتهــا فقلنــا: لعــل هــذا شيطــان تمثـــل إليهـــا ليغويهـــا عـــن دينهـــا فأخذهـــا أهلهـــا وانصرفـــوا ثـــم أنهـــا
امتنعـــت عـــن الأكـــل والشـــرب فلمـــا كانـــت الليلـــة الخامســـة قامـــت مـــن فراشهـــا وخرجـــت مـــن بيتهــــا
وتوجهت إلى قبر ذلك المسلم وألقت نفسها عليه وماتت ولم يعلم بها أهلها.
فلمـا كـان وقـت الصبـاح أقبـل علــى القريــة شيخــان مسلمــان عليهمــا ثيــاب مــن الشعــر ومعهمــا امرأتــان
كذلــك فقــالا: يــا أهــل القريــة إن اللــه تعالــى عندكــم وليــة مــن أوليائــه قــد ماتــت مسلمــة ونحــن نتولاهـــا
دونكــم فطلــب أهــل القريــة تلــك المــرأة فوجدوهــا علــى القبــر ميتــة فقالــوا: هــذه صاحبتنــا قــد ماتــت
على ديننا ونحن نتولاها فقال الشيخان: إنها ماتت مسلمة ونحن نتولاها.
واشتــد الخصــام والنــزاع بينهمـــا فقـــال أحـــد الشيخيـــن: إن علامـــة إسلامهـــا أن يجتمـــع رهبـــان الديـــر
الأربعـون ويجذبوهـا عـن القبـر فـإن قـدروا علـى حملهـا مـن الـأرض فهــي نصرانيــة وإن لــم يقــدروا علــى
ذلــك يتقــدم واحــد منــا ويجذبهــا فــإن جــاءت معــه فهـــي مسلمـــة فرضـــي أهـــل القريـــة بذلـــك واجتمـــع
الأربعــون راهبــاً وقــوى بعضهــم بعضــاً وأتوهــا ليحملوهــا فلــم يقـــدروا علـــى ذلـــك. وأدرك شهـــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الراهــب عبــد اللـــه قـــال: وأتوهـــا ليحملوهـــا فلـــم يقـــدروا علـــى
ذلــك فربطنــا فــي وسطهــا حبــلاً عظيمــاً وجذبناهـــا فانقطـــع الحبـــل ولـــم تتحـــرك فتقـــدم أهـــل القريـــة
وفعلــوا كذلــك فلــم تتحــرك مــن موضعهــا فلمــا عجزنــا عــن حملهــا بكــل حيلـــة قلنـــا لأحـــد الشيخيـــن:
تقـدم أنـت واحملهـا فتقـدم إليهـا أحدهمـا ولفهـا فــي ردائــه وقــال: بســم اللــه الرحمــن الرحيــم وعلــى ملــة
رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلــم ثــم حملهــا فــي حضنــه وانصــرف بهــا المسلمــون إلـــى غـــار هنـــاك
فوضعوهــا فيــه وجــاءت المرأتــان فغسلتاهــا وكفنتاهــا ثــم حملاهــا الشيخـــان وصليـــا عليهـــا ودفناهـــا
إلـى جانـب قبـره وانصرفـا ونحـن نشاهـد هـذا كلــه. فلمــا خــلا بعضنــا ببعــض قلنــا: إن الحــق أحــق أن
يتبــع وقــد وضــح لنــا الحــق بالمشاهــدة والعيــان ولا برهــان لنـــا علـــى صحـــة الإسلـــام أوضـــح لنـــا مـــم
رأينـاه باعيننـا ثـم أسلمــت وأسلــم رهبــان الديــر جميعهــم وكذلــك أهــل القريــة ثــم إننــا بعثنــا إلــى أهــل
الجزيــرة نستدعـــي فقيهـــاً يعلمنـــا شرائـــع الإسلـــام وأحكـــام الديـــن فجاءنـــا فقيـــه صالـــح فعلمنـــا العبـــادة
وأحكام الإسلام ونحن اليوم على خير كثير ولله الحمد والمنة.
وممـا يحكـى أن بعـض الفضـلاء قـال: مـا رأيـت فــي النســاء أذكــى خاطــراً وأحســن فطنــة وأعــوز علمــاً
وأجــود قريحــة وأظــرف أخلاقــاً مــن امــرأة واعظــة مــن أهــل بغــداد يقــال لهــا سيــدة المشايــخ اتفـــق أنهـــا
جـاءت إلـى مدينـة حمــاة سنــة إحــدى وستيــن وخمسمائــة فكانــت تعــظ النــاس علــى الكرســي وعظــاً
===
شافيــاً وكــان يتــردد علـــى منزلهـــا جماعـــة مـــن المتفقهيـــن وذوي المعـــارف والـــآداب يطارحونهـــا مسائـــل
الفقــه ويناظرونهــا فــي الخلــاف فمضيــت إليهــا ومعــي رفيــق مـــن أهـــل الـــأدب. فلمـــا جلسنـــا عندهـــا
وضعـت بيـن أيدينـا طبقـاً مـن الفاكهـة وجلسـت هــي خلــف ستــر وكــان لهــا أخــاً حســن الصــورة قائمــاً
علـى رؤوسنـا فـي الخدمـة فلمـا أكلنـا شرعنـا فـي مطارحـة الفقـه فسألتهـا مسألــة فقهيــة مشتملــة علــى
خلـاف بيـن الأئمـة فشرعـت تتكلـم فـي جوابهـا وانـا أصغـي إليهـا وجعـل رفيقـي ينظـر إلـى وجــه أخيهــا
ويتأمـل فــي محاسنــه ولا يصغــي إليهــا وهــي تلحظــه مــن وراء الستــر فلمــا فرغــت مــن كلامهــا التفتــت
إليــه وقالــت: أظنــك ممــن يفضــل الرجــال علــى النســاء قــال: أجــل. قالـــت: ولـــم ذلـــك قـــال: لـــأن اللـــه
فضل الذكر على الأنثى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الشيــخ أجابهــا بقولـــه: لـــأن اللـــه فضـــل الذكـــر علـــى الأنثـــى وأنـــا
أحــب الفاضــل وأكــره المفضــول فضحكـــت ثـــم قالـــت: انصفنـــي فـــي المناظـــرة إن ناظرتـــك فـــي هـــذا
البحــث قــال: نعــم قالــت: فمــا الدليــل علـــى تفضيـــل الذكـــر علـــى الأنثـــى قـــال: المنقـــول والمعقـــول أمـــا
المنقـول فالكتـاب والسنـة أمـا الكتـاب فقولـه تعالـى: الرجـال قوامـون علـى النسـاء بمـا فضــل اللــه بعضهــم
===
على بعض. وقوله تعالى: فـإن لـم يكونـا رجليـن فرجـل وامرأتـان. وقولـه تعالـى فـي الميـراث: وإن كانـوا
أخـوة رجــالاً ونســاءً فللذكــر مثــل حــظ الأنثييــن فاللــه سبحانــه وتعالــى فضــل الذكــر علــى الأنثــى فــي
هـذه المواضــع وأخبــر أن الأنثــى علــى النصــف مــن الذكــر لأنــه أفضــل منهــا وأمــا السنــة فمــا روي عــن
النبــي صلــى اللــه عليــه وسلــم أنــه جعــل ديــة المــرأة علــى النصـــف مـــن ديـــة الرجـــل وأمـــا المعقـــول فـــإن
الذكر فاعل والأنثى مفعول بها والفاعل أفضل من المفعول بها.
فقالـت لـه: أحسنـت يـا سيـدي لكنــك واللــه أظهــرت حجتــي عليــك مــن لسانــك ونطقــت ببرهــان هــو
عليـك لا لــك وذلــك أن اللــه سبحانــه وتعالــى إنمــا فضــل الذكــر علــى الأنثــى بمجــرد وصــف الذكوريــة
وهــذا لا نــزاع فيــه بينـــي وبينـــك وقـــد يستـــوي فـــي هـــذا الوصـــف الطفـــل والغلـــام والشـــاب والكهـــل
والشيــخ لا فــرق بينهــم فــي ذلــك وإذا كانــت الفضيلــة إنمــا حصلــت لــه بوصــف الذكوريـــة فينبغـــي أن
يميـل طبعـك وترتـاح نفسـك إلـى الشيـخ كمـا ترتـاح إلـى الغلـام إذ لا فـرق بينهمـا فـي الذكوريـة وإنمــا وقــع
الخلـاف بينـي وبينـك فـي الصفـات المقصـودة مـن حسـن العشـرة والإستمـاع وانـت لـم تـأت ببرهــان علــى
فضـل الغلـام علـى الأنثـى فـي ذلـك فقـال لهـا: يـا سيدتـي أمــا علمــت مــا اختــص بــه الغلــام مــن اعتــدال
القـد وتوريـد الخـد وملاحــة الإبتســام وعذوبــة الكلــام فالغلمــان بهــذا أفضــل مــن النســاء والدليــل علــى
ذلـك مـا روي عـن النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم أنـه قـال: )لا تدعـو النظـر إلـى المـرد فـإن فيهـم لمحــة مــن
===
الحـــور العيـــن( وتفضيـــل الغلـــام علـــى الجاريـــة لا يخفـــى علـــى أحـــد مـــن النـــاس ومـــا أحســـن قـــول أبـــا
نواس:
أقـــل مـــا فيــــه مــــن فضائلــــه أمنـك مــن طمثــه ومــن حبلــه
وقول الشاعر:
قال الإمام أبـو نـواس وهـو فـي شــرع الخلاعــة والمجـــون يقلـــد
يـا أمــة تهــوى العــذارا تمتعــوا مـن لـذة الخلـد ليســت توجــد
ولــأن الجاريــة إذا بالــغ الواصــف فــي وصفهــا وأراد تزويجهـــا بذكـــر محاســـن أوصافهـــا شبههـــا بالغلـــام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الشيــخ قــال: ولــأن الجاريــة إذا بالــغ الواصــف فــي وصفهــا وأراد
تزويجها بذكر محاسن أوصافها شبهها بالغلام لما له من المآثر كما قال الشاعر:
غلامية الأرداف تهتز في الصب كما اهتز في ريح الشمال قضيب
فلــولا أن الغلــام أفضــل وأحســن لمـــا شبهـــت بـــه الجاريـــة واعلمـــي صانـــك اللـــه تعالـــى أن الغلـــام سهـــل
===
القيـــاد موافـــق علـــى المـــزاد حســـن العشـــرة والأخلـــاق مائـــل عـــن الخلـــاف للوفـــاق ولا سيمـــا إن تنمنـــم
هـذاره واخضـر شاربـه وجـرت حمـرة الشبيبـة فـي وجنتـه حتـى صـار كالبـدر التمـام ومــا أحســن قــول
أبي تمام:
قال الوشاة بدا في الخد عارضه فقلت لا تكثروا مـا ذاك عابـه
لمــا استقــل بـــأرداف تجاذبـــه واخضر فوق جمان الدر شاربه
وأقســم الـــورد أيمانـــاً مغلظـــة أن لا يفــارق خديــه عجائبـــه
كلمتــــه بجفــــون غيــــر ناطقــــة فكان من ورده ما نال حاجبه
الحسن منك على ما كنت تعهده والشعــر أحـــرزه ممـــن يطالبـــه
أحلى وأحسن ما كانت شمائله إذا لاح عارضه واخضر شاربه
وصار من كان يلحي في محبته أن يحك عني وعنه اقل صاحبه
فهــذه فضيلــة فــي الغلمــان لــم تعطهــا النســـاء وكفـــى بذلـــك للغلمـــان عليهـــن فخـــراً ومزيـــة فقالـــت لـــه:
عافــاك اللــه تعالــى إنــك قــد شرطــت علــى نفســـك المناظـــرة وقـــد تكلمـــت ومـــا قصـــرت واستدللـــت
بهـذه الأدلـة علــى مــا ذكــرت ولكــن الــآن قــد حصــل الحــق فــلا تعــدل عــن سبيلــه وإن لــم تقنــع بإجمــال
الدليــل فأنــا آتيــك بتفضيلــه باللــه عليــك أيــن الغلــام مــن الفتــاة مــن يقيــس السخلــة علــى المهــاة إنمــا الفتــاة
===
رخيمـــة الكلــــام حسنــــة القــــوام فهــــي كقضيــــب الريحــــان بثغــــر كأقحــــوان وشعــــر كالأرســــوان وخــــد
كشقائــق النعمــان ووجــه كتفــاح وشفــة كالـــراح وثـــدي كالرمـــان ومعاطـــف كالأغصـــان وهـــي ذات قـــد
معتـــدل وجســـم متجـــدل وخـــد كخـــد السيـــف اللائـــح وجبيـــن واضـــح وحاجبيـــن مقرونيـــن وعينيـــن
كحلاويـــن إن نطقـــت فاللؤلـــؤ الرطـــب يتناثـــر مـــن فيهـــا وتجـــذب القلـــوب برقـــة معانيهـــا وغـــن تبسمـــت
ظننــت البــدر يتلــألأ مــن بيـــن شفتيهـــا وإن رنـــت فالسيـــوف تســـل مـــن مقلتيهـــا إليهـــا تنتهـــي المحاســـن
وعليها مدار الظاعن والقاطن ولها شفتان حمراوان ألين من الزبد وأحلى مذاقاً من الشهد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن المــرأة الواعظــة لمــا وصفــت الفتــاة قالــت: ولهــا شفتـــان حمـــراوان
أليـن مـن الزبـد وأحلـى مذاقــاً مــن الشهــد ثــم قالــت بعــد ذلــك ولهــا صــدر كجــادة الفجــاج فيــه ثديــان
كأنهمــا حقــان مــن عــاج وبطــن لطيــف الكشـــح كالزهـــر الغـــض وعكـــن قـــد انعطفـــت وانطـــوى بعضهـــا
علــى بعــض وفخــذان ملتفــان كأنهمــا الــدر عمــودان وأرداف تمــوج كأنهـــا بحـــر مـــن بلـــور أو جبـــال مـــن
نــور ولهــا قدمــان لطيفــان وكفــان كأنهمـــا سبائـــك العقبـــان فيـــا مسكيـــن أيـــن الالأنـــس مـــن الجـــان ومـــن
===
قـال: الدنيـا عبــارة عــن النســاء كــان صادقــاً وأمــا مــا ذكــرت مــن الحديــث الشريــف فهــو حجــة عليــك
لا لـك لـأن النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم قـال: لا تدعـو النظـر إلـى المـرد فـإن فيهـم لمحـة مـن الحـور العيــن
فشبـه المـرد بالحـور العيـن ولا شـك أن المشبـه بـه أفضـل مـن المشبـه فلـولا أن النسـاء أفضـل وأحســن لمــا
شبــه بهــن غيرهــن وأمــا قولــك: أن الجاريــة تشبــه الغلــام فليــس الأمــر كذلــك بــل الغلــام يشبــه بالجاريـــة
حتــى قالــوا: أنهــا تصلــح للأمريــن جميعــاً عــدولاً منهــم عــن سلــوك طريــق الحــق عنــد النـــاس كمـــا قـــال
كبيرهم أبو نواس:
ممشوقــــــة القصـــــــر غلاميـــــــة تصلـــــــح للوطـــــــي والزانـــــــي
وأمـــا مـــا ذكرتـــه مـــن حســـن نيـــات العـــذار وخضـــار الشــــارب وأن الغلــــام يــــزداد بــــه حسنــــاً وجمــــالاً
فواللـــه لقـــد عدلـــت عـــن الطريـــق غيـــر التحقيـــق لـــأن العـــذار يبـــذر حسنـــات الجمــــال بالسيئــــآت ثــــم
أنشدت هذه الأبيات:
بــدا الشعــر فــي وجههفانتقـــم لعاشقــــــه منــــــه لمــــــا ظلــــــم
ولــم أر فــي وجهـــه كالدخـــا ن إلا وسالفـــــــــــه كالحمـــــــــــم
إذا اســـود فاضـــل قرطاســــه فمــــا ظنكــــم بمكـــــان القلـــــم
فـــــإن فضلـــــوه علـــــى غيـــــره فمـــا ذلـــك إلا لجهــــل الحكــــم
===
فلمــا فرغـــت مـــن شعرهـــا قـــال للرجـــل: سبحـــان اللـــه العظيـــم. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت
عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن المــرأة الواعظــة لمــا فرغــت مــن شعرهــا قالـــت للرجـــل: سبحـــان
اللــه العظيــم كيــف يخفــى عليــك كمــال اللــذة فــي النســاء وان النعيــم المقيــم لا يكــون إلا بهــن وذلــك أن
اللـه سبحانـه وتعالـى وعـد الأنبيـاء والأوليـاء فـي الجنـة بالحـور العيـن وجعلهـن جـزاء لأعمالهــن الصالحــة
ولـو علــم اللــه تعالــى أن فــي غيرهــن لــذة الإستمتــاع لجزاهــم بــه ووعدهــم إيــاه وقــال صلــى اللــه عليــه
وسلـم: حبـب إلـي مـن دنياكـم ثلـاث النسـاء والطيــب وقــرة عينــي فــي الصلــاة وإنمــا جعــل اللــه الولــدان
خدمـاً للأنبيـاء والأوليـاء فـي الجنـة لـأن الجنـة دار نعيــم وتلــذذ ولا يكمــل ذلــك إلا بخدمــة الولــدان وامــا
استعمالهـم لغيـر الخدمـة فهـو مــن الخيــال والوبــال وأنــا أستغفــر اللــه العظيــم لــي ولكــم ولسائــر المسلميــن
إنـه هـو الغفـور الرحيـم. ثـم سكتـت فلـم تجبنـا عـن شـيء بعـد ذلــك فخرجنــا مــن عندهــا مسروريــن
من مناظرتها متأسفين على مفارقتها.
وممــا يحكــى أن أبــا سويــد قــال: اتفــق أننــي أنــا وجماعــة مــن أصحابــي دخلنـــا بستانـــاً يومـــاً مـــن الأيـــام
===
لنشتــري شيئــاً مــن الفواكــه فرأينــا فــي جانــب ذلــك البستــان عجـــوزاً صبيحـــة الوجـــه غيـــر أن شعـــر
رأسهـا أبيـض وهـي تسرحـه بمشـط مـن العـاج فوقفنــا عندهــا فلــم تجفــل منــا ولــم تغــط رأسهــا فقلــت
لهــا: يــا عجــوز لــو صبغــت شعــرك أســود لكنــت أحســن مــن صبيـــة فمـــا منعـــك مـــن ذلـــك فرفعـــت
رأسها إلي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن أبــا السويــد قــال: لمـــا قلـــت للعجـــوز ذلـــك رفعـــت رأسهـــا إلـــي
وحملقت العينين وأنشدت هذين البيتين:
وصبغت ما صبغ الزمان فلم يدم صبغـي ودامـت صبغـة الأيــام
أيـام الرفـل لـي ثيـاب شيبتنــي وأناك من خلفـي ومـن قدامـي
فقلت لها: لله درك من عجوز ما أصدقك في اللهج بالحرام وأكذبك في دعوى التوبة من الآثام.
وممـــا يحكـــى أن علـــي بـــن محمـــد بـــن عبـــد اللـــه بـــن طاهـــر استعـــرض جاريـــة اسمهـــا مؤنـــس للشــــراء
وكانــت فاضلــة أديبــة شاعــرة فقــال لهــا: مــا اسمــك يــا جاريــة قالــت: أعــز اللـــه الأميـــن اسمـــي مؤنـــس
وكان قد عرف اسمها قبل ذلك فأطرق ساعة ثم رفع رأسه إليها وأنشد هذا البيت:
===
قالت: أعز الله الأمير وأنشدت هذا البيت:
إذا رأينــا محبــاً قــد أضــر بـــه داء الصبابــة أولينــاه إحسانـــا
فأعجبتــه فاشتراهــا بسبعيــن ألــف درهـــم وأولدهـــا عبـــد اللـــه بـــن محمـــد صاحـــب المآثـــر وقـــال أبـــو
العيتـا: كـان عندنـا فـي الـدرب امرأتـان إحداهمـا تعشـق رجـلاً والأخــرى تعشــق أمــرد فاجتمعتــا ليلــة
علـى سطـح إحاهمـا وهــو قريــب مــن داري وهمــا لا يعلمــان بــي فقالــت صاحبــة الأمــرد للأخــرى: يــا
أختـــي كيـــف تصبريـــن علـــى خشونـــة اللحيـــة حيـــن تقـــع علـــى صـــدرك وقـــت لثمـــك وتقـــع شفتيــــك
وخديــك فقالـــت لهـــا: يـــا رعنـــاء وهـــل يزيـــن الشجـــر إلا ورقـــه والخيـــار إلا زغبـــه وهـــل رأيـــت فـــي
الدنيـــا أقبـــح مـــن قـــرع منتـــوف أمـــا علمـــت أن اللحيـــة للرجـــل مثـــل الذوائـــب للمـــرأة ومــــا الفــــرق بيــــن
الذوائـب واللحيـة امـا علمـت أن اللـه سبحانــه وتعالــى خلــق فــي السمــاء ملكــاً يقــول سبحــان مــن زيــن
ارجـال بالذوائـب فلـولا أن اللحـى كالذوائـب فـي الجمـال لمـا قـرن بينهمــا يــا رعنــاء مالــي وفــرش نفســي
تحــت الغلــام الــذي يعاجلنــي إنزالـــه ويسابقنـــي انحلالـــه وإذا رهـــز أجـــاد وكلمـــا خلـــص عـــاد فاتعظـــت
صاحبة الغلام بمقالتها وقالت: سلوت صاحبي ورب الكعبة.
===
حكاية تودد الجارية
وممــا يحكــى أنــه كــان ببغــداد رجــل ذو مقــدار وكــان موســر بالمــال والعقـــار وهـــو مـــن التجـــار الكبـــار
وقـد سهـل عليـه دنيـاه ولـم يبلغـه مـن الذريـة مـا يتمنــاه ومضــت عليــه مــدة مــن الزمــان ولــم يــرزق بأنــاث
ولا ذكــور فكبــر سنــه ورق عظمــه وانحنــى ظهــره وكثــر وهنــه وهمــه فخــاف ذهــاب مالــه ونسبـــه إذ
لــم يكــن لــه ولــد يرثــه ويذكــر بــه فتضــرع إلــى اللــه تعالــى وصــام النهــار وقــام الليـــل ونـــذر النـــذور للـــه
تعالــى الحــي القيــوم وزار الصالحيــن وأكثــر التضــرع إلــى اللــه تعالـــى فاستجـــاب اللـــه لـــه وقبـــل دعـــاؤه
ورحــم تضرعــه وشكــواه فمــا كــان إلا قليــل مــن الأيــام حتــى جامــع إحــدى نسائـــه فحملـــت منـــه فـــي
ليلتهـــا ووقتهـــا وساعتهـــا وأتمـــت أشهرهـــا ووضعـــت حملهـــا وجـــاءت بذكـــر كأنــــه فلقــــة قمــــر فأوفــــى
بالنـذر وشكـر اللــه عــز وجــل وصــدق وكســا الأرامــل والأيتــام وليلــة سابــع الولــادة سمــاه بأبــي الحســن
فرضعتــه المراضــع وحضنتــه الحواضــن وحملتـــه المماليـــك والخـــدم إلـــى أنكبـــر ونشـــأ وترعـــرع وانتشـــى
وتعلـــم القــــرآن العظيــــم وفرائــــض الإسلــــام وأمــــور الديــــن القويــــم والخــــط والشعــــر والحســــاب والرمــــي
بالنشـــاب فكـــان فريـــد دهـــره وأحســـن أهـــل زمانـــه وعصـــره ذا وجـــه مليـــح ولســــان فصيــــح يتهــــادى
تمايـلاً واعتـدالاً ويترامـى تدلـلاً واختيـالاً بخـد أحمـر وجبيــن أزهــر وعــذار أخضــر كمــا قــال فيــه بعــض
===
بـــدا الربيـــع العـــذار للحـــدق والورد بعـد الربيـع كيـف بقـي
أما ترى النبـت فـوق عارضـه بنفسجــاً طالعـــاً مـــن الـــورق
فأقــام مــع أبيــه برهــة مــن الزمــن فــي أحســن حـــال وأبـــوه بـــه فـــرح وســـرور إلـــى أن بلـــغ مبالـــغ الرجـــال
فأجلسـه أبـوه بيـن يديـه يومـاً مـن الأيـام وقـال لـه: يـا ولـدي غنـه قـد قـرب الأجـل وحانـت وفاتـي ولـم يبـق
غيـر لقـاء اللـه عـز وجـل وقـد خلفـت لـك مـا يكفيــك إلــى ولــد الولــد مــن المــال المتيــن والضيــاع والأملــاك
والبساتيــن فاتــق اللــه تعالــى يــا ولــدي فيمــا خلفتــه لــك ولا تمتــع مــن رفــدك فلـــم يكـــن إلا قليـــل حتـــى
مــرض الرجــل ومــات فجهــزه ولــده أحســن تجهيــز ودفنــه ورجــع إلــى منزلــه وقعـــد للعـــزاء أيامـــاً وليالـــي
وإذا بأصحابــه قــد دخلــوا عليــه وقالــوا لــه: مــن خلــف مثلــك مــا مــات وكــل مــا فــات فقـــد فـــات ومـــا
يصلــح العــزاء إلا للبنــات والنســاء المخــدرات ولــم يزالــوا بــه حتــى دخــل الحمــام ودخلـــوا عليـــه وفكـــوا
حزنه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن أبــا الحســن لمــا دخــل عليــه أصحابــه الحمــام وفكــوا حزنــه نســـي
وصيــة أبيــه وذهــل لكثــرة المــال وظــن أن الدهــر يبقــى معــه علــى حــال وأن المــال ليـــس لـــه زوال فأكـــل
===
وشـرب ولـذ وطــرب وخلــع ووهــب وجــاد بالذهــب ولــازم أكــل الدجــاج وفــض ختــم الزجــاج وقهقهــة
القنانــي واستمــاع الأغانــي ولــم يــزل علــى هــذا الحــال إلــى أن نفــذ المــال وقعــد الحــال وذهــب مـــا كـــان
لديـه وسقـط فـي يديـه ولـم يبـق لـه بعـد أن أتلـف مــا أتلــف غيــر وصيفــة خلفهــا لــه والــده مــن جملــة مــا
خلــف وكانــت الوصيفــة هــذه ليــس لهــا نظيــر فــي الحســن والجمــال والبهــاء والكمــال والقــد والاعتــدال
وهــي ذات فنــون وآداب وفضائــل تستطـــاب قـــد فاقـــت أهـــل عصرهـــا وأوانهـــا وصـــارت أشهـــر مـــن
علــم فــي افتتانهــا وزادت علــى الملــاح بالعلــم والعمــل والتثنــي والميــل مـــع كونهـــا خماسيـــة القـــد مقارنـــة
للسعــد بجبينيــن كأنهمــا هلــال شعبــان وحاجبيــن أزجيــن وعيــون كعيــون غزلــان وأنــف كخـــد الحســـام
وخــد كشقائــق النعمــان وفــم كخاتــم سليمــان وأسنــان كأنهــا عقـــود الجمـــان وســـرة تســـع أوقيـــة دهـــن
بــان وخصــر أنحــل مــن جســم مــن أضنــاه الهــوى وأسقمــه الكتمــان وردف أثقــل مــن الكثبــان وبالجملـــة
فهي في الحسن والجمال جديرة بقول من قال:
إن أقبلـــــت بحســـــن قوامهــــــا أو أدبـرت قتلـت بصـد فراقهـا
شمسيــــــة بدريــــــة غصنيـــــــة ليس الجفا والبعد من أخلاقها
جنات عدن تحت جيب قميصها والبدر في فلـك علـى أطواقهـا
تسلــب مــن يراهــا بحســـن جمالهـــا وبريـــق ابتسامتهـــا وترميـــه بعيونـــا نبـــل سهامهـــا وهـــي مـــع هـــذا كلـــه
===
فصيحـة الكلـام حسنـة النظـام فلمـا نفـذ جميـع مالـه وتبيـن سـوء حالــه ولــم يبــق معــه غيــر هــذه الجاريــة
أقـام ثلاثـة أيـام وهـو لـم يـذق طعـم طعـام ولـم يستـرح فـي منــام فقالــت لــه الجاريــة: يــا سيــدي احملنــي
إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة قالــت لسيدهــا: يــا سيــدي احملنــي إلــى أميـــر المؤمنيـــن
هـارون الرشيـد الخامـس مـن بنـي العبـاس واطلـب ثمنـي منــه عشــرة آلــاف دينــار فــإن استغلانــي فقــل
لـه: يـا أميـر المؤمنيــن وصيفتــي تســاوي أكثــر مــن ذلــك فاختبرهــا يعظــم قدرهــا فــي عينــك لــأن هــذه
الجاريـة ليـس لهــا نظيــر ولا تصلــح إلا لمثلــك. ثــم قالــت لــه: إيــاك أن تبيعنــي بــدون مــا قلــت لــك مــن
الثمــن فإنــه قليــل فــي مثلــي وكــان سيــد الجاريــة لا يعلــم قدرهــا ولا يعــرف أنهــا ليــس لهـــا نظيـــر فـــي
زمانها.
ثــم أنــه حملهــا إلــى أميــر المؤمنيــن هــارون الرشيــد وقدمهــا لــه وذكــر مـــا قالـــت فقـــال لهـــا الخليفـــة: مـــا
اسمــك قالــت: اسمــي تـــودد قـــال: يـــا تـــودد مـــا تحسنيـــن مـــن العلـــوم قالـــت: يـــا سيـــدي إنـــي أعـــرف
النحــو والشعـــر والفقـــه والتفسيـــر واللغـــة وأعـــرف فـــن الموسيقـــى وعلـــم الفرائـــض والحســـاب والقسمـــة
===
والمساحـــة وأساطيـــر الأوليـــن وأعـــرف القـــرآن العظيـــم وقـــد قرأتـــه بالسبـــع والعشـــر وبالأربـــع عشــــرة
وأعــرف عــدد ســوره وآياتــه وأحزابــه وأنصافــه وأرباعــه وأثمانــه وأعشــاره وسجداتـــه وعـــدد أحرفـــه
وأعـرف مــا فيــه مــن الناســخ والمنســوخ والمدنيــة والمكيــة وأسبــاب التنزيــل وأعــرف الحديــث الشريــف
درايــة وروايــة المسنــد منــه والمرســل ونظــرت فــي علــوم الرياضـــة والهندســـة والفلسفـــة وعلـــم الحكمـــة
والمنطـــق والمعانـــي والبيـــان وحفظـــت كثيــــراً مــــن العلــــم وتعلقــــت بالشعــــر وضربــــت العــــود وعرفــــت
مواضـع النغــم فيــه ومواقــع حركــات أوتــاره فــإن غنيــت ورقصــت فتنــت وإن تزينــت وتطيبــت قتلــت
وبالجملة فإني وصلت إلى شيء لم يعرفه إلا الراسخون في العلم.
فلــام سمــع الخليفــة هــارون الرشيــد كلامهــا علـــى صغـــر سنهـــا تعجـــب مـــن فصاحـــة لسانهـــا والتفـــت
إلـى مولاهـا وقـال: إنـي أحضـر مـن يناظرهـا فـي جميـع مـا ادعتـه فـإن أجابـت دفعــت لــك ثمنهــا وزيــادة
وإن لـم تجــب فأنــت أولــى بهــا فقــال مولاهــا: يــا أميــر المؤمنيــن حبــاً وكرامــة فكتــب أميــر المؤمنيــن إلــى
عامـل البصـرة بـأن يرسـل إليـه إبراهيـم بـن سيـار النظـام وكــان أعظــم أهــل زمانــه فــي الحجــة والبلاغــة
والشعــــر والمنطــــق وأمــــره أن يحضــــر القــــراء والعلمــــاء والأطبـــــاء والمنجميـــــن والحكمـــــاء والمهندسيـــــن
والفلاسفــة وكــان ابراهيــم أعلــم مـــن الجميـــع فمـــا كـــان إلا قليـــل حتـــى حضـــروا دار الخلافـــة وهـــم لا
يعلمـون الخبـر فدعاهـم أميـر المؤمنيـن إلـى مجلسـه وأمرهـم بالجلــوس فجلســوا ثــم أمــر أن تحضــر الجاريــة
===
تــودد فحضــرت وأظهــرت نفسهـــا وهـــي كأنهـــا كوكـــب دري فوضـــع لهـــا كرســـي مـــن ذهـــب فسلمـــت
ونطقـــت بفصاحـــة لســـان وقالـــت: يـــا أميـــر المؤمنيـــن مـــر مــــن حضــــر مــــن العلمــــاء والقــــراء والأطبــــاء
والمنجميـن والحكمـاء والمهندسيـن والفلاسفـة أن يناظرونــي. فقــال لهــم أميــر المؤمنيــن: أريــد منكــم أن
تناظـروا هـذه الجاريـة فـي أمـر دينهـا وأن تدحضـوا حجتهـا فـي كــل مــا ادعتــه فقالــوا: السمــع والطاعــة
للـه ولـك يـا أميـر المؤمنيـن فعنـد ذلـك أطرقـت الجاريـة برأسهــا إلــى الــأرض وقالــت: أيكــم الفقيــه العالــم
المقــري المحـــدث فقـــال أحدهـــم: أنـــا ذلـــك الرجـــل الـــذي طلبـــت فقالـــت لـــه: اســـأل عمـــا شئـــت قـــال
لهــا: أنــت قــرأت كتــاب اللــه العزيــز وعرفــت ناسخــه ومنسوخــه وتدبــرت آياتـــه وحروفـــه قالـــت: نعـــم
فقـال لهـا: أسألــك عــن الفرائــض الواجبــة والسنــن القائمــة فأخبرينــي أيتهــا الجاريــة عــن ذلــك ومــن ربــك
ومــن إمامــك ومــا قبلتــك وأخوانــك ومــا طريقــك ومــا منهاجـــك قالـــت: اللـــه ربـــي ومحمـــد صلـــى اللـــه
عليـه وسلـم نبيـي والقـرآن إمامـي والكعبـة قبلتـي والمؤمنـون أخوانــي والخيــر طريقــي والسنــة منهاجــي.
فتعجـب الخليفـة مـن قولهـا ومـن فصاحـة لسانهـا علـى صغـر سنهـا ثــم قــال لهــا: أيتهــا الجاريــة أخبرينــي
بمــا عرفــت اللـــه تعالـــى قالـــت: بالعقـــل قـــال: ومـــا العقـــل قالـــت: العقـــل عقلـــان عقـــل موهـــوب وعقـــل
مكسوب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملــــك السعيــــد أن الجاريــــة قالــــت: قالــــت: العقــــل عقلــــان موهــــوب ومكســــوب
فالعقـل الموهـوب هـو الـذي خلقــه اللــه عــز وجــل يهــدي بــه مــن يشــاء مــن عبــاده والعقــل المكســوب هــو
الــذي يكسبــه المــرء بتأدبــه وحســن معروفــه فقــال لهـــا: أحسنـــت ثـــم قـــال: أيـــن يكـــون العقـــل قالـــت:
يقذفه الله في القلـب فيصعـد شعاعـه فـي الدمـاغ حتـى يستقـر قـال لهـا: أحسنـت ثـم قـال: أخبرينـي بمـا
عرفـت النبــي صلــى اللــه عليــه وسلــم قالــت: بقــراءة كتــاب اللــه تعالــى وبالآيــات والدلالــات والبراهيــن
والمعجـــزات قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن الفرائـــض الواجبـــة والسنــــن القائمــــة قالــــت: أمــــا الفرائــــض
الواجبـــة فخمـــس: شهـــادة أن لا إلـــه إلا اللـــه وحـــده لا شريـــك لـــه وأن محمـــد عبـــده ورسولـــه وإقامـــة
الصلــاة وإيتــاء الزكــاة وصــوم رمضــان وحــج بيـــت اللـــه الحـــرام مـــن استطـــاع إليـــه سبيـــلاً وأمـــا السنـــن
فهـي أربـع: الليـل والنهــار والشمــس والقمــر وهــن يدنيــن العمــر والأمــل وليــس يعلــم ابــن آدم أنهــن يهدمــن
الأجل.
قــال: أحسنـــت فأخبرينـــي مـــا شعائـــر الإيمـــان قالـــت: شعائـــر الإيمـــان الصلـــاة والزكـــاة والصـــوم والحـــج
واجتنبـا الحـرام. وقـال: أحسنـت أخبرينـي بــأي شــيء تقوميــن إلــى الصلــاة قالــت: بنيــة العبوديــة مقــرة
بالربوبيـة قـال: فأخبرينـي كـم فـرض اللـه عليــك قبــل قيامــك إلــى الصلــاة قالــت: الطهــارة وستــر العــورة
واجتنــاب الثيــاب المتنجســة والوقــوف علــى مكــان طاهــر والتوجــه للقبلـــة والنيـــة وتكبيـــرة الإحـــرام.
===
قــال: أحسنــت فاخبرينــي بــم تخرجيــن مـــن بيتـــك إلـــى الصلـــاة قالـــت: بنيـــة العبـــادة قـــال: فبـــأي نيـــة
تدخليــن المسجــد قالــت: بنيــة الخدمــة قـــال: فبمـــاذا تستقبليـــن القبلـــة قالـــت: بثلـــاث فرائـــض وسنـــة
قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي مـــا مبـــدأ الصلـــاة ومـــا تحليلهـــا ومـــا تحريمهـــا قالـــت: مبـــدأ الصلــــاة الطهــــور
وتحريمهــا تحريمــة تكبيــرة الإحــرام وتحليــل السلــام مــن الصلــاة قــال: فمــاذا يجــب علــى مــن تركهــا قالـــت:
روي فـي الصحيـح مـن تـرك الصلـاة عامـداً متعمـداً مـن غيــر عــذر فــلا حــظ لــه فــي الإسلــام. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة لمــا ذكــرت الحديــث الشريــف قــال لهــا الفقيـــه: أحسنـــت
فأخبرينــي عــن الصلـــاة مـــا هـــي قالـــت: الصلـــاة ســـر بيـــن العبـــد وربـــه وفيهـــا عشـــرة خصـــال: تنـــور
القلـــب وتضـــيء الوجـــه وترضـــي الرحمـــن وتغضـــب الشيطـــان وتدفـــع البـــلاء وتكفــــي شــــر الأعــــداء
وتكثـــر الرحمـــة وتدفـــع النقمـــة وتقـــرب العبـــد مــــن مولــــاه وتنهــــي عــــن الفحشــــاء والمنكــــر وهــــي مــــن
الواجبـــات المفروضـــات المكتوبـــات وهـــي عمـــاد الديـــن قـــال: أحسنـــت فأخبرينــــي مــــا مفتــــاح الصلــــاة
قالــت: الوضــوء قــال: مــا مفتــاح الوضــوء قالــت: التسميـــة قـــال: فمـــا مفتـــاح التسميـــة قالـــت: اليقيـــن
===
قـــال: فمـــا مفتـــاح اليقيـــن قالـــت: التوكـــل قـــال: فمـــا مفتـــاح التوكـــل قالـــت: الرجـــاء قـــال: فمـــا مفتـــاح
الرجــاء قالــت: الطاعــة قــال: فمــا مفتــاح الطاعـــة قالـــت: الاعتـــراف للـــه تعالـــى بالوحدانيـــة والإقـــرار
له بالربوبية.
قــال: أحسنــت فأخبرينــي عــن فــروض الوضــوء قالــت: ستــة أشيــاء علـــى مذهـــب الإمـــام الشافعـــي
محمـد بـن ادريـس رضـي اللـه عنـه النيــة عنــد غســل الوجــه وغســل اليديــن مــع المرفقيــن ومســح بعــض
الــرأس وغســل الرجليــن مــع الكعبيــن والترتيــب وسنتــه عشــرة أشيــاء: التسميـــة وغســـل الكفيـــن قبـــل
إدخالهمـــــا الإنـــــاء والمضمضــــــة والاستنشــــــاق ومســــــح بعــــــض الــــــرأس ومســــــح الأذنيــــــن ظاهرهمــــــا
وباطنهمــا بمــاء جديــد وتخليــل اللحيـــة الكثـــة وتخليـــل أصابـــع اليديـــن والرجليـــن وتقديـــم اليمنـــى علـــى
اليســرى والطهــارة ثلاثــاً ثلاثــاً والموالــاة فــإذا فــرغ مــن الوضــوء قــال: أشهــد أن لا إلــه إلا اللـــه وحـــده لا
شريـــك لـــه وأشهـــد أن محمـــداً عبـــده ورسولـــه اللهـــم اجعلنـــي مــــن التوابيــــن واجعلنــــي مــــن المطهريــــن
سبحانــك اللهــم وبحمــدك أشهــد أن لا إلــه إلا أنـــت أستغفـــرك وأتـــوب إليـــك فقـــد جـــاء فـــي الحديـــث
الشريـف عــن النبــي صلــى اللــه عليــه وسلــم أنــه قــال: مــن قالهــا عقــب كــل وضــوء فتحــت لــه أبــواب
الجنــة الثمانيــة يدخــل مــن أيهــا شــاء. قــال: أحسنــت فغــذا أراد الإنســان الوضــوء مـــاذا يكـــون عنـــده
مــن الملائكــة والشياطيــن قالــت: إذا تهيــأ الإنســان للوضــوء أتــت الملائكــة عـــن يمينـــه والشياطيـــن عـــن
===
شماله فإذا ذكـر اللـه تعالـى فـي ابتـداء الوضـوء فـرت منـه الشياطيـن واستولـت عليـه الملائكـة بخيمـة مـن
نـور لهـا أربعـة أطنـاب مـع كــل طنــب ملــك يسبــح اللــه تعالــى ويستغفــر لــه مــا دام فــي إنصــات أو ذكــر
فإن لم يذكـر اللـه عـز وجـل عنـد ابتـداء الوضـوء ولـم ينصـت استولـت عليـه الشياطيـن وانصرفـت عنـه
الملائكـة ووسـوس لـه الشيطـان حتـى يدخـل عليـه الشـك والنقـص فـي وضوئـه. فقــد قــال عليــه الصلــاة
والسلــام: الوضــوء الصالــح يطــرد الشيطــان ويؤمـــن مـــن جـــور السلطـــان وقـــال أيضـــاً: مـــن نزلـــت عليـــه
بليــة وهــو علــى غيــر وضــوء فــلا يلومــن إلا نفســه قــال: أحسنــت فأخبرينــي عمـــا يفعـــل الشخـــص إذا
استيقــظ مــن منامــه قالــت: إذا استيقــظ الشخــص مــن منامــه فليغســل يديــه ثلاثــاً قبــل إدخالهمــا فــي
الإنـاء قـال: أحسنـت فأخبرينـي عـن فــروض الغســل وعــن سننــه قالــت: فــروض الغســل النيــة وتعميــم
البــدن بالمــاء إلــى جميــع الشعــر والبشــرة وأمــا سننــه فلوضــوء قبلــه والتدليـــك وتخليـــل الشعـــر وتأخيـــر
غسـل الرجليـن فـي قـول آخـر الغسـل قـال ك أحسنــت. وأدرك شهــرزاد الصبــاح فسكتــت عــن الكلــام
المباح.
وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملـــك السعيـــد أن الجاريـــة لمـــا أخبـــرت الفقيـــه عـــن فـــروض الغســـل وسننـــه قـــال:
===
أحسنــت فأخبرينـــي عـــن أسبـــاب التيمـــم وفرضـــه وسننـــه قالـــت: أمـــا أسبابـــه فسبعـــة: فقـــد المـــاء
والخـوف والحاجــة إليــه وإضلالــه فــي رحلــة والمــرض والجبيــرة والجــراح. وأمــا فروضــه فأربعــة: النيــة
والتــراب وضربــة للوجــه وضربــة لليديـــن وأمـــا سننـــه فالتسميـــة وتقديـــم اليمنـــى علـــى اليســـرى قـــال:
أحسنـــت فأخبرينـــي عــــن شــــروط الصلــــاة وعــــن أركانهــــا وسننهــــا قالــــت: أمــــا شروطهــــا فخمســــة
أشيـاء: طهـارة الأعضـاء وستـر العــورة ودخــول الوقــت يقينــاً أو ظنــاً واستقبــال القبلــة والوقــوف علــى
مكـــان طاهـــر وأمـــا أركانهـــا فالنيـــة وتكبيـــرة الإحـــرام والقيـــام مـــع القـــدرة وقـــراءة الفاتحـــة وبســــم اللــــه
الرحمـن الرحيـم آيـة منهـا علــى مذهــب الإمــام الشافعــي والركــوع والطمأنينــة فيــه والاعتــدال والطمأنينــة
فيـه والسجـود والطمأنينـة فيـه والجلـوس بيـن السجدتيــن والطمأنينــة فيــه والتشهــد الأخيــر والجلــوس لــه
والصلـاة علـى النبـي صلــى اللــه عليــه وسلــم فيــه والتسليمــة الأولــى ونيــة الخــروج مــن الصلــاة فــي قــول
وأمــا سننهــا فالــأذان والإقامــة ورفــع اليديــن عنــد الإحـــرام ودعـــاء الإفتتـــاح والتعـــوذ والتأميـــن وقـــراءة
السـورة بعـد الفاتحـة والتكبيـرات عنـد الإنتقالـات وقـول سمـع اللـه لمـن حمـده ربنـا لـك الحمــد والجهــر فــي
موضعــه والإســرار فــي موضعــه والتشهــد الأولــى والجلــوس لــه والصلــاة علــى النبــي صلـــى اللـــه عليـــه
وسلـم فيـه والصلـاة علـى الـآل فـي التشهــد الأخيــر والتسليمــة الثانيــة قــال: أحسنــت فأخبرينــي فبمــاذا
تجـــب الزكـــاة قالـــت: تجـــب فـــي الذهـــب والفضـــة والإبـــل والبقـــر والغنـــم والحنطـــة والشعيـــر والدخـــن
===
والــذرة والفــول والحمــص والــأرز والزبيــب والتمــر قــال أحسنــت فأخبرينــي فـــي كـــم تجـــب الزكـــاة فـــي
الذهـــب قالـــت: لا زكـــاة فيمـــا دون عشريـــن مثقـــالاً فـــإذا بلغـــت العشريـــن ففيهـــا نصــــف مثقــــال ومــــا
زاد فبحسابـه قـال: فأخبرينـي فـي كـم يجـب الزكـاة فـي الإبــل قالــت: فــي كــل خمــس شــاة إلــى خمــس
وعشريـن فيهـا بنـت مخـاض قـال: أحسنـت فأخبرينـي فـي كـم تجـب الزكـاة فـي الــورق قــال: ليــس فيمــا
دون مائتـــي درهـــم فــــإذا بلغــــت المائتيــــن فيهــــا خمســــة دراهــــم وان زاد فبحسابــــه قــــال: أحسنــــت
فأخبرينـي فـي كـم تجـب الزكـاة فـي الشـاة قالـت: إذا بلغـت أربعيـن فيهـا شـاة قـال: أحسنـت فأخبرينــي
عــن الصــوم وفرضــه قالــت: أمــا فــروض الصــوم فالنيــة والإمســاك عــن الأكــل والشـــرب والجمـــاع وتعـــم
القـــيء وهـــو واجـــب علـــى كـــل مكلـــف خـــال عـــن الحيـــض والنفـــاس ويجـــب رؤيـــة الهلـــال أو بإخبـــار
عـدل يقـع فــي قلــب المخبــر صدقــه ومــن واجباتــه تثبيــت النيــة وأمــا سننــه فتعجيــل الفطــور وتأخيــر
السحــور وتــرك الكلــام إلا فــي الخيــر والذكـــر وتلـــاوة القـــرآن قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن شـــيء لا
يفســد الصــوم قالــت: الأذهــان والإكتحـــال وغبـــار الطريـــق وابتلـــاع الريـــق وخـــروج المنـــي بالإحتلـــام أو
النظــر لامــرأة أجنبيــة والفصــادة والحجامــة هــذا كلــه لا يفســد الصــوم. قــال: أحسنــت فأخبرينــي عـــن
صلـاة العيديـن قالـت: ركعتـان وهمـا سنـة مـن غيـر آذان وإقامــة ولكــن يقــول الصلــاة جامعــة ويكبــر فــي
الأولـى سبعـاً ى تكبيـرة الإحـرام وفـي الثانيـة خمسـاً سـوى تكبيـرة القيـام علـى مذهـب الإمــام الشافعــي
===
وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الجاريــة لمــا أخبــرت الفقيــه عــن صلــاة العيديــن قــال لهــا: أحسنــت
فأخبرينــي عــن صلــاة كســـوف الشمـــس وخســـوف القمـــر قالـــت: ركعتـــان بغيـــر آذان ولا إقامـــة يأتـــي
ركعــة بقياميــن وركوعيــن وسجوديــن ويجلــس وينشــد ويسلــم ثــم يخطــب ويستغفــر اللـــه تعالـــى مكـــان
التكبيــر فــي خطبتــي العيديــن ويحــول رداءه بــأن يجعــل أعلــاه أسفلــه ويدعــوا ويتضــرع قــال: أحسنــت
فأخبرينـي عـن صلـاة الوتـر قالـت: الوتـر أقلـه ركعــة واحــدة وأكثــره إحــدى عشــر ركعــة قــال: أحسنــت
فأخبرينــي عـــن صلـــاة الضحـــى قالـــت: أقلهـــا ركعتـــان وأكثرهـــا اثنتـــي عشـــر ركعـــة قـــال: أحسنـــت
فأخبرينـــي عـــن الإعتكـــاف قالـــت: هـــو سنـــة قـــال: فمــــا شروطــــه قالــــت: النيــــة وأن لا تخــــرج مــــن
المسجد إلا لحاجة ولا يباشر النساء وأن يصوم ويترك الكلام.
قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي بمـــاذا يجـــب الحـــج قالــــت: بالبلــــوغ والعقــــل والإسلــــام والاستطاعــــة وهــــو
واجــب فــي العمــر مــرة واحــدة قبــل المــوت قــال: فمــا فــروض الحــج قالـــت: الإحـــرام والوقـــوف بعرفـــة
والطـواف والسعــي والحلــق والتقصيــر قــال: فمــا فــروض العمــرة قالــت: الإحــرام بهــا وطوافهــا وسعيهــا
قــال: فمــا فــروض الإحــرام قالــت: التجــرد مــن المخيــط واجتنــاب الطيــب وتــرك حلــق الـــرأس وتقليـــم
===
الأظافـــر وقتـــل الصيـــد والنكــــاح قــــال: فمــــا سنــــن الحــــج قالــــت: التلبيــــة وطــــواف القــــدوم والــــوداع
والمبيـــت بالمزدلفــــة ورمــــي الجمــــار. قــــال: أحسنــــت فمــــا الجهــــاد ومــــا أركانــــه قالــــت: أمــــا أركانــــه
فخــروج الكفــار علينــا ووجــود الإمــام والعــدة والثبـــات عنـــد لقـــاء العـــدو وأمـــا سننـــه فهـــو التحريـــض
علــى القتــال لقولــه تعالــى: يــا أيهــا النبــي حــرض المؤمنيــن علــى القتـــال قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن
فــروض البيــع وسننــه قالــت: أمــا فــروض البيــع فالإيجـــاب والقبـــول وأن يكـــون البيـــع مملوكـــاً منتفعـــاً بـــه
مقــدوراً علــى تسليمــه وتــرك الربــا وأمــا سننــه فالإقالــة والخيـــار قبـــل التفريـــق لقولـــه صلـــى اللـــه عليـــه
وسلـم: البيعـان بالخيـار مـا لـم يتفرقـا قـال: أحسنـت فأخبرينـي عـن شــيء لا يجــوز بيــع بعضــه ببعــض
قالـت: حفظـت فـي ذلـك حديثـاً صحيحـاً عـن نافـع عـن رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلــم أنــه نهــى
عــن بيــع التمــر بالرطــب والتيــن باليابــس والقديـــد باللحـــم والزبـــد بالسمـــن وكـــل مـــا كـــان مـــن صنـــف
واحد مأكول فلا يجوز بيع بعضه ببعض.
فلمـا سمـع الفقيـه كلامهـا وعـرف أنهــا ذكيــة فطنــة حاذقــة عالمــة بالفقــه والحديــث والتفسيــر وغيــر ذلــك
قـال فـي نفسـه: لا بـد أن أتحيـل عليهـا حتـى أغلبهــا فــي مجلــس أميــر المؤمنيــن فقــال لهــا: يــا جاريــة مــا
معنــى الوضــوء فــي اللغــة قالــت: الوضــوء فــي اللغــة النظافــة والخلــوص مــن الأدنــاس قــال: فمــا معنـــى
الصلــاة فــي اللغــة قالــت: الدعــاء بخيــر قــال: فمــا معنــى الغســل فــي اللغــة قالــت: التطهيــر قـــال: فمـــا
===
معنــى الصــوم فــي اللغــة قالــت: الإمســاك قــال: فمــا معنــى الزكــاة فــي اللغــة قالــت: الزيـــادة قـــال: فمـــا
معنــى الحــج فــي اللغــة قالــت: القصــد قــال: فمــا معنـــى الجهـــاد فـــي اللغـــة قالـــت: الدفـــاع فانقطعـــت
حجة الفقيه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الفقيـه لمـا انقطعــت حجتــه قــام علــى قدميــه وقــال: أشهــد اللــه يــا
أميــر المؤمنيــن بــأن الجاريــة أعلــم منــي فــي الفقــه فقالــت لــه الجاريــة: أسألــك عــن شــي فأتنــي جوابــه
سريعــاً إن كنـــت عارفـــاً قـــال: اسألـــي قالـــت: مـــا سهـــام الديـــن قـــال: هـــي عشـــرة: الأولـــى الشهـــادة
وهـــي الملـــة الثانـــي الصلـــاة وهــــي الفطــــرة الثالــــث الزكــــاة وهــــي الطهــــارة الرابــــع الصــــوم وهــــي الجنــــة
الخامــس الحــج وهــي الشريعــة الســادس الجهــاد وهــي الكفايــة السابــع والثامــن الأمــر بالمعـــروف والنهـــي
عن المنكر وهما الغيرة التاسع الجماعة وهي الألفة العاشر طلب العلم وهي الطريق الجيدة.
قالــت: أحسنــت وقــد بقيـــت عليـــك مسألـــة فمـــا أصـــول الإسلـــام قـــال: هـــي أربعـــة: صحـــة العقـــد
وصدق العقد وحفظ الحد والوفاء بالعهد.
قالـت: بقيـت مسألـة أخــرى فــإن أجبــت وإلا أخــذت ثيابــك قــال: قولــي يــا جاريــة قالــت: فمــا فــروع
===
الإسلـام فسكـت ساعـة ولـم يجــب بشــيء فقالــت: انــزع ثيابــك وأنــا أفسرهــا لــك قــال أميــر المؤمنيــن:
فسريهـا وأنـا أنـزع لـك مـا عليـه مـن الثيـاب قالـت: اثنـي وعشـرون فرعـاً التمسـك بكتـاب اللـه والإقتـداء
برسولــه صلــى اللــه عليــه وسلــم وكــف الــأذى وأكــل الحلــال واجتنـــاب الحـــرام ورد المظالـــم إلـــى أهلهـــا
والتوبــة والفقــه فــي الديــن وحـــب الجليـــل واتبـــاع التنزيـــل والتأهـــب للرحيـــل وقـــوة اليقيـــن والعفـــو عنـــد
المقـدرة والقـوة عنـد الضعـف والصبـر عنـد المصيبـة ومعرفـة اللـه تعالـى ومعرفـة مـا جــاء بــه نبيــه صلــى
الله عليه وسلم ومخالفة اللعين إبليس ومجاهدة النفس ومخالفتها والإخلاص لله.
فلمـا سمــع أميــر المؤمنيــن ذلــك منهــا أمــر أن تنــزع ثيــاب الفقيــه وطيلسانــه فنزعهمــا ذلــك الفقيــه وخــرج
مقهــوراً منهــا خجــلاً مــن بيــن يــدي أميــر المؤمنيــن ثــم قــام رجــل آخــر وقــال: يــا جاريـــة اسمعـــي منـــي
مسائــل قليلــة قالــت لــه: قــل قــال: فمــا شــرط صحــة المسلـــم قالـــت: القـــدر المعلـــوم والجنـــس المعلـــوم
والأجــل المعلــوم قــال: أحسنــت فمــا فــروض الأكــل وسننــه قالــت: فــروض الأكــل الإعتـــراف بـــان اللـــه
تعالـى رزقـه وأطعمــه وسقــاه والشكــر للــه تعالــى علــى ذلــك قــال: فمــا الشكــر قالــت: صــرف العبــد
لجميـع مـا أنعـم اللـه بــه عليــه فيمــا خلــق لأجلــه قــال: فمــا سنــن الأكــل قالــت: التسميــة وغســل اليديــن
والجلـوس علـى الـورك الأيسـر والأكـل بثلـاث أصابـع والكــل ممــا لــك قــال:: أحسنــت فأخبرينــي مــا آداب
الأكــل قالــت: أن تصغــر اللقمــة وتقــل النظــر إلــى جليســك قـــال: أحسنـــت. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح
===
وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة لمــا سئلـــت عـــن آداب الأكـــل وذكـــرت الجـــواب قـــال لهـــا
الفقيـــه السائـــل: أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن عقائـــد القلـــب وأضدادهـــا قالـــت: هـــن ثلــــاث وأضدادهــــا
ثلــاث: الأولــى اعتقــاد الإيمــان وضدهــا مجانيــة الكفــر والثانيــة اعتقــاد السنـــة وضدهـــا مجانيـــة البدعـــة
والثالثــة اعتقـــاد الطاعـــة وضدهـــا مجانيـــة المعصيـــة قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن شـــروط الوضـــوء
قالـــت: الإسلـــام والتميـــز وطهـــور المـــاء وعـــدم المانـــع الحســـن وعـــدم المانـــع الشرعـــي قــــال: أحسنــــت
فأخبرينـي عـن الإيمـان قالـت: الإيمـان ينقسـم إلـى تسعـة أقسـام: إيمـان بالمعبــودة وإيمــان بالعبوديــة وإيمــان
بالخصوصيـــة وإيمـــان بالقبضتيـــن وإيمـــان بالناســـخ وإيمـــان بالمنســـوخ وإن تؤمـــن باللـــه وملائكتـــه وكتبـــه
ورسلـه وتؤمـن بالقضـاء والقــدر خيــره وشــره وحلــوه ومــره. قــال: أحسنــت فأخبرينــي عــن ثلــاث تمنــع
ثلاثـاً قالـت: نعـم. روي عـن سفيــان الثــوري أنــه قــال: ثلــاث تذهــب ثلاثــاً: الاستخفــاف بالصالحيــن
يذهــــب الآخــــرة والاستخفــــاف بالملــــوك يذهــــب الــــروح والاستخفــــاف بالنفقــــة يذهــــب المــــال قـــــال:
أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن مفاتيـــح السمـــوات وكـــم لهـــا مـــن بـــاب قالـــت: قـــال اللـــه تعالــــى: وفتحــــت
السمـاء فكانــت أبوابــاً. وقــال عليــه الصلــاة والسلــام: وليــس يعلــم عــدة أبــواب السمــاء إلا الــذي خلــق
===
السمـاء ومـا مـن أحـد مـن بنـي آدم إلا ولـه بابــان فــي السمــاء بــاب ينــزل منــه رزقــه وبــاب يصعــد منــه
عمله ولا يغلق باب رزقه حتى ينقطع أجله ولا يغلق باب عمله حتى تصعد روحه.
قــال: أحسنــت فأخبرينــي عــن شــيء وعــن نصــف شــيء وعــن لا شــيء قالــت: الشــيء هــو المؤمــن
ونصــف الشــيء هــو المنافــق وأن لا شــيء هــو الكافــر قــال: أحسنــت فأخبرينــي عــن القلــوب قالــت:
قلــب سليــم وقلــب سقيــم وقلــب منيــب وقلــب نذيــر وقلــب منيــر فالقلـــب السليـــم هـــو قلـــب الخليـــل
والقلــب السقيــم هــو قلــب الكافــر والقلــب المنيــب هــو قلــب المتقيــن الخائفيــن والقلــب النذيــر هــو قلــب
سيدنـا محمـد صلـى اللـه عليــه وسلــم والقلــب المنيــر هــو قلــب مــن يتبعــه وقلــوب العلمــاء ثلاثــة: قلــب
متعلــق بالدنيــا وقلــب متعلــق بالآخــرة وقلــب متعلــق بمولــاه وقيــل: إن القلــوب ثلاثــة: قلــب معلــق وهـــو
قلــب الكافــر وقلــب معــدوم وهــو قلــب المنافـــق وقلـــب ثابـــت وهـــو قلـــب المؤمـــن وقيـــل هـــي ثلاثـــة:
قلــب مشــروح بالنــور والإيمــان وقلــب مجــروح مــن خــوف الهجـــران وقلـــب خائـــف مـــن الخذلـــان قـــال:
أحسنت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة لمــا سألهــا الفقيـــه الثانـــي وأجابتـــه وقـــال لهـــا: أحسنـــت
===
قالـت: يـا أميـر المؤمنيـن إنـه قـد سألنـي حتـى عيـي وأنــا أسألــه مسألتيــن فــإن أتــى بجوابهمــا فــذاك وإلا
أخـذت ثيابـه وانصـرف بسلـام فقـال لهـا الفقيـه: سلينـي مــا شئــت قالــت: فمــا تقــول فــي الإيمــان قــال:
الإيمــان إقــرار باللســان وتصديــق بالقلــب وعمــل بالجــوارح وقــال عليــه الصلــاة والسلــام: لا يكمـــل المـــرء
فــي الإيمــان حتــى يكمــل فيــه خمــس خصــال التوكــل علــى اللــه والتفويــض إلــى اللــه والتسليــم لأمــر اللــه
والرضــا بقضــاء اللــه وأن تكــون أمــوره للــه فإنــه مــن أحــب اللــه وأعطــى للـــه ومنـــع للـــه فقـــد استكمـــل
الإيمـان. قالـت: فأخبرنـي عـن فـرض الفـرض وعـن فـرض فـي ابتـداء كـل فـرض وعـن فـرض يحتـاج إليــه
كـل فـرض وعـن سنـة داخلـة فـي الفـرض وعـن سنـة يتـم بهـا الفـرض فسكـت ولـم يجـب بشـيء فأمرهــا
أميـر المؤمنيـن بـأن تفسرهــا وأمــره أن ينــزع ثيابــه ويعطيهــا إياهــا فعنــد ذلــك قالــت: يــا فقيــه أمــا فــرض
الفـرض فمعرفـة اللـه تعالـى وأمـا الفـرض الـذي فـي ابتــداء كــل فــرض فهــي شهــادة أن لا إلــه إلا اللــه وأن
محمـداً رسـول اللـه. وأمـا الفـرض الـذي يحتـاج إليـه كــل فــرض فهــو الوضــوء وأمــا الفــرض المستغــرق كــل
فــرض فهــو الغســل مــن الجنابــة وأمــا السنــة الداخلــة فــي الفــرض فهــي تخليــل الأصابـــع وتخليـــل اللحيـــة
الكثيفـة وأمـا السنـة التـي يتـم بهـا الفـرض فهـو الإختتـان فعنـد ذلـك تبيـن عجـز الفقيـه وقـام علـى قدميـه
وقـال: أشهــد اللــه يــا أميــر المؤمنيــن أن هــذه الجاريــة أعلــم منــي بالفقــه وغيــره ثــم نــزع ثيابــه وانصــرف
مقهوراً.
===
وأمــا حكايتهــا مــع المقــرئ فإنهــا التفتــت إلــى مــن بقــي مـــن العلمـــاء الحاضريـــن وقالـــت: أيكـــم الأستـــاذ
المقـــرئ بالعالـــم بالقـــرآن السبـــع والنحـــو واللغـــة فقـــام إليهـــا المقـــرئ وجلـــس بيـــن يديهـــا وقـــال لهـــا: هـــل
قـــرأت كتـــاب اللـــه تعالـــى وأحكمـــت معرفـــة آياتـــه وناسخـــه ومنسوخــــه ومحكمــــه ومتشابهــــه ومكيــــه
ومدنيــه وفهمــت تفسيــره وعرفتيــه علــى الروايــات والأصــول فــي القــرآن قالــت: نعـــم. قـــال: أخبرينـــي
عــن عــدد ســور القــرآن وكــم فيــه مــن عشــر وكــم فيــه مــن آيــات وكــم فيــه مـــن حـــرف وكـــم فيـــه مـــن
سجـدة وكـم فيـه مـن نبـي مذكـور وكـم فيـه مـن سـورة مدنيـة وكـم فيــه مــن ســورة مكيــة وكــم فيــه مــن
طيــر قالــت: يــا سيــدي أمــا ســور القــرآن فمائــة وأربـــع عشـــرة ســـورة المكـــي منهـــا سبعـــون والمدنـــي
أربـــع وأربعـــون وأمـــا أعشـــاره فستمائـــة عشـــر واحـــد وعشـــرون عشـــراً وأمـــا الآيــــات فســــت آلــــاف
ومائتـان آيـة وأمــا أحرفــه فثلاثــة وعشــرون ألفــاً وستمائــة وسبعــون حرفــاً وللقــارئ بكــل حــرف عشــر
حسنـــات وأمـــا السجـــدات فأربـــع عشـــر سجـــدة. وأدرك شهـــرزاد الصبــــاح فسكتــــت عــــن الكلــــام
المباح.
وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن لمــا سألهــا المقــرئ عـــن القـــرآن الكريـــم أجابتـــه وقالـــت لـــه: وأمـــا
===
الأنبيـــاء الذيـــن ذكــــرت أسماؤهــــم فــــي القــــرآن فخمســــة وعشــــرون نبيــــاً وهــــم: آدم ونــــوح وإبراهيــــم
وإسماعيــل واسحــق ويعقــوب ويوســف واليســع ولــوط وصالــح وهــود وشعيــب وداود وسليمـــان وذو
الكفـــل وإدريـــس وإليــــاس ويحيــــى وزكريــــا وأيــــوب وموســــى وهــــارون ومحمــــد صلــــوات اللــــه عليهــــم
أجمعيــــن وأمــــا الطيــــر فهــــن تســــع قــــال: مــــا اسمهــــن قالـــــت: البعـــــوض والذبـــــاب والنمـــــل والهدهـــــد
والغراب والجراد والأبابيل وطير عيسى عليه السلام وهو الخفاش.
قـــال: أحسنـــت أي ســـورة فـــي القـــرآن أفضـــل قالـــت: ســـورة البقـــرة قـــال: فـــأي آيــــة أعظــــم قالــــت:
آيــة الكرســي وهــي خمســون كلمــة مــع كــل كلمــة خمســون بركــة قــال: فــأي آيــة فيهــا تســع آيـــات قالـــت
قوله تعالى: )إن فـي خلـق السمـوات والـأرض واختلـاف الليـل والنهـار والفلـك التـي تجـري فـي البحـر بمـا
ينفــع النــاس( إلــى آخــر الآيــة. قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي أي آيـــة أعـــدل قالـــت: إن اللـــه يأمـــر بالعـــدل
والإحســـان وإيتـــاء ذي القربـــى وينهـــى عـــن الفحشـــاء والمنكـــر والبغـــي قـــال: فـــأي آيـــة أطمـــع قالـــت:
قولــه تعالــى: )أيطمــع كــل امــرئ منهــم أن يدخــل جنــة النعيـــم( قـــال: فـــأي جنـــة أرجـــى قالـــت: قولـــه
تعالــى: )قــل يــا عبــادي الذيــن أسرفــوا علــى أنفسهــم لا تقنطـــوا مـــن رحمـــة اللـــه إن اللـــه يغفـــر الذنـــوب
جميعــاً إنــه هــو الغفــور الرحيـــم(. قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي بـــأي قـــراءة تقرأيـــن قالـــت: بقـــراءة أهـــل
الجنـــة وهـــي قـــراءة نافـــع قـــال: فـــأي آيـــة كـــذب فيهـــا الأنبيـــاء قالـــت: قولـــه تعالــــى: )وجــــاؤوا علــــى
===
قميصــه بــدم كــذب( وهــم أخــوة يوســف قــال: فأخبرينـــي أي آيـــة صـــدق فيهـــا الكفـــار قالـــت: قولـــه
تعالــى: )وقالــت اليهــود ليســت النصــارى علــى شــيء وقالــت النصــارى ليســت اليهـــود علـــى شـــيء
وهــم يتلــون الكتــاب( فهــم صدقــوا جميعــاً قــال: فمــا آيــة قالهــا اللــه لنفســه قالــت: قولــه تعالــى: )ومــا
خلقــت الجــن والأنــس إلا ليعبـــدون( قـــال: فـــأي آيـــة فيهـــا قـــول الملائكـــة قالـــت: قولـــه تعالـــى: )ونحـــن
نسبــح بحمــدك ونقــدس لــك( قــال: فأخبرينــي عــن أعــوذ باللـــه مـــن الشيطـــان الرجيـــم ومـــا جـــاء فيهـــا
قالـــت: التعـــوذ واجـــب أمـــر اللـــه بـــه عنـــد القـــراءة والدليـــل عليـــه قولـــه تعالـــى: )فاستعــــذ باللــــه مــــن
الشيطان الرجيم(.
قــال: أخبرينــي مــا لفــظ الاستعــاذة ومــا الخلـــاف فيهـــا قالـــت: منهـــم مـــن يستعيـــذ بقولـــه: أعـــوذ باللـــه
السميـع العليـم مـن الشيطـان الرجيــم ومنهــم مــن يقــول: أعــوذ باللــه القــوي والأحســن مــا نطــق بــه القــرآن
العظيــم ووردت بــه السنــة وكـــان صلـــى اللـــه عليـــه وسلـــم إذا استفتـــح القـــرآن قـــال: أعـــوذ باللـــه مـــن
الشيطــان الرجيــم. وروي عــن نافــع عــن أبيــه قــال: كــان رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلــم إذا قـــام
يصلـي فـي الليـل قـال: اللـه أكبـر كبيـراً والحمـد للــه كثيــراً وسبحــان اللــه بكــرة وأصيــلاً ثــم يقــول: أعــوذ
بالله من الشيطان الرجيم ومن همزات الشياطين ونزعاتهم.
وروي عـن ابـن عبـاس رضـي اللـه قـال: أول مــا نــزل جبريــل علــى النبــي صلــى اللــه عليــه وسلــم علمــه
===
الإستعـاذة وقـال لـه: قـل يـا محمـد أعـوذ باللــه السميــع العليــم ثــم قــل بســم اللــه الرحمــن الرحيــم ثــم اقــرأ
باســـم ربـــك الـــذي خلـــق خلـــق الإنســـان مـــن علـــق. فلمـــا سمـــع المقـــرئ كلامهـــا تعجــــب مــــن لفظهــــا
وفصاحتها ثم قال لهـا: يـا جاريـة مـا تقوليـن فـي قولـه تعالـى: بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم هـل هـي آيـة مـن
آيــات القــرآن قالــت: نعــم آيــة مــن القــرآن فــي النمــل وآيــة بيــن كــل سورتيــن والاختلــاف فــي ذلـــك بيـــن
العلماء كثير قال: أحسنت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الأربعين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيــد أن الجاريــة لمــا أجابــت المقــرئ وقالــت: إن بســم اللــه الرحمــن الرحيــم
فيها إختلاف كثير بين العلمـاء قـال: أحسنـت فأخبرينـي لـم لا تكتـب بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم فـي أول
سـورة بـراءة قالـت: لمـا نزلـت سـورة بـراءة بنقـض العهــد الــذي كــان بينــه صلــى اللــه عليــه وسلــم وبيــن
المشتركيـن وجـه لهـم النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم علـي بـن أبـي طالـب كـرم اللـه وجهـه فــي يــوم موســم
بسـورة بـراءة فقرأهـا عليهـم ولـم يقـرأ بسـم اللـه الرحمــن الرحيــم. قــال: فاخبرينــي عــن فضــل بســم اللــه
الرحمـن الرحيـم وبركتهـا قالـت: روي عـن النبــي صلــى اللــه عليــه وسلــم أنــه قــال: مــا قــرأت بســم اللــه
الرحمـن الرحيــم علــى مريــض إلا عوفــي مــن مرضــه. وقيــل: لمــا خلــق اللــه العــرش اضطــرب اضطرابــاً
===
عظيمــاً فكتـــب عليـــه بســـم اللـــه الرحمـــن الرحيـــم فسكـــن اضطرابـــه. ولمـــا نزلـــت بســـم اللـــه الرحمـــن
الرحيــم علــى رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلــم قــال: أمنــت مــن ثلاثــة: الخســـف والمســـح والغـــرق
وفضلهـا عظيــم وبركتهــا كثيــرة يطــول شرحهــا وقــد روي عــن رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلــم أنــه
قــال: يؤتــى برجــل يــوم القيامــة فيحاســب فــلا يلقــى لــه حسنــة فيؤمــر بــه إلــى النــار فيقــول: إلهــي مـــا
أنصفتنـي فيقـول اللـه عـز وجـل: ولـم ذلــك فيقــول: يــا رب لأنــك سميــت نفســك الرحمــن الرحيــم وتريــد
أن تعذبنـي بالنـار فقـال اللـه جـل جلالـه: أنــا سميــت نفســي الرحمــن الرحيــم أمضــوا بعبــدي إلــى الجنــة
برحمتي وأنا أرحم الراحمين.
قــال: أحسنــت فاخبرينــي عــن أول بــدء بســم اللــه الرحمــن الرحيــم قالــت: لمــا أنــزل اللــه تعالـــى القـــرآن
كتبــوا باسمــك اللهــم فلمــا أنــزل اللــه تعالــى قــل ادعــوا اللــه وادعــوا الرحمــن أيـــا مـــا ندعـــوا فلـــه الأسمـــاء
الحسنــى كتبــوا بســم اللــه الرحمــن الرحيــم فلمــا أنــزل وإلهكــم إلــه واحــد لا إلــه إلا هــو الرحمـــن الرحيـــم
كتبوا بسم الله الرحمن الرحيم.
فلمــا سمــع المقــرئ كلامهــا أطــرق رأســه وقــال فــي نفســه: إن هــذا لعجـــب عجيـــب وكيـــف تكلمـــت
هـذه الجاريـة فـي بـدء بسـم اللـه الرحمـن الرحيــم واللــه لا بــد مــن أن أتحيــل عليهــا لعلــي أغلبهــا ثــم قــال
لهــا: يــا جاريــة هــل أنــزل اللــه القــرآن جملــة واحــدة أو أنزلــه متفرقــاً قالــت: نــزل بــه جبريــل الأميــن عليــه
===
السلـام مـن عنـد رب العالميــن علــى نبيــه محمــد سيــد المرسليــن وخاتــم النبييــن بالأمــر والنهــي والوعــد
والوعيـد والأخبـار والأمثــال فــي عشريــن سنــة آيــات متفرقــات علــى حســب الوقائــع. قــال: أحسنــت
فأخبرينـي عـن أول سـورة نزلـت علـى رسـول اللـه صلـى اللـه عليــه وسلــم قالــت: فــي قــول ابــن عبــاس
سـورة العلـق وفـي قـول ابـن جابـر بـن عبـد اللـه سـورة المدثـر ثـم أنزلـت السـور والآيـات بعــد ذلــك قــال:
فأخبرينــي عــن آخــر آيــة نزلــت عليــه قالــت: هــي آيــة الربــا وقيــل: إذا جــاء نصــر اللــه والفتــح. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والأربعين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الجاريـة لـم أجابـت المقـرئ عـن آخـر آيـة نزلـت فـي القــرآن قــال لهــا:
أحسنـت فأخبرينـي عـن عـدد الصحابــة الذيــن جمعــوا القــرآن علــى عهــد رســول اللــه صلــى اللــه عليــه
وسلـم قالـت: هـم أربعـة: أبـي كعـب وزيـر بـن ثابـت وأبـو عبيـدة عامــر بــن الجــراح وعثمــان بــن عفــان
رضـي اللــه عنهــم أجمعيــن قــال: أحسنــت فأخبرينــي عــن القــراء الذيــن تؤخــذ عنهــم القــراءات قالــت:
هم أربعة: عبد الله بن مسعـود وأبـي كعـب ومعـاذ بـن جبـل وسالـم بـن عبـد اللـه قـال: فمـا تقوليـن فـي
قولـــه تعالـــى: )ومـــا ذبـــح علـــى النصـــب( قالـــت: هـــي الأصنـــام التـــي تنصـــب وتعبـــد مـــن دون اللـــه
===
قـال: فمـا تقوليـن فـي قولـه تعالـى: )تعلـم مـا فـي نفسـي ولا أعلـم مـا فـي نفسـك( قالـت: تعلـم حقيقتـي
ومــا عنــدي ولا أعلــم مــا عنــدك والدليــل علــى هـــذا قولـــه تعالـــى: )إنـــك أنـــت علـــام الغيـــوب( وقيـــل
تعلـم عينـي ولا أعلـم عينـك قـال: فمـا تقوليـن فـي قولـه تعالــى: )يــا أيهــا الذيــن آمنــوا لا تحرمــوا طيبــات
مــا أحــل اللــه لكــم( قالــت: حدثنــي الشيــخ رحمــه اللــه تعالــى عــن الضحـــاك أنـــه قـــال: هـــم قـــوم مـــن
المسلميـن قالـوا: أنقطـع مذاكيرنـا ونلبـس المســوح فنزلــت هــذه الآيــة وقــال قتــادة: أنهــا نزلــت فــي جماعــة
مـن أصحــاب رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلــم وهــم: علــي بــن أبــي طالــب وعثمــان بــن مصعــب
وغيرهمـا وقالـوا: نخصـي أنفسنـا ونلبـس الشعـر ونترهـب فنزلـت هـذه الآيــة قــال: فمــا تقوليــن فــي قولــه
تعالى: )واتخـذ اللـه إبراهيـم خليـلاً( قالـت: الخليـل المحتـاج الفقيـر وفـي قـول آخـر هـو المحـب المنقطـع إلـى
اللـه تعالـى الـذي ليـس لانقطاعـه اختلــال فلمــا رآهــا المقــرئ تمــر فــي كلامهــا مــر السحــاب ولــم تتوقــف
في الجواب قـام علـى قدميـه وقـال: أشهـد اللـه يـا أميـر المؤمنيـن أن هـذه الجاريـة أعلـم منـي فـي القـراءات
وغيرها.
فعنــد ذلــك قالــت الجاريــة: أنــا أسألــك مسألــة واحـــدة فـــإن أتيـــت بجوابهـــا فـــذاك وإلا نزعـــت ثيابـــك
قال أمير المؤمنين: سليـه فقالـت: مـا تقـول فـي آيـة فيهـا ثلاثـة وعشـرون كافـاً وآيـة فيهـا ستـة عشـر ميمـاً
وآيــة فيهــا مائــة وأربعــون عينـــاً وحـــزب ليـــس فيـــه جلالـــة فعجـــز المقـــرئ عـــن الجـــواب فقالـــت: انـــزع
===
ثيابك فنزع ثيابه ثم قالت: يـا أميـر المؤمنيـن إن الآيـة التـي فيهـا ستـة عشـر ميمـاً فـي سـورة هـود وهـي
قولـه تعالـى: )قيـل يـا نـوح اهبـط بسلـام منـا وبركــات اللــه عليــك( وإن الآيــة التــي فيهــا ثلاثــة وعشــرون
كافـاً فـي سـورة البقـرة وهــي آيــة الديــن وإن الآيــة التــي فيهــا مائــة وأربعــون عينــاً فــي ســورة الأعــراف
وهــي قولــه تعالــى: )واختــار موســى قومــه سبعيــن رجــلاً لميقاتنتــا لكــل رجـــل عينـــان( وإن الحـــزب
الـذي فيــه جلالــه هــو ســورة اقتربــت الساعــة وانشــق القمــر والرحمــن والواقعــة فعنــد ذلــك نــزع المقــرئ
ثيابه التي عليه وانصرف خجلاً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والأربعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة لمـــا غلبـــت المقـــرئ ونـــزع ثيابـــه وانصـــرف خجـــلاً تقـــدم
إليهــا الطبيــب الماهــر وقــال: فرغنــا مــن علــم الأديــان فتيقظـــي لعلـــم الأبـــدان وأخبرينـــي عـــن الإنســـان
وكيـف خلقـه وكـم فـي جسـده مـن عـرق وكـم مــن عظــم وكــم مــن فقــارة وأيــن أول العــروق ولمــي سمــي
آدم آدم قالــــت: سمــــي آدم لآدمتــــه أي سمــــرة لونــــه وقيــــل: لأنــــه خلــــق مــــن أديــــم الـــــأرض أي ظاهـــــر
وجههــا صــدره مــن تربــة الكعبــة ورأســه مــن تربــة المشــرق ورجلـــاه مـــن تربـــة المغـــرب وخلـــق اللـــه لـــه
سبعـة أبـواب فـي رأسـه وهـي: العينـان والأذنـان والمنخـران والفـم وجعـل لـه منفذيـن قبلـه ودبـره فجعـل
===
العينيــن حاســة النظــر والأذنيــن حاســة السمــع والمنخريــن حاســة الشـــم والفـــم حاســـة الـــذوق وجعـــل
اللسـان ينطـق بمـا ف ضميـر الإنسـان وخلـق آدم مكبـاً مـن أربعــة عناصــر وهــي: المــاء والتــراب والنــار
والهــواء فكانــت الصفــراء طبــع النــار وهـــي حـــارة يابســـة والســـوداء طبـــع التـــراب وهـــو بـــارد يابـــس
والبلغـم طبـع المـاء وهـو بـارد رطـب والـدم طبـع الهـواء وهـو حــار رطــب وخلــق فــي الإنســان ثلثمائــة
وستيــن عرقــاً ومائتيــن وأربعــون عظمــاً وثلاثــة أرواح حيوانــي ونفسانــي وطبيعـــي وجعـــل لكـــل منهـــا
حكمــاً وخلــق لــه قلبــاً وطحــالاً ورئتــان وستــة أمعــاء وكبـــداً وكليتيـــن واليتيـــن ومخـــاً وعظمـــاً وجلـــداً
وخمـس حـواس سامعـة وباصـرة وشامـة وفائقـة ولامسـة وجعـل القلــب فــي الجانــب الأيســر مــن الصــدر
وجعـل المعـدة أمـام الرئـة مروحـة للقلــب وجعــل الكبــد فــي الجانــب الأيمــن محاذيــة للقلــب وخلــق مــا دون
ذلــك مــن الحجــاب والمعــاء وركــب ترائــب الصــدر وشبكهــا بالأضلــاع قــال: أحسنــت فأخبرينـــي كـــم
فــي رأس ابــن آدم مــن بطــن قالـــت: ثلاثـــة بطـــون وهـــي تشتمـــل علـــى خمـــس قـــوى تسمـــى الحـــواس
الباطنيـة وهـي الحـس المشتـرك والخيــال والمتصرفــة والواهمــة والحافظــة قــال: أحسنــت فأخبرينــي عــن
هيكل العظام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد الأربعمائة
===
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الجاريـــة لمـــا قـــال لهـــا الطبيـــب: أخبرينـــي عـــن هيكـــل العظــــام
قالـت: هـو مؤلـف مـن مائتيـن وأربعــون عظمــة وينقســم إلــى ثلاثــة أقســام: رأس وجــذع وأطــراف أمــا
الـــرأس فتنقســـم إلـــى جمجمـــة ووجـــه فالجمجمـــة مركبـــة مـــن ثمانيـــة عظـــام ويضــــاف إليهــــا عظيمــــات
السمـع الأربـع والوجــه ينقســم إلــى فــك علــوي وفــك سفلــي فالعلــوي يشتمــل علــى أحــد عشــر عظمــاً
والسفلــي عظــم واحــد ويضــاف إليــه الأسنــان وهــي اثنتــان وثلاثــون سنـــاً وكذلـــك العظـــم اللامـــي.
وأمــا الجــذع فينقســم إلــى سلسلـــة فقاريـــة وصـــدر وحـــوض فالسلسلـــة مركبـــة مـــن أربعـــة وعشـــرون
عظمـاً تسمـى الفقـار والصـدر مركـب مـن القفــص والأضلــاع التــي هــي أربــع وعشــرون ضلعــاً فــي كــل
جانب اثنتا عشرة والحوض مركب من العظمين الحرقفيين والعجز والعصعص.
وأمـا الأطـراف فتنقسـم إلـى طرفيـن علوييـن وطرفيــن سفلييــن فالعلويــان ينقســم كــل منهمــا أولاً منكــب
مركـب مـن الكتـف والترقـوة وثانيـاً إلـى عضـد وهـو عظـم واحـد وثالثـاً إلـى ساعـد مركـب مــن عظميــن
همـا: الكعبـرة والزنـد ورابعـاً إلـى كتـف ينقسـم إلـى رسـخ ومشــط وأصابــع فالرســخ مركــب مــن ثمانيــة
عظــام مصفوفــة صفيــن كــل منهمــا يشتمـــل علـــى أربعـــة عظـــام والمشـــط يشتمـــل علـــى خمســـة عظـــام
والأصابــع عدتهــا خمــس كــل منهــا مركــب مــن ثلاثــة عظــام تسمــى السلاميــات إلا الإبهــام فإنهــا مركبـــة
مـن اثنيـن فقـط والطرفـان السفليـان تنقسـم كـل منهمـا أولاً إلـى فخـذ هـو عظـم واحـد وثانيـاً إلــى ســاق
===
مركــب مـــن ثلاثـــة عظـــام: القصبـــة والشظيـــة والرضفـــة وثالثـــاُ إلـــى قـــدم ينقســـم كالكـــف إلـــى رســـغ
ومشـط وأصابــع. فالرســغ مركــب مــن سبعــة عظــام مصفوفــة صفيــن الــأول فيــه عظمــان والثانــي فيــه
خمســـة والمشـــط مركـــب مـــن خمســـة عظـــام والأصابــــع وعدتهــــا خمــــس كــــل منهــــا مركبــــة مــــن ثلــــاث
سلاميــات إلا الإبهــام فمــن سلامييــن فقــط. قــال: أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن أصـــل العـــروق. قالـــت:
أصــل العــروق الوتيــن ومنــه تتشعــب العــروق وهــي كثيــرة لا يعلــم عددهــا إلا الــذي خلقهـــا وقيـــل إنهـــا
ثلثمائـة وستـون عرقـاً كمـا سبـق وقــد جعــل اللــه اللســان ترجمانــاً والعينيــن سراجــاً والمنخريــن منشقيــن
واليديـن جناحيــن ثــم إن الكبــد فيــه الرحمــة والطحــال فيــه الضحــك والكليتيــن فيهمــا المكــر والخديعــة
والمعـدة خزانــة والقلــب عمــاد الجســد فــإذا أصلــح القلــب صلــح الجســد كلــه وإذا فســد فســد الجســد
كلــه قــال: أخبرينــي عــن الدلالــات والعلامــات الظاهــرة التـــي يستـــدل بهـــا علـــى المـــرض فـــي الأعضـــاء
الظاهــرة والباطنــة قالــت: نعــم إذا كــان الطبيـــب ذا فهـــم نظـــر فـــي أحـــوال البـــدن واستـــدل واستـــدل
بجـس اليديـن علـى الصلابــة والحــرارة واليبوســة والبــرودة والرطوبــة وقــد توجــد فــي المحســوس دلالــات
علــى الأمــراض الباطنــة كصفــرة العينيــن فإنهــا تــدل علــى البرقــان وتحقـــق الظهـــر فإنـــه يـــدل الرئـــة قـــال:
أحسنت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الجاريـــة لمـــا وصفــــت للطبيــــب العلامــــات الظاهــــرة قــــال لهــــا:
أحسنــت فمــا العلامـــات الباطنـــة قالـــت: إن الوقـــوف علـــى الأمـــراض بالعلامـــات الباطنـــة يؤخـــذ مـــن
ستــة قوانيــن الــأول مــن الأفعــال والثانــي ممــا يستغفــر مــن البــدن والثالــث مــن الوجــع والرابــع مــن الموضـــع
والخامــس مـــن الـــورم والســـادس مـــن الأعـــراض. قـــال: أخبرينـــي بـــم يصـــل الـــأذى مـــن الـــرأس قالـــت:
بإدخــال الطعــام علــى العــام قبــل هضــم الــأول والشبــع علــى الشبــع فهـــو الـــذي أفنـــى الأمـــم فمـــن أراد
البقــاء فليباكــر بالغــداء ولا يتمـــس العشـــاء وليقلـــل مـــن مجامعـــة النســـاء وليخفـــف الـــرداء وأن لا يكثـــر
الفصـــد ولا الحجامـــة وأن يجعـــل بطنـــه ثلـــاث أثلـــاث ثلـــث للطعــــام وثلــــث للمــــاء وثلــــث للتنفــــس لــــأن
مصـران بنـي آدم ثمانيــة عشــر شبــراً يجــب أن يجعــل ستــة للطعــام وستــة للشــراب وستــة للتنفــس وإذا
مشى برفق كان أوفق له وأجمل لبدنه وأكمل لقول تعالى: )ولا تمش على الأرض مرحاً(.
قـــال: أحسنـــت فأخبرينــــي مــــا علامــــة الصفــــراء ومــــاذا يخــــاف منهــــا قالــــت: تعــــرف بصفــــرة اللــــون
ومــــرارة الفــــم والجفــــاف وضعــــف الشهــــوة وسرعــــة النبــــض ويخــــاف صاحبهــــا مــــن الحمـــــى المحرقـــــة
والبرصــام والحمـــرة واليرقـــان والـــورم وقـــروح الأمعـــاء وكثـــرة العطـــش فهـــذه علامـــات الصفـــراء. قـــال:
أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن علامـــات الســـوداء ومـــاذا يخـــاف علـــى صاحبهــــا إذا غلبــــت علــــى البــــدن
قالـت: إنهــا تتولــد مــن الشهــوة الكاذبــة وكثــرة الوسوســة والهــم والغــم فينبغــي حينئــذٍ أن تستفــرغ وإلا
===
تولـد منهـا الماليخوليـا والجـذام والسرطـان وأوجـاع الطحـال وقــروح الأمعــاء. قــال: أحسنــت فأخبرينــي
إلـــى كـــم جـــزء ينقســـم الطـــب قالـــت: ينقســـم إلـــى جزءيـــن: أحدهمـــا علـــم تدبيـــر الأبـــدان المريضــــة
والأخـر كيفيـة ردهـا إلـى حـال صحتهـا. قـال: فأخبرينـي أي وقــت يمــون شــرب الأدويــة أنفــع فيــه منــه
فـي غيـره قالـت: إذا جـرى المـاء فـي العـود وانعقـد الحـب فـي العنقـود وطلـع السعــد سعــود فقــد دخــل
وقــت نفــع شــرب الــدواء وطــرد الــداء فقــال: أخبرينــي عـــن وقـــت إذا شـــرب فيـــه الإنســـان مـــن إنـــاء
جديـد يكـون شرابـه أهنـأ وأمـرأ منـه فــي غيــره وتصعــد لــه رائحــة طيبــة ذكيــة قالــت: إذا صبــر بعــد
أكـل الطعـام ساعـة. قـال: فأخبرينـي عـن طعـام لا تتسبــب عنــه أسقــام قالــت: هــو الــذي لا يطعــم إلا
بعـد الجـوع وإذا طعـم لا تمتلـئ منــه الضلــوع لقــول جالينــوس الحكيــم: مــن أراد إدخــال الطعــام فليبطــئ
ثـم لا يخطـئ ولنختـم بقولـه عليـه الصلـاة والسلــام: المعــدة بيــت الــداء والحميــة رأس الــدواء وأصــل كــل
داء البردة يعني التخمة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريـــة لمـــا قالـــت للطبيـــب: المعـــدة بيـــت الـــداء والحميـــة رأس
الــدواء الحديــث قــال لهــا: فمــا تقوليــن فـــي الحمـــام قالـــت: لا يدخلـــه شبعـــان وقـــد قـــال رســـول اللـــه
===
صلـــى اللـــه عليـــه وسلـــم: نعـــم البيـــت الحمـــام ينظــــف الجســــد ويذكــــر النــــار قــــال: فــــأي الحمامــــات
أحســن قالــت: مــا عــذب مـــاؤه واتســـع فضـــاؤه وطـــاب هـــواؤه بحيـــث تكـــون أهويتـــه أربعـــة خريفـــي
وصيفــي وشتــوي وربيعــي: قــال: فأخبرينــي أي الطعــام أفضــل قالــت: مــا صنعــت النســاء وقــل فيــه
العنــاء وأكلتــه بالهنــاء وأفضــل الطعــام الثريــد لقولــه عليــه الصلـــاة والسلـــام: فضـــل الثريـــد علـــى الطعـــام
كفضــــل عائشــــة علــــى سائــــر النســــاء قــــال: فــــأي الــــأدم أفضــــل قالــــت: اللحــــم لقولــــه عليــــه الصلـــــاة
والسلـــام: أفضـــل الـــأدم اللحـــم لأنـــه لـــذة للدنيـــا والآخـــرة قـــال فأخبرينـــي فــــأي اللحــــم أفضــــل قالــــت:
الضـان ويجتنـب القديـد لأنـه لا فائــدة فيــه قــال: أخبرينــي عــن الفاكهــة قالــت: كلهــا فــي إقبالهــا واتركهــا
إذا انقضــى زمانهـــا قـــال: فمـــا تقوليـــن فـــي شـــرب المـــاء قالـــت: لا تشربـــه شربـــاً ولا تعبـــه عبـــاً فإنـــه
يؤذيــك صداعــه ويشــوش عليــك مــن الــأذى أنواعــه ولا تشربــه عقــب خروجــك مـــن الحمـــام ولا عقـــب
الجمــاع ولا عقــب الطعــام إلا بعــد مضــي خمــس عشــر درجــة للشـــاب وللشيـــخ بعـــد أربعيـــن درجـــة
ولا عقـب يقظتـك مـن المنــام قــال: أحسنــت فاخبرينــي عــن شــرب الخمــر قالــت: أفــلا يكفيــك زاجــراً
مـا جـاء فـي كتـاب اللـه تعالـى حيــث قــال: )إنمــا الخمــر والميســر والأنصــاب والأزلــام رجــس مــن عمــل
الشيطـان فاجتنبـوه لعلكـم تفلحـون(. وقـال تعالــى: )يسألونــك عــن الخمــر والميســر والأنصــاب والأزلــام
رجــس مــن عمــل الشيطــان فاجتنبــوه لعلكــم تفلحــون(. وقــال تعالــى: )يسألونــك عــن الخمــر والميســـر
===
قــل فيهمــا إثــم كبيــر ومنافــع للنــاس وإثمهمـــا أكبـــر مـــن نفعهمـــا(. وأمـــا المنافـــع التـــي فيهـــا فإنهـــا تفتـــت
حصـى الكلـى وتقـوي الأمعـاء وتنفــي الهــم وتحــرك الكــرم وتحفــظ الصحــة وتعيــن علــى الهضــم وتصــح
البـــدن وتخـــرج الأمـــراض مـــن المفاصـــل وتنقـــي الجســـم مـــن الأخلـــاط الفاســـدة وتولـــد الطـــرب والفـــرح
وتقــوي الغريــزة وتشــد المثانــة وتقــوي الكبــد وتفتــح الســدد وتحمــر الوجــه وتنقــي الفضلــات عـــن الـــرأس
والدمــاغ وتبطــئ بالمشيــب ولــولا اللــه عــز وجــل حرمهــا لــم يكــن علــى وجــه الــأرض مــا يقــوم مقامهــا.
وأمـا الميسـر فهـو القمـار قـال: فــأي شــيء فــي الخمــر أحســن قالــت: مــا كــان بعــد ثمانيــن يومــاً أو أكثــر
وقـد اعتصـر مـن عنـب أبيـض ولـم يشبـه مـاء ولا شـيء علـى وجـه الـأرض مثلهـا قـال: فمـا تقوليـن فــي
الحجامـــة قالـــت: ذلـــك لمـــن كـــان ممتلئـــاً مـــن الـــدم وليـــس فيـــه نقصـــان فـــي دمــــه فمــــن أراد الحجامــــة
فليحتجم فـي نقـص الهلـال فـي يـوم بـلا غيـم ولا ريـح ولا مطـر ويكـون فـي السابـع عشـر مـن الشهـر وإن
وافــق يــوم الثلاثــاء كــان أبلــغ فــي النفــع ولا شــيء أنفــع مــن الحجامــة للدمـــاغ وتصفيـــة الذهـــن. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والأربعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة لمــا وصفــت منافــع الحجامــة قــال لهــا الحكيــم: أخبرينــي
===
عــن أحســن الحجامــة قالــت: أحسنهــا علــى الريــق فإنهــا تزيــد فــي العقــل وفـــي الحفـــظ لمـــا روي عنـــه
عليـه الصلـاة والسلـام: أنـه كـان مـا اشتكـى إليــه أحــد وجعــاً فــي رأســه أو رجليــه إلا قــال لــه احتجــم
وإذا احتجــم لا يأكــل علــى الريــق مالحـــاً فإنـــه يـــورث الجـــرب ولا يأكـــل علـــى أثـــره حامضـــاً قـــال: فـــأي
وقــت تكــره فيــه الحجامــة قالــت: يــوم السبــت والأربعــاء ومــن احتجــم فيهــا فـــلا يلومـــن إلا نفســـه ولا
يحتجـم فـي شـدة الحـر ولا فـي شــدة البــرد وخيــار أيامــه أيــام الربيــع قــال: أخبرينــي عــن المجامعــة فلمــا
سمعــت ذلــك أطرقــت وطأطــأت رأسهــا واستحيــت مــن إجلــالاً لأميــر المؤمنيـــن ثـــم قالـــت: واللـــه يـــا
أميــر المؤمنيــن مــا عجــزت بــل خجلــت وإن جوابــه علــى طــرف لسانــي. قــال لهــا: يــا جاريــة تكلمــي
قالـــت لـــه: إن النكـــاح فيـــه فضائـــل مريـــدة وأمـــور حميـــدة منهـــا أنـــه يخفـــف البـــدن الممتلـــئ بالســــوداء
ويسكـن حـرارة العشــق ويجلــب المحبــة ويبســط القلــب ويقطــع الوحشــة والإكثــار منــه فــي أيــام الصيــف
والخريــف أشــد ضــرراً فــي أيــام الشتــاء والربيــع قـــال: فأخبرينـــي عـــن منافعـــه قالـــت: إنـــه يزيـــل الهـــم
والوســـواس ويسكـــن العشـــق والغضـــب وينفــــع القــــروح هــــذا إذا كــــان الغالــــب علــــى الطبــــع والبــــرودة
واليبوســـة وإلا فالإكثـــار منـــه يضعـــف النظـــر ويتولـــد منـــه وجـــع الساقيـــن والـــرأس والظهـــر وإيـــاك مــــن
مجامعــة العجـــوز فإنهـــا مـــن القواتـــل. قـــال الإمـــام علـــي كـــرم اللـــه وجهـــه: أربـــع يقتلـــن ويهرمـــن البـــدن:
دخـــول الحمـــام علـــى الشبـــع وأكـــل المالـــح والمجامعـــة علـــى الامتــــلاء ومجامعــــة المريضــــة فإنهــــا تضعــــف
===
قوتــك وتسقــم بدنــك والعجــوز ســم قاتــل قــال: فمــا أطيــب الجمـــاع قالـــت: إذا كانـــت المـــرأة صغيـــرة
السن مليحة القد حسنة الخد كريمة الجد بارزة النهد فهي تزيد قوة في صحة بدنك.
قــال: فأخبرينـــي عـــن أي وقـــت يطيـــب فيـــه الجمـــاع قالـــت: إذا كـــان ليـــلاً فبعـــد هضـــم الطعـــام وإذا
كــان نهــاراً فبعــد الغــداء قــال: فأخبرينــي عــن أفضــل الفواكــه قالــت: الرمــان والأتـــرج قـــال: فأخبرينـــي
عـــن أفضـــل البقـــول قالـــت: الهندبـــاء وقــــال: فمــــا أفضــــل الرياحيــــن قالــــت: البنفســــج والــــورد قــــال:
فأخبرينـي عـن قـرار منـي الرجــل قالــت: إن فــي الرجــل عرقــاً يسقــي سائــر العــروق فيجتمــع المــاء مــن
ثلثمائـة وستيـن عرقـاً ثـم يدخـل فـي البيضـة اليسـرى دمـاً أحمـر فينبطـح مـن حــرارة مــراج بنــي آدم مــاءً
غليظـاً أبيـض رائحتـه مثـل رائحـة الطلـع قـال: أحسنـت فأخبرينـي عـن طيـر يمنــي ويحيــض قالــت: هــو
الخفـاش أي الوطـواط قــال: فأخبرينــي عــن شــيء إذا حبــس عــاش وإذا شــم الهــواء مــات قالــت: هــو
السمـــك قـــال: فأخبرينــــي عــــن شجــــاع يبيــــض قالــــت: الثعبــــان فعجــــز الطبيــــب مــــن كثــــرة أسئلتــــه
وسكـت فقالـت الجاريـة: يـا أميــر المؤمنيــن إنــه سألنــي حتــى عيــي وأنــا أسألــه مسألــة واحــدة فــإن لــم
يجب أخذت ثيابه حلالاً لي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والأربعين بعد الأربعمائة
===
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن لمـا قالـت لأميـر المؤمنيـن إنـه سألنـي حتـى عيـي وأنــا أسألــه مسألــة
واحـدة فـإن لـم يجـب أخـذت ثيابـه حلـالاً لـي قـال لهـا الخليفـة: سليـه قالـت: مـا تقـول فــي شــيء يشبــه
الــأرض استــدارة ويــوارى عــن العيــون فقــاره قليــل القيمــة والقــدر ضيــق الصــدر والنحــر مقيـــد وهـــو
غيـر آبـق موثـق وهـو غيـر سـارق مطعـون لا فـي القتـال مجـرو ولا فـي النضـال يأكـل الدهــر مــرة ويشــرب
المـاء مـن كثـرة وتـاره يضـرب مـن غيـر جنايــة ويستخــدم لا مــن كفايــة مجمــوع بعــد تفرقــه متواضــع لا مــن
تملقـه حامــل لا لولــد فــي بطنــه مائــل لا يسنــد ركنــه فيتطهــر ويصلــي فيتغيــر يجامــع بــلا ذكــر ويصــارع
بــلا حــذر يريــح ويستريــح ويعــد فــلا يصيــح أكــرم مــن النديــم وأبعــد مـــن الحميـــم يفـــارق زوجتـــه ليـــلاً
ويعانقها نهاراً مسكنه الأطراف في مساكن الأشراف.
فسكــت الطبيــب ولــم يجــب بشــيء وتحيــر فــي أمــره وتغيــر لونــه واطـــرق برأســـه ساعـــة ولـــم يتكلـــم
فقالـــت: أيهـــا الطبيـــب تكلـــم وإلا فانـــزع ثيابـــك فقـــام وقـــال: يـــا أميـــر المؤمنيـــن أشهـــد علـــى أن هـــذه
الجاريـة أعلـم منـي بالطـب وغيـره ولا لـي طاقـة ونـزع مـا عليـه مـن ثيـاب وخـرج هاربـاً فعنـد ذلــك قــال
هلا أمير المؤمنين: فسري لنا ما قلتيه فقالت: يا أمير المؤمنين هذا الزرار والعروة.
وأمــا مــا كــان مــن أمرهــا مــع المنجــم فإنهــا قالــت: مــن كــان منكــم منجمــاً فليقــم فنهــض إليهـــا وجلـــس
بيــن يديهــا فلمــا رأتـــه ضحكـــت وقالـــت: أنـــت المنجـــم الحاســـب الكاتـــب قـــال: نعـــم قالـــت: اســـأل
===
عمــا شئــت وباللــه التوفيــق قــال: أخبرينــي عــن الشمـــس وطلوهـــا وأفولهـــا قالـــت: اعلـــم أن الشمـــس
تطلــع مــن عيــون وتأفــل فــي عيــون فعيــون الطلــوع أجـــزاء المتســـارق وعيـــون الأفـــول أجـــزاء المغـــارب
وكلتاهمـا مائـة وثمانـون جــزءاً. قــال اللــه تعالــى: )فــلا أقســم بــرب المشــارق والمغــارب( وقــال تعالــى:
)هـو الـذي جعـل الشمـس ضيــاءً والقمــر نــوراً وقــدره منــازل لتعلمــوا عــدد السنيــن والحســاب( فالقمــر
سلطــان الليــل والشمــس سلطــان النهـــار وهمـــا مستبقـــان متداركـــان. قـــال اللـــه تعالـــى: )لا الشمـــس
ينبغــي لهــا أن تــدرك القمــر ولا الليــل سابــق النهـــار وكـــل فـــي فلـــك يسبحـــون(. قـــال: فأخبرينـــي إذا
جــاء الليــل كيــف يكــون النهـــار وإذا جـــاء النهـــار كيـــف يكـــون الليـــل قالـــت: )يولـــج الليـــل فـــي النهـــار
ويولــج النهــار فــي الليــل( قــال: أخبرينــي عــن منــازل القمــر قالــت: منــازل القمــر ثمــان وعشـــرون منزلـــة
وهـي: السرطـان والبطيـن والثريـا والدبــران والهقعــة والهنعــة والــذراع والنثــرة والطــرف والجبهــة والزبــرة
والصرفــة والعــواء والسمــك والغفــر والزبانــا والإكليــل والقلــب والشولــة والنعائـــم والبلـــدة وسعـــد الذابـــح
وسعـد بلـع وسعـد السعــود وسعــد الأخيبــة والفــرع المقــدم والفــرع المؤخــر والرشــاء وهــي مرتبــة علــى
حـروف أبجـد هـوز إلـى آخرهـا وفيهـا سـر غامــض لا يعلمــه إلا اللــه سبحانــه وتعالــى والراسخــون فــي
العلـم وأمـا قسمتهـا علــى البــروج الاثنــي عشــر فهــي أن تعطــي كــل بــرج منزليتــن وثلــث منزلــة فتجعــل
الشرطيــن والبطيــن وثلــث الثريــا للحمــل وثلثــي الثريــا مــع الديــران وثلثــي اللعــة للثــور وثلــث الهقعــة مـــع
===
الهنعــة والــذراع للجــوزاء والنتــرة والطــرف وثلــث الجبهــة للسرطــان وثلثيهمــا مـــع الزبـــرة وثلثـــي الصفـــة
للأســد وثلثهــا مــع العــواء والسمــاك للسنبلــة والغفــر والزبانــي وثلــث الإكليــل للميــزان وثلثــي الإكليــل مـــع
القلــب وثلثــي الشولــة للعقـــرب وثلثهـــا مـــع النعايـــم والبلـــدة للقـــوس وسعـــد الذبائـــح وسعـــد بلـــع وثلـــث
المقــدم للجــدي وثلثــي المقــدم مــع المؤخــر وثلثــي الرشــا للحــوت وثلــث الرشــا وسعــد السعـــود وسعـــد
الأخبية للدلو. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الجاريـــة لمـــا عـــدت المنـــازل وقسمتهـــا علــــى البــــروج قــــال لهــــا
المنجـم: أحسنــت فاخبرينــي عــن الكواكــب السيــارة وعــن طبائعهــا وعــن مكثهــا فــي البــروج والسعــد
منهــــا والنحــــس وأيــــن بيوتهــــا وشرفهــــا وسقوطهــــا قالــــت: المجلـــــس ضيـــــق ولكـــــن سأخبـــــرك. أمـــــا
الكواكـــب فسبعـــة وهـــي: الشمـــس والقمـــر وعطـــارد والزهـــرة والمريــــخ والمشتــــري وزحــــل فالشمــــس
حـارة يابســة نحيســة بالمقارنــة سعيــدة بالنظــرة تمكــث غــي كــل بــرج ثلاثيــن يومــاً والقمــر بــارد رطــب
سعيــد يمكــث فــي كــل بــرج يوميــن وثلــث يــوم وعطــارد ممتــزج سعــد مــع السعــود نحــس مــع النحـــوس
يمكـث فـي كـل بـرج سبعـة عشـر يومـاً ونصـف اليـوم والزهــرة معتدلــة سعيــدة تمكــث فــي كــل بــرج مــن
===
البـروج خمسـة وعشريـن يومـاً والمريـخ نحـس يمكـث فــي كــل بــرج عشــرة أشهــر والمشتــري سعــد يمكــث
في كل برج سنة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح
وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن المشتــري سعــد يمكــث فــي كــل بــرج سنــة وزحــل بـــارد يابـــس
نحـس يمكـث فـي كـل بـرج ثلاثيـن شهـراً والشمـس بيتهـا الأسـد وشرفهـا الحمــل وهبوطهــا الدلــو والقمــر
بيتـــه السرطـــان وشرفـــه الثـــور وهبوطـــه الحمـــل ووبالـــه السرطـــان والأســــد والمشتــــري بيتــــه الحــــوت
والقـــوس وهبوطـــه العقـــرب ووبالـــه الجـــدي وزحـــل بيتـــه الجـــدي والدلـــو وشرفــــه الميــــزان والسرطــــان
وهبوطـــه الجـــدي ووبالـــه الجـــوزاء والأســـد والزهـــرة بيتهـــا الثـــور وشرفهـــا الحـــوت وهبوطهــــا الميــــزان
ووبالهـا الحمــل والعقــرب وعطــارد بيتــه الجــوزاء والسنبلــة وهبوطــه الحــوت ووبالــه الثــور والمريــخ بيتــه
الحمل والعقرب وشرفه الجدي وهبوطه السرطان ووباله الميزان.
فلمــا نظــر المنجــم إلــى حذقهــا وعلمهــا وحســن كلامهــا وفهمهــا ابتغــى لــه حيلــة يخجلهــا بهــا بيــن يــدي
أميــر المؤمنيــن فقــال لهــا: يــا جاريــة هـــل ينـــزل فـــي هـــذا الشهـــر مطـــراً فأطرقـــت ساعـــة ثـــم تفكـــرت
طويـلاً حتـى ظـن أميـر المؤمنيـن أنهـا عجــزت عــن جوابهــا فقــال لهــا المنجــم: لــم لا تتكلميــن فقالــت: لا
===
أتكلــم إلا إن أذن لــي بالكلــام أميـــر المؤمنيـــن فقـــال لهـــا أميـــر المؤمنيـــن: وكيـــف ذلـــك قالـــت: أريـــد أن
تعطينـي سيفـاً أضـرب بـه عنقـه لأنـه زنديـق فضحـك أميـر المؤمنيــن وضحــك مــن حولــه ثــم قالــت: يــا
منجـم خمسـة لا يعلمهـا إلا اللـه تعالـى وقـرأت: )إن اللـه عنـده علـم الساعـة وينــزل الغيــث ويعلــم مــا فــي
الأرحـــام ومـــا تـــدري نفـــس مـــاذا تكســـب غـــداً ومـــا تـــدري نفـــس بـــأي أرض تمــــوت إن اللــــه عليــــم
خبيــر( قــال لهــا: أحسنــت إنــي واللــه مــا أردت إلا اختبــارك فقالــت: اعلــم أن أصحــاب التقويــم لهـــم
إشــارات وعلامــات ترجــع إلــى الكواكــب بالنظــر إلــى دخــول السنــة وللنـــاس فيهـــا تجـــارب قـــال: ومـــا
هـــي قالـــت: إن لكـــل يـــوم مـــن الأيـــام كوكبـــاً يملكـــه فــــإذا كــــان أول يــــوم مــــن السنــــة يــــوم الأحــــد فهــــو
الشمــس ويــدل ذلــك واللــه أعلــم علــى الجــور مــن الملــوك والسلاطيــن والولــاة وكثــرة الوخـــم وقلـــة المطـــر
وأن تكــون النــاس فــي هــرج عظيــم وتكـــون الحبـــوب طيبـــة إلا العـــدس فإنـــه يعطـــب ويفســـد العنـــب
ويغلـو الكتـان ويرخـص القمـح مـن أول طوبـة إلـى آخـر برمهـات ويكثـر القتـال بيـن الملـوك ويكثـر الخيــر فــي
تلم السنة والله أعلم.
قــال: فأخبرينــي عــن يــوم الاثنيــن قالــت: هــو القمــر ويــدل ذلــك علــى صلــاح ولــاة الأمـــور والعمـــال وأن
تكــون السنــة كثيـــرة الأمطـــار. وتكـــون الحبـــوب طيبـــة ويفســـد بـــزر الكتـــان ويرخـــص القمـــح ويكثـــر
العنـــب ويقـــل العســـل ويرخـــص القطـــن واللـــه أعلـــم. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتــــت عــــن الكلــــام
===
وفي الليلة الخمسين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن الجاريــة لمــا فرغــت مــن بيــان يــوم الاثنيــن قــال لهــا: أخبرينــي عــن
يـــوم الثلاثـــاء قالـــت: هـــو المريـــخ ويـــدل ذلـــك علـــى مـــوت كبـــار النـــاس وكثـــرة الفنــــاء وإراقــــة الدمــــاء
والغـلاء فـي الحــب وقلــة الأمطــار وأن يكــون السمــك قليــلا ويزيــد فــي أيــام وينقــص فــي أيــام ويرخــص
العســل والعــدس ويغلــو بــذر الكتــان فــي تلــك السنــة وفيهــا يفلــح الشعيـــر دون سائـــر الحبـــوب ويكثـــر
القتال بين الملوك ويكثر الموت بالدم ويكثر موت الحمير والله أعلم.
قــال: فأخبرينــي عــن يــوم الأربعــاء قالــت هــو عطــارد ويــدل ذلــك علــى هــرج عظيــم يقــع فـــي النـــاس
وعلـــى كثـــرة العـــدو وأن تكـــون الأمطـــار معتدلـــة وأن يفســـد بعـــض الـــزرع وأن يكثــــر مــــوت الــــدواب
ومـوت الأطفـال ويكثـر القتــل فــي البحــر مــن برمــوده إلــى مســرى وترخــص بقيــة الحبــوب ويكثــر الرعــد
والبرق ويغلو العسل ويكثر طلع النخل ويكثر الكتان والقطن ويغلو الفجل والبصل والله أعلم.
قـال: أخبرينـي عـن يـوم الخميــس قالــت: هــو للمشتــري ويــدل ذلــك علــى العــدل فــي الــوزراء والصلــاح
فـــي القضــــاء والفقــــراء وأهــــل الديــــن وأن يكــــون الخيــــر كثيــــراً وتكثــــر الأمطــــار والثمــــار والأشجــــار
والحبوب ويرخص الكتان والقطن والعسل والعنب ويكثر السمك والله أعلم.
===
قـال: أخبرينـي عـن يـوم الجمعــة قالــت: هــو للزهــرة ويــدل ذلــك علــى الجــور فــي كبــار الجــن والتحــدث
بالــزور والبهتــان وأن يكثــر النـــدى ويطيـــب الخريـــف فـــي البلـــاد ويكـــون الرخـــص فـــي بلـــاد دون بلـــاد
ويكثـر الفسـاد فـي البـر والبحـر ويغلـو بـذر الكتـان ويغلـو القمـح فـي هاتـور ويرخـص فـي وامشيــر ويغلــو
العسل ويفسد العنب والبطيخ والله أعلم.
قــال: فأخبرينــي عــن يــوم السبــت قالـــت: هـــو لزحـــل ويـــدل ذلـــك علـــى إيثـــار العبيـــد والـــروم ومـــن لا
خيـر فيـه ولا فـي قربـه وأن يكـون الغـلاء والقحـط كثيـراً ويكـون الغنـم كثيـراً ويكثـر المـوت فــي بنــي آدم
والويل لأهل مصر والشام من جور السلطان وتقل البركة من الزرع وتفسد الحبوب والله أعلم.
ثــم إن المنجــم أطــرق برأســه وطأطــأ رأســه فقالــت: يــا منجــم أسألــك مسألــة واحــدة فــإن لــم تجـــب
أخـذت ثيابـك قـال لهــا: قولــي: أيــن يكــون سكــن زحــل قــال: فــي السمــاء السابعــة قالــت: فالشمــس
قـال: فـي السمـاء الرابعـة قالـت: فالزهـرة قـال: فــي السمــاء الثالثــة قالــت: فعطــارد قــال: فــي السمــاء
الثانيــة قالــت: فالقمــر قــال: فــي السمــاء الأولــى قالــت: أحسنــت وبقــي عليـــك مسألـــة واحـــدة قـــال:
اسألــي قالــت: فأخبرنــي عــن النجــوم إلــى كــم جــزء تنقســم فسكــت ولــم يجـــب قالـــت: انـــزع ثيابـــك
فنزعهـا ولمـا أخذتهـا قـال لهـا أميـر المؤمنيـن: فسـري لنـا هـذه المسألـة فقالـت: يـا أميـر المؤمنيـن هـم ثلاثــة
أجـزاء جـزء معلـق بسمــاء الدنيــا كالقناديــل وهــو ينيــر الــأرض وجــزء ترمــي بــه الشياطيــن إذا استرقــوا
===
السمــع. قــال اللــه تعالــى: ولقــد زينــا السمــاء الدنيــا بمصابيــح وجعلناهــا رجامــاً للشياطيـــن. والجـــزء
الثالـث معلـق بالهـواء وهـو ينيـر البحــار ومــا فيهــا. قــال المنجــم: بقــي لنــا مسألــة واحــدة فــإن أجابــت
أقررت لها قالت: قل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والخمسين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أنــه قــال: أخبرينــي عــن أربعــة أشيــاء متضــادة مترتبــة علـــى أربعـــة
أشيـــاء متضـــادة قالـــت: هـــي الحـــرارة والبــــرودة والرطوبــــة واليبوســــة خلــــق اللــــه مــــن الحــــرارة النــــار
وطبعهـا حـار يابـس وخلــق مــن اليبوســة التــراب وطعمــه بــارد يابــس وخلــق مــن البــرودة المــاء وطبعــه
بـارد رطـب وخلـق مـن الرطوبـة الهـواء وطبعـه حـار رطــب ثــم خلــق اثنــي عشــر برجــاً وهــي الحمــل
والثــور والجــوزاء والسرطــان والأســد والسنبلـــة والميـــزان والعقـــرب والقـــوس والجـــدي والدلـــو والحـــوت
وجعلهــا علــى أربــع طبائــع ثلاثــة ناريــة وثلاثــة ترابيــة وثلاثـــة هوائيـــة مائيـــة فالحمـــل والأســـد والقـــوس
ناريــــة والثــــور والسنبلــــة والجــــدي ترابيــــة والجــــوزاء والميــــزان والدلـــــو هوائيـــــة والسرطـــــان والعقـــــرب
والحوت مائية. فقام المنجم وقال: اشهدوا على أنها أعلم مني وانصرف مغلوباً.
ثــم قالــت: يــا أميــر المؤمنيــن أيـــن الفيلســـوف فنهـــض إليهـــا رجـــل وتقـــدم وقـــال: أخبرينـــي عـــن الدهـــر
===
وحــده وأيامــه ومــا جــاء فيــه قالــت: إن الدهــر هــو اســم واقــع علــى ساعــات الليــل والنهــار وان هــي
مقاديـر جــري الشمــس والقمــر فــي أفلاكهمــا كمــا أخبــر اللــه تعالــى حيــث قــال: )وآيــة لهــم الليــل نسلــخ
منـه النهـار فـإذا هـم مظلمـون والشمــس تجــري لمستقــر لهــا ذلــك تقديــر العزيــز العليــم(. قــال: أخبرينــي
عــن ابــن آدم كيــف يصــل إليــه الكفــر قالــت: روي عــن رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلـــم أنـــه قـــال:
الكفــر فــي ابــن آدم يجــري كمــا يجــري الــدم فــي عروقــه حيــث يســب الدنيــا والدهـــر والليلـــة والساعـــة
وقــال عليــه الصلــاة والسلــام: لا يســب أحدكـــم الدهـــر والليلـــة والساعـــة وقـــال عليـــه الصلـــاة والسلـــام:
لا يسـب أحدكـم الدهـر فـإن الدهـر هـو اللـه ولا يسـب أحدكـم الدنيـا فتقــول: لا أعــان اللــه مــن يسبنــي
ولا يسـب أحدكــم هــذه الساعــة فــإن الساعــة آتيــة لا ريــب فيهــا ولا يســب أحدكــم الــأرض فإنهــا آيــة
لقوله تعالى: )منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى(.
قــال: فأخبرينــي عــن خمســة أكلــوا وشربــوا ومــا خرجــوا مــن ظهــر ولا بطــن قالـــت: هـــو آدم وشمعـــون
وناقــة صالــح وكبــش إسماعيــل والطيــر الــذي رآه أبــا بكــر الصديــق فــي الغــار. قــال: فأخبرينـــي عـــن
خمســة فــي الجنــة لا مــن الإنــس ولا مــن الجــن ولا مــن الملائكــة قالــت: ذئــب يعقــوب وكلـــب أصحـــاب
الكهـف وحمــار العزيــز وناقــة صالــح ودلــال بغلــة النبــي صلــى اللــه عليــه وسلــم. قــال: فأخبرينــي عــن
رجـل صلـى صلـاة لا فـي الـأرض ولا فـي السمـاء قالـت: هـو سليمـان حيـن صلـى علــى بساطــه وهــو
===
علـى الريــح قــال: أخبرينــي عمــن صلــى صلــاة الصبــح فنظــر إلــى أمــة فحرمــت عليــه فلمــا كــان الظهــر
حلـت لـه فلمـا كـان العصـر حرمــت عليــه فلمــا كــان المغــرب حلــت لــه فلمــا كــان العشــاء حرمــت عليــه
فلمـا كـان الصبـح حلـت لـه قالـت: هـذا رجـل نظـر إلـى أمـة غيـره عنـد الصبــح وهــي حــرام عليــه فلمــا
كــان الظهــر اشتراهــا فحلــت لــه فلمــا كــان العصــر أعتقهــا فحرمـــت عليـــه فلمـــا كـــان المغـــرب تزوجهـــا
فحلت له فلما كان العشاء طلقها فحرمت عليه فلما كان الصبح راجعها فحلت له.
قـال: أخبرينـي عـن قبـر مشـى بصاحبـه قالـت: هـو حــوت يونــس بــن متــى حيــن ابتلعــه قــال: أخبرينــي
عــن بقعــة واحــدة طلعــت عليهــا الشمــس مــرة واحــدة ولا تطلـــع عليهـــا بعـــد إلـــى يـــوم القيامـــة قالـــت:
البحر حين ضربـه موسـى بعصـاه فانفلـق اثنـي عشـر فرقـاً علـى عـدد الأسبـاط وطلعـت عليـه الشمـس
ولم تعد له إلى يوم القيامة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والخمسين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الفيلســـوف قـــال بعــــد ذلــــك للجاريــــة أخبرينــــي عــــن أول ذيــــل
سحــب علــى وجــه الــأرض قالــت: ذيــل هاجــر حيــاء مـــن ســـارة فصـــارت سنـــة فـــي العـــرب قـــال:
أخبرينــي عــن شــيء يتنفــس بــلا روح قالــت قولــه تعالــى: )والصبــح إذا تنفـــس( قـــال: أخبرينـــي عـــن
===
حمــام طائــر اقبــل علــى شجــرة عاليــة فــوق بعضـــه فوقهـــا وبعضهـــا تحتهـــا فقالـــت: الفرقـــة التـــي فـــوق
الشجـرة إلـى التـي تحتهـا إن طلعـت واحـدة منكـن صرتـن الثلـث وإن نزلـت منــا واحــدة كنــا مثلكــن فــي
العـدد قالـت الجاريـة: كــان الحمــام اثنتــي عشــرة حمامــة فــوق منهــن فــوق الشجــرة سبــع وتحتهــا خمــس
فـإذا طلعـت واحــدة صــار الــذي فــوق قــدر الــذي تحــت مرتيــن ولــو نزلــت واحــدة صــار الــذي تحــت
مساو بالذي فوق والله أعلم فتجرد الفيلسوف من ثيابه وخرج هارباً.
وأمــا حكايتهــا مــع النظــام فــإن الجاريــة التفتــت إلــى العلمــاء الحاضريــن وقالــت: أيكــم المتكلــم فــي كــل
فــن وعلــم فقــام إليهــا النظــام وقــال لهــا: لا تحسبينــي كغيــري فقالــت لــه: الأصــح عنــدي أنــك مغلـــوب
لأنـك مـدع واللـه ينصرنـي عليـك حتـى أجـردك مـن ثيابـك فلـو أرسلـت مــن يأتيــك بشــيء تلبســه لكــان
خيــراً لــك فقــال: واللــه لأغلبنــك وأجعلنـــك حديثـــاً يتحـــدث بـــه النـــاس جيـــلاً بعـــد جيـــل فقالـــت لـــه
الجاريــة: كفــر عــن يمينــك قــال: أخبرينــي عــن خمســة أشيــاء خلقهــا اللــه قبــل خلـــق الخلـــق قالـــت لـــه:
المـــاء والتـــراب والنـــوم والظلمـــة والثمـــار قـــال: أخبرينـــي عـــن شـــيء خلقـــه اللـــه بيــــد القــــدرة قالــــت:
العـرش وشجـرة طوبـى وآدم وجنـة عـدن فهـؤلاء خلقهــم اللــه بيــد القــدرة وسائــر المخلوقــات قــال لهــم:
كونـوا فكانـوا. قـال: أخبرينـي عـن أبيـك فـي الإسلـام قالـت: محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم قــال: فمــن
أبـو محمــد قالــت: إبراهيــم خليــل اللــه قــال: فأخبرينــي مــا أولــك ومــا آخــرك قالــت: أولــي نطفــة مــذرة
===
خلقت من التراب فصرت شخصا فصيحا في السؤال وفي الجواب
وعدت إلى التراب فصرت فيه كأنـي مـا برحــت مــن التــراب
قـال: فأخبرينـي عـن شـيء أولـه عـود وآخـره روح قالـت: عصــا موســى حيــن ألقاهــا فــي الــوادي فــإذا
هـي حيـة تسعـى بـإذن اللـه تعالـى قــال: فأخبرينــي عــن قولــه تعالــى: ولــي فيهــا مــآرب أخــرى قالــت:
كـان يغرسهـا فـي الـأرض فتزهــو وتثمــر وتظلــه مــن الحــر والبــرد وتحملــه إذا عيــى وتحــرس لــه الغنــم إذا
نـام مــن السبــاع قــال: أخبرينــي عــن أنثــى مــن ذكــر وذكــر مــن أنثــى قالــت: حــواء مــن آدم وعيســى مــن
مريـم قـال: فأخبرينـي عـن أربــع نيــران نــار تأكــل ونــار تشــرب ولا تشــرب ونــار تشــرب ولا تأكــل ونــار
تأكــل ولا تشـــرب قالـــت: أمـــا النـــار التـــي تأكـــل ولا تشـــرب فهـــي نـــار الدنيـــا وأمـــا النـــار التـــي تأكـــل
وتشـرب فهـي نـار جهنـم وأمـا النـار التـي تشـرب ولا تأكـل فهــي نــار الشمــس وأمــا النــار التــي لا تأكــل
ولا تشــرب فهــي نــار القمــر قــال: أخبرينــي كــم كلمــة كلــم اللــه موســـى قالـــت: روي عـــن رســـول اللـــه
صلـى اللـه عليـه وسلـم أنـه قـال: كلـم اللـه موسـى ألـف كلمـة وخمسمائــة عشــرة كلمــة قــال أخبرينــي عــن
أربعــة عشــر كلمــة رب العالميــن قالــت: السمــوات السبــع والأرضــون السبــع لمــا قالتــا: أتينــا طائعيــن.
فلمـا قالـت لـه الجـواب قـال لهـا: أخبرينــي عــن آدم وأول خلقتــه قالــت: خلــق اللــه آدم مــن طيــن والطيــن
مــن زبــد والزبــد مــن بحــر والبحــر مــن ظلمــة والظلمــة مــن ثــور والثــور مــن حــوت والحــوت مــن صخــرة
===
والصخــرة مــن ياقوتــة والياقوتــة مــن مـــاء والمـــاء مـــن القـــدرة لقولـــه تعالـــى: إنمـــا أمـــره إذا أراد شيئـــاً أن
يقول له: كن فيكون قال: فأخبريني عن قول الشاعر:
وآكلــــــة بغيــــــر فــــــم وبطــــــن لها الأشجار والحيوانات قوت
فإن أطعمتها انتعشت وعاشت ولــــو أسقيتهـــــا مـــــاء تمـــــوت
قالت: هي النار قال: فأخبريني عن قول الشاعر:
خليلـان ممنوعـان مــن كــل لــذة يبيتـــان طـــول الليـــل يعتنقــــان
هما يحفظان الأهل من كل آفة وعنـد طلـوع الشمـس يفترقـان
قالـت: همـا مصراعـا البـاب قـال: فأخبرينـي عــن أبــواب جهنــم قالــت: سبعــة وهــي ضمــن بيتيــن مــن
الشعر:
جهنـم ولظـى ثـم الحطيـم كــذا عد السعير وكل القول في سقر
وبعـد ذلـك جحيـم ثـم هاويــة فذاك عدتهم في قـول مختصـر
قال: فأخبريني عن قول الشاعر:
وذات ذوائــــب تنجــــر طــــولا وراها في المجيء وفي الذهـاب
بعيــن لــم تـــذق للنـــوم طعمـــا ولا ذرفت لدمع ذي انسكاب
===
قالــت: هــي الإبــرة قــال: فأخبرينــي عــن الصــراط ومــا هــو ومــا طولــه ومــا عرضــه قالـــت: أمـــا طولـــه
فثلاثــة آلــاف عـــام ألـــف هبوطـــه وألـــف صعـــوده والـــف استـــواء وهـــو أحـــد مـــن السيـــف وأرق مـــن
الشعرة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيــد أن الجاريــة لمــا وصفــت لــه الصــراط قــال: أخبرينــي كــم لنبينــا محمــد
صلــى اللــه عليــه وسلــم مــن شفاعــة قالــت لــه: ثلــاث شفاعــات قــال لهــا: هــل كــان أبــو بكـــر أول مـــن
أسلــم قالــت نعــم. قــال: إن علــي أسلــم قبــل ابابكـــر قالـــت: إن علـــي أتـــى النبـــي صلـــى اللـــه عليـــه
وسلــم وهــو ابــن سبــع سنيــن فأعطــاه اللــه الهدايــة علــى صغـــر سنـــه فمـــا سجـــد لصنـــم قـــط قـــال:
فأخبرينـي أعلــي أفضــل أم العبــاس فعلمــت أن هــذه مكيــدة لهــا فــإن قالــت: علــي أفضــل مــن العبــاس
فمــا لهــا مــن عــذر عنــد أميــر المؤمنيــن فأطرقــت ساعــة وهــي تـــارة تحمـــر وتـــارة تصفـــر ثـــم قالـــت:
تسألنـي عـن اسميـن فاضليـن لكـل منهمـا فضـل فارجـع بنـا إلـى مـا كنـا فيـه فلمـا سمعهـا الخليفـة هــارون
الرشيــد استــوى قائمــاً علــى قدميــه وقــال لهــا: أحسنــت ورب الكعبــة يــا تــودد فعنــد ذلــك قــال لهـــا
إبراهيم النظام: أخبريني عن قول الشاعر:
===
ويأخذ كل الناس منها منافعـا وتؤكل بعد العصر في رمضان
قالـــت: قصـــب السكـــر قـــال: فأخبرينـــي عـــن مسائـــل كثيـــرة قالـــت: ومـــا هـــي قـــال: مـــا أحلــــى مــــن
العســل ومــا أحــد مــن السيــف ومـــا أســـرع مـــن السهـــم ومـــا لـــذة ساعـــة ومـــا ســـرور ثلاثـــة أيـــام ومـــا
أطيـب يـوم ومـا فرحــة جمعــة ومــا الحــق الــذي لا ينكــره صاحــب الباطــل ومــا سجــن القبــو ومــا فرحــة
القلــب ومــا كيــد النفــس ومــا مــوت الحيــاة ومــا الــداء الــذي لا يــداوى ومــا العــار الـــذي لا ينجلـــي ومـــا
الدابة التي لا تـأوي إلـى العمـران وتسكـن الخـراب وتبغـض بنـي آدم وخلـق فيهـا خلـق مـن سبعـة جبابـرة
قالـت لـه: اسمـع جـواب مـا قلـت ثـم انـزع ثيابـك حتـى أفسـر لــك ذلــك قــال لهــا أميــر المؤمنيــن: فســري
وهــو ينــزع ثيابــه قالــت: أمــا مــا هــو أحلــى مــن العســل فهــو حــب الأولــاد الباريــن بوالديهــم وأمــا ماهــو
أحــد مــن السيــف فهــو اللســان وأمـــا مـــا اســـرع مـــن السهـــم فهـــو عيـــن الميعـــان وأمـــا لـــذة ساعـــة فهـــو
الجمـاع وأمـا سـرور ثلاثـة أيـام فهـو النـورة للنســاء وأمــا مــا هــو أطيــب يــوم فهــو يــوم الربــح فــي التجــارة
وأمــا فرحــة جمعــة فهــو العــروس وأمــا الحــق الــذي لا ينكــره صاحــب الباطـــل فهـــو المـــوت وأمـــا سجـــن
القبــر فهــو الولــد الســوء وأمــا فرحــة القلــب فهــي المــرأة المطيعــة لزوجهــا وقيــل: اللحـــم حيـــن ينـــزل عـــن
القلـــب فإنـــه يفـــرح بذلـــك وأمـــا كيـــد النفـــس فهـــو العبـــد العاصـــي وأمـــا مـــوت الحيـــاة فهـــو الفقـــر وأمــــا
الــداء الــذي لا يــداوى فهــو ســوء الخلــق وأمــا العـــار الـــذي لا ينجلـــي فهـــو البنـــت الســـوء وأمـــا الدابـــة
===
التـي لا تـأوي إلـى العمـران وتسكــن الخــراب وتبغــض بنــي آدم وخلــق فيهــا سبعــة جبابــرة فــإن الجــرادة
رأسهــا كــرأس الفــرس وعنقهــا عنــق الثــور وجناحهــا جنــاح النســر ورجلهــا رجــل الجمــل وذنبهــا ذنـــب
الحية وبطنها بطن العقرب وقرنها قرن الغزال.
فتعجـب الخليفـة هـارون الرشيـد مـن حذقهــا وفهمهــا ثــم قــال للنظــام: انــزع ثيابــك فقــام وقــال: أشهــد
علـى جميـع مـن حضـر هـذا المجلـس أنهـا أعلـم منـي ومـن كـل عالـم ونـزع ثيابـه وقـال لهـا: خذيهـا لا بــارك
اللـه لـك فيهـا فأمـر لـه أميـر المؤمنيـن بثيـاب يلبسهـا ثـم قـال أميـر المؤمنيـن: يـا تـودد بقـي عليـك شـيء ممــا
وعـدت بــه وهــو الشطرنــج وأمــر بإحضــار الشطرنــج والكمنجــة والنــرد فحضــروا وجلــس الشطرنجــي
معهــــا وصفــــت بينهمــــا الصفــــوف ونقــــل ونقلــــت فمــــا نقــــل شيئــــاً إلا أفسدتـــــه عـــــن قريـــــب. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الجاريـــة لمـــا لعبـــت الشطرنـــج مـــع المعلـــم بحضـــرة أميـــر المؤمنيـــن
هــارون الرشيــد صــارت كلمــا نقــل نقــلاً أفسدتــه حتــى غلبتــه ورأى الشــاه مــات فقـــال: أنـــا أردت أن
أطعمـك حتـى تظنـي أنـك عارفـة لكـن صفـي حتــى أريــك فلمــا صفــت الثانــي قــال فــي نفســه: افتــح
===
عينيـك وإلا غلبتـك وصــار مــا يخــرج قطعــة إلا بحســاب ومــا زال يلعــب حتــى قالــت لــه: الشــاه مــات
فلمـا رأى ذلـك منهـا دهـش مـن حذقهـا وفهمهـا فضحكـت وقالـت لــه: يــا معلــم أنــا أراهنــك فــي هــذه
المــرة الثالثــة علــى أن أرفـــع لـــك الفـــرزان ورخ الميمنـــة وفـــرس الميســـرة وإن غلبتنـــي فخـــذ ثيابـــي وإن
غلبتك أخذت ثيابك.
قـال: رضيـت بهـذا الشـرط ثـم صفــا الصفيــن ورفــع الفــرزان والــرخ والفــرس وقالــت لــه: انقــل يــا معلــم
فنقــل وقــال: مــا لــي لا أغلبهــا بعــد هــذه الحطيطــة وعقــد عقــداً وإذا هـــي نقلـــت نقـــلاً قليـــلاً إلـــى أن
صيــرت لــه فرزانـــا ودنـــت منـــه وقربـــت البيـــادق والقطـــع وشغلتـــه وأطعمتـــه قطعـــة فقطعهـــا فقالـــت:
الكيـل كيـل وافـي والـرز رز صافـي فكــل حتــى تزيــد علــى الشبــع مــا يقتلــك يــا ابــن آدم إلا الطمــع أمــا
تعلـم أنـي أطعمتــك لأخدعــك انظــر فهــذا الشــاه مــات ثــم قالــت لــه: انــزع ثيابــك فقــال لهــا اتركــي لــي
السراويـل وأجـرك علـى اللـه وحلـف باللـه لا يناظـر أحـداً مـا دامـت تـودد ببغــداد ثــم نــزع ثيابــه وسلمهــا
لهــا وانصــرف. فجــيء بلاعــب النــرد فقالــت لــه: إن غلبتــك فـــي هـــذا اليـــوم فمـــاذا تعطينـــي قـــال:
أعطيـك عشـر ثيـاب مـن الديبـاج القسطنطينـي المطـرز بالذهـب وعشـر ثيـاب مـن المخمــل وإن غلبتــك
فمـا أريـد منـك إلا أن تكتبـي لـي درجـاً بأنـي غلبتـك قالــت لــه: دونــك ومــا عولــت عليــه فلعــب فــإذا
هـو قـد خسـر وقـام وهـو يرطـن بالإفرنجيــة ويقــول: ونعمــة أميــر المؤمنيــن إنهــا لا يوجــد مثلهــا فــي سائــر
===
البلـــاد ثـــم إن أميـــر المؤمنيـــن دعـــا بأربـــاب آلـــات الضـــرب قالـــت: نعـــم فأمـــر بإحضـــار عــــود محكــــوم
مدعـوك مجـرود صاحبـه بالهجـران مكـدود فوضتـه فـي حجرهـا وأرخــت عليــه نهدهــا وانحنــت عليــه
انحنـاءة والـدة ترضـع ولدهـا وضربـت عليـه اثنـي عشــر نغمــاً حتــى مــاج المجلــس مــن الطــرب وأنشــدت
تقول:
أقصروا هجركـم أقلـوا جفاكـم فــــؤادي وحقكــــم ماسلاكــــم
وارحمــوا باكيــاً حزينــاً كئيبـــا ذا غـــرام متيـــم فــــي هواكــــم
فطـرب أميـر المؤمنيـن وقـال: بـارك اللــه فيــك ورحــم مــن علمــك فقامــت وقبلــت الــأرض بيــن يديــه ثــم
إن أميــر المؤمنيــن أمــر بإحضــار المــال ودفــع لمولاهــا مائــة ألــف دينــار وقـــال لهـــا: يـــا تـــودد تمنـــي علـــي
قالـت: تمنيـت عليـك أن تردنـي إلـى سيـدي الـذي باعنـي فقـال لهـا: نعـم فردهـا إليــه وأعطاهــا خمســة
آلـاف دينـار لنفسهــا وجعــل سيدهــا نديمــاً لــه علــى طــول الزمــان. وأدرك شهــرزاد الصبــاح فسكتــت
عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الخليفــة أعطــى الجاريــة خمســة آلــاف دينــار وردهــا إلــى مولاهــا
===
وجعلـه نديمـاً لـه علـى طـول الزمــان وأطلــق لــه فــي كــل شهــر ألــف دينــار وقعــد مــع جاريتــه تــودد فــي
أرغـد عيـش فأعجـب الملـك مـن فصاحـة هـذه الجاريــة ومــن غــزارة علمهــا وفهمهــا وفضلهــا فــي كامــل
العلـوم وانظـر إلــى مــروءة أميــر المؤمنيــن هــارون الرشيــد حيــث أعطــى سيدهــا هــذا المــال وقــال لهــا:
تمنــي علــي فتمنــت عليــه أن يردهــا إلــى سيدهــا فردهــا إليــه وأعطاهــا خمســـة آلـــاف دينـــار لنفسهـــا
وجعــل سيدهــا نديمــاً لــه فأيــن يوجــد هــذا الكــرم بعـــد الخلفـــاء العباسييـــن رحمـــة اللـــه تعالـــى عليهـــم
أجمعين.
جملة حكايات تتضمن عدم الاغترار بالدنيا والوثوق بها وما ناسب ذلك
وممـــا يحكـــى أيهـــا الملـــك السيعـــد أن ملكـــاً مـــن الملـــوك المتقدميـــن أراد أن يركـــب يومـــاً فـــي جملـــة أهـــل
مملكتـــه وأربـــاب دولتـــه ويظهـــر للخلائـــق عجائــــب زينتــــه فأمــــر أصحابــــه وأمــــراءه وكبــــراء دولتــــه أن
يأخـذوا أهبـة الخـروج معـه وأمـر خـازن الثيــاب بــأن يحضــر لــه مــن أفخــر الثيــاب مــا يصلــح للملــك فــي
زينتــه وأمــر بإحضــار خيلــه الموصوفـــة العتـــاق المعروفـــة ففعلـــوا ذلـــك ثـــم إنـــه اختـــار مـــن الثيـــاب مـــا
أعجبــه ومــن الخيــل مــا استحسنــه ثــم لبــس الثيــاب وركــب الجــواد وســار بالموكــب والطــوق المرصـــع
بالجواهــر وأصنـــاف الـــدرر واليواقيـــت وجعـــل يركـــب الحصـــان فـــي عسكـــره ويفتخـــر بتيهـــه وتجبـــره
فأتاه إبليس فوضع يده علـى ممخـره ونفـخ فـي أنفـه نفخـة الكبـر والعجـب فزهـا وقـال فـي نفسـه: مـن فـي
===
العامـل مثلـي وطفــق يتيــه بالعجــب الأكبــر ويظهــر الأبهــة ويزهــو بالخيــلاء ولا ينظــر إلــى أحــد مــن تيهــه
وتكبره وعجبه وفخره.
فوقـف بيـن يديـه رجـل عليـه ثيـاب رثـة فسلــم عليــه فلــم يــرد عليــه السلــام فقبــض علــى عنــان فرســه
فقــال لــه الملــك: ارفــع يــدك فإنــك لا تــدري بعنــان مــن قـــد أمسكـــت فقـــال لـــه: إن لـــي إليـــك حاجـــة
فقــال: اصبــر حتــى أنــزل واذكــر حاجتــك فقــال: إنهــا ســر ولا أقولهــا إلا فــي أذنــك فمــال بسمعــه إليـــه
فقـال لـه: أنـا ملـك المــوت وأريــد قبــض روحــك فقــال: امهلنــي بقــدر مــا أعــود إلــى بيتــي وأودع أهلــي
وأولـادي وجيرانـي وزوجتـي فقـال: كــلا لا تعــود ولــن تراهــم أبــداً فإنــه قــد مضــى أجــل عمــرك فأخــذ
روحه وهو على ظهر فرسه فخر ميتاً ومضى ملك الموت من هناك.
فأتــى رجــلاً صالحـــاً قـــد رضـــي اللـــه عنـــه فسلـــم عليـــه فـــرد عليـــه السلـــام فقـــال ملـــك المـــوت: أيهـــا
الرجـل الصالـح إن لـي إليـك حاجـة وهـي سـر فقـال لـه الرجـل الصالـح: اذكـر حاجتــك فــي أذنــي فقــال:
أنــا ملــك المــوت فقــال الرجــل مرحبــاً بــك الحمــد للــه فإنــي كنــت كثيــراً أراقــب مجيئــك ووصولـــك إلـــي
ولقــد طالــت غيبتــك علــى المشتــاق إلــى قدومــك فقــال لــه ملـــك المـــوت: إن كـــان لـــك شغـــل فاقضـــه
فقـال لـه: ليـس لـي شغـل أهـم عنـدي مــن لقــاء ربــي عــز وجــل فقــال: كيــف تحــب أن أقبــض روحــك
فإنــي أمــرت أن أقبضهــا كيــف أردت وأحببــت فقــال: أمهلنـــي حتـــى أتوضـــأ وأصلـــي فـــإذا سجـــدت
===
فاقبــــض روحــــي وأنــــا ساجــــد فقــــال ملــــك المــــوت: إن ربــــي عــــز وجـــــل أن لا أقبـــــض روحـــــك إلا
باختيــارك كيــف أردت وأنــا أفعــل مــا قلــت فقــام الرجــل وتوضـــأ وصلـــى فقبـــض ملـــك المـــوت روحـــه
وهو ساجد ونقله الله تعالى إلى محل الرحمة والرضوان والمغفرة.
وحكـي أن ملكـاً مـن الملــوك كــان قــد جمــع مــالاً عظيمــاً لا يحصــى عــدده واحتــوى علــى أشيــاء كثيــرة
مـن كـل نـوع خلقــه اللــه تعالــى فــي الدنيــا ليرفــه عــن نفســه حتــى إذا أراد أن يتفــرغ لمــا جمعــه مــن النعــم
الطائلـة بنـى لـه قصـراً عاليـاً مرتفعـاً شاهقـاً يصلـح للملـوك ويكـون لائقـاً ثــم ركــب عليــه بابيــن ووثــب لــه
الغلمــان والأجنــاد والبوابيــن كمــا أراد ثــم أمــر الطبــاخ فــي بعــض الأيــام أن يصنــع لــه شيئــاً مــن أطيــب
الطعـــام وجمـــع أهلـــه وحشمـــه وأصحابـــه وخدمـــه ليأكلـــوا عنـــده وينالـــوا رفـــده وجلـــس علــــى سريــــر
مملكتــه وسيادتــه واتكــأ علــى وسادتــه وخاطــب نفســه وقــال: يـــا نفـــس قـــد جمعـــت لـــك نعـــم الدنيـــا
بأسرهــا فالـــآن تفرغـــي وكلـــي مـــن هـــذه النعـــم مهنـــأة بالعمـــر الطويـــل والحـــظ الجزيـــل وأدرك شهـــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والخمسين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الملــك لمــا حــدث نفســـه وقـــال لهـــا: كلـــي مـــن هـــذه النعـــم مهنـــأة
===
بالعمـر الطويــل والحــظ الجزيــل ولــم يفــرغ ممــا حــدث بــه نفســه حتــى أتــاه رجــل مــن ظاهــر القصــر عليــه
ثيـاب رثــة وفــي عنقــه مخلــاة معلقــة علــى هيئــة سائــل يســأل الطعــام فجــاء وطــرق حلقــة بــاب القصــر
طرقـة عظيمـة هائلـة كــادت تزلــزل القصــر وتزعــج الشريــر فخــاف الغلمــان فوثبــوا إلــى البــاب وصاحــوا
بالطـــارق وقالـــوا لـــه: ويحـــك مـــا هـــذه الفعلـــة وســـوء الـــأدب اصبـــر حتـــى يأكـــل الملـــك ونعطيــــك ممــــا
يفضــل فقــال للغلمــان: قولــوا لصاحبكــم يخــرج إلــي حتــى يكلمنــي فلــي حاجــة وشغــل مهــم وأمــر ملـــم
قالـــوا: تنـــح أيهـــا الضيـــف مـــن أنـــت حتـــى تأمـــر صاحبنـــا بالخـــروج إليــــك فقــــال لهــــم: عرفــــوه ذلــــك
فجـاؤوا إليـه وعرفـوه فقــال: هــلا زجرتمــوه وجردتــم عليــه السلــام ونهرتمــوه ثــم طــرق البــاب أعظــم مــن
الطرقــة الأولــى فنهــض الغلمــان إليــه بالعصــي والسلــام وقصــدوه ليحاربــوه فصــاح بهــم صيحـــة وقـــال:
الزمـــوا أماكنكـــم فأنـــا ملـــك المـــوت فرعبـــت قلوبهـــم وذهبـــت عقولهـــم وطاشـــت حلومهــــم وارتعــــدت
فرائصهــم وبطلــت عــن الحركــة جوارحهـــم فقـــال لهـــم الملـــك: قولـــوا لـــه أن يأخـــذ بـــدلاً منـــي وعوضـــاً
عنـي فقـال ملـك المـوت: لا آخــذ بــدلاً ولا أتيــت إلا مــن أجلــك ثــم أن ملــك المــوت قبــض علــى روحــه
وهو على سريره قال الله تعالى: )حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون(.
وممـا يحكـى أن ملكـاً جبــاراً مــن ملــوك بنــي إسرائيــل كــان فــي بعــض الأيــام جالســاً علــى سريــر مملكتــه
فــرأى رجــلاً قــد دخــل عليــه مــن بــاب الــدار ولــه صــورة منكــرة وهيئـــة هائلـــة فاشمئـــز مـــن هجومـــه
===
عليــه وفــزع مــن هيئتــه فوثــب فــي وجهــه وقــال: مــن أنــت أيهـــا الرجـــل ومـــن أذن لـــك بالدخـــول علـــي
وأمــرك بالمجـــيء إلـــى داري فقـــال: أمرنـــي صاحـــب الـــدار وأنـــا لا يحجبنـــي حاجـــب ولا أحتـــاج فـــي
دخولـي علـى الملـوك إلـى اذن ولا أرهـب سياسـة سلطــان ولا كثــرة أعــوان أنــا الــذي لا يفزعنــي جبــار
ولا لأحــد مــن قبضــت فــرار أنــا هــادم اللــذات ومفــرق الجماعــات فلمـــا سمـــع الملـــك هـــذا الكلـــام خـــر
علـى وجهـه ودبـت الرعـدة فــي بدنــه ووقــع مغشيــاً عليــه فلمــا أفــاق قــال: أنــت ملــك الــوت قــال: نعــم
قــال: أقسمــت عليــك باللــه إلا مــا أمهلتنــي يومــاً واحــداً لأستغفــر مــن ذنبــي وأطلــب العــذر مــن ربــي
وأرد الأمـوال التـي فـي خزائنـي إلـى أربابهـا ولا أتحمـل مشقــة حسابهــا وويــل عقابهــا فقــال ملــك المــوت:
هيهات لا سبيل لك إلى ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والخمسين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن ملــك المــوت قــال للملــك: هيهــات لا سبيــل لــك إلــى ذلــك وكيــف
أمهلـــك وأيـــام عمـــرك محسوبـــة وأنفاســــك معــــدودة وأوقاتــــك مثبوتــــة مكتوبــــة فقــــال: أمهلنــــي ساعــــة
فقــال: إن الساعـــة فـــي الحســـاب قـــد مضـــت وأنـــت غافـــل وانقضـــت وأنـــت ذاهـــل وقـــد استوفيـــت
أنفاســك ولــم يبــق لــك إلا نفــس واحــد فقــال: مــن يكــون عنــدي إذا نقلــت إلــى لحـــدي قـــال: لا يكـــون
===
عنـدك إلا عملـك فقـال: مـا لـي عمـل قـال: لا جــرم أنــه يكــون مقيلــك فــي النــار ومصيــرك إلــى غضــب
الجبـار ثـم قبـض روحـه فخـر ساقطـاً عـن سريـره ووقـع إلـى الـأرض فحصـل الضجيـج فـي أهـل مملكتــه
وارتفعـت الأصـوات وعـلا الصيـاح والبكـاء ولـو علمــوا مــا يصيــر إليــه مــن سخــط ربــه لكــان بكاؤهــم
عليه أكثر وعويلهم أشد وأوفر.
وممـا يحكـى أنـه كـان فـي بنـي إسرائيـل قـاض مـن قضاتهـم وكــان لــه زوجــة بديعــة الجمــال كثيــرة الصــون
والصبــر والاحتمــال فــأراد ذلــك القاضــي النهــوض إلــى زيــارة البيــت المقــدس فاستخلـــف أخـــاه علـــى
القضــاء وأوصـــاه بزوجتـــه وكـــان أخـــوه قـــد سمـــع بحسنهـــا وجمالهـــا فكلـــف بهـــا فلمـــا ســـار القاضـــي
توجـه إليهـا وراودهــا عــن نفسهــا فامتنعــت واعتصمــت بالــورع فأكثــر الطلــب عليهــا وهــي تمتنــع فلمــا
يئـس منهـا خـاف أن تخبــر أخــاه بصنيعــه إذا رجــع فاستدعــى بشهــود زور يشهــدون عليهــا بالزنــا ثــم
رفـع مسألتهـا إلــى ملــك ذلــك الزمــان فأمــر برجمهــا فحفــروا لهــا حفــرة وأقعدوهــا فيهــا ورجمــت حتــى
غطتهـا الحجـارة وقــال: تكــون الحفــرة قبرهــا فلمــا جــن الليــل صــارت تئــن مــن شــدة مــا نالهــا فمــر بهــا
رجـل يريـد قريـة فلمـا سمـع أنينهـا قصدهــا وأخرجهــا مــن الحفــرة وحملهــا إلــى زوجتــه وأمرهــا بمداواتهــا
حتى شفيت.
وكــان للمــرأة ولــد فدفعتــه إليهــا فصـــارت تكفلـــه ويبيـــت معهـــا فـــي بيـــت ثـــان فرآهـــا أحـــد الشطـــار
===
فطمــع فيهــا وأرســل يراودهـــا عـــن نفسهـــا فامتنعـــت فعـــزم علـــى قتلهـــا فجاءهـــا الليـــل ودخـــل عليهـــا
البيـت وهـي نائمــة ثــم هــوى بالسكيــن إليهــا فوافــق الصبــي فذبحــه فلمــا علــم أنــه ذبــح الصبــي أدركــه
الخــوف فخــرج مــن البيــت وعصمهــا اللــه منــه ولمــا أصبحــت وجــدت الصبـــي مذبوحـــاً وجـــاءت أمـــه
وقالــت: أنــت التــي ذبحتيــه ثــم ضربتهـــا ضربـــاً موجعـــاً وارادت ذبحهـــا فجـــاء زوجهـــا وأنقذهـــا منهـــا
وقال: والله لم تفعل ذلك.
فخرجــت المــرأة فــارة بنفسهــا لا تــدري أيــن تتوجـــه وكـــان معهـــا بعـــض دراهـــم فمـــرت بقريـــة والنـــاس
مجتمعـون ورجـل مصلـوب علـى جـذع شجـرة إلا أنـه فـي قيــد الحيــاة فقالــت: يــا قــوم مــا لــه قالــوا لهــا:
أصــاب ذنبــاً لا يكفــره إلا قتلــه أو صدقــه كــذا وكــذا مــن الدراهــم فقالــت: خـــذوا الدراهـــم وأطلقـــوه
فتــاب علــى يديهــا ونــذر علــى نفســه أنــه يخدمهــا للــه تعالـــى حتـــى يتوفـــاه اللـــه ثـــم بنـــى لهـــا صومعـــة
أسكنهـا فيهــا وصــار يحتطــب ويأتيهــا بقوتهــا واجتهــدت المــرأة فــي العبــادة حتــى كــان لا يأتيهــا مريــض
أو مصاب فتدعو له إلا شفي من وقته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن المــرأة لمــا صــارت مقصــودة للنــاس وهــي مقبلــة علــى عبادتهــا فــي
===
الصومعـة كــان مــن قضــاء اللــه تعالــى أنــه نــزل بأخــي زوجهــا الــذي رجمهــا عاهــة فــي وجهــه وأصــاب
المـرأة التـي ضربتهـا بــرص وابتلــى الشاطــر بوجــع أقعــده وقــد جــاء القاضــي زوجهــا مــن حجــه وســأل
أخــاه عنهــا فأخبــره أنهــا ماتــت فأســف عليهــا واحتسبهــا عنــد اللــه ثــم تسامعــت النــاس بالمــرأة حتــى
كانــوا يقصــدون صومعتهــا مــن أطــراف الــأرض ذات الطــول والعــرض فقـــال القاضـــي لأخيـــه: يـــا أخـــي
هــل قصــدت هــذه المــرأة الصالحــة لعــل اللــه يجعــل لــك علــى يديهــا شفــاء قــال: يــا أخــي احملنـــي إليهـــا
وسمـع بهـا زوج المـرأة التـي نـزل بهـا البـرص فسـار بهـا إليهـا وسمــع أهــل الشاطــر المقعــد بخبرهــا فســاروا
بـه إليهـا أيضـاً واجتمـع الجميـع عنــد بــاب صومعتهــا وكانــت تــرى جميــع مــن يأتــي صومعتهــا مــن حيــث
لا يراهــا أحــد فانتظــروا خادمهــا حتــى جــاء ورغبــوا إليـــه فـــي أن يستـــأذن لهـــم فـــي الدخـــول عليهـــا
ففعــل فتنقبــت واستتــرت ووقفــت عنــد البــاب تنظــر زوجهـــا وأخـــاه اللـــص والمـــرأة فعرفتهـــم وهـــم لا
يعرفونهــا فقالــت لهــم: يــا هــؤلاء إنكــم مــا تستريحــون ممــا بكــم حتــى تعترفــون بذنوبكــم فــإن العبــد إذا
اعتـرف بذنبـه تـاب اللـه عليـه وأعطـاه مــا هــو متوجــه إليــه. فقــال القاضــي لأخيــه: يــا أخــي تــب إلــى
اللـه ولا تصــر علــى عصيانــك فإنــه أنفــع لخلاصــك فعنــد ذلــك قــال أخ القاضــي: الــآن أقــول الحــق إنــي
فعلــت بزوجتــك مــا هــو كــذا وكــذا وهــذا ذنبــي فقالــت البرصــاء: وأنــا كانــت عنــدي امـــرأة فنسبـــت
غليهــا مــا لــم أعلمــه وضربتهــا عمــداً وهــذا ذنبــي فقــال المقعــد: وأنــا دخلــت علــى امــرأة لأقتلهــا بعـــد
===
فقالـــت المــــرأة: اللهــــم كمــــا أريتهــــم ذل المعصيــــة فأرهــــم عــــز الطاعــــة إنــــك علــــى كــــل شــــيء قديــــر
فشفاهــم اللــه عــز وجــل وجعــل القاضـــي ينظـــر إليهـــا ويتأملهـــا فسألتـــه عـــن سبـــب النظـــر فقـــال لهـــا:
كانــت لــي زوجــة ولــولا أنهــا ماتــت لقلــت أنهــا أنـــت فعرفتـــه بنفسهـــا وجعـــلا يحمـــدان اللـــه عـــز وجـــل
علـــى مـــا مـــن عليهمـــا بـــه مـــن جمـــع شملهمـــا ثـــم طفـــق كـــل مـــن أخ القاضــــي واللــــص والمــــرأة يسألونهــــا
المسامحـة فسامحـت الجميـع وعبـدوا اللـه تعالــى فــي ذلــك المكــان مــع لــزوم خدمتهــا إلــى أن فــرق المــوت
بينهم.
وممــا يحكــى أن بعــض الســادة قــال: بينمــا أنــا أطــوف بالكعبــة فــي ليلــة مظلمـــة إذ سمعـــت صوتـــاً ذي
أنيــن ينطــق عــن قلــب حزيــن وهــو يقــول: يــا كريــم لطفــك القديــم فــإن قلبــي علــى العهــد مقيـــم فتطايـــر
قلبــي لسمـــاع ذلـــك الصـــوت تطايـــراً أشرفـــت منـــه علـــى المـــوت فقصـــدت نحـــوه فـــإذا صاحبتـــه امـــرأة
فقلــت: السلــام عليــك يــا أمــة اللــه فقالــت: وعليــك السلــام ورحمــة اللــه وبركاتــه فقلـــت: أسألـــك باللـــه
العظيـم مــا العهــد الــذي قلبــك عليــه مقيــم فقالــت: لــولا أقسمــت بالجبــار مــا أطلعتــك علــى الأســرار
انظـر مـا بيـن يـدي نظــر فــإذا بيــن يديهــا صبــي نائــم يغــط فــي نومــه فقالــت: خرجــت وأنــا حامــل بهــذا
الصبـــي لأحـــج هـــذا البيـــت فركبـــت علـــى سفينـــة فهاجـــت علينـــا الأمـــواج واختلفـــت علينـــا الريــــاح
وانكسـرت بنـا السفينـة فنجـوت علــى لــوح منهــا ووضعــت هــذا الصبــي وأنــا علــى ذلــك اللــوح فبينمــا
===
وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملـــك السعيـــد أن الجاريـــة قالـــت: لمـــا انكســـرت السفينـــة نجـــوت علـــى لـــوح منهـــا
ووضعـت هـذا الصبـي وأنـا علـى ذلـك اللـوح فبينمـا هـو فـي حجـري والأمـواج تضربنــي إذ نظــرت إلــى
رجـل مـن ملاحـي السفينـة وحصـل معـي وقـال لــي: واللــه لقــد كنــت أهــواك وأنــت فــي السفينــة والــآن
قـد حصلـت معـك فمكنينـي مـن نفسـك وإلا قذفتـك فـي هـذا البحــر فقلــت: ويحــك أمــا كــان لــك ممــا
رأيــت تذكــرة وعبــرة فقــال: إنــي رأيــت مثــل ذلــك مــراراً ونجـــوت وأنـــا لا أبالـــي فقلـــت: يـــا هـــذا نحـــن
فـي بليـة ارجـو السلامـة منهـا بالطاعـة لا بالمعصيـة فألــح علــي فخفــت منــه وأردت أن أخادعــه فقلــت
لـه: مهـلاً حتـى ينـام هــذا الطفــل فأخــذه مــن حجــري وقذفــه فــي البحــر فلمــا رأيــت جرأتــه ومــا فعــل
بالصبـي طـار قلبـي وزاد كربـي فرفعـت رأسـي إلـى السمـاء وقلـت: يـا مـن يحـول بيـن المـرء وقلبــه حــل
بينـي وبيـن هـذا الأسـد إنـك علـى كـل شـيء قديـر فواللـه مـا فرغـت مـن كلامــي إلا ودابــة قــد طلعــت
مـــن البحـــر فاختطفتـــه مـــن فـــوق اللـــوح وبقيـــت وحــــدي وزاد كربــــي وحزنــــي اشفاقــــاً علــــى ولــــدي
فأنشدت وقلت:
مــــرة العيــــن حبيبــــي ولــــدي ضاع حيث الوجه أوهى جلدي
===
ليـس لـي فـي كربتـي مـن فـرج غيـــر ألطافـــك يــــا معتمــــدي
أنت يا رب تـرى مـا حـل بـي مـــن غرامـــي بفراقـــي ولــــدي
فاجمع الشمل وكـن لـي راحمـاً فرجائــي فيــك أقــوى عــددي
فبقيــت علــى تلــك الحالــة يومــاً وليلــة فلمــا كــان الصبــاح نظــرت قلــع سفينــة تلــوح مــن بعــد فمــا زالـــت
الأمــواج تقذفنــي والريــاح تسوقنــي حتــى وصلــت إلــى تلــك السفينــة التــي كنــت أرى قلعهــا فأخذنـــي
أهـل السفينـة ووضعونــي فيهــا فنظــرت فــإذا ولــدي بينهــم فتراميــت عليــه وقلــت: يــا قــوم هــذا ولــدي
فمــن أيــن كــان لكــم قالــوا: بينمــا نحــن نسيــر فــي البحــر إذ حبســت السفينـــة فـــإذا دابـــة كأنهـــا المدينـــة
العظيمـة وهــذا الصبــي علــى ظهرهــا يمــص إبهامــه فأخذنــاه فلمــا سمعــت ذلــك حدثتهــم بقصتــي ومــا
جـرى لـي وشكــرت ربــي علــى مــا أنالنــي وعاهدتــه أن لا أبــرح مــن بيتــه ولا أنثنــي عــن خدمتــه ومــا
سألتــه بعــد ذلــك شيئــاً إلا أعطانــي إيــاه فممــدت يــدي إلــى كيــس النفقــة وأردت أن أعطيهــا فقالـــت:
إليــك عنــي يــا بطــال أأحدثــك بإفضالــه وكــرم فعالــه وآخــذ الرفــد عــن يــد غيـــره فلـــم أقـــدر علـــى أن
أجعلها تقبل مني شيئاً فتركتها وانصرفت من عندها وأنا أنشد وأقول هذه الأبيات:
وكــم لــك مـــن لطـــف خفـــي يـدق خفــاه عــن فهــم الذكــي
وكـم بسـر أنـي مـن بعـد عسـر وفــرج لوعــة القلـــب الشجـــي
===
إذا ضاقت بك الأسباب يومـاً فثــق بالواحــد الصمــد العلــي
تشفــــع بالنبــــي فكــــل عبـــــد يفـــــــوز إذا تشفـــــــع بالنبـــــــي
وما زالت في عبادة بها ملازمة بيته إلى أن أدركها الموت.
وممـا يحكـى أنـه كـان مـن بنــي إسرائيــل رجــل مــن خيارهــم وقــد اجتهــد فــي عبــادة ربــه وزهــد دنيــاه
وأزالهـا عـن قلبــه وكانــت لــه زوجــة مساعــدة لــه علــى شأنــه مطيعــة لــه فــي كــل زمــان وكانــا يعيشــان
مـن عمـل الأطبــاق والمــراوح يعملــان النهــار كلــه فــإذا كــان آخــر النهــار خــرج الرجــل بمــا عملــاه فــي يــده
ومشـى بـه يمــر علــى الأزقــة والطــرق يلتمــس مشتريــاً يبيــع لــه ذلــك وكانــا يديمــان الصــوم فأصبحــا فــي
يــوم مــن الأيــام وهمـــا صائمـــان وقـــد عمـــلا يومهمـــا ذلـــك فلمـــا كـــان آخـــر النهـــار وخـــرج علـــى عادتـــه
وبيــده مــا عملــاه يطلــب مــن يشتريــه منــه فمــر ببـــاب أحـــد أبنـــاء الدنيـــا وأهـــل الرفاهيـــة والجـــاه وكـــان
الرجـــل وضـــيء الوجـــه جميـــل الصـــورة فرأتـــه امـــرأة صاحـــب الـــدار فعشقتـــه ومـــال قلبهـــا إليـــه ميــــلاً
شديــداً وكــان زوجهــا غائبــاً فدعــت خادمتهــا وقالــت لهــا: لعلــك تتحليـــن علـــى ذلـــك الرجـــل لتأتـــي
بــه عندنــا. فخرجــت الخادمــة ودعتــه لتشتـــري منـــه مـــا بيـــده وردتـــه مـــن طريقـــه. وأدرك شهـــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الخادمـــة خرجـــت إلــــى الرجــــل ودعتــــه وقالــــت: ادخــــل فــــإن
سيدتـي تريـد أن تشتـري مـن هــذا الــذي بيــدك شيئــاً بعــد أن تختبــره وتنظــر إليــه فتخيــل الرجــل أنهــا
صادقـة فــي قولهــا ولــم يــر فــي ذلــك بأســاً فدخــل وقعــد كمــا أمرتــه فأغلقــت البــاب عليــه وخرجــت
سيدتهـا مـن بيتهــا وأمسكــت بجلابيبــه وجذبتــه وأدخلتــه وقالــت لــه: كــم ذا أطلــب خلــوة منــك وقــد
عيـل صبـري مـن أجلــك وهــذا البيــت مبخــر والطعــام محضــر وصاحــب الــدار غائــب فــي هــذه الليلــة
وأنــا قــد وهبــت لــك نفســي ولطالمــا طلبتنــي الملـــوك والرؤســـاء وأصحـــاب الدنيـــا فلـــم ألتفـــت لأحـــد
منهـم وطـال أمرهـا فـي القـول والرجـل لا يرفـع رأسـه مـن الــأرض حيــاء مــن اللــه تعالــى وخوفــاً مــن أليــم
عقابه كما قال الشاعر:
ورب كبيـــرة مـــا حـــال بينـــي وبيــــن ركوبهــــا إلــــى الحيـــــاء
وكـان هــو الــدواء لهــا ولكــن إذا ذهـــب الحيـــاء فــــلا دواء
قــال: وطمــع الرجــل فــي أن يخلــص نفســه منهــا فلــم يقــدر فقــال: أريــد منــك شيئــاً فقالـــت: ومـــا هـــو
قـال: أريـد مـاء طاهـراً أصعـد بـه إلـى أعلـى موضـع فـي دارك لأقضـي بـه أمـراً وأغســل بــه درنــاً ممــا لا
يمكننــي أن أطلعــك عليــه فقالــت: الــدار متسعـــة ولهـــا خبايـــا وزوايـــا وبيـــت المطهـــرة معـــد قـــال: مـــا
غرضــي إلا الارتفــاع فقالــت لخادمتهــا: اصعــدي بــه إلــى المنظــرة العليــا مـــن الـــدار فصعـــدت بـــه إلـــى
===
أعلــى موضــع فيهــا ودفعــت لــه آنيــة المــاء ونزلــت فتوضــأ الرجــل وصلـــى ركعتيـــن ونظـــر إلـــى الـــأرض
ليلقــي نفســه فرآهــا بعيــدة فخــاف أن لا يصــل إليهـــا وقـــد يتمـــزق ثـــم تفكـــر فـــي معصيـــة اللـــه تعالـــى
وعقابـه فهـان عليــه بــذل نفســه وسفــك دمــه فقــال: إلهــي وسيــدي تــرى مــا نــزل بــي ولا يخفــى عليــك
حالــي إنــك علــى كــل شــيء قديــر ثــم إن الرجــل ألقــى نفســه مــن أعلــى المنظــرة فبعــث اللــه إليــه ملكــاً
احتملـه علـى جناحـه وأنزلـه إلـى الــأرض سالمــاً دون أن ينالــه مــا يؤذيــه فلمــا استقــر بالــأرض حمــد اللــه
عز وجل على ما أولاه من عصمته وما أناله من رحمته.
وسـار دون شـيء إلــى زوجتــه وكــان قــد أبطــأ عنهــا فدخــل وليــس معــه شــيء فسألتــه عــن سبــب
بطئـه وعمـا خـرج بـه فـي يـده ومـا فعـل بـه وكيـف رجـع بـدون شـيء فأخبرهـا بمـا عـرض لـه مـن الفتنـة
وأنـه ألقـى نفســه مــن ذلــك الموضــع فنجــاه اللــه فلقالــت زوجتــه: الحمــد للــه الــذي صــرف عنــك الفتنــة
وحـال بينـك وبيـن المحنـة ثـم قالـت: يـا رجــل إن الجيــران قــد تعــودوا منــا أن نوقــد تنــوراً كــل ليلــة فــإن
رأونـا الليلـة دون نـار وعلمـوا أننـا بـلا شــيء ومــن شكــر الــه كتــم مــا نحــن فيــه مــن الخصاصــة ووصــال
صـــوم هـــذه الليلـــة باليـــوم الماضـــي وقيامهـــا للـــه تعالـــى فقامـــت إلـــى التنـــور وملأتـــه حطبـــاً وأضرمتـــه
لتغالط به الجيران وأنشدت تقول هذه الأبيات:
سأكتم ما بي من غرامي وأشجاني وأضرم ناري كي أغالط جيراني
===
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والستين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن المــرأة أضرمــت النــار كــي تغالــط الجيــران نهضــت هــي وزوجهــا
فتوضــآ وقامــا إلــى الصلــاة فــإذا امــرأة مــن جاراتهــا تستــأذن فـــي أن توقـــد مـــن تنورهـــا فقـــالا لهـــا: لا
شأنــك والتنــور فلمــا دخلــت المــرأة مــن التنــور لتأخــذ النـــار نـــادت: يـــا فلانـــه أدركـــي خبـــزك قبـــل أن
يحتـــرق فقالـــت امـــرأة الرجـــل لزوجهـــا: أسمعـــت مـــا تقـــول هـــذه المـــرأة فقـــال: قومـــي وانظـــري فقامــــت
وتوجهــت للتنــور فــإذا هــو قــد امتـــلأ مـــن خبـــز نقـــي أبيـــض فأخـــذت المـــرأة الأرغفـــة ودخلـــت علـــى
زوجهــا وهــي تشكــر اللــه عــز وجــل علــى مــا أولــى مــن الخيــر العميــم والمــن الجسيــم فأكــلا مــن الخبــز
وشربــا مــن المــاء وحمــدا اللــه تعالــى ثــم قالــت المـــرأة لزوجهـــا: تعـــال ندعـــو اللـــه تعالـــى عســـاه أن يمـــن
علينـا بشـيء يغنينـا عـن كـد العيشـة وتعـب العمـل ويعيننــا بــه علــى عبادتــه والقيــام بطاعتــه قــال لهــا:
نعـم فدعـا الرجـل ربـه وأمنـت المــرأة علــى دعائــه فــإذا السقــف قــد انفــرج ونزلــت ياقوتــة أضــاء البيــت
من نورها فزادا شكراً وثناء وسرا بتلك الياقوتة سروراً كثيراً وصليا ما شاء الله تعالى.
فلمـا كـان آخـر الليـل نامـا فــرأت المــرأة فــي منامهــا كأنهــا دخلــت الجنــة وشاهــدت منابــر كثيــرة مصفوفــة
===
وكراســـي كثيـــرة منصوبـــة فقالــــت: مــــا هــــذه المنابــــر ومــــا هــــذه الكراســــي فقيــــل لهــــا: هــــذه منابــــر
الأنبيــاء وهــذه كراســي الصديقيــن والصالحيـــن فقالـــت: وأيـــن كرســـي زوجـــي فلـــان فقيـــل لهـــا: هـــذا
فنظـرت إليـه فـإذا فـي جانبـه ثلــم فقالــت: ومــا هــذا الثلــم فقيــل لهــا: هــو ثلــم الياقوتــة المنزلــة عليكمــا
من سقف بيتكما.
فانتبهـت مـن منامهـا وهـي باكيـة حزينــة علــى نقصــان كرســي زوجهــا بيــن كراســي الصديقيــن فقالــت:
أيهـا الرجـل ادع ربــك أن يــرد هــذه الياقوتــة إلــى موضعهــا فمكابــدة الجــوع والمسكنــة فــي الأيــام القلائــل
أهـون مـن ثلـم كرسيــك بيــن أصحــاب الفضائــل فدعــا الرجــل ربــه فــإذا الياقوتــة قــد ســارت صاعــدة
إلى السقف وهما ينظران إليها وما زالا على فقرهما وعبادتهما حتى لقيا الله عز وجل.
وممـــا يحكـــى أن سيـــدي إبراهيـــم الخـــواص رحمـــة اللـــه عليـــه قـــال: طالبتنـــي نفســـي فــــي وقــــت مــــن
الأوقــات بالخــروج إلــى بلــاد الكفــار فكففتهــا فلــم تكـــف وتكتـــف وعملـــت علـــى نفـــي هـــذا الخاطـــر
فلــم ينتــف فخرجــت أختــرق ديارهـــا وأجـــول أقطارهـــا والعنايـــة تكتنفنـــي والرعايـــة تحفنـــي لا ألقـــى
نصرانيــاً إلا غــض ناظــره عنــي وتباعــد منــي إلــى أن أتيــت مصــراً مــن الأمصــار فوجــدت عنـــد بابهـــا
جماعــة مـــن العبيـــد عليهـــم الأسلحـــة وبأيديهـــم الحديـــد فلمـــا رأونـــي قـــاوا علـــى القـــدوم وقالـــوا لـــي:
أطبيـــب أنـــت قلـــت: نعـــم فقالـــوا: أجـــب الملـــك واحتملونـــي إليــــه فــــإذا هــــو ملــــك عظيــــم ذو وجــــه
===
وسيــم. فلمــا دخلــت عليــه نظــر إلــي وقــال: أطبيـــب أنـــت قلـــت: نعـــم فقـــال: احملـــوه إليهـــا وعرفـــوه
بالشــرط قبــل دخولــه عليهــا فأخرجونــي وقالــوا لــي: إن للملــك ابنــة قـــد أصابهـــا إعلـــال شديـــد وقـــد
أعيـا الأطبـاء علاجهـا ومـا مـن طبيـب دخـل عليهــا وعالجهــا ولــم يفــد طبــه إلا قتلــه الملــك فانظــر مــاذا
تــرى فقلــت لهــم: إن الملــك سألنــي إليهــا فأدخلونــي عليهــا فاحتملونــي إلــى بابهــا فلمــا وصلــت قرعــوه
فإذا هي تنادي: من داخل الدار أدخلوها على الطبيب صاحب السر العجيب وأنشدت تقول:
افتحوا الباب فقد جاء الطبيب وانظروا نحوي فلي سر عجيب
فلكــــــــم مقتــــــــرب مبتعــــــــد ولكـــم مبتعـــد وهــــو قريــــب
كنتــم فيمــا بينكــم فــي غربــة فـــأراد الحـــق أنســـي بغريـــب
جمعتنـــــــــا نسبـــــــــة دينيــــــــــة فتـــــرى أي محـــــب وحبيـــــب
ودعانــــي للتلاقــــي إذا دعـــــا حجـب العـاذل عنـا والرقيــب
فاتركـوا عذلـي وخلـوا لومكــم إنني يـا ويحكـم لسـت أجيـب
لسـت ألـوي نحــو فــان غائــب إنمـــا قصـــدي بـــاق لا يغيـــب
قــال: فــإذا شيــخ كبيــر قــد فتــح البــاب بسرعـــة وقـــال: ادخـــل فدخلـــت فـــإذا بيـــت مبســـوط بأنـــواع
الرياحين وستـر مضـروب فـي زاويتـه ومـن خلفـه أنيـن ضعيـف يخـرج مـن هيكـل نحيـف فجلسـت بـإزاء
===
الستــر وأردت أن أسلــم فتذكــرت قولــه صلــى اللــه عليــه وسلــم: لا تبــدؤا اليهـــود والنصـــارى بالسلـــام
وإذا لقيتموهــم فــي طريــق فاضطروهــم إلــى أضيقــه فأمسكــت فنــادت مــن داخــل الستـــر: أيـــن سلـــام
التوحيـــد والإخلـــاص يـــا خـــواص قـــال: فتعجبـــت مـــن ذلـــك وقلـــت: مـــن أيــــن عرفتينــــي فقالــــت: إذا
صفــت القلــوب والخواطــر أعربــت الألســن عــن مخبـــآت الضمائـــر وقـــد سألتـــه البارحـــة أن يبعـــث إلـــي
وليــاً مــن أوليائــه يكــون لــي علــى يديــه الخلــاص فنوديــت مــن زوايــا بيتــي لا تحزنــي إنـــا سنرســـل إليـــك
إبراهيـم الخـواص. فقلـت لهـا: مـا خبـرك فقالـت لـي: أنـا منـذ أربـع سنيـن قـد لـاح لـي الحــق المبيــن فهــو
المحـدث والأنيـس والمقـرب والجليـس. فرمقنـي قومـي بالعيـون وظنـوا بـي الظنـون ونسبونــي إلــى الجنــون
فمــا دخــل علــي طبيــب منهــم إلا أوحشنــي ولا زائــر إلا أدهشنــي فقلــت: ومــا دليـــل ذلـــك علـــى مـــا
وصلـــت إليـــه قالـــت: براهينـــه الواضحـــة وآياتـــه اللائحـــة وإذا وضـــح لـــك السبيـــل شاهـــدت المدلــــول
والدليـــل قـــال: فبينمـــا أنـــا أكلمهـــا إذ جـــاء الشيـــخ الموكـــل بهـــا وقـــال لهــــا: مــــا فعــــل طبيبــــك قالــــت:
عرف العلة وأصاب الدواء.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والستين بعد الأربعمائة
===
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الشيــخ الموكــل بهــا لمــا دخـــل عليهـــا قـــال لهـــا: مـــا فعـــل طبيبـــك
قالـت: عـرف العلـة وأصـاب الـدواء فظهـر لـي منـه البشـر والسـرور وقابلنـي بالبــر والحبــور فســار إلــى
الملــك وأخبــره فحضــه الملــك علــى إكرامـــي فبقيـــت اختلـــف إليهـــا سبعـــة أيـــام فقالـــت: يـــا أباإسحـــق
متــى تكــون الهجــرة إلـــى دار الإسلـــام فقلـــت: كيـــف يكـــون خروجـــك ومـــن يتجاســـر عليـــه فقالـــت:
الذي أدخلك علي وساقك إلي فقلت: نعم ما قلت.
فلمــا كــان الغــد خرجنــا علــى بــاب الحصــن وحجــب عنــا العيــون مــن أمــره إذا أراد شيئــاً أن يقــول لــه
كــن فيكــون قــال: فمـــا رأيـــت أصبـــر منهـــا علـــى الصيـــام والقيـــام فجـــاورت بيـــت اللـــه الحـــرام سبعـــة
أعـوام ثـم قضـت نحبهــا وكانــت أرض مكــة تربتهــا أنــزل اللــه عليهــا الرحمــات ورحــم اللــه مــن قــال هــذه
الأبيات:
ولما أتوني بالطبيب وقد بدت دلائل من دم سفوح ومن سقم
نضا الثوب عن وجهي فلم ير تحته سوى نفس من غير روح ولا جسم
فقـال لهـم ذا قـد تعــذر بــرؤه وللحب سر ليس يدرك بالوهم
فقالوا إذا لـم يعلـم النـاس مابـه ولم يك تعريف بحد ولا رسـم
فكيف يكون الطب فيه مؤثراً دعوني فإني لست أحكم بالوهم
===
وممــا يحكــى أن رجــلاً مــن خيـــار بنـــي إسرائيـــل كـــان كثيـــر المـــال ولـــه ولـــد صالـــح مبـــارك فحضـــرت
الرجـل الوفـاة فقعـد ولـده عنـد رأسـه وقــال: ياسيــدي أوصنــي فقــال: يــا بنــي لا تحلــف باللــه بــاراً ولا
فاجــراً ثــم مــات الرجــل وبقــي الولــد بعــد أبيــه فتسامــع بــه فســاق بنـــي إسرائيـــل فكـــان الرجـــل يأتيـــه
فيقـول لـي: عنـد والـدك كـذا وكـذا وأ ت تعلـم بذلـك أعطنـي مـا فـي ذماتــه وإلا فاحلــف فيقــف الولــد
علـى الوصيـة ويعطيـه جميـع مـا طلبـه فمـا زالـوا بـه حتـى فنــي مالــه واشتــد إقلالــه وكــان للولــد زوجــة
صالحــة مباركــة ولــه منهــا ولــدان صغيــران فقــال لهـــا: إن النـــاس قـــد أكثـــروا طلبـــي ومـــادام معـــي مـــا
أدفـع بـه عـن نفسـي بذلتـه والـآن لـم يبـق لـي شـيء فـإن طالبنـي مطالـب امتحنـت أنـا وأنـت فالأولـى أن
نفــوز بأنفسنــا ونذهــب إلــى موضــع لا يعرفنــا فيــه أحــد ونتعيــش بيــن أظهــر النـــاس قـــال: فركـــب بهـــا
البحر وبولديه وهو لا يعرف أين يتوجه والله يحكم ولا معقب لحكمه ولسان الحال يقول:
يا خارجاً خوف العدا من داره واليسـر قـد وافـاه عنـد فـراره
لا تجزعـــن مـــن البعـــاد فربمـــا عز الغريـب يطـول بعـد مـراره
لو قد أقام الدر فـي أصدافـه ما كان تاج الملـك بيـت قـراره
قــال: فانكســرت السفينــة وخــرج الرجــل علــى لــوح وخرجــت المــرأة علــى لــوح وخـــرج كـــل ولـــد علـــى
لــوح وفرقتهــم الأمــواج فحصلــت المـــرأة علـــى بلـــدة وحصـــل أحـــد الولديـــن علـــى بلـــدة أخـــرى والتقـــط
===
الولــد الآخــر أهــل سفينــة فــي البحــر وأمــا الرجــل فقذفتـــه الأمـــواج إلـــى جزيـــرة منقطعـــة فخـــرج إليهـــا
وتوضأ من البحر وأذن وأقام الصلاة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الرجـــل لمـــا خـــرج إلـــى الجزيـــرة وتوضـــأ مـــن البحـــر وأذن وأقـــام
الصلـاة. فـإذا قـد خـرج مـن البحـر أشخـاص بألــوان مختلفــة فصلــوا معــه ولمــا فــرغ قــام إلــى شجــرة فــي
الجزيـة فأكـل مـن ثمرهـا فـزال عنـه جوعـه ثـم وجـد عيـن مــاء فشــرب منهــا وحمــد اللــه عــز وجــل وبقــي
ثلاثـة أيـام يصلــي وتخــرج أقــوام يصلــون مثــل صلاتــه وبعــد مضــي الأيــام الثلاثــة سمــع مناديــاً يناديــه: يــا
أيهـا الرجـل الصالـح البـار بأبيــه المجــل قــدر ربــه لا تحــزن إن اللــه عــز وجــل مخلــف عليــك مــا خــرج مــن
يـدك فـإن فـي هـذه الجزيـة كنـوزاً وأمـوالاً ومنافــع يريــد اللــه أن تكــون لهــا وارثــاً وهــي فــي موضــع كــذا
وكــذا مــن هــذه الجزيــرة فاكشــف عنهــا وإنــا لنســوق إليــك السفــن فأحســـن إلـــى النـــاس وادعهـــم إليـــك
فـإن اللـه عـز وجـل يميـل قلوبهـم إليـك فقصـد ذلـك الموضـع مـن الجزيــرة وكشــف اللــه تعالــى لــه عــن تلــك
الكنــوز وصــارت أهــل السفــن تــرد عليــه فيحســن إليهــم إحسانـــاً عظيمـــاً ويقـــول لهـــم: لعلكـــم تدلـــون
علــي النــاس. فإنــي أعطيكــم كــذا وكــذا واجعــل لهــم كـــذا وكـــذا فصـــار النـــاس يأتـــون مـــن الأقطـــار
===
والأماكــن. ومــا مضــت عليــه عشــري سنيــن إلا والجزيـــرة قـــد عمـــرت والرجـــل صـــار ملكهـــا لا يـــأوي
إليه أحد إلا أحسن إليه.
وشــاع ذكــره فــي الـــأرض بالطـــول والعـــرض. وكـــان ولـــده الأكبـــر قـــد وقـــع عنـــد رجـــل علمـــه وأدبـــه
والآخـر قـد وقـع عنـد رجـل ربـاه وأحسـن تربيتـه وعلمـه طـرق التجـارة والمـرأة قـد وقعــت عنــد رجــل
مــن التجــار ائتمنهــا علــى مالــه وعاهدهــا علــى أن لا يخونهـــا وأن يعينهـــا علـــى طاعـــة اللـــه عـــز وجـــل
وكـان يسافـر بهـا فـي السفينـة إلـى البلـاد ويستصحبهـا فـي أي موضــع أراد فسمــع الولــد الأكبــر بصيــت
ذلـك الملـك فقصـده وهـو لا يعلـم مـن هـو. فلمـا دخـل عليــه أخــذه وائتمنــه علــى ســره وجعلــه كاتبــاً لــه
وسمـع الولـد الآخـر بذلـك الملـك العـادل الصالــح فقصــده وســار إليــه وهــو لا يعلــم مــن هــو أيضــاً. فلمــا
دخـل عليـه وكلـه علـى النظـر فـي أمــوره وبقــي مــدة مــن الدهــر فــي خدمتــه وكــل واحــد منهــم لا يعلــم
بصاحبـه وسمـع الرجـل التاجـر الـذي عنـد المـرأة بذلــك الملــك وبــره للنــاس وإحسانــه إليهــم فأخــذ جانبــاً
مـــن الثيـــاب الفاخـــرة وممـــا يستظـــرف مـــن تحـــف البلـــاد وأتـــى بسفينـــة والمـــرأة معـــه حتـــى وصـــل إلـــى
شاطـئ الجزيـرة ونـزل إلـى الملــك وقــدم لــه هديتــه فنظرهــا الملــك وســر بهــا ســروراً كبيــراً وأمــر للرجــل
بجائـزة سنيـة وكــان فــي الهديــة عقاقيــر أراد الملــك مــن التاجــر أن يعرفهــا لــه بأسمائهــا ويخبــره بمصالحهــا
فقال الملك للتاجر: أقم الليلة عندنا.
===
وفي الليلة الرابعة والستين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن التاجــر لمــا قــال لـــه الملـــك: أقـــم الليلـــة عندنـــا قـــال: إن لـــي فـــي
السفينـة وديعـة عاهدتهـا أن لا أوكـل أمرهـا إلـى غيـري وهـي امـرأة صالحـة تمنيـت بدعائهـا وظهــرت لــي
البركـة فـي آرائهـا فقـال الملــك: سأبعــث لهــا أمنــاء يبيتــون عليهــا ويحرســون كــل مــا لديهــا قــال: فأجابــه
لذلــك وبقــي عنــد الملــك ووجــه الملــك كاتبــه ووكيلــه إليهــا وقــال لهمــا: اذهبـــا واحرســـا سفينـــة هـــذا
الرجـل الليلـة إن شـاء اللـه تعالــى قــال: فســارا وصعــدا إلــى السفينــة وقعــد هــذا علــى مؤخرهــا وذاك
علــى مقدمهــا وذكــر اللــه عــز وجــل برهــة مــن الليــل ثــم قــال أحدهمـــا للآخـــر: يـــا فلـــان إن الملـــك قـــد
أمرنــا بالحراســة ونخــاف النــوم فتعالــى نتحــدث بأخبــار الزمــان ومــا رأينــا مــن الخيـــر والامتحـــان فقـــال
الآخــر: يــا أخــي أمــا أنــا فمــن امتحانــي أن فـــرق الدهـــر بينـــي وبيـــن أبـــي وأمـــي وأخ لـــي كـــان اسمـــه
كاسمـــك والسبـــب فـــي ذلـــك أنـــه ركـــب والدنـــا البحـــر مـــن بلــــد كــــذا وكــــذا فهاجــــت علينــــا الريــــاح
واختلفت فكسرت السفينة وفرق الله شملنا.
فلمــا سمــع الآخــر بذلــك قــال: ومــا كــان اســم والدتــك يــا أخــي قـــال: فلانـــة قـــال: ومـــا اســـم والـــدك
قـــال: فلـــان فترامـــى الـــأخ علـــى أخيـــه وقـــال لـــه: أنـــت أخـــي. واللـــه حقـــاً وجعـــل كـــل واحـــد منهمـــا
===
يحــدث أخــاه بمــا جــرى عليــه فــي صغــره والـــأم تسمـــع الكلـــام ولكنهـــا كتمـــت أمرهـــا وصبـــرت نفسهـــا
فلمــا طلــع الفجــر قــال أحدهمــا للآخــر: ســر يــا أخــي نتحــدث فـــي منزلـــي قـــال: نعـــم فســـارا وأتـــى
الرجــل فوجــد المــرأة فــي كــرب شديــد فقــال لهــا: مــا دهــاك ومــا أصابــك قالـــت: وبعثـــت إلـــي الليلـــة
مــن أرادنــي بالســوء وكنــت منهمــا فــي كــرب عظيــم فغضــب التاجــر وتوجــه للملــك وأخبــره بمـــا فعـــل
الأمينـــان فأحضرهمـــا الملـــك بسرعـــة وكــــان يحبهمــــا لمــــا تحقــــق فيهمــــا مــــن الأمانــــة والديانــــة ثــــم أمــــر
بإحضــار المــرأة حتــى تذكــر مــا كــان منهمــا مشافهـــة. فجـــيء بهـــا وأحضـــرت فقـــال لهـــا: أيتهـــا المـــرأة
مــاذا رأيــت مــن هذيــن الأمينيــن فقالــت: أيهــا الملـــك أسألـــك باللـــه العظيـــم رب العرشـــي الكريـــم. إلا
مــا أمرتهمــا يعيــدا كلامهمــا الــذي تكلمــا بــه البارحــة فقــال لهمــا الملــك: قــولا مــا قلتمــا ولا تكتمــا منـــه
شيئـاً فأعـادا كلامهمـا. وإذا بالملـك قـد قـام مــن فــوق السريــر وصــاح صيحــة عظيمــة وترامــى عليهمــا
واعتنقهمـــا. وقـــال: واللـــه أنتمـــا ولـــداي حقـــاً فكشفـــت المـــرأة عـــن وجههـــا وقالـــت: أنــــا واللــــه أمهمــــا
فاجتمعـوا جميعـاً وصـاروا فـي ألـذ عيـش وأهنـأه إلـى أن أتاهــم المــوت فسبحــان مــن إذا قصــده العبــد
نجا ولم يخب ما أمله فيه ورجا وما أحسن ما قيل في المعنى:
لكل شيء من الأشياء ميقات والأمـر فيـه أخـي محـو واثبــات
لا تجز عن لامر قد دهيـت بـه فقـد أتانـا بيسـر العســر آيــات
===
وكم مبهان عيان الناس تشنؤه مـن الهـوان تغشيــة الكرامــات
هـذا الـذي نالـه كـرب وكابـده ضر وحلت به في الوقت آفات
وفـرق الدهـر منـه شمـل الفتــه فكلهم بعد طول الجمع اشتات
أعطاه مولاه خيرا ثم جاء بهـم وفي الجميع إلى المولى اشـارات
سبحان من عمت الأكوان قدرته وأخبـــرت بتدانيــــه الدلالــــات
فهــو القريــب ولكــن لا يكيفــه عقل وليست تدانيه المسافات
حكاية حاسب كريم الدين
وممـا يحكـى أنـه كـان فـي قديـم الزمـان وسالــف العصــر والــأوان حكيــم مــن حكمــاء اليونــان وكــان ذلــك
الحكيــم يسمــى دانيــال وكــان لــه تلامــذة وجنــود وكانــت حكمــاء اليونــان يذعنــون لأمــره ويعولــون علــى
علومــه ومــع هــذا لــم يــرزق ولــداً ذكــراً فبينمــا هــو ذات ليلــة مــن الليالــي يتفكــر فــي نفســه علــى عــدم
إنجــاب ولــد يرثــه فــي علومــه مــن بعــده إذ خطــر ببالــه أن اللــه سبحانــه وتعالــى يجيــب دعــوة مــن إليـــه
أنـاب وأنـه ليـس علـى بـاب فضلـه أبـواب ويــرزق مــن يشــاء بغيــر حســاب ولا يــرد سائــلاً إذا سألــه بــل
يجـــزل الخيـــر والإحســـان لـــه فســـأل اللـــه تعالـــى الكريــــم أن يرزقــــه ولــــداً يخلفــــه مــــن بعــــده ويجــــزل لــــه
===
الإحسـان مـن عنـده ثـم رجـع إلـى بيتـه وواقـع زوجتـه فحملــت منــه فــي تلــك الليلــة. وأدرك شهــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والستين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الحكيــم اليونانــي رجــع إلـــى بيتـــه وواقـــع زوجتـــه فحملـــت منـــه
تلـك الليلـة ثـم بعـد أيـام سافـر إلـى مكـان فـي مركـب فانكســرت بــه المركــب وراحــت كتبــه فــي البحــر
وطلـع هـو علـى لـوح مـن تلـك السفينــة وكــان معــه خمــس ورقــات بقيــت مــن الكتــب التــي وقعــت منــه
فــي البحــر فلمــا رجــع إلــى بيتــه وضــع تلــك الــأوراق فــي صنــدوق وقفــل عليهــا وكانــت زوجتــه قــد
ظهــر حملهــا فقــال لهــا: اعلمــي أنــي قــد دنـــت وفاتـــي وقـــرب انتقالـــي مـــن دار الفنـــاء إلـــى دار البقـــاء
وأنــت حامــل فربمــا تلديــن بعــد موتــي صبيــاً ذكــراً فــإذا وضعتيــه فسميــه حاسبــا كريـــم الديـــن وربيـــه
أحسـن التربيـة فـإذا كبـر وقـال لـك: مـا خلـف لـي أبـي مـن الميــراث فأعطيــه هــذه الخمــس ورقــات فــإذا
قرأهــا وعــرف معناهــا يصيــر أعلــم أهــل زمانــه ثــم إنــه ودعهــا وشهــق شهقــة ففــارق الدنيــا ومــا فيهــا
رحمــة اللــه تعالــى عليــه فبكــت عليــه أهلــه وأصحابــه ثــم غسلــوه وأخرجـــوه خرجـــة عظيمـــة ودفنـــوه
ورجعوا.
===
ثــم إن زوجتــه بعــد أيــام قلائــل وضعــت ولــداً مليحــاً فسمتـــه حاسبـــا كريـــم الديـــن كمـــا أوصاهـــا بـــه
ولمـا ولدتـه أحضــرت لــه المنجميــن فحسســوا طالعــه وناظــره مــن الكواكــب ثــم قالــوا لهــا: اعلمــي أيتهــا
المــرأة أن هــذا المولــود يعيــش أيامــاً كثيــرة ولكــن بعــد شــدة تحصــل لــه فــي مبتــدا عمــره فــإذا نجــا منهــا
فإنــه يعطــى بعــد ذلــك علــم الحكمــة ثــم مضــى المنجمــون إلــى حــال سبيلهــم فأرضعتــه اللبــن سنتيــن
وفطمته.
فلمـا بلـغ خمـس سنيــن حطتــه فــي المكتــب ليتعلــم شيئــاً مــن العلــم فلــم يتعلــم فأخرجتــه مــن المكتــب
وحطتـه فـي الصنعـة فلـم يتعلـم شيئـاً مـن الصنعـة ولـم يطلـع مـن يـده شـيء مــن الشغــل فبكــت أمــه مــن
أجـل ذلــك فقــال لهــا النــاس: زوجيــه لعلــه يحمــل هــم زوجتــه ويتخــذ لــه صنعــة فقامــت وخطبــت لــه
بنتــاً وزوجتــه بهــا ومكــث علــى ذلــك الحــال مــدة مــن الزمــان وهــو لــم يتخــذ لــه صنعــة أبــداً ثــم إنهــم
كـان لهـم جيـران حطابـون فأتـوا أمـه وقالـوا لهـا: اشتـري لابنـك حمـاراً وحبـلاً وفأســاً ويــروح معنــا إلــى
الجبل فنحتطب نحن وإياه ويكون ثمن الحطب له ولنا وينفق عليكم مما يخصه.
فلمــا سمعــت أمــه ذلــك مــن الحطابيــن فرحــت فرحــاً شديــداً واشتــرت لابنهـــا حمـــاراً وحبـــلاً وفأســـاً
وأخذتــه وتوجهــت بــه إلــى الحطابيــن وسلمتــه إليهــم وأوصتهــم عليــه فقالــوا لهــا: لا تحملــي هـــم هـــذا
الولــد ربنــا يرزقــه وهــذا ابــن شيخنــا ثــم أخــذوه معهــم وتوجهــوا إلــى الجبــل فقطعــوا الحطــب وأنفقـــوا
===
على عيالهم ثـم إنهـم شـدوا حميرهـم ورجعـوا إلـى الاحتطـاب فـي ثانـي يـوم وثالـث يـوم ولـم يزالـوا علـى
هذه الحالـة مـدة مـن الزمـان فاتفـق أنهـم ذهبـوا إلـى الاحتطـاب فـي بعـض الأيـام فنـزل عليهـم مطـر عظيـم
فهربــوا إلــى مغــارة عظيمــة ليــداروا أنفسهـــم فيهـــا مـــن ذلـــك المطـــر فقـــام مـــن عندهـــم حاســـب كريـــم
الديـــن وجلـــس وحـــده فـــي مكـــان مـــن تلـــك المغـــارة وصـــار يضــــرب الــــأرض بالفــــأس فسمــــع حــــس
الــأرض خاليــة مـــن تحـــت الفـــأس فلمـــا عـــرف أنهـــا خاليـــة مكـــث يحفـــر ساعـــة فـــرأى بلاطـــة مـــدورة
وفيهــا حلقــة فلمــا رأى ذلــك فــرح ونــادى جماعتـــه الحطابيـــن وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن
الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والستين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن حاسبـــا كريـــم الديـــن لمـــا رأى البلاطـــة التـــي فيهـــا الحلقـــة فـــرح
ونـــادى جماعتـــه فحضـــروا إليـــه فـــرأوا تلـــك البلاطـــة فتسارعـــوا إليهـــا وقلعوهـــا فوجـــدوا تحتهـــا بابـــاً
ففتحــوا البــاب الــذي تحــت البلاطــة فــإذا هــو جــب ملــآن عســل نحــل فقــال الحطابــون لبعضهــم: هــذا
جـــب ملـــآن عســـلاً ومـــا لنـــا إلا أن نـــروح المدينـــة ونأتـــي بظـــروف ونعبـــي هـــذا العســـل فيهـــا ونبيعــــه
ونقتسم حقه وواحد منا يقعد ليحفظه من غيرنا.
===
فقـــال حاسبـــك أنـــا أقعـــد وأحرســـه حتــــى تروحــــوا وتأتــــوا بالظــــروف فتركــــوا حاسبــــا كريــــم الديــــن
يحــرس لهـــم الجـــب وذهبـــوا إلـــى المدينـــة وأتـــوا بظـــروف وعبوهـــا مـــن ذلـــك العســـل وحملـــوا حميرهـــم
ورجعـوا إلـى المدينـة وباعـوا ذلـك العسـل ثــم عــادوا إلــى الجــب ثانــي مــرة ومــا زالــوا علــى هــذه الحالــة
مـدة مـن الزمـان وهـم يبيعـون فـي المدينـة ويرجعـون إلــى الجــب يعبــون مــن ذلــك العســل وحاســب كريــم
الدين قاعد يحرس لهم الجب.
فقالــوا لبعضهــم يومــاً مــن الأيــام إن الــذي لقــي جــب العســل حاســب كريــم الديــن وفــي غـــد ينـــزل إلـــى
المدينـة ويدعــي علينــا ويأخــذ ثمــن العســل ويقــول: أنــا الــذي لقيتــه ومالنــا خلــاص مــن ذلــك إلا أن ننزلــه
فـي الجـب ليعبـئ العسـل الـذي بقـي فيـه ونتركـه هنـاك فيمـوت كمـداً ولا يـدري بـه أحــدا فاتفــق الجميــع
علــى هــذا الأمــر ثــم ســاروا ومــا زالــوا سائريــن حتـــى أتـــوا إلـــى الجـــب فقالـــوا لـــه: يـــا حاســـب انـــزل
الجـب وعبـئ لنـا العسـل الـذي بقــي فيــه فنــزل حاســب فــي الجــب وعبــأ لهــم العســل الــذي بقــي فيــه
وقـال لهـم اسحبونـي فمـا بقـي فيـه شــيء فلــم يــرد عليــه أحــد منهــم جوابــاً وحملــوا حميرهــم وســاروا
إلـى المدينـة وتركـوه فــي الجــب وحــده وصــار يستغيــث ويبكــي ويقــول: لاحــول ولا قــوة إلا باللــه العلــي
العظيم قد مت كمداً هذا ما كان من أمر حاسب كريم الدين.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر الحطابيــن فإنهــم لمــا وصلــوا إلــى المدينــة باعــوا العســل وراحــوا إلـــى أم حاســـب
===
وهـم يبكـون وقالــوا لهــا: يعيــش رأســك فــي ابنــك حاســب فقالــت لهــم: مــا سبــب موتــه قالــوا لهــا:
كنــا قاعديــن فــوق الجبــل فأمطــرت علينــا السمــاء مطــراً عظيمــاً فآوينــا إلــى مغــارة لنتــدارى فيهــا مـــن
ذلـك المطـر فلـم نشعــر إلا وحمــار ابنــك هــرب فــي الــوادي فذهــب خلفــه ليــرده مــن الــوادي وكــان فيــه
ذئــب عظيــم فافتــرس ابنــك وأكــل الحمــار. فلمــا سمعــت أمــه كلــام الحطابيــن لطمــت وجههـــا وحثـــت
التـراب علـى رأسهـا وأقامـت عــزاءه وصــار الحطابــون يجيئــون لهــا بالأكــل والشــرب فــي كــل يــوم هــذا
ما كان من أمر أمه.
وأمـا مـا كـان مـن أمـر الحطابيـن فإنهــم فتحــوا لهــم دكاكيــن وصــاروا تجــاراً ولــم يزالــوا فــي أكــل وشــرب
وضحك ولعب.
وأمـا مــا كــان مــن أمــر حاســب كريــم الديــن فإنــه صــار يبكــي وينتحــب فبينمــا هــو قاعــد فــي الجــب
علـى هـذه الحالـة وإذا بعقـرب كبيـر وقـع إليـه فقـام وقتلـه ثـم تفكـر فـي نفسـه وقـال: إن الجـب كـان ملآنـاً
عســلاً فمــن أيــن أتــى هــذا العقــرب فقــام ينظــر المكــان الـــذي وقـــع منـــه العقـــرب وصـــار يلتفـــت يمينـــاً
وشمـالاً فــي الجــب فــرأى المكــان الــذي وقــع منــه العقــرب يلــوح منــه النــور فأخــرج سكينــاً كانــت معــه
ووســع ذلــك المكــان حتــى صــار قــدر الطاقــة وخــرج منــه وتمشــى ساعــة فــي داخلــه فـــرأى دهليـــزاً
عظيمـاً فمشـى فيـه فــرأى بابــاً عظيمــاً مــن الحديــد الأســود وعليــه قفــل مــن الفضــة وعلــى ذلــك القفــل
===
مفتــاح مــن الذهــب فتقــدم إلــى البــاب ونظــر مــن خلالـــه فـــرأى نـــوراً عظيمـــاً يلـــوح مـــن داخلـــه فأخـــذ
المفتـاح وفتـح البـاب وعبـر إلـى داخلـه وتمشـى ساعـة حتــى وصــل إلــى بحيــرة عظيمــة فــرأى فــي تلــك
البحيـرة شيئـاً يلمـع مثـل المـاء فلـم يـزل يمشـي حتــى وصــل إليــه فــرأى تــلاً عاليــاً مــن الزبرجــد الأخضــر
وعليــه تخــت منصـــوب مـــن الذهـــب مرصـــع بأنـــواع الجواهـــر وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن
الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والستين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيـــد أن حاسبـــا الديـــن كريـــم لمـــا وصـــل إلـــى التـــل وجـــده مـــن الزبرجـــد
الأخضــر وعليـــه تخـــت منصـــوب مـــن الذهـــب مرصـــع بأنـــواع الجواهـــر وحـــول ذلـــك التخـــت كراســـي
منصوبــة بعضهــا مــن الذهــب وبعضهــا مــن الفضــة وبعضهــا مــن الزمـــرد الأخضـــر فلمـــا أتـــى إلـــى تلـــك
الكراسـي تنهـد ثـم عدهـا فرآهـا اثنـي عشـر كرســي فطلــع علــى ذلــك التخــت المنصــوب فــي وســط
تلــك الكراســي وقعــد عليــه وصــار يتعجــب مـــن تلـــك البحيـــرة وتلـــك الكراســـي المنصوبـــة ولـــم يـــزل
متعجبــاً حتــى غلــب عليــه النــوم فنــام ساعــة وإذا هـــو يسمـــع نفخـــاً وصفيـــراً وهرجـــاً عظيمـــاً ففتـــح
عينيــه وقعــد فــرأى علــى الكرســي حيــات عظيمــة طــول كــل حيــة منهـــن مائـــة ذراع فحصـــل لـــه مـــن
===
ذلـك فــزع عظيــم ونشــف ريقــه مــن شــدة خوفــه ويئــس مــن الحيــاة وخــاف خوفــاً عظيمــاً ورأى عيــن
كـل حيــة تتوقــد مثــل الجمــر وهــي فــوق الكراســي والتفــت إلــى البحيــرة فــرأى فيهــا حيــات صغــار لا
يعلــم عددهــا إلا اللــه تعالــى. وبعــد ساعــة أقبلــت عليــه حيــة عظيمــة مثــل البغــل وعلــى ظهـــر تلـــك
الحيـة طبـق مـن الذهـب وفـي وسـط ذلـك الطبـق حيـة تضـيء مثـل البلـور ووجههــا وجــه إنســان وهــي
تتكلم بلسان فصيح فلما قربت من حاسب الدين سلمت عليه فرد عليها السلام.
ثــم أقبلــت حيــة مــن تلــك الحيــات التــي فــوق الكراســي إلــى ذلــك الطبـــق وحملـــت الحيـــة التـــي فوقـــه
وحطتهـا علـى كرسـي مـن تلـك الكراسـي ثـم إن تلــك الحيــة زعقــت فــي تلــك الحيــات بلغاتهــا فخــرت
جميــع الحيــات مــن فــوق كراسيهــا ودعــون لهــا وأشــارت إليهــن بالجلـــوس فجلســـن ثـــم إن الحيـــة قالـــت
لحاســـب كريـــم الديـــن لا تخـــف منـــا يـــا أيهـــا الشـــاب فإنـــي أنـــا ملكـــة الحيـــات وسلطانتهـــن فلمـــا سمــــع
حاســب كريــم الديــن ذلــك الكلــام مــن الحيــة اطمــأن قلبــه ثــم إن الحيــة أشـــارت إلـــى تلـــك الحيـــات أن
يأتـوا بشـيء مـن الأكـل فأتــوا بتفــاح وعنــب ورمــان وفستــق وبنــدق وجــوز ولــوز ومــوز وحطــوه قــدام
حاســب كريــم الديــن ثــم قالــت لــه ملكــة الحيــات: مرحبــاً بــك يــا شــاب مــا اسمــك فقــال لهــا: اسمـــي
حاســب كريــم الديــن فقالــت لــه: يــا حاســب كــل مــن هــذه الفواكــه فمــا عندنــا طعــام غيرهــا ولاتخــف
منا أبداً فلما سمع حاسب هذا الكلام من الحية أكل حتى اكتفى وحمد الله تعالى.
===
فلمــا اكتفــى مــن الأكــل رفعــوا السمــاط مــن قدامــه ثــم بعــد ذلــك قالــت لــه ملكــة الحيــات: أخبرنــي يــا
حاسـب مـن أيـن أنـت ومـن أيـن أتيـت إلـى هــذا المكــان ومــا جــرى لــك فحكــى لهــا حاســب مــا جــرى
لأبيـه وكيـف ولدتـه أمـه وألحقتـه فـي المكتـب وهـو ابـن خمـس سنيـن ولـم يتعلـم شيئـاً مـن العلــم وكيــف
حطتـه فـي الصنعــة وكيــف اشتــرت أمــه لــه الحمــار وصــار حطابــاً وكيــف لقــي جــب العســل وكيــف
تركـه رفقـاؤه الحطابـون فـي الجـب وراحـوا وكيـف نــزل عليــه العقــرب وقتلــه وكيــف وســع الشــق الــذي
نزل منـه العقـرب وطلـع مـن الجـب وأتـى إلـى البـاب الحديـدي وفتحـه حتـى وصـل إلـى ملكـة الحيـاة التـي
يكلمها ثم قال لها: وهذه حكايتي من أولها إلى آخرها والله أعلم بما يحصل لي بعد هذا كله.
فلمــا سمعــت ملكــة الحيــات حكايــة حاســب كريــم الديــن مــن أولهــا إلــى آخرهـــا قالـــت لـــه مـــا يحصـــل
لك إلا كل خير وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والستين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن ملكــة الحيــات لمــا سمعــت حكايــة حاســب كريــم الديــن مــن أولهــا
إلـى آخرهـا قالـت لـه مــا يحصــل لــك إلا كــل خيــر ولكــن أريــد منــك يــا حاســب أن تقعــد عنــدي مــدة
مـن الزمـن حتــى أحكــي لــك حكايتــي وأخبــرك بمــا جــرى لــي مــن العجائــب فقــال لهــا: سمعــاً وطاعــة
===
فيمـا تأمرينـي بـه فقالـت لـه: اعلــم يــا حاســب أنــه كــان بمدينــة مصــر ملــك مــن بنــي إسرائيــل وكــان لــه
ولـد اسمـه بولقيـا وكـان هــذا الملــك عالمــاً عابــداً مكبــاً علــى قــراءة كتــب العلــم فلمــا ضعــف وأشــرف
علـى المـوت طلعـت لـه أكابـر دولتـه ليسلمـوا عليـه فلمــا جلســوا عنــده وسلمــوا عليــه قــال لهــم. يــا قــوم
اعلمـوا أنـه قـد دنـا رحيلـي مـن الدنيـا إلـى الآخـرة ومـا لـي عندكــم شــيء أوصيكــم بــه إلا ابنــي بلوقيــا
فاستوصـــوا بـــه ثـــم قـــال أشهـــد أن لا إلـــه إلا اللـــه وشهـــق شهقــــة ففــــارق ال دنيــــا رحمــــة اللــــه عليــــه
فجهــزوه وغسلــوه ودفنــوه وأخرجــوه خرجــة عظيمــة وجعلــوا ولــده سلطانــاً عليهـــم وكـــان ولـــده عـــادلاً
في الرعيـة واستراحـت النـاس فـي زمانـه فاتفـق فـي بعـض الأيـام أنـه فتـح خزائـن أبيـه ليتفـرج فيهـا ففتـح
خزانــة مــن تلــك الخزائــن فوجــد فيهــا صــورة بــاب ففتحــه فــإذا هــي خلــوة صغيـــرة وفيهـــا عامـــود مـــن
الرخــام الأبيــض وفوقــه صنــدوق مــن الأبنــوس فأخــذه بلوقيــا وفتحــه فوجــد فيـــه صندوقـــاً آخـــر مـــن
الذهــب ففتحــه فــرأى فيــه كتابــاً ففتحــه وقــرأه فــرأى فيــه صفــة محمــد صلــى اللـــه عليـــه وسلـــم وأنـــه
يبعث في آخر الزمان وهو سيد الأولين والآخرين.
فلمـا قـرأ بلوقيـا هـذا الكتــاب وعــرف صفــات سيدنــا محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم تعلــق قلبــه بحبــه
ثــم إن بلوقيــا جمــع أكابــر بنــي إسرائيــل مــن الكهــان والأحبــار والرهبــان وأطلعهــم علــى ذلــك الكتـــاب
وقــرأه عليهــم وقـــال لهـــم: يـــا قـــوم ينبغـــي أن أخـــرج أبـــي مـــن قبـــره وأحرقـــه وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح
===
وفي الليلة التاسعة والستين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن بلوقيــا قــال لقومــه لابــد أن أخــرج أبــي مــن قبــره وأحرقــه فقــال لــه
قومـه: لـأي شـيء تحرقــه فقــال لهــم بلوقيــا: لأنــه أخفــى عنــي هــذا الكتــاب ولــم يظهــره لــي وقــد كــان
استخرجـه مـن التـوراة ومــن صحــف إبراهيــم ووضــع هــذا الكتــاب فــي خزانــة مــن خزائنــه ولــم يطلــع
عليـه أحـد مــن النــاس فقالــوا لــه يــا ملكنــا إن أبــاك قــد مــات وهــو الــآن فــي التــراب وأمــره مفــوض إلــى
ربـه ولا تخرجـه مـن قبـره فلمـا سمـع بلوقيــا هــذا الكلــام مــن أكابــر بنــي إسرائيــل عــرف أنهــم لا يمكنونــه
مــن أبيــه فتركهــم ودخــل علــى أمــه وقــال لهــا: يــا أمــي إنــي رأيــت فــي خزائــن أبــي كتابــاً صفـــة محمـــد
صلى الله عليـه وسلـم وهـو نبـي يبعـث فـي آخـر الزمـان وقـد تعلـق قلبـي بحبـه وأنـا أريـد أن أسيـح فـي
البلاد حتى أجتمع بـه فإننـي إن لـم أجتمـع بـه مـت غرامـاً فـي حبـه ثـم نـزع ثيابـه ولبـس عبـاءة وزربونـاً
وقــال لا تنسينــي يــا أمــي مــن الدعــاء فبكــت عليــه أمــه وقالــت لـــه: كيـــف يكـــون حالنـــا بعـــدك قـــال
بلوقيا: ما بقي لي صبر أبداً وقد فوضت أمري وأمرك إلى الله تعالى.
ثـم خـرج سائحـاً نحـو الشـام ولـم يـدر بـه أحـد مـن قومـه وسـار حتــى وصــل إلــى ساحــل البحــر فــرأى
مركبـاً فنـزل فيهــا مــع الركــاب وســارت بهــم إلــى أن أقبلــوا علــى جزيــرة فطلــع الركــاب مــن المركــب إلــى
===
تلـك الجزيـرة وطلـع معهـم ثـم انفـرد عنهـم فـي الجزيـرة وقعـد تحـت شجـرة فغلـب عليـه النـوم فنــام ثــم إنــه
أفــاق مــن نومــه وقــام إلــى المركــب لينــزل فيــه فــرأى المركــب أقلــع ورأى فـــي تلـــك الجزيـــرة حيـــات مثـــل
الحمـــال ومثـــل النخـــل وهـــم يذكـــرون اللـــه عـــز وجـــل ويصلـــون علـــى محمـــد صلـــى اللـــه عليــــه وسلــــم
ويصيحــــون بالتهليــــل والتسسبيــــح فلمــــا رأى ذلــــك بلوقيــــا تعجــــب غايــــة العجـــــب وأدرك شهـــــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السبعين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن بلوقيـــا لمـــا رأى الحيـــات يسبحـــون ويهللـــون تعجـــب مــــن ذلــــك
غايــة العجــب ثــم إن الحيــات لمــا رأوا بلوقيــا اجتمعــوا عليــه وقالــت لـــه حيـــة منهـــم: مـــن تكـــون أنـــت
ومــن أيــن أتيــت ومــا اسمــك وإلــى أيــن رائــح فقــال لهــا اسمــي بلوقيــا وأنــا مــن بنــي إسرائيــل وخرجـــت
هائمــاً فــي حــب محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم وفــي طلبــه فمــن تكونــون أنتــم أيتهـــا الخليقـــة الشريفـــة
فقالـت لـه الحيـات نحـن مـن سكـان جهنـم وقـد خلقنــا اللــه تعالــى نقمــة علــى الكافريــن فقــال لهــم بلوقيــا
ومــا الــذي جــاء بكــم إلــى هــذا المكــان فقالــت لــه الحيــاة اعلــم يـــا بلوقيـــا أن جهنـــم مـــن كثـــرة غليانهـــا
تتنفـس فـي السنـة مرتيـن مـرة فـي الشتـاء ومـرة فـي الصيـف واعلـم أن كثـرة الحـر مـن شــدة قيحهــا ولمــا
===
تخـرج نفسهـا ترمينـا مـن بطنهـا ولمــا تسحــب نفسهــا تردنــا إليهــا فقــال لهــم بلوقيــا: هــل فــي جهنــم أكبــر
منكـم فقالـت لـه الحيــات إننــا مــا نخــرج إلا مــع تنفسهــا لصغرنــا فــإن فــي جهنــم كــل حيــة لــو عبــر أكبــر
ما فينا في أنفها لم تحس به.
فقــال لهــم بلوقيــا: أنتــم تذكــرون اللــه وتصلــون علــى محمــد ومــن أيــن تعرفــون محمــداً صلـــى اللـــه عليـــه
وسلــم فقالــوا يــا بلوقيــا: إن اســم محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم مكتــوب علــى بــاب الجنــة ولولـــاه مـــا
خلــق اللــه المخلوقــات ولا جنــة ولا نــار ولا سمـــاء ولا أرضـــاً لـــأن اللـــه لـــم يخلـــق جميـــع الموجـــودات إلا
مــن أجــل محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم وقــرن اسمــه فــي كــل مكــان ولأجــل هــذا نحـــن نحـــب محمـــداً
صلى الله عليه وسلم.
فلمـا سمـع بلوقيـا هـذا الكلـام مـن الحيـات زاد غرامـه فـي حــب محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم وعظيــم
اشتياقـه إليـه ثــم إن بلوقيــا ودعهــم وســار حتــى وصــل إلــى شاطــئ البحــر فــرأى مركبــاً راسيــاً فــي
جنــب الجزيــرة فنــزل فيــه مــع ركابــه وســار بهــم ومــا زالــوا سائريـــن حتـــى وصلـــوا إلـــى جزيـــرة أخـــرى
فطلـع عليهـا وتمشـى ساعــة فــرأى فيهــا حيــات كبــاراً وصغــاراً لا يعلــم عددهــا إلا اللــه تعالــى وبينهــم
حيـة بيضــاء أبيــض مــن البلــور وهــي جالســة علــى طبــق مــن الذهــب وذلــك الطبــق علــى ظهــر حيــة
مثــل الفيــل وتلــك الحيــة ملكــة الحيــات وهــي أنــا يــا حاســب ثــم إن حاسبــا ســأل ملكــة الحيــات وقــال
===
فقالــت الحيــة يــا حاســب اعلــم أنــي لمــا نظــرت إلــى بلوقيــا سلمــت فــرد علــي السلــام وقلـــت لـــه: مـــن
أنــت ومــا شأنــك ومــن أيــن أقبلــت وإلــى أيــن تذهــب ومــا اسمــك فقــال أنــا مــن بنـــي إسرائيـــل واسمـــي
بلوقيـا وأنـا سائـح فـي حـب محمـد صلـى اللـه عليـه وسلـم وفـي طلبـه فإنـي رأيــت صفاتــه فــي الكتــب
المنزلــة ثــم إن بلوقيــا سألنــي وقـــال لـــي أي شـــيء أنـــت ومـــا شأنـــك ومـــا هـــذه الحيـــات التـــي حولـــك
فقلـت لـه يـا بلوقيـا أنـا ملكـة الحيـات وإذا اجتمعـت بمحمـد صلــى اللــه عليــه وسلــم فأقــرأه منــي السلــام
ثم إن بلوقيا ودعني ونزل في المركب حتى وصل إلى بيت المقدس.
وكـــان فـــي بيـــت المقـــدس رجـــل تمكـــن مـــن جميـــع العلـــوم وكـــان متقنـــاً لعلــــم الهندســــة وعلــــم الفلــــك
والحســاب والكيميــاء والروحانــي وكــان يقــرأ التــوراة والإنجيــل والزبـــور وصحـــف إبراهيـــم وكـــان يقـــال
لــه عفــان وقــد وجــد فــي كتــاب عنـــده أن كـــل مـــن لبـــس خاتـــم سيدنـــا سليمـــان انقـــادت لـــه الإنـــس
والجــن والطيــر والوحــوش وجميــع المخلوقــات ورأى فــي بعــض الكتــب أنـــه لمـــا توفـــي سيدنـــا سليمـــان
وضعـوه فـي تابـوت وعـدوا بـه سبعـة أبحـر وكـان الخاتـم فـي اصبعـه ولا يقـدر أحــد مــن الإنــس ولا مــن
الجــن أن يأخــذ ذلــك الخاتــم ولا يقــدر أحــد مــن أصحــاب المراكــب أن يــروح بمركــب إلــى ذلــك المكــان
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن عفــان وجــد فــي بعــض الكتــب أنــه لا يقــدر أحــد مــن الإنــس ولا
مـــن الجـــن أن يأخـــذ الخاتـــم مـــن اصبـــع سيدنـــا سليمـــان ولا يقـــدر أحــــد مــــن أصحــــاب المراكــــب أن
يسافـر بمركبـه فـي السبعـة أبحـر التـي عدوهـا بتابوتـه ووجـد فـي بعـض الكتـب أيضـاً أن بيـن الأعشـاب
عشبـاً كـل مـن أخـذ منـه شيئـاً وعصـره وأخـذ مــاءه ودهــن بــه قدميــه فإنــه يمشــي علــى أي بحــر خلقــه
اللـه تعالـى ولا تبتـل قدمــاه ولا يقــدر أحــد علــى تحصيــل ذلــك إلا إذا كانــت معــه ملكــة الحيــات ثــم إن
بلوقيـا لمـا دخـل بيـت المقـدس جلـس فـي مكـان يعبـد اللـه تعالـى فبينمــا هــو جالــس يعبــد اللــه إذ أقبــل
عليــه عفــان وسلــم عليــه فــرد عليــه السلــام ثــم إن عفــان نظــر إلــى بلوقيــا فــرآه يقــرأ فــي التـــوراة وهـــو
جالـــس يعبـــد اللـــه تعالـــى فتقـــدم إليـــه وقـــال لـــه: أيهـــا الرجـــل مـــا اسمـــك ومـــن أيـــن أتيــــت وإلــــى أيــــن
تذهــب فقــال لــه: اسمــي بلوقيــا وأنــا مــن مدينــة مصــر خرجــت سائحــاً فــي طلــب محمــد صلـــى اللـــه
عليه وسلم.
فقــال عفــان لبلوقيــا: قــم معــي إلــى منزلــي حتــى أستضيفــك فقــال سمعــاً وطاعــة فأخـــذ عفـــان بيـــد
بلوقيــا وذهــب إلــى منزلــه وأكرمــه غايــة الإكــرام وبعــد ذلــك قــال لــه أخبرنـــي يـــا أخـــي بخبـــرك مـــن أيـــن
عرفـت محمـد صلـى اللـه عليـه وسلـم حتـى تعلـق قلبـك بحبـه وذهبـت فـي طلبـه ومـن دلـك علــى هــذا
الطريق فحكى له بلوقيا حكايته من الأول إلى الآخر.
===
فلمــا سمــع عفــان كلامـــه كـــاد أن يذهـــب عقلـــه وتعجـــب مـــن ذلـــك غايـــة العجـــب ثـــم إن عفـــان قـــال
لبلوقيـا اجمعنـي علـى ملكـة الحيـات وأنـا أجمعـك علـى محمـد صلـى اللـه عليــه وسلــم لــأن زمــان مبعــث
محمـد صلـى اللـه عليـه وسلـم بعيـد وإذا ظفرنـا بملكـة الحيـات نحطهــا فــي قفــص ونــروح إلــى الأعشــاب
التـي فـي الجبـال وكـل عشـب جزنـا عليـه وهـي معنـا ينطـق ويخبـر بمنفعتــه بقــدرة اللــه تعالــى فإنــي قــد
وجـدت عنـدي فـي الكتـب أن فـي الأعشـاب عشبـاً كـل مـن أخـذه ودقـه وأخـذ مـاءه ودهـن بـه قدميـه
ومشــى علــى أي بحــر خلقــه اللــه تعالــى لــم يبتــل لــه قــدم فــإذا أخذنــا ملكــة الحيــات تدلنــا علــى ذلـــك
العشــب وإذا وجدنــاه نأخــذه وندقــه ونأخــذ مـــاءه ثـــم نطلقهـــا إلـــى حـــال سبيلهـــا وندهـــن بذلـــك المـــاء
أقدامنـا ونعـدي السبعـة أبحـر ونصـل إلـى مدفـن سيدنـا سليمـان ونأخـذ الخاتـم مـن اصبعــه ونحكــم كمــا
حكـم سيدنـا سليمـان ونصـل إلـى مقصودنــا وبعــد ذلــك ندخــل بحــر الظلمــات فنشــرب مــن مــاء الحيــاة
فيمهلنا الله إلى آخر الزمان نجتمع بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فلمـا سمــع بلوقيــا هــذا الكلــام مــن عفــان قــال يــا عفــان أنــا أجمعــك بملكــة الحيــات وأريــك مكانهــا فقــام
عفـان وصنـع لـه قفصـاً مــن حديــد وأخــذ معــه قدحيــن ومــلأ أحدهمــا خمــراً ومــلأ الآخــر لبنــاً وســار
عفان هو وبلوقيا أياماً وليالي حتـى وصـلا إلـى الجزيـرة التـي فيهـا ملكـة الحيـات فطلـع عفـان وبلوقيـا إلـى
الجزيـــرة وتمشيـــا فيهـــا وبعـــد ذلـــك وضـــع عفـــان القفـــص ونصـــب فيـــه فخـــاً وأدرك شهـــرزاد الصبــــاح
===
وفي الليلة الثانية والسبعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن عفـــان وضـــع القفـــص ونصـــب فيـــه فخـــاً ووضـــع فيـــه القدحيـــن
المملوءيــن خمــراً ولبنــاً ثــم تباعــدا عــن القفــص واستخفيــا ساعــة فأقبلــت ملكــة الحيـــات علـــى القفـــص
حتـى قربـت مـن القدحيـن فتأملـت فيهمـا ساعــة فلمــا شمــت رائحــة اللبــن نزلــت مــن فــوق ظهــر الحيــة
التـي هـي فوقهـا وطلعـت مـن الطبـق ودخلـت القفـص وأتـت إلـى القـدح الــذي فيــه الخمــر وشربــت منــه
فلما شربت من ذلك القدح داخت رأسها ونامت.
فلمــا رأى ذلــك عفــان تقــدم إلــى القفــص المقفــل علــى ملكــة الحيــات ثـــم أخذهـــا هـــو وبلوقيـــا وســـارا
فلمـا أفاقـت رأت روحهـا فــي القفــص مــن حديــد والقفــص علــى رأس رجــل وبجانبــه بلوقيــا فلمــا رأت
ملكـة الحيـات بلوقيـا قالـت هـذا جـزاء مـن لا يـؤذي بنـي آدم فـرد عليهـا بلوقيـا وقـال لهــا: لا تخافــي منــا
يـــا ملكـــة الحيـــات فإننـــا لا نؤذيـــك أبـــداً ولكـــن نريـــد أن تدلينـــا علـــى العشــــب كــــل مــــن أخــــذه ودقــــه
واستخـرج مـاءه ودهـن بــه قدميــه ومشــى علــى أي بحــر خلقــه اللــه تعالــى لا تبتــل قدمــاه فــإذا وجدنــا
ذلـك العشــب أخذنــاه ونرجــع بــك إلــى مكانــك ونطلقــك إلــى حــال سبيلــك ثــم إن عفــا وبلوقيــا ســارا
بملكــة الحيــات نحــو الجبــال التــي فيهــا الأعشــاب ودارا بهــا علــى جميــع الأعشــاب فصــار كــل عشـــب
===
فبينمـا همــا فــي هــذا الأمــر والأعشــاب تنطــق يمينــاً وشمــالاً وتخبــر بمنافعهــا وإذا بعشــب نطــق وقــال
أنـا العشـب الـذي كــل مــن أخذنــي ودقنــي وأخــذ مائــي ودهــن قدميــه وجــاز علــى أي بحــر خلقــه اللــه
تعالى لا تبتل قدماه.
فلمــا سمــع عفــان كلــام العشــب حــط القفــص مــن فــوق رأســه وأخـــذا مـــن ذلـــك العشـــب مـــا يكفيهمـــا
ودقـاه وعصـراه وأخـذا مـاءه وجعلــاه فــي قزازتيــن وحفظاهمــا والــذي فضــل منهمــا دهنــا بــه أقدامهمــا
ثـم إن بلوقيـا وعفـان أخـذا ملكـة الحيـات وسـارا بهـا ليالـي وأيامـاً حتـى وصـلا إلـى الجزيــرة التــي كانــت
فيهــا وفتــح عفــان بــاب القفــص فخرجــت منــه ملكــة الحيــات فلمــا خرجــت قالــت لهمــا: مــا تصنعــان
بهــذا المـــاء قـــالا لهـــا: مرادنـــا أن ندهـــن بـــه أقدامنـــا حتـــى نتجـــاوز السبعـــة أبحـــر ونصـــل إلـــى مدفـــن
سيدنا سليمان ونأخذ الخاتم من اصبعه.
فقالـــت لهمـــا ملكـــة الحيـــات: هيهـــات أن تقـــدرا علـــى أخـــذ الخاتـــم فقـــالا لهـــا: لــــأي شــــيء فقالــــت
لهمــا: لــأن اللــه تعالــى مــن علــى سيدنــا سليمــان بإعطائــه ذلــك الخاتــم وخصــه بذلــك لأنــه قــال: رب
هـب لـي ملكـاً لا ينبغـي لأحـد مـن بعـدي إنـك أنــت الوهــاب فمــا لكمــا وذلــك الخاتــم ثــم قالــت لهمــا:
لـو أخذتمـا مـن العشـب الــذي كــل مــن أكــل منــه لا يمــوت إلــى النفخــة الأولــى وهــو بيــن تلــك الأعشــاب
لكــان أنفــع لكمــا مـــن هـــذا الـــذي أخذتمـــاه فإنـــه لا يحصـــل لكمـــا منـــه مقصودكمـــا فلمـــا سمعـــا كلامهـــا
===
ندمــــا ندمــــاً عظيمــــاً وســــارا إلــــى حــــال سبيلهمــــا وأدرك شهــــرزاد الصبــــاح فسكتــــت عــــن الكلـــــام
المباح.
وفي الليلة الثالثة والسبعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيــا وعفــان لمــا سمعــا كلــام ملكــة الحيــات ندمـــا ندمـــاً عظيمـــاً
وسارا إلى حال سبيلهما هذا ما كان من أمرهما.
وأمـــا مـــا كـــان مـــن أمـــر ملكـــة الحيـــات فإنهـــا أتــــت إلــــى عساكرهــــا فرأتهــــم قــــد ضاعــــت مصالحهــــم
وضعــف قويهــم وضعيفهـــم مـــات فلمـــا رأت الحيـــات ملكتهـــم بينهـــم فرحـــوا واجتمعـــوا حولهـــا وقالـــوا
لهـا: مـا خبـرك وأيـن كنــت فحكــت لهــم جميــع مــا جــرى لهــا مــع عفــان وبلوقيــا ثــم بعــد ذلــك جمعــت
جنودهــا وتوجهــت بهــم إلــى جبــل قــاف لأنهــا كانــت تشتــي فيـــه وتصيـــف المكـــان الـــذي رآهـــا فيـــه
حاسب كريم الدين.
ثــم إن الحيــة قالــت: يــا حاســب هــذه حكايتــي ومــا جــرى لــي فتعجــب حاســب مــن كلــام الحيــة ثــم
قــال لهــا: أريــد مــن فضلــك أن تأمــري أحــداً مــن أعوانــك أن يخرجنــي إلــى وجـــه الـــأرض وأروح إلـــى
أهلــي فقالــت لــه ملكــة الحيــات: يــا حاســب ليــس لــك رواح مــن عندنــا حتــى يدخــل الشتــاء وتـــروح
===
معنـا إلـى جبـل قـاف وتتفــرج فيــه علــى تلــال ورمــال وأشجــار وأطيــار تسبــح الواحــد القهــار وتتفــرج
على مردة وعفاريت وجان ما يعلم عددهم إلا الله تعالى.
فلمــا سمـــع حاســـب كريـــم الديـــن كلـــام ملكـــة الحيـــات صـــار مهمومـــاً مغمومـــاً ثـــم قـــال لهـــا: اعلمينـــي
بعفـان وبلوقيـا لمـا فارقــاك وســارا هــل عديــا السبعــة بحــور ووصــلا إلــى مدفــن سيدنــا سليمــان أو لا
وإذا كانـا وصـلا إلـى مدفـن سيدنـا سليمـان هــل قــدرا علــى أخــذ الخاتــم أو لا. فقالــت لــه: اعلــم أن
عفــان وبلوقيــا لمــا فارقانــي وســارا دهنــا أقدامهمــا مــن ذلـــك المـــاء ومشيـــا علـــى وجـــه البحـــر حتـــى
عديـا السبعـة أبحـر فلمـا عديــا تلــك البحــار وجــدا جبــلاً عظيمــاً شاهقــاً فــي الهــواء وهــو مــن الزمــرد
الأخضـر وفيـه عيـن تجـري وترابـه كلـه مـن المسـك فلمـا وصـلا إلـى ذلـك المكـان فرحــا وقــالا: قــد بلغنــا
مقصودنـا ثـم ســارا حتــى وصــلا إلــى جبــل عــال فمشيــا فيــه فرأيــا مغــارة مــن بعيــد فــي ذلــك الجبــل
وعليهــا قبــة عظيمــة والنــور يلــوح منهــا فلمــا رأيــا تلــك المغـــارة قصداهـــا حتـــى وصـــلا إليهـــا فدخـــلا
فرأيــا فيهــا تختــاً منصوبــاً مــن الذهــب مرصعــاً بأنــواع الجواهــر وحولــه كراســـي منصوبـــة لايحصـــي لهـــا
عــدد إلا اللــه تعالــى ورأيــا السيــد سليمــان نائمــاً فــوق ذلــك التخــت وعليــه حلــة مــن الحريـــر الأخضـــر
مزركشـة بالذهـب مرصعـة بنفيـس المعـادن مـن الجوهـر ويـده اليمنـى علـى صـدره والخاتــم فــي اصبعــه
ونــور الخاتــم يغلــب علــى نــور تلــك الجواهــر التــي فــي ذلــك المكــان ثــم إن عفــان علــم بلوقيــا أقسامـــاً
===
وعزائـم وقـال لـه: اقـرأ هـذه الأقسـام ولا تتـرك قراءتهـا حتـى آخــذ الخاتــم ثــم تقــدم عفــان إلــى التخــت
حتـى قـرب منــه وإذا بحيــة عظيمــة طلعــت مــن تحــت التخــت ورعقــت زعقــة عظيمــة فارتعــد ذلــك
المكــان مــن زعقتهــا وصــار الشــرر يطيــر مــن فمهــا ثــم إن الحيــة قالــت لعفــان: إن لــم ترجـــع أهلكتـــك
فاشتغـل عفـان بالأقسـام ولـم ينزعــج مــن تلــك الحيــة فنفخــت عليــه الحيــة نفخــة عظيمــة كــادت تحــرق
ذلك المكان وقالت: ويلك إن لم ترجع أحرقتك.
فلمـا سمـع بلوقيـا هـذا الكلـام مـن الحيـة طلـع مـن المغــارة وأمــا عفــان فإنــه لــم ينزعــج مــن ذلــك ثــم تقــدم
إلـى السيـد سليمــان ومــد يــده ولمــس الخاتــم وأراد أن يسحبــه مــن اصبــع السيــد سليمــان وإذا بالحيــة
نفخــت علــى عفــان فأحرقتــه وصــار كــوم رمــاد. وهــاذ مــا كــان مــن أمــر هــؤلاء. وأمــا مـــا كـــان مـــن
أمـــر بلوقيـــا فإنـــه وقـــع مغشيـــاً عليـــه مـــن هـــذا الأمـــر وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن الكلـــام
المباح.
وفي الليلة الرابعة والسبعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيـــا لمـــا رأى عفـــان احتـــرق وصـــار كـــوم رمـــاد وقـــع مغشيـــاً
عليـه وأمـر الـرب جـل جلالـه جبريـل أن يهبـط إلــى الــأرض قبــل أن تنفــخ الحيــة علــى بلوقيــا فهبــط إلــى
===
الــأرض بسرعــة فــرأى بلوقيــا مغشيــاً عليـــه ورأى عفـــان احتـــرق مـــن نفخـــة الحيـــة فأتـــى جبريـــل إلـــى
بلوقيـا وأيقظـه مــن غشيتــه. فلمــا أفــاق سلــم عليــه جبريــل وقــال لــه: مــن أيــن أتيتمــا إلــى هــذا المكــان
ف حكـى لـه بلوقيــا جميــع حكايتــه مــن الــأول إلــى الآخــر ثــم قــال لــه: اعلــم أننــي مــا أتيــت إلــى هــذا
المكــان إلا بسبــب محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم فــإن عفــان أخبرنــي أنــه يبعــث فــي آخـــر الزمـــان ولا
يجتمــع بــه إلا مــن يعيــش إلــى ذلــك الوقــت إلا مــن شــرب مــن مـــاء الحيـــاة ولايمكـــن ذلـــك إلا بالحصـــول
علـى خاتـم سليمـان عليـه السلـام فصحبتـه إلـى هـذا المكـان وحصـل لـه مـا حصـل وهاهـو قــد احتــرق
وأنا لم أحترق ومرادي أن تخبرني بمحمد أين يكون.
فقــال لــه جبريــل: يــا بلوقيــا اذهــب إلــى حــال سبيلــك فــإن زمــان محمــد بعيـــد ثـــم ارتفـــع جبريـــل إلـــى
السمـاء مـن وقتـه وأمــا بلوقيــا فإنــه صــار يبكــي بكــاء شديــداً ونــدم علــى مــا فعــل وتفكــر قــول ملكــة
الحيات: هيهـات أن يقـدر أحـد علـى أخـذ الخاتـم فتجبـر بلوقيـا فـي نفسـه وبكـى ثـم إنـه نـزل مـن الجبـل
وسـار ولـم يـزل سائـراً حتـى قـرب مـن شاطـئ البحــر وقعــد هنــاك يتعجــب مــن تلــك الجبــال والبحــار
والجزائر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والسبعين بعد الأربعمائة
===
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيــا تعجــب مــن تلــك الجبــال والبحــار والجزائــر ثــم بــات تلــك
الليلــة فــي ذلــك الموضــع ولمــا أصبــح الصبــاح دهـــن قدميـــه مـــن الـــذي كانـــا أخـــذاه مـــن العشـــب ونـــزل
البحــر وصــار ماشيــاً فيــه أيامــاً وليالـــي وهـــو يتعجـــب مـــن أهـــوال البحـــر وعجائبـــه وغرائبـــه ومـــازال
ماشيــاً علــى وجــه المــاء حتــى وصــل إلــى جزيــرة كأنهــا الجنــة فطلـــع بلوقيـــا إلـــى تلـــك الجزيـــرة وصـــار
يتعجـب منهــا ومــن حسنهــا وســاح فيهــا فرآهــا جزيــرة عظيمــة ترابهــا زعفــران وحصاهــا مــن الياقــوت
والمعــادن الفاخــرة وسياجهــا الياسميــن وزرعهــا مــن أحســن الأشجــار وأبهــج الرياحيــن وأطيبهــا وفيهـــا
عيـــون جاريـــة وحطبهـــا مـــن العـــود القمـــاري والعـــود القاقلــــي وبوصهــــا مــــن قصــــب السكــــر وحولهــــا
الــورد والنرجــس والغبهــر والقرنفــل والأقحـــوان والسوســـن والبنفســـج وكـــل ذلـــك فيهـــا أشكـــال وألـــوان
وأطيارهــا تناغــي علــى تلــك الأشجــار وهــي مليحــة الصفـــات واسعـــة الجهـــات كثيـــرة الخيـــرات قـــد
حــــوت جميــــع الحســــن والمعانــــي وتغريــــد أطيارهــــا ألطــــف مــــن رنــــات المثانــــي وأشجارهــــا باسقـــــة
وأطيارهـــا ناطقـــة وأنهارهـــا دافقـــة وعيونهــــا جاريــــة ومياههــــا خاليــــة وفيهــــا الغزلــــان تمــــرح والجــــآذر
تسنــح الأطيــار علــى تلــك الأغصــان تسلــي العاشــق الولهــان فتعجــب بلوقيــا مــن هــذه الجزيــرة وعلــم
أنـه قـد تـاه عـن الطريـق التـي قـد أتـى منهـا أول مـرة حيـن كـان معـه عفـان فسـاح فـي تلـك الجزيـرة وتفــرج
فيها إلى وقت المساء.
===
فلمــا أمســى عليــه الليــل طلــع علــى شجــرة عاليــة لينــام فوقهــا وصــار يتفكــر فــي حســن تلــك الجزيـــرة
فبينمـا هـو فــوق الشجــرة علــى تلــك الحالــة إذا بالبحــر قــد اختبــط وطلــع منــه حيــوان عظيــم وصــاح
صياحــاً عظيمــاً حتــى انزعجــت حيوانــات تلــك الجزيــرة مــن صياحــه فنظــر إليــه بلوقيـــا وهـــو جالـــس
علــى الشجــرة فــرآه حيوانــاً عظيمــاً فصــار يتعجــب منــه فلــم يشعــر بعــد ساعـــة إلا وطلـــع خلفـــه مـــن
البحــر وحــوش مختلفــة الألــوان وفــي يــد كــل وحــش منهــا جوهــرة تضــيء مثــل الســراج حتــى صـــارت
الجزيرة مثل النهار من ضياء الجواهر.
وبعــد ساعــة أقبلـــت مـــن الجزيـــرة وحـــوش لا يعلـــم عددهـــا إلا اللـــه تعالـــى فنظـــر إليهـــا بلوقيـــا فرآهـــا
وحـوش الفلـاة مـن سبـاع ونمـور وفهـود وغيـر ذلـك مـن حيوانـات البــر ولــم تــزل وحــوش البــر مقبلــة حتــى
اجتمعـت مـع وحـوش البحـر فـي جانــب الجزيــرة وصــاروا يتحدثــون إلــى الصبــاح فلمــا أصبــح الصبــاح
افترقوا عن بعضهم ومضى كل واحد منهم إلى حال سبيله.
فلمــا داهــم بلوقيــا خــاف ونــزل مــن فــوق الشجــرة وســار إلــى شاطــئ البحــر ودهــن قدميــه مــن المــاء
الــذي معــه ونــزل البحــر الثانــي وســار علــى وجــه المــاء ليالـــي وأيامـــاً حتـــى وصـــل إلـــى جبـــل عظيـــم
وتحــت ذلـــك الجبـــل واد مـــا لـــه مـــن آخـــر وذلـــك الـــوادي حجارتـــه مـــن المغناطيـــس ووحوشـــه سبـــاع
وأرانــب ونمــور فطلــع بلوقيــا إلــى ذلــك الجبــل وســاح فيــه مــن مكــان إلـــى مكـــان حتـــى أمســـى عليـــه
===
المسـاء فجلـس تحـت قنـة مـن قنـن ذنـك الجبــل بجانــب البحــر وصــار يأكــل مــن السمــك الناشــف الــذي
يقذفه البحر.
فبينمـــا هـــو جالـــس يأكـــل مـــن ذلـــك السمـــك وإذ بنمـــر عظيــــم أقبــــل علــــى بلوقيــــا وأراد أن يفترســــه
فالتفــت بلوقيــا إلــى ذلــك النمــر فــرآه هاجمــاً عليــه ليفترســه فدهــن قدميــه مـــن المـــاء الـــذي معـــه ونـــزل
البحـر الثالـث هربـاً مـن ذلــك النمــر وســار علــى وجــه المــاء فــي الظلــام وكانــت ليلــة ســوداء ذات ريــح
عظيــم ومـــا زال سائـــراً حتـــى أقبـــل علـــى جزيـــرة فطلـــع عليهـــا فـــرأى فيهـــا أشجـــاراً رطبـــة ويابســـة
فأخــذ بلوقيــا مــن ثمــر تلــك الأشجــار وأكــل وحمــد اللــه تعالــى ودار فيهــا يتفـــرج إلـــى وقـــت المســـاء.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والسبعين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن بلوقيـا دار يتفـرج فــي تلــك الجزيــرة ولــم يــزل دائــراً يتفــرج فيهــا إلــى
وقـت المسـاء فنـام فـي تلـك الجزيـرة ولمــا أصبــح الصبــاح صــار يتأمــل فــي جهاتهــا ولــم يــزل يتفــرج فيهــا
مـدة عشـرة أيـام وبعـد ذلــك توجــه إلــى شاطــئ البحــر ودهــن قدميــه ونــزل البحــر الرابــع ومشــى علــى
المـاء ليـلاً ونهـاراً حتــى وصــل إلــى جزيــرة فــرأى أرضهــا مــن الرمــل الناعــم الأبيــض وليــس فيهــا شــيء
===
مــن الشجــر ولا مــن الــزرع فتمشــى فيهــا ساعــة فوجـــد وحشهـــا الصقـــور وهـــي معششـــة فـــي ذلـــك
الرمــل فلمــا رأى ذلــك دهــن قدميــه ونــزل فــي البحــر الخامــس وســار فـــوق المـــاء ومـــازال سائـــراً ليـــلاً
ونهــاراً حتــى أقبــل علــى جزيــرة صغيــرة أرضهــا وجبالهــا مثــل البلــور وفيهــا العــروق التــي يصنــع منهـــا
الذهـب وفيهـا أشجـار غريبـة مـا رأى مثلهـا فـي سياحتـه وأزهارهـا كلــون الذهــب فطلــع منهــا بلوقيــا
إلى تلك الجزيرة وصار يتفرج فيها إلى وقت المساء.
فلمـا جــن عليــه الظلــام صــارت الأزهــار تضــيء فــي تلــك الجزيــرة كالنجــوم فتعجــب بلوقيــا مــن هــذه
الجزيـرة وقـال: أن الأزهـار التـي فـي هـذه الجزيـرة هـي التـي تيبـس مــن الشمــس وتسقــط علــى الــأرض
فتضربهــا الريــاح فتجتمــع تحــت الحجــارة وتصيــر أكسيــراً فيأخذونهـــا ويصنعـــون منهـــا الذهـــب ثـــم إن
بلوقيـا نـام فـي تلـك الجزيـرة إلـى وقـت الصبـاح وعنـد طلــوع الشمــس دهــن قدميــه مــن المــاء الــذي معــه
ونــزل البحــر الســادس وســار ليالــي وأيامــاً حتــى أقبــل علــى جزيــرة فطلــع عليهــا وتمشــى فيهـــا ساعـــة
فــرأى فيهــا جبليــن وعليهمــا أشجــار كثيــرة وأثمــار تلــك الشجـــرة كـــرؤوس الآدمييـــن وهـــي معلقـــة مـــن
شعورهـا ورأى فيهـا أشجـاراً أخـرى أثمارهــا طيــور خضــر معلقــة مــن أرجلهــا وفيهــا أشجــار تتوقــد
مثــل النــار ولهــا فواكــه مثــل الصبــر وكــل مــن سقطــت عليــه نقطــة مــن تلــك الفواكـــه احتـــرق بهـــا ورأى
بهـا فواكـه تبكـي وفواكـه تضحــك ورأى بلوقيــا فــي تلــك الجزيــرة عجائــب ثــم إنــه تمشــي إلــى شاطــئ
===
فلمـا أظلـم الظلـام طلـع فــوق الشجــرة وصــار يتفكــر فــي مصنوعــات اللــه تعالــى فبينمــا هــو كذلــك إذا
بالبحـر قــد اختلــط وطلــع منــه نبــات البحــر وفــي يــد كــل واحــدة منهــن جوهــرة تضــيء مثــل المصبــاح
وسـرن حتـى أتيـن تلـك الشجـرة وجلسـن ولعبـن ورقصـن وطربـن فصـار بلوقيـا يتفـرج عليهـن وهــن فــي
هذه الحالة ولم يزلن في لعب إلى الصباح.
فلمــا أصبحــن نزلــن إلــى البحــر فتعجــب منهــن بلوقيــا ونــزل مــن فــوق الشجــرة ودهــن قدميــه مــن المــاء
الـذي معـه ونــزل البحــر السابــع وســار ولــم يــزل سائــراً مــدة شهريــن وهــو لا ينظــر جبــلاً ولا جزيــرة ولا
بــراً ولا واديــاً ولا ساحــلاً حتــى قطــع ذلــك البحــر وقاســى فيــه جوعــاً عظيمــاً حتــى صــار يخطـــف
السمـــك مـــن البحـــر ويأكلـــه نيئـــاً مـــن شـــدة جوعـــه. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن الكلــــام
المباح.
وفي الليلة السابعة والسبعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن بلوقيـــا لمـــا قاســـى فـــي البحـــر الجـــوع العظيـــم وصـــار يخطـــف
السمــك مــن البحــر ويأكلــه نيئــاً مــن شــدة جوعــه ولــم يــزل سائــراً علــى هــذه الحالـــة حتـــى انتهـــى إلـــى
جزيــرة أشجارهــا كثيــرة وأنهارهـــا غزيـــرة فطلـــع إلـــى تلـــك الجزيـــرة وصـــار يمشـــي فيهـــا ويتفـــرج يمينـــاً
===
وشمــالاً وكــان ذلــك فــي وقــت الضحــى ومــا زال يتمشــى حتـــى أقبـــل علـــى شجـــرة تفـــاح فمـــد يـــده
ليأكــل مــن تلــك الشجــرة إذا بشخــص صــاح عليــه مــن تلـــك الشجـــرة وقـــال لـــه: إن تقربـــت إلـــى هـــذه
الشجــرة وأكلـــت منهـــا شيئـــاً قسمتـــك نصفيـــن فنظـــر بلوقيـــا إلـــى ذلـــك الشخـــص فـــرآه طويـــلاً طولـــه
أربعـــون ذراعـــاً بـــذراع أهـــل الزمـــان فلمـــا رآه بلوقيـــا خـــاف منـــه خوفـــاً شديــــداً وامتنــــع عــــن تلــــك
الشجرة.
ثــم قــال بلوقيــا: لــي شــيء تمنعنــي مــن الأكــل مــن هــذه الشجــرة فقــال لــه: لأنــك ابــن آدم وأبــوك نســي
عهــد اللــه فعصهــا وأكــل مــن الشجــرة فقــال لــه بلوقيــا: أي شــيء أنـــت ولمـــن هـــذه الجزيـــرة والأشجـــار
ومــا اسمــك فقــال لــه الشخــص: أنــا اسمــي شراهيــا وهــذه الأشجــار والجزيــرة للملــك صخــر وأنـــا مـــن
أعوانه وقد وكلني على هذه الجزيرة.
ثــم أن شراهيــا ســأل بلوقيــا وقــال لــه: مــن أنــت ومــن أيــن أتيـــت إلـــى هـــذه البلـــاد فحكـــى لـــه بلوقيـــا
حكايتــه مــن الــأول إلــى الآخــر فقــال لــه شراهيــا: لاتخــف ثــم جــاء لــه بشــيء مــن الأكـــل فأكـــل بلوقيـــا
حتـى اكتفـى ثـم ودعـه وسـار ولـم يـزل سائــراً مــدة عشــرة أيــام فبينمــا هــو سائــر فــي جبــال ورمــال إذ
نظـر غبـرة عاقـدة فـي الجـو فقصــد بلوقيــا صــوب تلــك الغبــرة فسمــع صياحــاً وضربــاً وهرجــاً عظيمــاً
فمشـى بلوقيـا نحـو تلـك الغبـرة حتـى وصــل إلــى واد عظيــم طولــه مسيــرة شهريــن ثــم تأمــل بلوقيــا فــي
===
جهـة ذلـك الصيـاح فــرأى أناســاً راكبيــن علــى خيــل وهــم يقتتلــون مــع بعضهــم وقــد جــرى الــدم بينهــم
حتـى صـار مثـل النهـر ولهـم أصـوات الرعـد وفـي أيديهــم رمــاح وسيــوف وأعمــدة مــن الحديــد وقســى
ونبال وهم في قتال عظيم فأخذه خوف شديد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والسبعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيـــا لمـــا رأى هـــؤلاء النـــاس بأيديهـــم السلـــاح وهـــم فـــي قتـــال
عظيـــم أخـــذه الخـــوف الشديـــد وتحيـــر فـــي أمـــره فبينمـــا هـــو كذلـــك إذ رأوه فلمـــا رأوه امتنعـــوا عــــن
بعضهــم وتركــوا الحــرب ثــم أتــت إليــه طائفــة منهــم فلمــا قربــوا منــه تعجبــوا مــن خلقتــه ثـــم تقـــدم إليـــه
فـــارس منهـــم وقـــال لـــه: أي شـــيء أنـــت ومـــن أيــــن أتيــــت وإلــــى أيــــن رائــــح ومــــن دلــــك علــــى هــــذا
الطريــق حتــى وصلــت إلــى بلادنــا فقــال لــه بلوقيــا: أنــا مــن بنــي آدم وجئــت هائمـــاً فـــي حـــب محمـــد
صلــى اللــه عليــه وسلــم ولكنــي تهــت عــن الطريــق فقــال لــه الفــارس: نحــن مـــا رأينـــا ابـــن آدم قـــط ولا
أتى إلى هذه الأرض وصاروا يتعجبون منه ومن كلامه.
ثــم إن بلوقيــا سألهــم وقــال لهــم أي شــيء أنتــم أيتهــا الخلقــة قــال لــه الفــارس: نحــن مــن الجــان فقــال لــه
===
بلوقيــا: يــا أيهــا الفــارس مــا سبــب القتــال الــذي بينكــم وأيــن مسكنكــم ومــا اســم هــذا الــوادي وهــذه
الأراضــي فقــال لــه الفــارس نحــن مسكننــا الــأرض البيضــاء وفــي كــل عــام يأمرنـــا اللـــه تعالـــى أن نأتـــي
إلــى هــذه الــأرض ونغــزو الجــان الكافريــن. فقــال لــه بلوقيــا: وأيــن الــأرض البيضــاء فقـــال لـــه الفـــارس:
خلـف جبـل قـاف بمسيـرة خمســة وسبعيــن سنــة وهــذا الــأرض يقــال لهــا: أرض شــاد بــن عــاد ونحــن
أتينــا إليهــا لنغزوهــا ومــا لنــا شغــل ســوى التسبيــح والتقديــس ولنــا ملــك يقــال لـــه: الملـــك صخـــر ومـــا
يمكن إلا أن تروح معنا إليه حتى ينظرك ويتفرج عليك.
ثــم إنهــم ســاروا وبلوقيــا معهــم حتــى أتـــوا منزلهـــم فنظـــر بلوقيـــا خيامـــاً مـــن الحريـــر الأخضـــر لا يعلـــم
عددهــا إلا اللــه تعالــى ورأى بينهـــا خيمـــة منصوبـــة مـــن الحريـــر الأحمـــر واتساعهـــا مقـــدار ألـــف ذراع
وأطنابهـا مـن الحريــر الــأزرق وأوتادهــا مــن الذهــب والفضــة فتعجــب بلوقيــا مــن تلــك الخيمــة ثــم إنهــم
سـاروا بـي حتـى أقبلـوا علـى الخيمـة فــإذا هــي خيمــة الملــك صخــر. ثــم دخلــوا بــه حتــى أتــوا قــدام
الملــك صخــر فنظــر بلوقيــا إلـــى الملـــك فـــرآه جالســـاً علـــى تخـــت عظيـــم مـــن الذهـــب الأحمـــر مرصـــع
بالــدر والجواهــر وعلــى يمينــه ملــوك الجــان وعلــى يســاره الحكمــاء والأمــراء وأربـــاب الدولـــة وغيرهـــم
فلمــا رآه الملــك صخــر أمــر أن يدخلــوا بــه عنــده فدخلــوا بــه عنـــد الملـــك فتقـــدم بلوقيـــا وسلـــم عليـــه
وقبــل الــأرض بيــن يديــه فــرد عليــه السلــام الملــك صخــر ثــم قــال لــه: ادن منــي أيهــا الرجـــل فدنـــا منـــه
===
بلوقيــا حتــى صــار بيــن يديــه فعنــد ذلــك أمــر الملــك صخــر أن ينصبــوا لــه كرسيــاً بجانبــه فنصبـــوا لـــه
كرسياً بجانب الملك ثم أمره الملك صخر أن يجلس على ذلك الكرسي فجلس بلوقيا عليه.
ثـــم إن الملـــك صخـــر ســـأل بلوقيـــا وقـــال لـــه: أي شـــيء أنـــت فقـــال لـــه: أنـــا مــــن بنــــي آدم مــــن بنــــي
إسرائيـل فقـال لــه الملــك صخــر: احــك لــي حكايتــك وأخبرنــي بمــا جــرى لــك وكيــف أتيــت إلــى هــذه
الــأرض فحكــى لــه بلوقيــا جميــع مــا جــرى لـــه فـــي سياحتـــه مـــن الـــأول إلـــى ا لآخـــر فتعجـــب الملـــك
صخر من كلامه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والسبعين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيــا لمــا أخبــر الملــك صخــر بجميــع مــا جــرى لــه فــي سياحتــه
مــن الــأول إلــى الآخــر تعجــب مــن ذلــك ثــم أمــر الفراشيــن أن يأتــوا بسمــاط فأتــوه بــه ومـــدوه ثـــم إنهـــم
أتــوا بصوانــي مــن الذهــب الأحمــر وصوانــي مــن الفضــة وصوانــي مـــن النحـــاس وبعـــض الصوانـــي فيهـــا
خمسـون جمــلاً مسلوقــة وبعضهــا فيهــا عشــرون جمــلاً وبعضهــا فيهــا خمســون رأســاً مــن الغنــم وعــدد
الصوانـي ألــف وخمسمائــة صينيــة. فلمــا رأى بلوقيــا ذلــك تعجــب غايــة العجــب ثــم إنهــم أكلــوا وأكــل
===
بلوقيــا معهــم حتــى اكتفــى وحمــد اللــه تعالــى وبعــد ذلــك رفعــوا الطعــام وأتــوا بفواكــه فأكلــوا ثـــم بعـــد
ذلــك سبحــوا اللــه وصلـــوا علـــى نبيـــه محمـــد صلـــى اللـــه عليـــه وسلـــم فلمـــا سمـــع بلوقيـــا ذكـــر محمـــد
تعجــب وقـــال للملـــك صخـــر: أريـــد أن أسألـــك بعـــض مسائـــل فقـــال لـــه الملـــك صخـــر: ســـل ماتريـــد
فقــال لــه بلوقيــا: يــا ملــك أي شــيء أنتــم ومــن أيــن أصلكــم ومــن أيــن تعرفــون محمــداً صلــى اللـــه عليـــه
وسلــم حتــى تصلــون عليــه وتحبونــه فقــال لــه الملــك صخــر: يــا بلوقيــا إن اللــه تعالــى خلــق النــار سبــع
طبقــات بعضهــا فــوق بعــض وبيـــن كـــل طبقـــة مسيـــرة ألـــف عـــام وجعـــل اســـم الطبقـــة الأولـــى جهنـــم
وأعدهــا لعصــاة المؤمنيــن الذيـــن يموتـــون مـــن غيـــر توبـــة واســـم الطبقـــة الثانيـــة لظـــى وأعدهـــا للكفـــار
واسـم الطبقــة الثالثــة الجحيــم وأعدهــا ليأجــوج ومأجــوج واســم الرابعــة السعيــر وأعدهــا لقــوم إبليــس
واســم الخامســة سقــر وأعدهــا لتــارك الصلـــاة واســـم السادســـة الحطمـــة وأعدهـــا لليهـــود والنصـــارى
واسم السابعة الهاوية وأعدها للمنافقين.
فهـــذه السبـــع طبقـــات فقـــال لـــه بلوقيـــا: لعــــل جهنــــم أهــــون عذابــــاً مــــن الجميــــع لأ هــــا هــــي الطبقــــة
الفوقانيـة قـال الملـك صخـر: نعـم هــي أهــون الجميــع عذابــاً ومــع ذلــك فيهــا ألــف جبــل مــن النــار وفــي
كــل جبــل سبعــون ألــف واد مــن النــار وفــي كــل واد سبعــون ألــف مدينــة مــن النـــار وفـــي كـــل مدينـــة
سبعـون ألـف قلعـة مـن النـار وفـي كـل قلعـة سبعـون ألـف بيـت مـن النـار وفـي كــل بيــت سبعــون ألــف
===
تخـت مـن ال نـار وفـي كـل تخـت سبعـون ألـف نـوع مـن العــذاب ومــا فــي جميــع طبقــات النــار يــا بلوقيــا
أهــون عذابــاً مــن عذابهــا لأنهــا هــي الطبقــة الأولــى وأمـــا الباقـــي فـــلا يعلـــم عـــدد مـــا فيهـــا مـــن أنـــواع
العــذاب إلا اللــه تعالــى فلمــا سمــع بلوقيــا هــذا الكلــام مــن الملــك صخــر وقــع مغشيــاً عليــه فلمـــا أفـــاق
مـــن غشيتـــه بكـــى وقـــال: يـــا ملـــك كيـــف يكـــون حالنـــا فقـــال لـــه الملـــك صخـــر: يـــا بلوقيـــا لا تخــــف
والعـم أن مـن كـان يحـب محمـد لـم تحرقـه النــار وهــو معتــوق لأجــل محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم وكــل
مـــن كـــان علـــى ملتـــه تهـــرب منـــه النـــار وأمـــا نحـــن فخلقنـــا اللـــه تعالـــى مـــن النـــار وأول مـــا خلـــق اللـــه
المخلوقـات فـي جهنـم خلـق شخصيـن مـن جنــوده أحدهمــا اسمــه خليــت والآخــر اسمــه مليــت وجعــل
خليت على صورة أسد ومليت على صورة ذئب.
وكــان ذنــب مليــت علــى صــورة لأنثــى ولونهــا أبلــق وذنــب خليــت علــى صــورة ذكــر وهـــو فـــي هيئـــة
حيــة وذنــب مليــت فــي هيئــة سلحفــاة وطــول ذنــب خليــت مسيــرة عشريــن سنــة ثــم أمــر اللــه تعالــى
ذنبيهمـــا أن يجتمعـــا مـــع بعضيهمـــا ويتناكحـــا فتوالـــد منهمـــا حيـــات وعقـــارب ومسكنهمــــا فــــي النــــار
ليعذب الله بها من يدخلها.
ثـم إن تلـك الحيــات والعقــارب تناسلــوا وتكاثــروا ثــم بعــد ذلــك أمــر اللــه تعالــى ذنبــي خليــت ومليــت
أن يجتمعــــا ويتناكحــــا ثانــــي مــــرة فاجتمعــــا وتناكحــــا فحمــــل ذنــــب مليــــت مــــن ذنــــب خليــــت فلمـــــا
===
وضعـــت ولـــدت سبعـــة ذكـــور وسبـــع إنـــاث فتربـــوا حتـــى كبـــروا فلمـــا كبـــروا تـــزوج الإنـــاث بالذكـــور
وأطاعــوا والدهــم إلا واحــداً منهـــم عصـــى والـــده فصـــار دودة وتلـــك الـــدودة هـــي إبليـــس لعنـــه اللـــه
تعالــى وكــان مــن المقربيــن فإنــه عبــد اللــه تعالــى حتــى ارتفــع إلــى السمــاء وتقــرب مــن الرحمــن وصـــار
رئيس المقربين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثمانين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الملــك قــال لــه: إن إبليــس كــان عبــد اللــه تعالـــى وصـــار رئيـــس
المقربيــن ولمــا خلــق اللــه تعالــى آدم عليــه السلــام أمــر إبليــس بالسجــود لــه فامتنــع مــن ذلــك فطــرده اللـــه
تعالى ولعنه فلما تناسل جاء ت منه الشياطين.
وأمــا الستــة ذكــور الذيــن قبلهــم فهــم الجــان المؤمنــون ونحــن مــن نسلهــم وهــذا أصلنــا يــا بلوقيــا فتجــب
بلوقيـا مـن كلــام الملــك صخــر ثــم إنــه قــال: يــا ملــك أريــد منــك أن تأمــر واحــداً مــن أعوانــك ليوصلنــي
إلـى بلـادي فقـال لــه الملــك صخــر: مــا نقــدر أن نفعــل شيئــاً مــن ذلــك إلا إذا أمرنــا اللــه تعالــى ولكــن يــا
بلوقيــا إن شئـــت الذهـــاب مـــن عندنـــا فإنـــي أحضـــر لـــك فرســـاً مـــن خيلـــي وأركبـــك علـــى ظهرهـــا
وآمرهـا أن تسيــر بــك إلــى آخــر حكمــي فــإذا وصلــت إلــى آخــر حكمــي يلاقيــك جماعــة ملــك اسمــه
===
براخيــا فينظــرون الفــرس فيعرفونهــا وينزلونــك مــن فوقهـــا ويرسلونهـــا إلينـــا وهـــذا الـــذي نقـــدر عليـــه لا
غير.
فلمـا سمـع بلوقيـا هـذا الكلــام بكــى وقــال للملــك: افعــل مــا تريــد فأمــر الملــك أن يأتــوا لــه بالفــرس فأتــوا
لــه بالفــرس وأركبــوه علــى ظهرهــا وقالــوا لــه: احــذر أن تنــزل مــن فــوق ظهرهـــا أو تضربهـــا أو تصيـــح
فـي وجههـا فـإن فعلـت ذلـك أهلكتـك بـل استمـر راكبـاً عليهـا مـع السكـون حتـى تقــف بــك فانــزل عــن
ظهرهـا ورح إلـى حـال سبيلــك فقــال لهــم بلوقيــا: سمعــاً وطاعــة ثــم ركــب الفــرس وســار فــي الخيــام
مدة طويلة ولم يمـر فـي سيـره إلا علـى مطبـخ الملـك صخـر فنظـر بلوقيـا إلـى قـدور معلقـة فـي كـل قـدر
خمســون جمــلاً والنــار تلتهــب مــن تحتهــا فلمــا رأى بلوقيــا تلــك القــدور وكبرهـــا تأملهـــا وتعجـــب منهـــا
وأكثـر التعجـب والتأمـل فيهـا فنظـر إليـه الملـك فـرآه متعجبـاً مـن المطبـخ فظـن الملــك فــي نفســه أنــه جائــع
فأمـر أن يجيئــوا لــه بجمليــن مشوييــن وربطوهمــا خلفــه علــى ظهــر الفــرس ثــم إنــه ودعهــم وســار حتــى
وصـل إلـى آخـر حكـم الملـك صخـر فوقفـت الفــرس فنــزل عنهــا بلوقيــا ينفــض تــراب السفــر مــن ثيابــه.
وإذا برجــال أتــوا إليــه ونظــروا الفــرس فعرفوهــا فأخذوهــا وســاروا وبلوقيـــا معهـــم حتـــى وصلـــوا إلـــى
الملـك براخيـا فلمـا دخـل بلوقيـا علـى الملـك براخيـا سلـم عليـه فـرد عليـه السلـام ثــم إن بلوقيــا نظــر إلــى
الملـك فـرآه جالسـاً فـي صيـوان عظيـم وحولـه عساكـر وأبطــال وملــوك الجــان علــى يمينــه وشمالــه ثــم إن
===
الملـك أمـر بلوقيـا أن يدنــو منــه فتقــدم بلوقيــا إليــه فأجلســه الملــك بجانبــه وأمــر أن يأتــوا بالسمــاط فنظــر
بلوقيـا إلـى حــال الملــك براخيــا فــرآه مثــل حــال الملــك صخــر ولمــا حضــرت الأطعمــة أكلــوا وأكــل بلوقيــا
حتــى اكتفــى وحمــد اللــه تعالــى ثــم إنهــم رفعــوا الأطعمـــة وأتـــوا بالفاكهـــة فأكلـــوا ثـــم إن الملـــك براخيـــا
ســـأل بلوقيـــا وقـــال لـــه: متـــى فارقـــت الملـــك صخـــر فقـــال لـــه: مـــن مـــدة يوميـــن فقـــال الملـــك براخيــــا
لبلوقيا: أتدري مسافة كم يوم سافرت في هذين اليومين قال: لا قال: مسيرة سبعين شهراً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة الثمانين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيـــد أن الملـــك براخيـــا قـــال لبلوقيـــا: إنـــك سافـــرت فـــي هذيـــن اليوميـــن
مسيــرة سبعيــن شهــراً ولكنــك لمــا ركبــت الفــرس فزعـــت منـــك وعلمـــت منـــك أنـــك ابـــن آدم وأرادت
أن ترميـــك عـــن ظهرهـــا فأثقلوهـــا بهذيـــن الجمليـــن فلمـــا سمـــع بلوقيـــا هـــذا الكلـــام مـــن الملــــك براخيــــا
تعجــب وحمــد اللــه تعالــى علــى السلامــة ثــم إن الملـــك براخيـــا قـــال لبلوقيـــا: أخبرنـــي بمـــا جـــرى لـــك
وكيــف أتيــت إلــى هــذه البلــاد فحكــى لــه بلوقيــا جميــع مــا جـــرى لـــه وكيـــف ســـاح وأتـــى إلـــى هـــذه
البلاد فلما سمع الملك كلامه تعجب منه ومكث عنده شهرين.
===
فلمـــا سمـــع حاســـب كلـــام ملكـــة الحيـــات تعجــــب غايــــة العجــــب ثــــم قــــال لهــــا: أريــــد مــــن فضلــــك
وإحسانـك أن تأمـري أحـداً مـن أعوانـك أن يخرجنــي إلــى وجــه الــأرض حتــى أروح إلــى أهلــي فقالــت
لـه ملكـة الحيـات: يـا حاسـب كريـم الديـن اعلـم أنــك متــى خرجــت إلــى وجــه الــأرض تــروح أهلــك ثــم
تدخــل الحمــام وتغتســل وبمجــرد مــا تفــرغ مــن غسلــك أمــوت أنـــا لـــأن ذلـــك يكـــون سببـــاً لموتـــي فقـــال
حاسـب: أنـا أحلـف لـك مـا أدخـل الحمـام طــول عمــري وإذا وجــب علــي الغســل أغتســل فــي بيتــي.
فقالـت لــه ملكــة الحيــات: لــو حلفــت لــي مائــة يميــن مــا أصدقــك أبــداً فــإن هــذا لا يكــون واعلــم أنــك
ابـن آدم مالـك عهـد فــإن أبــاك آدم قــد عاهــد اللــه ونقــض عهــده وكــان اللــه تعالــى خمــر طينتــه أربعيــن
صباحاً وأسجد له ملائكته وبعد ذلك الكلام نسي العهد ونسيه خالقه.
فلمـــا سمـــع حاســــب ذلــــك الكلــــام سكــــت وبكــــى ومكــــث يبكــــي مــــدة عشــــرة أيــــام ثــــم قــــال لهــــا
حاســب: أخبرينــي بالــذي جــرى لبلوقيــا بعــد قعــوده شهريــن عنــد الملــك براخيــا فقالــت لــه: اعلــم يــا
حاســب أن بلوقيــا بعــد قعــوده عنــد الملــك بارخــاي ودعـــه وســـار فـــي البـــراري ليـــلاً ونهـــاراً حتـــى
وصـل إلـى جبـل عـال فطلـع ذلـك الجبـل فـرأى فوقـه ملكـاً عظيمــاً جالســاً علــى ذلــك الجبــل وهــو يذكــر
اللـه تعالـى ويصلـي علـى محمـد وبيــن يــدي ذلــك الملــك لــوح مكتــوب فيــه شــيء أبيــض وشــيء أســود
وهـو ينظـر فـي اللـوح ولـه جناحـان أحدهمـا ممـدود بالمشـرق والآخـر ممـدود بالمغـرب فأقبـل عليــه بلوقيــا
===
وسلــم عليــه فــرد عليــه السلــام ثــم إن الملــك ســأل بلوقيــا وقــال لــه: مـــن أنـــت ومـــن أيـــن أتيـــت وغلـــى
أين رائح وما اسمك.
فقـال بلوقيـا: أنـا مـن بنـي آدم مـن قـوم بنـي إسرائيـل وأنـا سائـح فـي حـب محمـد صلـى اللـه عليــه وسلــم
واسمـي بلوقيـا فقـال الملـك: مـا الـذي جـرى لـك فـي مجيئـك إلــى هــذه الــأرض فحكــى لــه بلوقيــا جميــع
ما جرى له وما رأى في سياحته.
فلمــا سمــع الملــك مــن بلوقيــا ذلــك الكلــام تعجــب منــه ثــم إن بلوقيــا ســأل الملـــك وقـــال: أخبرنـــي أنـــت
الآخـــر بهـــذا اللـــوح وأي شـــيء مكتـــوب فيـــه ومـــا هـــذا الأمـــر الـــذي فيـــه ومـــا اسمـــك فقـــال لـــه: أنـــا
اسمي ميخائيل وأنا موكل بتصريف الليل والنهار وهذا شغلي إلى يوم القيامة.
فلمـا سمـع بلوقيــا ذلــك الكلــام تعجــب منــه ومــن صــورة ذلــك الملــك ومــن هيبتــه وعظــم خلقتــه ثــم إن
بلوقيـا ودع ذلـك الملـك وسـار ليـلاً وهـاراً حتـى وصـل إلـى مـرج عظيـم فتمشـى فـي ذلــك المــرج فــرأى
فيـه سبعـة أنهـر ورأى أشجـاراً كثيـرة فتعجـب بلوقيـا مـن ذلـك المـرج العظيـم وســار فــي جوانبــه فــرأى
فيـه شجـرة عظيمـة وتحـت تلــك الشجــرة أربعــة ملائكــة فتقــدم إليهــم بلوقيــا ونظــر إلــى خلقتهــم فــرأى
واحــداً منهــم صورتــه صــورة بنــي آدم والثانــي صورتــه صــورة وحــش والثالــث صورتــه صــورة طيــر
والرابـع صورتـه صـورة ثـور وهـم مشغولـون بذكـر اللــه تعالــى ويقــول كــل منهــم: إلهــي وسيــدي ومولــاي
===
بحقـك وبجـاه نبيـك محمـد صلـى اللـه عليـه وسلــم أن تغفــر لكــل مخلــوق خلقتــه علــى صورتــي وتسامحــه
إنك على كل شيء قدير.
فلمــا سمــع بلوقيــا منهــم ذلــك الكلــام تعجــب وســار مــن عندهــم ليــلاً ونهــاراً حتــى وصــل إلــى جبـــل
قــاف فطلــع فوقــه فــرأى هنــاك ملكــاً عظيمــاً وهــو جالــس يسبــح اللــه تعالـــى ويقدســـه ويصلـــي علـــى
محمـد صلـى اللـه عليـه وسلـم ورأى ذلـك الملـك فـي قبـض وبسـط أو طـي ونشـر فبينمــا هــو فــي هــذا
الأمــر إذ أقبــل عليــه بلوقيــا وسلــم عليــه فــرد الملــك عليــه السلــام وقــال لـــه: أي شـــيء أنـــت ومـــن أيـــن
أتيــت وإلــى أيــن رائــح ومــا اسمــك فقـــال بلوقيـــا: أنـــا مـــن بنـــي إسرائيـــل مـــن بنـــي آدم واسمـــي بلوقيـــا
وأنــا سائــح فلــي حــب محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم ولكــن تهــت فــي طريقــي وحكــى لـــه جميـــع مـــا
جرى.
فلمـــا فـــرغ بلوقيـــا مـــن حكايتـــه ســـأل الملـــك وقـــال لـــه: مـــن أنـــت ومـــا هـــذا الجبـــل ومـــا هـــذا الشغـــل
الــذي أنــت فيــه فقــال لــه: اعلــم يــا بلوقيــا أن هــذا جبــل قــاف المحيــط بالدنيـــا وكـــل أرض خلقهـــا اللـــه
فـي الدنيـا فقبضتهـا فـي يـدي فـإذا أراد اللـه تعالـى بتلـك الـأرض شيئـاً مـن زلزلــة أو قحــط أو خصــب
أو قتــال أو صلــح أمرنــي أن أفعلــه فأفعــل وأنــا فــي مكانـــي وأعلـــم أن يـــدي قابضـــة بعـــروق الـــأرض.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالـت: بلغنـي أيهــا الملــك السعيــد أن الملــك قــال لبلوقيــا: واعلــم أن يــدي قابضــة بعــروق الــأرض فقــال
بلوقيـا للملـك: هـل خلـق اللـه فـي جبـل قـاف أرضـاً غيـر هـذه الـأرض التـي أنـت فيهــا قــال الملــك: نعــم
خلــق اللــه ارضـــاً بيضـــاء مثـــل الفضـــة ومـــا يعلـــم قـــدر اتساعهـــا إلا اللـــه سبحانـــه وتعالـــى وأسكنهـــا
ملائكــة أكلهــم وشربهــم التسبيــح والتقديــس والإكثــار مــن الصلــاة علــى محمــد صلــى اللــه عليــه وسلـــم
وفـي كـل ليلـة جمعـة يأتـون إلـى هـذا الجبـل ويجتمعـون ويدعـون اللـه تعالـى طـول الليـل إلـى وقـت الصبـاح
ويهــدون ثــواب ذلــك التسبيــح والتقديــس والعبــادات للمذنبيــن مــن أمــة محمــد صلــى اللـــه عليـــه وسلـــم
ولكن من اغتسل غسل الجمعة وهذا حالهم إلى يوم القيامة.
ثـم إن بلوقيـا ســأل الملــك وقــال لــه: هــل خلــق اللــه جبــالاً خلــف جبــل قــاف فقــال الملــك: نعــم خلــف
جبـل قـاف قـدره مسيـرة خمسمائـة عــام وهــو مــن الثلــج والبــرد وهــو الــذي منــع حــر جهنــم عــن الدنيــا
ولــولا ذلــك الجبــل لاحترقــت الدنيــا مــن حــر نــار جهنــم وخلــف جبــل قـــاف أربعـــون أرضـــاً فـــي كـــل
منهــا قــدر الدنيــا أربعــون مــرة منهــا مــا هــو مــن الذهــب ومنهــا مــا هــو مــن الفضــة ومنهـــا مـــا هـــو مـــن
الياقـوت ولكــل أرض مــن تلــك الأراضــي لــون وأسكــن اللــه فــي تلــك الأراضــي ملائكــة لا شغــل لهــم
ســوى التسبيــح والتقديــس والتهليــل والتكبيــر ويدعـــون اللـــه لأمـــة محمـــد صلـــى اللـــه عليـــه وسلـــم ولا
يعرفـــون حـــواء ولا آدم ولا ليـــلاً ولا نهــــاراً واعلــــم يــــا بلوقيــــا أن الــــأرض سبــــع طبــــاق بعضهــــا فــــوق
===
وفي الليلة الثالثة والثمانين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الملــك قــال لبلوقيـــا: واعلـــم يـــا بلوقيـــا أن الـــأرض سبـــع طبقـــات
بعضهــا فــوق بعــض وخلــق اللــه ملكــاً مــن الملائكــة لا يعلــم أوصافــه ولا قــدره إلا اللــه عــز وجـــل وهـــو
حامــل السبــع أراضــي علــى كاهلــه وخلـــق اللـــه تعالـــى تحـــت ذلـــك الملـــك صخـــرة وخلـــق اللـــه تعالـــى
تحــت تلــك الصخــرة نــوراً. وخلــق اللــه تعالــى تحــت ذلــك النــور حوتــاً وخلــق اللــه تعالـــى تحـــت ذلـــك
الحـوت بحـراً عظيمـاً وقـد أعلـم اللـه تعالـى عيسـى عليـه السلــام بذلــك الحــوت. فقــال لــه: يــارب أرنــي
ذلـك الحـوت حتـى أنظـر إليـه فأمـر اللـه تعالـى ملكـاً مـن الملائكـة أن يأخـذ عيسـى ويـروح بـه إلــى الحــوت
حتـى ينظــره. فأتــى ذلــك الملــك إلــى عيســى عليــه السلــام وأخــذه وأتــى بــه البحــر الــذي فيــه الحــوت
وقـال لـه: انظـر يـا عيسـى إلـى الحـوت فنظـر عيسـى إلـى الحـوت فلـم يـره فمـر الحـوت علـى عيســى مثــل
البرق.
فلمــا رأى ذلــك عيســى وقــع مغشيــاً عليــه فلمــا أفــاق أوحــى اللــه إليــه وقــال: يــا عيســـى هـــل رأيـــت
الحــوت وهــل علمــت طولـــه وعرضـــه فقـــال عيســـى: وعزتـــك وجلالـــك يـــا رب مـــا رأيتـــه ولكـــن مـــر
علـى ثـور عظيـم قـدره مسافــة ثلاثــة أيــام ولــم أعــرف مــا شــأن ذلــك الثــور فقــال اللــه لــه: يــا عيســى
===
ذلـك الـذي مـر عليـك وقـدره ثلاثـة أيـام إنمـا هـو رأس الثـور. واعلـم يـا عيسـى أننـي فـي كـل يـوم أخلــق
أربعين حوتاً مثل ذلك الحوت.
فلمــا سمــع ذلــك الكلــام تعجــب مــن قــدرة اللــه تعالــى ثــم إن بلوقيــا ســأل الملـــك وقـــال لـــه: أي شـــيء
خلـق اللـه تحـت البحـر الــذي فيــه الحــوت فقــال لــه الملــك: خلــق اللــه تحــت البحــر هــواء عظيمــاً وخلــق
اللــه تحــت الهــواء نــاراً وخلــق تحــت النــار حيــة عظيمــة اسمهــا فلــق ولــولا خــوف تلــك الحيــة مـــن اللـــه
تعالـــى لابتلعـــت جميـــع مـــا فوقهـــا مـــن الهـــواء والنـــار والملـــك ومــــا حملــــه ولــــم تحــــس بذلــــك. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والثمانين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الملـك قـال لبلوقيــا فــي وصــف الحيــة ولــولا خوفهــا مــن اللــه تعالــى
لابتلعــت جميــع مــا فوقهــا مــن الهــواء والنــار والملــك ومــا حملــه ولــم تحــس بذلــك ولمــا خلــق اللــه تعالــى
الحيــة أوحــى إليهــا: إنــي أريــد منــك أن أودع عنـــدك أمانـــة فاحفظيهـــا فقالـــت الحيـــة: افعـــل مـــا تريـــد
فقــال اللــه تعالــى لتلــك الحيــة: افتحــي فــاك ففتحــت فاهــا فأدخــل اللــه جهنــم فــي بطنهــا وقـــال لهـــا:
احفظــي جهنــم إلــى يــوم القيامــة فـــإذا جـــاء يـــوم القيامـــة يأمـــر اللـــه ملائكتـــه أن يأتـــوا ومعهـــم سلاســـل
===
يقــودون بهــا جهنــم إلــى المحشــر ويأمــر اللــه تعالــى جهنــم أن تفتــح أبوابهـــا فتفتحهـــا ويطيـــر منهـــا شـــرر
كبار أكبر من الجبال فلما سمع بلوقيا ذلك الكلام من ذلك الملك بكى بكاء شديداً.
ثـم إنـه ودع الملــك وســار إلــى ناحيــة الغــرب حتــى أقبــل علــى شخصيــن فرآهمــا جالسيــن وعندهمــا
بــاب عظيــم مقفــول فلمــا قــرب منهمــا رأى أحدهمـــا صورتـــه صـــورة أســـد والآخـــر صورتـــه صـــورة
ثــور فسلــم عليهمــا بلوقيــا فــردا عليــه السلــام ثــم إنهمــا قــالا لــه: أي شــيء أنــت ومــن أيــن أتيــت وإلــى
أيــن رائــح فقــال لهمــا بلوقيــا: أنــا مــن بنــي آدم وأنـــا سائـــح فـــي حـــب محمـــد صلـــى اللـــه عليـــه وسلـــم
ولكــن تهــت عــن طريقــي ثــم إن بلوقيــا سألهمــا وقــال لهمـــا: أي شـــيء أنتمـــا ومـــا هـــذا البـــاب الـــذي
عندكمــا فقــالا لـــه: نحـــن حـــراس هـــذا البـــاب. الـــذي تـــراه ومالنـــا شغـــل ســـوى التسبيـــح والتقديـــس
والصلــاة علــى محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم. فلمــا سمــع بلوقيــا هــذا الكلــام تعجــب وقــال لهمــا: أي
شـيء داخـل هـذا البــاب فقــالا: لا نــدري فقــال لهمــا: بحــق ربكمــا الجليــل أن تفتحــا لــي هــذا البــاب
حتــى أنظــر شيئــاً داخلــه فقــالا لــه: مــا نقــدر أن نفتــح هــذا البـــاب ولا يقـــدر علـــى فتحـــه أحـــد مـــن
المخلوقيـن إلا الأميـن جبريـل عليــه السلــام فلمــا سمــع بلوقيــا ذلــك تضــرع إلــى اللــه تعالــى وقــال: يــا رب
ائتنــي بالأميــن جبريــل ليفتــح لــي هــذا البــاب حتــى أنظــر مــا داخلــه فاستجــاب اللــه أمــر دعائـــه وأمـــر
الأميــن جبريــل أن ينــزل إلــى الــأرض ويفتــح بــاب مجمــع البحريــن حتـــى ينظـــر بلوقيـــا فنـــزل جبريـــل إلـــى
===
بلوقيـا وسلـم عليـه وأتـى إلــى ذلــك البــاب وفتحــه ثــم إن جبريــل قــال لبلوقيــا: ادخــل إلــى هــذا البــاب
فـإن اللـه أمرنــي أن أفتحــه لــك فدخــل بلوقيــا وســار فيــه ثــم إن جبريــل قفــل البــاب. وأدرك شهــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والثمانين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيــا لمــا دخــل قفـــل جبريـــل البـــاب وارتفـــع إلـــى السمـــاء ورأى
بلوقيـا داخـل البـاب بحـراً عظيمــاً نصفــه مالــح ونصفــه حلــو وحــول ذلــك البحــر جبلــان وهــذان الجبلــان
مــن الياقــوت الأحمــر وســار بلوقيـــا حتـــى أقبـــل علـــى هذيـــن الجبليـــن فـــرأى فيهمـــا ملائكـــة مشغوليـــن
بالتسبيــح والتقديــس فلمــا رآهــم بلوقيــا سلــم عليهــم فـــردوا عليـــه السلـــام فسألهـــم عـــن البحـــر وعـــن
هذيـن الجبليـن فقـال لـه الملائكـة: إن هـذا مكـان تحـت العـرش وإن هــذا البحــر يمــد كــل بحــر فــي الدنيــا
ونحــن نقســم هــذا المــاء ونسوقــه إلــى الأراضــي المالـــح للـــأرض المالحـــة والحلـــو للـــأرض الحلـــوة وهـــذان
الجبلان خلقهما الله ليحفظا هذا الماء وهذا أمرنا إلى يوم القيامة.
ثــم إنهــم سألــوه وقالـــوا لـــه: مـــن أيـــن أقبلـــت وإلـــى أيـــن رائـــح فحكـــى لهـــم بلوقيـــا حكايتـــه مـــن الـــأول
إلـى الآخـر ثـم إن بلوقيـا سألهـم عـن الطريــق فقالــوا لــه: اطلــع هنــا علــى ظهــر هــذا البحــر ليــلاً ونهــاراً
===
فبينمــا هــو سائــر وإذا هــو بشــاب مليــح سائــر علــى ظهــر البحــر فأتــى إليــه وسلـــم عليـــه فـــرد عليـــه
السلــام ثــم إن بلوقيــا لمــا فــارق الشــاب رأى أربعــة ملائكــة سائريــن علــى وجــه البحــر وسيرهـــم مثـــل
البـرق الخاطــف فتدقــم بلوقيــا ووقــف فــي طريقهــم فلمــا وصلــوا إليــه سلــم عليهــم بلوقيــا وقــال لهــم:
أريـــد أن أسألكـــم بحـــق العزيـــز الجليـــل مـــا اسمكـــم ومـــن أيـــن أنتـــم وإلــــى أيــــن تذهبــــون فقــــال واحــــد
منهـــم: أنـــا اسمـــي جبريـــل والثانـــي اسمـــه إسرافيـــل والثالـــث اسمــــه ميكائيــــل والرابــــع اسمــــه عزرائيــــل
وقــد ظهــر فــي المشــرق ثعبــان عظيــم وذلــك الثعبــان خــرب ألــف مدينــة وأكــل أهلهــا وقــد أمرنـــا اللـــه
تعالـى أن نـروح إليـه ونمسكـه ونرميـه فـي جهنـم فتعجـب منهـم بلوقيـا ومـن عظمهـم وسـار علـى عادتــه
ليــلاً ونهـــاراً حتـــى وصـــل إلـــى جزيـــرة فطلـــع عليهـــا وتمشـــى فيهـــا ساعـــة. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والثمانيني بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن بلوقيــا طلــع إلــى الجزيــرة وتمشــى فيهــا ساعــة فــرأى شابــاً مليحــاً
والنـور يلـوح مـن وجهــه فلمــا قــرب منــه بلوقيــا رآه جالســاً بيــن قبريــن مبنييــن وهــو ينــوح ويبكــي فأتــى
إليـــه بلوقيـــا وسلـــم عليـــه فـــرد عليـــه السلـــام ثـــم إن بلوقيــــا ســــأل الشــــاب وقــــال لــــه: ماشأنــــك ومــــا
===
اسمـــك ومـــا هـــذان القبـــران المبنيـــان اللـــذان أنـــت جالـــس بينهمـــا ومـــا هـــذا البكـــاء الـــذي أنـــت فيـــه
فالتفــت الشــاب إلــى بلوقيــا وبكــى بكــاء شديــد حتــى بــل ثيابــه مــن دموعــه وقــال لبلوقيــا: اعلـــم يـــا
أخـي أن حكايتـي عجيبـة وقصتـي غريبــة وأحــب أن تجلــس عنــدي حتــى تحكــي لــي مــا رأيــت فــي
عمــرك ومـــا سبـــب مجيئـــك إلـــى هـــذا المكـــان ومـــا اسمـــك وإلـــى أيـــن رائـــح واحكـــي لـــك أنـــا الآخـــر
بحكايتــي فجلــس بلوقيــا عنــد الشــاب وأخبــره بجميــع مــا وقــع لــه فــي سياحتــه مــن الــأول إلــى الآخـــر
وأخبـــره كيـــف مـــات والـــده وخلفـــه وكيـــف فتـــح الخلـــوة ورأى فيهـــا الصنـــدوق وكيـــف رأى الكتــــاب
الـذي فيـه صفـة محمـد صلـى اللـه عليــه وسلــم وكيــف تعلــق قلبــه بــه وطلــع سائحــاً فــي حبــه وأخبــره
بجميـع مـا وقـع لـه إلـى أن وصـل إليـه ثـم قـال لـه: وهــذه حكايتــي بتمامهــا واللــه أعلــم ومــا أدري بالــذي
يجــري علــي بعــد ذلــك فلمــا سمــع الشــاب كلامــه تنهــد وقـــال لـــه: يـــا مسكيـــن أي شـــيء رأيـــت فـــي
عمــــرك اعلــــم يــــا بلوقيــــا أننــــي رأيــــت السيــــد سليمــــان زمانــــه ورأيـــــت شيئـــــاً لا يعـــــد ولا يحصـــــى
وحكايتـــي عجيبـــت وقصتـــي غريبـــة وأريـــد منـــك أن تقعــــد عنــــدي حتــــى أحكــــي لــــك حكايتــــي
وأخبرك بسبب قعودي هنا.
فلمــا سمــع حاســب هــذا الكلــام مــن الحيــة تعجــب وقــال: يــا ملكــة الحيــات باللـــه عليـــك أن تعتقينـــي
وتأمــري أحــد خدمــك أن يخرجنــي إلــى وجــه الــأرض واحلــف لــك يمينــاً أننــي لا أدخــل الحمــام طــول
===
عمــري فقالــت: إن هــذا الأمــر لا يكــون ولا أصدقــك فــي يمينــك فلمــا سمــع منهـــا ذلـــك الكلـــام بكـــى
وبكـــت الحيـــات جميعـــأً لأجلـــه وصـــارت تتشفـــع لـــه عنـــد الملكـــة وتقـــول لهـــا: نريـــد منـــك أن تأمـــري
إحدانـــا أن يخرجنـــه إلـــى وجـــه الـــأرض ويحلـــف لـــك يمينـــاً أنـــه لا يدخـــل الحمـــام طـــول عمـــره وكانـــت
ملكــة الحيــات اسمهــا يمليخــا فلمــا سمعــت يلميخــا منهــن ذلـــك الكلـــام أقبلـــت علـــى حاســـب وحلفتـــه
فحلف لها ثم أمرت حية أن تخرجه إلى وجه الأرض فأتته وأرادت أن تخرجه.
فلمــا أتــت تلــك الحيــة لتخرجــه قــال لملكــة الحيــات: أريــد منــك أن تحكــي لــي حكايـــة الشـــاب الـــذي
قعــد عنــده بلوقيــا ورآه جالســاً بيــن القبريــن فقالــت: اعلــم يــا حاســب أن بلوقيــا جلــس عنــد الشــاب
وحكـى لـه حكايتـه مـن أولهــا إلــى آخرهــا لأجــل أن يحكــي لــه الآخــر قصتــه ويخبــره بمــا جــرى لــه فــي
عمره ويعرفه بسبب قعوده بين القبرين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والثمانين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيــا لمــا حكــى للشــاب حكايتــه قــال لــه الشـــاب: وأي شـــيء
رأيـــت مـــن العجائـــب يـــا مسكيـــن أنـــا رأيـــت السيـــد سليمـــان فـــي زمانــــه ورأيــــت عجائــــب لا تعــــد
ولاتحصـى واعلـم يـا أخـي أن أبـي كــان يقــال لــه: الملــك طيغمــوس وكــان يحكــم علــى بلــاد كابــل وعلــى
===
بنـي شهلـان وهـم عشـرة آلـاف بهلـوان كـل بهلـوان منهـم يحكــم علــى مائــة مدينــة ومائــة قلعــة بأسوارهــا
وكـان يحكـم علـى سبعـة سلاطيـن ويحمــل لــه المــال مــن المشــرق إلــى المغــرب وكــان عــادلاً فــي حكمــه
وقـد أعطـاه اللـه تعالـى كـل هـذا ومـن عليـه بذلـك الملـك العظيـم ولـم يكـن لـه ولـد وكـان مـراده فـي عمـره
أن يرزقه الله ولداً ذكراً ليخلفه في ملكه بعد موته.
فاتفــق أنــه طلــب العلمــاء والمنجميــن والحكمــاء وأربــاب المعرفـــة والتقويـــم يومـــاً مـــن الأيـــام وقـــال لهـــم:
انظـروا طالعـي وهـل يرزقنـي اللـه فـي عمـري ولـداً ذكـراً فيخلفنـي فــي ملكــي ففتــح المنجمــون الكتــب
وحسبـوا طالعـه وناظــره مــن الكواكــب ثــم قالــوا لــه: اعلــم أيهــا الملــك أنــك تــرزق ولــداً ذكــراً ولا يكــون
ذلـك الولـد إلا مـن بنـت ملـك خراسـان. فلمـا سمـع طيغمـوس ذلــك منهــم فــرح فرحــاً شديــداً وأعطــى
المنجميـــن والحكمـــاء مـــالاً كثيـــراً لا يعـــد ولا يحصـــى وذهبـــوا إلـــى حـــال سبيلهـــم وكـــان عنــــد الملــــك
طيغمــوس وزيــراً كبيــراً وكــان بهلوانــاً عظيمــاً مقومــاً بألــف فــارس وكــان اسمــه عيــن زار فقـــال لـــه: يـــا
وزيــر أريــد مــن ك أن تتجهــز للسفــر إلــى بلــاد خراســان وتخطــب بنــت الملـــك بهـــروان ملـــك خراســـان
وحكــى الملــك طيغمــوس لوزيــره عيــن زار مــا أخبــره بــه المنجمــون فلمــا سمــع الوزيــر ذلــك الكلـــام مـــن
الملــك طيغمــوس ذهــب مــن وقتـــه وساعتـــه وتجهـــز للسفـــر. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن
الكلام المباح.
===
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الوزيــر عيــن زار قــام وتجهــز للسفــر ثــم بــرز إلــى خـــارج المدينـــة
بالعساكر والأبطال والجيوش. هذا ما كان من أمر الوزير.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر الملــك طيغمــوس فإنـــه جهـــز ألفـــاً وخمسمائـــة حمـــل مـــن الحريـــر والجواهـــر واللؤلـــؤ
واليواقيـت والذهـب والفضـة والمعـادن وجهـز شيئــاً كثيــراً مــن آلــة العــرش وحملهــا علــى الجمــال والبغــال
وسلمهـا إلـى وزيـره عيـن زار وكتـب لـه كتابـاً مضمونـه: أمـا بعـد فالسلـام علــى الملــك بهــروان اعلــم أننــا
قـد جمعنـا المنجميـن والحكمـاء وأربـاب التقاويــم فأخبرونــا أننــا نــرزق ولــداً ذكــراً ولا يكــون ذلــك الولــد
إلا مـن بنتــك. وهــا أنــا جهــزت لــك الوزيــر عيــن زار ومعــه أشيــاء كثيــرة مــن آلــة العــرس وإنــي أقمــت
وزيـري مقامـي فـي هـذه المسألـة ووكلتـه فـي قبــول العقــد وأريــد مــن فضلــك أن تقضــي للوزيــر حاجتــه
فإنهـا حاجتـي ولا تبـدي فـي ذلـك إهمـالاً ولا إمهـالاً. ومـا فعلتـه مـن الجميــل فهــو مقبــول منــك والحــذر
مـن المخالفـة فــي ذلــك واعلــم يــا ملــك بهــروان أن اللــه قــد مــن علــي بمملكــة كابــل وملكنــي علــى بنــي
شهلـان وأعطانـي ملكـاً عظيمــاً وإذا تزوجــت بنتــك أكــون أنــا وأنــت فــي الملــك شيئــاً واحــداً وأرســل
إليـك فـي كـل سنـة مـا يكفيــك مــن المــال. وهــذا قصــدي منــك ثــم إن الملــك طيغمــوس ختــم الكتــاب
وناولـه لوزيـره عيـن زار وأمـره بالسفـر إلـى بلــاد خراســان فسافــر الوزيــر حتــى وصــل إلــى قــرب مدينــة
الملك بهروان فأعلموه بقدوم وزير الملك طيغموس.
===
فلمــا سمــع الملــك بهــروان بذلـــك الكلـــام جهـــز أمـــراء دولتـــه للملاقـــاة وجهـــز معهـــم أكـــلاً وشربـــاً وغيـــر
ذلــك وأعطاهــم عليقــاً لأجــل الخيــل وأمرهــم بالمسيــر إلــى ملاقــاة الوزيــر عيــن زار. فحملـــوا الأحمـــال
وســاروا حتــى أقبلــوا علــى الوزيــر وحطــوا الأحمــال ونزلــت الجيـــوش والعساكـــر وسلـــم بعضهـــم علـــى
بعـض ومكثـوا فـي ذلـك المكـان مـدة عشـرة أيـام وهــم فــي أكــل وشــرب ثــم بعــد ذلــك ركبــوا وتوجهــوا
إلـى المدينـة وطلـع الملـك بهـروان إلـى مقابلــة وزيــر الملــك طيغمــوس وعانقــه وسلــم عليــه وأخــذه وتوجــه
بــه إلــى القلعــة ثــم إن الوزيــر قــدم الأحمـــال والتحـــف وجميـــع الأمـــوال للملـــك بهـــروان وأعطـــاه الكتـــاب
فأخــذه الملــك بهــروان وقــراه وعــرف مــا فيــه وفهــم معنــاه وفــرح فرحــاً شديــداً ورحــب بالوزيــر وقـــال
لـه: أشـر بمـا تريـد ولـو طلـب الملـك طيغمــوس روحــي لأعطيتــه إياهــا وذهــب الملــك بهــروان مــن وقتــه
وساعتـه إلـى بنتـه وأمهـا وأقاربهـا وأعلمهـم بذلـك الأمـر واستشارهـم فيـه فقالـوا لـه: افعـل مـا شئــت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الملـــك استشـــار البنـــت وأمهـــا وأقاربهـــا فقالـــوا لـــه: افعــــل مــــا
شئـت ثــم إن الملــك بهــروان رجــع إلــى الوزيــر عيــن زار وأعلمــه بقضــاء حاجتــه ومكــث الوزيــر عنــد
===
الملـك بهــروان مــدة شهريــن ثــم بعــد ذلــك قــال الوزيــر للملــك: إننــا نريــد أن تنعــم علينــا بمــا أتينــاك فيــه
ونـروح إلـى بلادنـا. فقـال الملـك للوزيـر: سمعـاً وطاعـة ثــم أمــر بإقامــة العــرس وتجهيــز الجهــاز ففعلــوا مــا
أمرهــم بــه وبعــد ذلــك أمــر بإحضــار وزرائــه وجميــع الأمــراء وأكابــر دولتـــه فحضـــروا جميعـــاً ثـــم أمـــر
بإحضـار الرهبـان والقسيـس فحضـروا وعقـدوا عقـد البنــت للملــك طيغمــوس وهيــأ الملــك بهــروان آلــة
السفـر وأعطـى بنتـه مــن الهدايــا والتحــف والمعــادن ومــا يكــل عنــه الوصــف وأمــر بفــرش أزقــة المدينــة
وزينها بأحسن زينة وسافر الوزير عين زار ببنت الملك بهروان إلى بلاده.
فلمـا وصـل الخبـر إلـى الملـك طيغمـوس أمــر بإقامــة الفــرح وزينــت المدينــة ثــم إن الملــك طيغمــوس دخــل
علــى بنــت الملــك بهــروان وأزال بكارتهــا فمــا مضــت عليــه أيــام قلائــل حتـــى علقـــت منـــه ولمـــا أتمـــت
شهرهـا وضعـت ذكـراً مثـل البـدر فـي ليلـة تمامـه فلمـا علــم الملــك طيغمــوس أن زوجتــه وضعــت ولــداً
ذكـراً مليحـاً فـرح فرحـاً شديـداً وطلـب الحكمـاء والمنجميــن وأربــاب التقاويــم وقــال لهــم: أريــد منكــم
أن تنظــروا طالــع هــذا المولــود وناظــره مــن الكواكــب وتخبرونــي بمــا يلقــاه فــي عمـــره فحســـب الحكمـــاء
والمنجمــون طالعــه وناظــره فــرأوا الولــد سعيـــداً ولكنـــه يحصـــل لـــه فـــي أول عمـــره تعـــب وذلـــك عنـــد
بلوغـه خمــس عشــرة سنــة فــإن عــاش بعدهــا رأى خيــراً كثيــراً وصــار ملكــاً عظيمــاً أعظــم مــن أبيــه
وعظم سعده وهلك ضده وعاش عيشاً هنيئاً وإن مات فلا سبيل إلى ما فات والله أعلم.
===
فلمــا سمــع الملــك ذلــك الخبــر فــرح فرحــاً شديــداً وسمــاه جانشــاه وسلمــه للمراضــع والدايـــات وأحســـن
تربيتـه فلمـا بلـغ مـن العمـر خمـس سنيـن علمـه أبـوه القـراءة وصـار يقـرأ فـي الإنجيـل وعلمــه فنــون الحــرب
والطعــن والضــرب فــي أقــل مـــن سبـــع سنيـــن وجعـــل يركـــب للصيـــد والقنـــص وصـــار بهلوانـــاً عظيمـــاً
كامـلاً فـي جميـع آلـات الفروسيـة وصـار أبـوه كلمـا سمــع بفروسيتــه فــي جميــع آلــات الحــرب يفــرح فرحــاً
شديـــداً فاتفــــق فــــي يــــوم مــــن الأيــــام أن الملــــك طيغمــــوس أمــــر عسكــــره أن يركبــــوا للصيــــد والقنــــص
فطلعـت العسكــر والجيــوش فركــب الملــك هــو وابنــه جانشــاه وســاروا إلــى البــراري والقفــار واشتغلــوا
بالصيـد والقنـص إلـى عصـر اليـوم الثالـث فسنحـت لجانشـاه غزالــة عجيبــة اللــون وشــردت قدامــه فلمــا
نظــر جانشــاه إلــى تلــك الغزالــة وهــي شــاردة قدامــه تبعهــا وأســرع فــي الجــري وراءهــا وهــي هاربـــة
فانتبـذ سبعــة مماليــك مــن مماليــك الملــك طيغمــوس وذهبــوا فــي اثــر جانشــاه فلمــا نظــروا إلــى سيدهــم
وهـــو مســـرع وراء تلـــك الغزالـــة راحـــوا مسرعيـــن وراءه وهـــم علـــى خيـــل سوابـــق ومازالـــوا سائريــــن
حتــى وصلــوا إلــى بحــر فتهاجــم الجميــع علـــى الغزالـــة ليمسكوهـــا قنصـــاً ففـــرت منهـــم الغزالـــة وألقـــت
نفسها في البحر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التسعين بعد الأربعمائة
===
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن جانشـــاه هـــو ومماليكـــه لمــــا هجمــــوا علــــى الغزالــــة ليمسكوهــــا
قنصـــاً ففـــرت منهـــم ورمـــت نفسهـــا فـــي البحـــر وكـــان فـــي ذلـــك البحـــر مركـــب صيـــاد فنطـــت فيـــه
الغزالــة فنــزل جانشــاه ومماليكــه عــن خيولهــم إلــى المركــب وقنصــوا الغزالــة وأرادوا أن يرجعــوا إلــى البــر
وإذا بجانشـــاه ينظـــر إلـــى جزيـــرة عظيمـــة فقـــال للماليـــك الذيـــن معـــه: إنـــي أريـــد أن أذهـــب إلـــى هـــذه
الجزيـرة فقالـوا لــه سمعــاً وطاعــة وســاروا بالمركــب إلــى ناحيــة الجزيــرة حتــى وصلــوا إليهــا فلمــا وصلــوا
إليهــا طلعــوا فيهــا وســاروا يتفرجــون عليهــا. ثــم بعــد ذلــك عــادوا إلــى المركــب ونزلــوا فيهـــا وســـاروا
والغزالـة معهـم قاصديـن البــر الــذي أتــوا منــه فأمســى عليهــم المســاء وتأهبــوا فــي البحــر فهبــت عليهــم
الريـح وأجـرت المركـب فـي وسـط البحـر ونامــوا إلــى وقــت الصبــاح ثــم انتبهــوا لا يعرفــون الطريــق وهــم
لا يزالوا سائرين في البحر. هذا ما كان من أمرهم.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر الملــك طيغمــوس والــد جانشــاه فإنــه تفقــد ابنــه فلــم يــره فأمــر العسكـــر أن يـــروح
جماعـة منهـم إلـى طريـق فصـاروا دائريـن يفتشـون علـى ابــن الملــك طيغمــوس وذهــب جماعــة منهــم إلــى
البحــر فــرأوا المملــوك الــذي خلــوه عنــد الخيــل فأتــوه وسألــوه عــن سيــده وعــن الستــة مماليــك فأخبرهــم
المملـوك بمـا جـرى لهـم فأخـذوا المملـوك والخيـل ورجعــوا إلــى الملــك طيغموصــس وأخبــروه بذلــك الخبــر
فلمــا سمــع الملــك ذلــك الكلــام بكــى بكــاء شديــداً ورمـــى التـــاج مـــن فـــوق رأســـه وعـــض يديـــه ندمـــاً
===
وقــام مــن وقتــه وكتــب كتبـــاً وأرسلهـــا إلـــى الجزائـــر التـــي فـــي البحـــر وجمـــع مائـــة مركـــب وأنـــزل فيهـــا
عساكـر وأمرهـم أن يـدوروا فــي البحــر ويفتشــوا علــى ولــده جانشــاه ثــم إن الملــك أخــذ بقيــة العساكــر
والجيــوش ورجــع إلــى المدينـــة وصـــار فـــي نكـــد شديـــد ولمـــا علمـــت والـــدة جانشـــاه بذلـــك. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والتسعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن والــدة جانشــاه لمــا علمــت بذلــك لطمـــت علـــى وجههـــا وأقامـــت
عزاءه. هذا ما كان من أمرهم.
وأمـا مــا كــان مــن أمــر جانشــاه والمماليــك الذيــن معــه فإنهــم لــم يزالــوا تائهيــن فــي البحــر ولــم يــزل الــرواد
دائريـن يفتشـون عليهـم فـي البحـر مـدة عشـرة أيـام فمـا وجدوهـم فرجعـوا إلـى الملــك وأعلمــوه بذلــك ثــم
إن جانشــاه والمماليــك الذيــن معــه هــب عليهــم ريـــح عاصـــف وســـاق المركـــب الـــذي هـــم فيـــه حتـــى
أوصلـه إلـى جزيـرة فطلـع جانشـاه والستـة مماليـك مـن المركـب وتمشـوا فـي تلـك الجزيـرة حتـى وصلــوا إلــى
عيـن مـاء فـي وسـط تلـك الجزيـرة فـرأوا رجـلاً جالسـاً علــى بعــد قريبــاً مــن العيــن فأتــوه وسلمــوا عليــه
فرد عليهم السلام ثم إن الرجل كلمهم بكلام مثل صفير الطير.
===
فلمــا سمــع جانشــاه كلــام الرجــل تعجــب ثــم إن الرجــل التفــت يمينــاً وشمــالاً وبينمــا هــم يتعجبـــون مـــن
ذلـك الرجـل إذ هـو انقسـم إلـى نصفيـن وراح كــل نصــف فــي ناحيــة وبينمــا هــم كذلــك إذ أقبــل عليهــم
أصنـاف رجـال لا تحصـى ولا تعــد وأتــوا مــن جانــب الجبــل وســاروا حتــى وصلــوا إلــى العيــن وصــار
كل واحد منهم منقسماً نصفين ثم إنهم أتوا جانشاه والمماليك ليأكلوهم.
فلمــا رآهــم جانشــاه يريــدون أكلهــم هــرب منهــم وهربــت معــه المماليــك فتبعهــم هـــؤلاء الرجـــال فأكلـــوا
مــن المماليــك ثلاثـــة وبقـــي ثلاثـــة مـــع جانشـــاه ثـــم إن جانشـــاه نـــزل فـــي المركـــب ومعـــه الثلاثـــة مماليـــك
ودفعـوا المركـب إلــى وســط البحــر وســاروا ليــلاً ونهــاراً وهــم لا يعرفــون أيــن تذهــب بهــم المركــب ثــم
إنهـم ذبحـوا الغزالـة وصـاروا يقتاتـون منهـا فضربتهـم الريــاح فألقتهــم إلــى جزيــرة أخــرى فنظــروا إلــى تلــك
الجزيـرة فـرأوا فيهـا أشجـاراً وأنهـاراً وأثمـاراً وبساتيـن وفيهــا مــن جميــع الفواكــه والأنهــار تجــري مــن تحــت
تلك الأشجار وهي كأنها الجنة.
فلمـــا رأى جانشـــاه تلـــك الجزيـــرة أعجبتـــه وقـــال للماليـــك: مـــن فيكـــم يطلـــع هـــذه الجزيـــرة وينظــــر لنــــا
خبرهــا فقــال مملــوك منهــم: أنــا أطلــع وأكشــف لكـــم عـــن خبرهـــا وأرجـــع إليكـــم فقـــال جانشـــاه: هـــذا
أمـر لايكـون وإنمـا تطلعـون أنتـم الثلاثـة وتكشفـون خبـر هـذه الجزيـرة وأنـا قاعـد لكــم فــي المركــب حتــى
ترجعـــوا ثـــم إن جانشـــاه أنـــزل الثلاثـــة مماليـــك ليكشفــــوا عــــن خبــــر هــــذه الجزيــــرة فطلــــع الثلاثــــة إلــــى
===
وفي الليلة الثانية والتسعين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهــا الملــك السعيــد أن المماليــك الثلاثــة لمــا طلعــوا إلــى الجزيــرة داروا فيهــا شرقــاً وغربــاً
فلـم يجـدوا فيهـا أحـداً ثـم مشـوا فيهـا إلــى وسطهــا فــرأوا علــى بعــد قلعــة مــن الرخــام الأبيــض وبيوتهــا
مـن البلـور الصافـي وفـي وســط تلــك القلعــة بستــان فيــه جميــع الفواكــه اليابســة والرطبــة مــا يكــل عنــه
الوصــف وفيــه جميــع المشمــوم ورأوا فـــي تلـــك القلعـــة أشجـــاراً وأثمـــاراً وأطيـــاراً تناغـــي علـــى تلـــك
الأشجــار وفيهــا بحيــرة عظيمــة وبجانــب البحيــرة إيــوان عظيــم وعلــى ذلـــك الإيـــوان كراســـي منصوبـــة
وفي وسط تلك الكراسي تخت منصوب من الذهب الأحمر مرصع بأنواع الجواهر واليواقيت.
فلمــا رأى المماليــك حســن تلــك القلعــة وذلــك البستــان داروا فــي تلــك القلعـــة يمينـــاً وشمـــالاً فمـــا رأوا
فيهـا أحـداً ثـم طلعـوا مـن القلعــة ورجعــوا إلــى جانشــاه وأعلمــوه بمــا رأوه فلمــا سمــع جانشــاه ابــن الملــك
منهــم هــذا الخبــر قــال: إنــه لابــد لــي مــن أن أتفــرج فــي هــذه القلعــة ثــم إن جانشـــاه طلـــع مـــن المركـــب
وطلعــت معــه المماليــك وســاروا حتــى أتــوا القلعـــة ودخلـــوا فيهـــا فتعجـــب جانشـــاه مـــن حســـن ذلـــك
المكـان ثـم داروا يتفرجــون فــي البستــان ويأكلــون مــن تلــك الفواكــه ولــم يزالــوا دائريــن إلــى وقــت المســاء
ولمـا أمسـى عليهـم المســاء أتــوا إلــى الكراســي المنصوبــة وجلــس جانشــاه علــى التخــت المنصــوب فــي
===
الوسـط وصـارت الكراسـي منصوبــة عــن يمينــه وشمالــه ثــم إن جانشــاه لمــا جلــس علــى ذلــك التخــت
صـار يتفكـر ويبكــي علــى فــراق تخــت والــده وعلــى فــراق بلــده وأهلــه وأقاربــه وبكــت حولــه الثلاثــة
مماليك.
فبينمـا هـم فـي ذلـك الأمـر إذا بصيحـة عظيمـة مـن جانـب البحـر فالتفتـوا إلـى تلــك الصيحــة فــإذا هــم
قــردة كالجــراد المنتشــر وكانــت تلــك القلعــة والجزيــرة للقــردة ثــم إن هــؤلاء القــردة لمـــا رأوا المركـــب الـــذي
أتـى فيـه جانشـاه خسفـوه علـى شاطـئ البحـر وأتـوا إلـى جانشــاه وهــو جالــس فــي القلعــة قالــت ملكــة
الحيات كل هذا يا حاسب مما يحكيه الشاب الجالس بين القبرين لبلوقيا.
فقـــال لهـــا حاســـب: ومـــا فعـــل جانشـــاه مـــع القــــردة بعــــد ذلــــك قالــــت لــــه ملكــــة الحيــــات: لمــــا طلــــع
جانشــاه جلــس علــى التخــت والمماليــك عــن يمينــه وشمالــه أقبــل عليهــم القــردة فأفزعوهــم وأخافوهـــم
خوفـاً عظيمـاً ثـم دخلـت جماعـة مــن القــردة وتقدمــوا إلــى أن قربــوا مــن التخــت الجالــس عليــه جانشــاه
وقبلـوا الــأرض بيــن يديــه ووضعــوا أيديهــم علــى صدورهــم ووقفــوا قدامــه ساعــة وبعــد ذلــك أقبلــت
جماعـة منهـم ومعهـم غزلـان فذبحوهــا وأتــوا بهــا إلــى القلعــة وسلخوهــا وقطعــوا لحمهــا وشووهــا حتــى
طابــت للأكــل وحطوهــا فــي صيـــوان مـــن الذهـــب والفضـــة ومـــدوا السمـــاط وأشـــاروا إلـــى جانشـــاه
وجماعتــه أن يأكلــوا فنــزل جانشــاه مــن فــوق التخــت وأكــل وأكلــت معــه القــرود والمماليــك حتــى اكتفـــوا
===
مــن الأكــل ثــم إن القــرود رفعــوا سمــاط الطعــام وأتـــوا بفاكهـــة فأكلـــوا منهـــا وحمـــدوا اللـــه تعالـــى ثـــم إن
جانشـــاه أشـــار إلـــى أكابـــر القـــرود بالإشـــارة وقـــال لهـــم: ماشأنكـــم ولمــــن هــــذا المكــــان فقــــال القــــردة
بالإشـارة اعلـم أن هـذا المكـان كـان لسيدنـا سليمــان بــن داود عليهمــا السلــام وكــان يأتــي إليــه فــي كــل
سنة مرة يتفرج فيه ويروح من عندنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملـــك السعيـــد أن جانشـــاه أخبرتـــه القـــرود عـــن القلعـــة وقالـــوا لـــه أن هـــذا المكـــان
لسيدنــا سليمــان بــن داود وكــان يأتــي إليــه فــي كــل سنــة مــرة يتفــرج ويــروح مـــن عندنـــا ثـــم قالـــت لـــه
القـرود: اعلـم أيهـا الملـك أنـك بقيـت علينـا سلطانـاً ونحـن فـي خدمتـك وكـل واشـرب وكـل مــا أمرتنــا بــه
نفعلـــه ثـــم قـــام القـــرود وقبلـــوا الـــأرض بيـــن يديـــه وانصـــرف كـــل واحـــد منهـــم إلـــى حـــال سبيلـــه ونـــام
جانشـاه فـوق التخـت ونــام المماليــك حولــه علــى الكراســي إلــى وقــت الصبــح ثــم دخــل عليــه الأربعــة
وزراء الرؤسـاء علـى القـرود وعساكرهــم حتــى امتــلأ ذلــك المكــان وصــاروا حولــه صفــاً بعــد صــف
وأتـــت الـــوزراء واشـــاروا إلـــى جانشـــاه أن يحكـــم بينهـــم بالصـــواب ثـــم صـــاح القـــرود علـــى بعضهــــم
وانصرفـوا وبقـي منهــم جانــب قــدام الملــك جانشــاه مــن أجــل الخدمــة ثــم أقبــل قــردة وهــم معهــم كلــاب
===
فـي صـورة الخيـل وفـي راس كـل كلـب منهـم سلسلـة فتعجــب جانشــاه مــن هــؤلاء الكلــاب ومــن عظــم
خلقتهــــا ثــــم إن وزراء القــــرود أشــــاروا لجانشــــاه أن يركــــب ويسيــــر معهــــم فركــــب جانشــــاه والثلاثـــــة
المماليــك وركــب معهــم عسكــر القــرود وصــاروا مثــل الجــراد المنتشــر بعضهــم راكـــب وبعضهـــم مـــاش
فتعجــب مــن أمورهــم ولــم يزالــوا سائريــن إلــى شاطــئ البحــر. فلمــا رأى جانشــاه المركــب الــذي كــان
راكبـــاً فيـــه قـــد خســـف التفـــت إلـــى وزرائـــه مـــن القـــرود وقـــال لهـــم: أيـــن المركـــب الــــذي كــــان هنــــا
فقالــوا لــه: اعلــم أيهــا الملــك أنكــم لمــا أتيتــم إلــى جزيرتنــا علمنــا بأنــك تكــون سلطانــاً علينــا وخفنــا أن
تهربوا منا إذا أتينا عندكم وتنزلوا المركب فمن أجل ذلك خسفناه.
فلمـا سمـع جانشـاه هـذا الكلـام التفـت إلـى المماليـك وقـال لهـم: مـا بقــي لنــا حيلــة فــي الــرواح مــن عنــد
هـؤلاء القـرود ولكـن نصبـر لمـا قـدر اللـه تعالـى ثـم سـاروا ومازالــوا سائريــن حتــى وصلــوا إلــى شاطــئ
نهـر وفـي جانـب ذلـك النهـر جبـل عـال فنظـر جانشـاه إلـى ذلــك الجبــل فــرأى غيلانــاً كثيــرة فالتفــت إلــى
القـــرود وقـــال لهـــم: مـــا شـــأن هـــؤلاء الغيلـــان فقـــال لـــه القـــرود: اعلــــم أيهــــا الملــــك أن هــــؤلاء الغيلــــان
أعداءنــا ونحــن أتينــا لنقاتلهــم فتعجــب جانشــاه مــن هــؤلاء الغيلــان ومــن عظــم خلقتهـــم وهـــم راكبـــون
على الخيل ورؤوس بعضهم على صورة رؤوس البقر وبعضهم على صورة الجمال.
فلمـــا رأى الغيلـــان عسكـــر القـــرود هجمـــوا عليهـــم ووقفـــوا علـــى شاطــــئ النهــــر وصــــاروا يرجمونهــــم
===
بشـي مـن الحجـارة فـي صـورة العواميـد وحصـل بينهـم حـرب عظيــم فلمــا رأى جانشــاه الغيلــان غلبــوا
لاقـرود زعـق علـى المماليـك وقـال لهـم: اطلعـوا القسـي والنشـاب وارمـوا عليهـم بالنبــال حتــى تقتلوهــم
وتردوهم عنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن جانشـــاه قـــال لمماليكـــه: ارمـــوا الغيلـــان بالنبـــال وردوهـــم عنـــا
ففعــل المماليـــك مـــا أمرهـــم بـــه جانشـــاه حتـــى حصـــل للغيلـــان كـــرب عظيـــم وقتـــل منهـــم خلـــق كثيـــر
وانهزموا وولوا هاربين.
فلمــا رأى القــرود مــن جانشـــاه هـــذا الأمـــر نزلـــوا فـــي النهـــر وعبـــروه وجانشـــاه معهـــم وطـــردوا الغيلـــان
حتـى غابـوا عـن أعينهـم وانهزمـوا وقتـل منهـم كثيـر ولـم يـزل جانشـاه والقـرود سائريــن حتــى وصلــوا إلــى
جبـل عـال فنظـر جانشـاه إلـى ذلـك الجبـل فوجـد فيـه لوحـاً مــن المرمــر مكتوبــاً فيــه: اعلــم يــا مــن دخــل
هـــذه الـــأرض إنـــك تصيـــر سلطانـــاً علـــى هـــؤلاء القـــرود ومـــا يتأتـــى لـــك رواحـــاً مـــن عندهــــم إلا إن
رحــت مــن الــدرب الشرقــي بناحيــة الجبــل وطولــه ثلاثــة أشهــر وأنـــت سائـــر بيـــن الوحـــوش والغيلـــان
والمـردة والعفاريـت وبعـد ذلـك تنتهـي إلــى البحــر المحيــط بالدنيــا أو رحــت مــن الــدرب الغربــي وطولــه
===
أربعــة أشهــر وفــي رأســه وادي النمــل حتــى تنتهــي إلــى جبـــل عـــال وذلـــك الجبـــل يتوقـــد مثـــل النـــار
ومسيــرة عشــرة أيــام فلمــا رأى جانشـــاه ذلـــك اللـــوح. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن الكلـــام
المباح.
وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن جانشـــاه لمـــا رأى ذلـــك اللـــوح قـــرأه ورأى فيـــه مـــا ذكرنـــاه ورأى
فـي آخـر الكلـام ثـم تنتهـي إلـى نهـر عظيـم وهــو يجــري وجريانــه يخطــف البصــر مــن شــدة عزمــه وذلــك
النهـر فـي كـل يـوم سبـت ييبـس وبجانبـه مدينـة أهلهـا كلهــم يهــود ولــد بــن محمــد جحــود مــا فيهــم مسلــم
ومــا فــي هــذه الــأرض إلا هــذه المدينــة ومــا دمــت مقيـــم عنـــد القـــرود هـــم منصـــورون علـــى الغيلـــان
واعلم أن هذا اللوح كتبه السيد سليمان بن داود عليه السلام.
فلمــا قــرأه جانشــاه بكــى بكــاء شديــداً ثــم التفــت إلــى مماليكــه وأعلمهــم بمــا هــو مكتــوب علــى اللـــوح
وبعــد ذلــك ركــب وركــب حولــه عساكــر القــرود وصــاروا فرحانيــن بالنصـــر علـــى أعدائهـــم ورجعـــوا
إلـى قلعتهـم ومكـث جانشـاه فـي القلعـة سلطانـاً علـى القــرود سنــة ونصــف ثــم بعــد ذلــك أمــر جانشــاه
عساكـــر القـــرود أن يركبـــوا للصيـــد والقنــــص فركبــــوا وركــــب معهــــم جانشــــاه ومماليكــــه وســــاروا فــــي
===
البــراري والقفـــار ولـــم يزالـــوا سائريـــن مـــن مكـــان إلـــى مكـــان حتـــى عـــرف وادي النمـــل ورأى الإمـــارة
المكتوبة في اللوح المرمر.
فلمــا رأى ذلــك أمرهــم أن ينزلـــوا فـــي ذلـــك المكـــان فنزلـــوا ونزلـــت عساكـــر القـــرود ومكثـــوا فـــي أكـــل
وشـرب مـدة عشــرة أيــام ثــم اختلــى جانشــاه بمماليكــه ليــة مــن الليالــي وقــال لهــم: إنــي أريــد أن نهــرب
ونـروح إلـى وادي النمـل ونسيــر إلــى مدينــة اليهــود لعــل اللــه ينجينــا مــن هــؤلاء القــرود ونــروح إلــى حــال
سبيلنـا فقالـوا لـه سمعـاً وطاعـة. ثـم إنــه صبــر حتــى مضــى مــن الليــل شــيء قليــل وقــام وقامــت معــه
المماليـــك وتسلحـــوا بأسلحتهـــم وحزمـــوا أوساطهـــم بالسيـــوف والخناجـــر ومـــا أشبـــه ذلـــك مـــن آلـــات
الحرب وخرج جانشاه هو ومماليكه وساروا من أول الليل إلى وقت الصبح.
فلمـا انتبـه القــرود مــن نومهــم لــم يــروا جانشــاه ولا مماليكــه فعلمــوا أنهــم هربــوا منهــم فقالمــت جماعــة مــن
القــرود وركبــوا وســاروا ناحيــة الــدرب الشرقــي وجماعــة ركبــوا وســـاروا إلـــى وادي النمـــل. فبينمـــا
القــــرود سائريــــن إذ نظــــروا جانشــــاه والمماليــــك معــــه وهــــم مقبلــــون علــــى وادي النمــــل فلمــــا رأوهـــــم
أسرعـــوا وراءهـــم فلمـــا نظرهـــم جانشــــاه هــــرب وهربــــت معــــه المماليــــك ودخلــــوا وادي النمــــل فمــــا
مضــت ساعـــة مـــن الزمـــان إلا والقـــرود قـــد هجمـــت عليهـــم وأرادوا أن يقتلـــوا جانشـــاه هـــو ومماليكـــه
وإذا هم بنمل قد خرج من تحت الأرض مثل الجراد المنتشر كل نملة منه قدر الكلب.
===
فلمـا رأى النمــل القــرود هجــم عليهــم وأكــل منهــم جماعــة وقتــل مــن النمــل جماعــة كثيــرة ولكــن حصــل
النصـر للنمــل وصــارت النملــة تأتــي إلــى القــرد وتضربــه فتقسمــه نصفيــن وصــار العشــرة قــرود يركبــون
النملــة الواحــدة ويمسكونهـــا ويقسمونهـــا نصفيـــن ووقـــع بينهـــم حـــرب عظيـــم إلـــى وقـــت المســـاء. ولمـــا
أمسـى الوقـت هـرب جانشـاه هـو والمماليـك فـي بطـن الـوادي. وأدرك شهــرزاد الصبــاح فسكتــت عــن
الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والتسعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أنــه لمــا أقبــل المســاء هــرب جانشــاه هــو ومماليكــه فــي بطـــن الـــوادي
إلــى الصبــاح فلمــا أصبــح الصبــاح أقبــل القــرود علــى جانشــاه فلمـــا رآهـــم زعـــق علـــى مماليكـــه وقـــال
لهـم: اضربوهـم بالسيـوف فسحـب المماليــك سيوفهــم وجعلــوا يضربــون القــرود يمينــاً وشمــالاً. فتقــدم
قـرد عظيـم لـه أنيـاب مثـل أنيـاب الفيـل وأتـى إلـى واحـد مـن المماليـك وضربـه فقسمـه نصفيــن وتكاثــرت
القــرود علــى جانشــاه فهــرب إلــى أسفــل الــوادي ورأى هنــاك نهــراً عظيمــاً وبجانبـــه نمـــل عظيـــم. فلمـــا
رأى النمـل جانشــاه مقبــلاً عليــه احتــاط بــه وإذا بمملــوك ضــرب نملــة بالسيــف فقسمهــا نصفيــن. فلمــا
رأت عساكـر النمـل ذلـك تكاثـروا علـى المملـوك وقتلـوه فبينمـا هـم فـي هـذا الأمـر إذا بالقـرود قـد أقبلــوا
===
فلمـا رأى جانشـاه اندفاعهـم عليـه نــزع ثيابــه ونــزل فــي النهــر ونــزل معــه المملــوك الــذي بقــي وعامــا فــي
المــاء إلــى وســط النهــر ثــم إن جانشــاه رأى شجــرة علــى شاطــئ النهــر مــن الجهـــة الأخـــرى فمـــد يـــده
إلـى غصـن مـن أغصانهـا وتناولـه وتعلـق بـه وطلـع إلـى البـر وأمـا المملــوك فإنــه غلــب عليــه التيــار فأخــذه
وقطعـه فـي الجبـل وصـار جانشـاه واقفـاً وحـده فـي البـر يعصـر ثيابــه وينشفهــا فــي الشمــس ووقــع بيــن
القرود والنمل قتال عظيم ثم رجع القرود إلى بلادهم. هذا ما كان من أمر القرود والنمل.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر جانشــاه فإنــه صــار يبكــي إلــى وقــت المســـاء ثـــم دخـــل مغـــارة واستكـــن فيهـــا
وقـد خـاف خوفـاً شديـداً واستوحـش لفقـد مماليكــه ثــم ســار ولــم يــزل سائــراً ليالــي وأيامــاً وهــو يأكــل
مـن الأعشـاب حتـى وصـل إلـى الجبـل الـذي يتوقـد مثـل النـار. فلمــا أتــى إليــه ســار فيــه حتــى وصــل
إلـى النهـر الـذي ينشـف كـل يـوم سبــت فلمــا وصــل إليــه رآه نهــراً عظيمــاً وبجانبــه مدينــة عظيمــة وهــي
مدينــة اليهــود التــي رآهــا مكتوبــة فــي اللــوح فأقــام هنــاك إلــى أن أتــى يــوم السبـــت ونشـــف النهـــر ثـــم
مشـى مـن النهـر حتـى وصـل إلـى مدينـة اليهـود فلـم يـر فيهـا أحــداً فمشــى فيهــا حتــى وصــل إلــى بــاب
بيـت ففتحـه ودخلــه فــرأى أهلــه ساكتيــن لا يتكلمــون أبــداً فقــال لهــم: إنــي رجــل غريــب جائــع فقالــوا
لـــه بإشـــارة: كـــل واشـــرب ولا تتكلـــم فقعـــد عندهـــم وأكـــل وشـــرب ونـــام تلـــك الليلــــة فلمــــا أصبــــح
الصباح سلم عليه صاحب البيت ورحب به وقال له: من أين أنت وإلى أين رائح
===
فلمــا سمــع جانشــاه كلــام ذلــك اليهــودي بكـــى بكـــاء شديـــداً وحكـــى لـــه قصتـــه وأخبـــره بمدينـــة أبيـــه
فتعجــب اليهــودي مــن ذلــك وقــال لــه: مــا سمعنــا بهـــذه المدينـــة قـــط غيـــر أننـــا كنـــا نسمـــع مـــن قوافـــل
التجــار أن هنــاك بلــاداً تسمــى بلــاد اليمــن فقــال جانشــاه لليهــودي: هــذه البلــاد التــي تخبــر بهــا التجــار
كــم تبعــد عــن هــذا المكــان فقــال لـــه اليهـــودي: إن تجـــار تلـــك القوافـــل يزعمـــون أن مـــدة سفرهـــم مـــن
بلادهــم إلــى هنــا سنتــان وثلاثــة أشهــر فقــال جانشــاه لليهــودي: ومتــى تأتــي القافلـــة فقـــال لـــه: تأتـــي
في السنة القابلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والتسعين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهــا الملــك السعيــد أن جانشــاه لمــا ســأل اليهــودي عــن مجــيء القافلــة قــال لــه: تأتــي فــي
السنـة القابلـة فلمـا سمــع جانشــاه كلامــه بكــى بكــاء شديــداً وحــزن علــى نفســه وعلــى مماليكــه وعلــى
فــراق أمــه وأبيــه وعلــى مــا جــرى لــه فــي سفــره فقــال لــه اليهـــودي: لا تبـــك يـــا شـــاب واقعـــد عندنـــا
حتى تأتي القافلة ونحن نرسلك معها إلى بلادك.
فلمـا سمـع جانشــاه ذلــك الكلــام قعــد عنــد اليهــودي مــدة شهريــن وصــار فــي كــل يــوم يخــرج إلــى أزقــة
المدينــة ويتفـــرج فيهـــا فاتفـــق أنـــه خـــرج علـــى عادتـــه يومـــاً مـــن الأيـــام ودار فـــي شـــوارع المدينـــة يمينـــاً
===
وشمــالاً فسمــع رجــلاً ينــادي ويقــول: مــن يأخــذ ألــف دينــار وجاريــة حسنــاء بديعـــة الحســـن والجمـــال
ويعمـل لــي شغــلاً مــن وقــت الصبــاح إلــى الظهــر فلــم يجبــه أحــد فلمــا سمــع جانشــاه كلــام المنــادي قــال
فـي نفسـه: لـولا أن هـذا الشغـل خطـر مـا كـان صاحبـه يعطـي ألـف دينــار وجاريــة حسنــاء فــي شغــل
من الصبح إلى الظهر ثم إن جانشاه تمشى إلى المنادي وقال له: أنا أعمل هذا الشغل.
فلمــا سمــع المنــادي مــن جانشــاه هــذا الكلــام أخــذه وأتــى بــه إلــى بيـــت التاجـــر فدخـــل هـــو وجانشـــاه
هـذا البيـت فوجـده بيتـاً عظيمــاً ووجــد هنــاك رجــلاً يهوديــاً آخــراً جالســاً علــى كرســي مــن الأبنــوس
فوقف المنادي قدامـه وقـال لـه: أيهـا التاجـر إن لـي ثلاثـة شهـور وأنـا أنـادي فـي المدينـة فلـم يجبنـي أحـد
إلا هـذا الشـاب. فلمـا سمـع التاجـر كلـام المنــادي رحــب بجانشــاه وأخــذه ودخــل بــه إلــى مكــان نفيــس
وأشـــار إلـــى عبيـــده أن يأتـــوا لـــه بالطعـــام فمـــدوا لـــه السمــــاط وأتــــوا بأنــــواع الأطعمــــة فأكــــل التاجــــر
وجانشـاه وغسـلا أيديهمـا وأتــوا بالمشــروب فشربــا ثــم إن التاجــر قــام وأتــى لجانشــاه بكيــس فيــه ألــف
دينــار وأتــى لــه بجاريــة بديعــة الحســن والجمــال وقــال لــه: خــذ هــذه الجاريــة وهـــذا المـــال فـــي الشغـــل
الــذي تعملــه فأخــذ جانشــاه الجاريــة والمــال وأجلــس الجاريــة بجانبــه وقــال لــه التاجــر: فــي غـــد اعمـــل
لنا الشغل ثم ذهب التاجر من عنده ونام جانشاه هو والجارية في تلك الليلة.
ولمـا أصبـح الصبــاح راح إلــى الحمــام فأمــر التاجــر عبيــده أن يأتــوا لــه ببدلــة مــن الحريــر فأتــوا لــه ببدلــة
===
نفيســة مــن الحريــر وصبــروا حتــى خــرج مــن الحمــام وألبســوه البدلــة وأتــوا بــه إلــى البيــت فأمــر التاجـــر
عبيــده أن يأتــوا بالجنــك والعــود والمشــروب فأتــوا إليهمــا بذلــك فشربــا ولعبــا وضحكــا إلــى أن مضــى
مـن الليـل نصفـه وبعـد ذلـك ذهـب التاجــر إلــى حريمــه ونــام جانشــاه مــع الجاريــة إلــى وقــت الصبــاح ثــم
راح إلى الحمام.
فلمــا رجــع مــن الحمــام جــاء إليــه التاجــر وقــال: إنــي أريــد أن تعمــل لنــا الشغــل فقـــال جانشـــاه: سمعـــاً
وطاعـة فأمـر التاجـر عبيـده أن يأتـوا ببغلتيـن فأتــوا ببغلتيــن فركــب بغلــة وأمــر جانشــاه أن يركــب البغلــة
الثانيــة فركبهــا ثــم إن جانشــاه والتاجــر ســارا مــن وقــت الصبــاح إلــى وقــت الظهــر حتـــى وصـــلا إلـــى
جبـل عـال مـا لـه حـد فـي العلـو فنـزل التاجـر مـن فـوق ظهـر البغلــة وأمــر جانشــاه أن ينــزل فنــزل جانشــاه
ثـم إن التاجـر نـاول جانشـاه سكينـاً وحبـلاً وقـال لــه: أريــد منــك أن تذبــح هــذه البغلــة فشمــر جانشــاه
ثيابه وأتى إلى البغلـة ووضـع الحبـل فـي أربعتهـا ورماهـا علـى الـأرض وأخـذ السكيـن وذبحهـا وسلخهـا
وقطــع أربعتهــا ورأسهــا وصــارت كـــوم لحـــم فقـــال لـــه التاجـــر: أمرتـــك أن تشـــق بطنهـــا وتدخـــل فيـــه
وأخيــط عليــك وتقعــد هنــاك ساعــة مــن الزمــان ومهمــا تــراه فـــي بطنهـــا فأخبرنـــي بـــه فشـــق جانشـــاه
بطــن البغلــة ودخلــه وخيطهــا عليــه التاجــر ثــم تركــه وبعــد عنــه. وأدرك شهــرزاد الصبـــاح فسكتـــت
عن الكلام المباح.
===
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن التاجــر لمــا خيــط بطــن البغلــة علــى جانشـــاه وتركـــه وبعـــد عنـــه
واستخفـى فـي ذيـل الجبـل بعـد ساعـة نـزل علـى البغلـة طائـر عظيـم فاختطفهـا وطـار ثــم حطهــا علــى
أعلــى الجبــل وأراد أن يأكلهــا فأحــس جانشـــاه بالطائـــر فشـــق بطـــن البغلـــة وخـــرج منهـــا فجفـــل الطائـــر
لمـا رأى جانشـاه وطــار وراح إلــى حــال سبيلــه فقــام جانشــاه علــى قدميــه وصــار ينظــر يمينــاً وشمــالاً
فلـم يـر أحـداً إلا رجــالاً يابســة مــن الشمــس فلمــا رأى ذلــك قــال فــي نفســه: لا حــول ولا قــوة إلا باللــه
العلي العظيم.
ثـم إنـه نظـر إلـى أسفـل الجبـل فـرأى التاجـر واقفـاً تحــت الجبــل ينظــر إلــى جانشــاه فلمــا رآه قــال لــه: ارم
لي من الحجارة نحو مائتي حجر وكانت الحجارة من الياقوت والزبرجد والجواهر الثمينة.
ثـم إن جانشـاه قـال للتاجـر: دلنــي علــى الطريــق وأنــا أرمــي لــك مــرة أخــرى فلــم التاجــر تلــك الحجــارة
وحملهــا علــى البغلــة التــي كــان راكبهــا وســار ولــم يـــرد لـــه جوابـــاً وبقـــي جانشـــاه فـــوق الجبـــل وحـــده
فصـار يستغيـث ويبكـي ثـم مكـث فـوق الجبــل ثلاثــة أيــام فقــام وســار فــي عــرض الجبــل مــدة شهريــن
وهـو يأكـل مـن أعشـاب الجبـل ومـا زال سائـراً حتـى وصـل فـي سيـره إلـى طـرف الجبـل فلمـا وصـل إلـى
الجبـــل رأى واديـــاً علـــى بعـــد وفيـــه أشجـــار وأثمـــار وأطيـــار تسبـــح اللــــه الواحــــد القهــــار فلمــــا أرى
جانشـاه ذلـك الـوادي فـرح فرحـاً شديـداً فقصــده ولــم يــزل ماشيــاً ساعــة مــن الزمــان حتــى وصــل إلــى
===
شــرم فــي الجبــل ينــزل منــه السيــل فنــزل منــه وســار حتـــى وصـــل إلـــى الـــوادي الـــذي رآه وهـــو علـــى
الجبــل فنــزل الــوادي وصــار يتفــرج فيــه يمينــاً وشمــالاً ومــا زال يمشــي ويتفــرج حتــى وصــل إلـــى قصـــر
عــال شاهــق فــي الهــواء فتقــرب جانشــاه مــن ذلــك القصــر حتــى وصــل إلــى بابــه فــرأى شيخــاً مليـــح
الهيئــة يلمــع وجهــه وبيــده عكــاز مــن الياقــوت وهــو واقــف علــى بــاب القصــر فتمشــى جانشــاه حتــى
قــرب منــه وسلــم عليــه فــرد عليــه السلــام ورحــب بـــه وقـــال لـــه: اجلـــس يـــا ولـــدي فجلـــس جانشـــاه
علــى بــاب ذلــك القصــر ثــم إن الشيــخ سألــه وقــال لــه: مــن أيــن أتيــت إلــى هــذه الــأرض وابـــن آدم مـــا
داسها قط وإلى أين رائح
فلمـــا سمـــع جانشـــاه كلـــام الشيـــخ بكـــى بكـــاء شديـــداً مـــن كثـــرة مـــا قاســـاه وخنقـــه البكـــاء فقـــال لـــه
الشيـخ: يـا ولـدي اتـرك البكـاء فقــد أوجعــت قلبــي ثــم قــام الشيــخ وأتــى لــه بشــيء مــن الأكــل وحطــه
قدامـه وقـال لـه: كـل مــن هــذا فأكــل جانشــاه حتــى اكتفــى وحمــد اللــه تعالــى ثــم إن الشيــخ بعــد ذلــك
سـأل جانشـاه وقـال لـه: يـا ولــدي أريــد منــك أن تحكــي لــي حكايتــك وتخبرنــي بمــا جــرى لــك فحكــى
لـه حكايتـه وأخبـره بجميـع مـا جـرى لـه مـن أول الأمــر إلــى أن وصــل إليــه فلمــا سمــع كلامــه تعجــب منــه
عجبـــاً شديـــداً فقـــال جانشـــاه للشيـــخ: أريـــد منــــك أن تخبرنــــي بصاحــــب هــــذا الــــوادي ولمــــن هــــذا
القصــر العظيــم فقــال الشيـــخ لجانشـــاه: اعلـــم يـــا ولـــدي أن هـــذا الـــوادي ومـــا فيـــه وذلـــك القصـــر ومـــا
===
حــواه للسيــد سليمــان بــن داود عليــه السلــام وأنــا اسمـــي الشيـــخ نصـــر ملـــك الطيـــو واعلـــم أن السيـــد
سليمان وكلني بهذا القصر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الشيـــخ نصـــر ملـــك الطيـــور قــــال لجانشــــاه: واعلــــم أن السيــــد
سليمــان وكلنــي بهــذا القصــر وعلمنــي منطــق الطيــر وجعلنــي حاكمــاً علــى جميــع الطيـــور الذيـــن فـــي
الدنيــا وفــي كــل سنــة تأتــي الطيــور إلــى هــذا القصــر تنظــره وتــروح وهــذا سبــب قعــودي فـــي هـــذا
المكان.
فلمــا سمــع جانشــاه كلــام الشيــخ نصــر بكــى بكــاء شديــداً وقــال لــه: يــا والـــدي كيـــف تكـــون حيلتـــي
حتــى أروح إلــى بلــادي فقــال لـــه الشيـــخ: اعلـــم يـــا ولـــدي أنـــك بالقـــرب مـــن جبـــل قـــاف وليـــس لـــك
رواح مـــن هــــذا المكــــان إلا أذا أتــــت الطيــــور وأوصــــي عليــــك واحــــداً منهــــا فيوصلــــك إلــــى بلــــادك
فاقعـد عنــدي فــي هــذا المكــان وكــل واشــرب وتفــرج فــي هــذه المقاصيــر حتــى تأتــي الطيــور فقعــد
جانشـــاه عنـــد الشيـــخ نصـــر وصـــار يـــدور فـــي الـــوادي ويأكــــل مــــن تلــــك الفواكــــه ويتفــــرج ويضحــــك
===
ويلعـب ولـم يـزل مقيمـاً فـي ألـذ عيـش مـدة منالزمـان حتـى قـرب مجـيء الطيــور قــام علــى قدميــه وقــال
لجانشـاه يـا جانشـاه خـذ هـذه المفاتيـح وافتـح المقاصيــر التــي فــي هــذا القصــر وتفــرج علــى مــا فيهــا إلا
المقصــورة الفلانيــة فاحــذر أن تفتحهـــا ومتـــى خالفتنـــي وفتحتهـــا ودخلتهـــا لا يحصـــل لـــك خيـــر أبـــداً
ووصـى جانشـاه بهـذه الوصيــة وأكــد عليــه فيهــا وســار مــن عنــده لملاقــاة الطيــور فلمــا نظــرت الطيــور
الشيخ نصر أقبلت عليه وقبلت يديه جنساً بعد جنس. هذا ما كان من أمر الشيخ نصر.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر جانشــاه فإنــه قــام علــى قدميــه وصــار سائــراً يتفــرج علــى القصــر يمينــاً وشمـــالاً
وفتـح جميـع المقاصيـر التـي فـي القصـر حتـى وصـل إلـى المقصـورة التـي حـذره الشيـخ نصــر مــن فتحهــا
فنظــر إلــى بــاب تلــك المقصـــورة فأعجبـــه ورأى عليـــه قفـــلاً مـــن الذهـــب فقـــال فـــي نفســـه: إن هـــذه
المقصــورة أحســن مــن جميــع المقاصيــر التــي فــي القصــر يــا تــرى مــا يكـــون فـــي هـــذه المقصـــورة حتـــى
منعنــي الشيــخ نصــر مــن الدخــول فيهــا فلابــد أن أدخــل هــذه المقصـــورة وأنظـــر الـــذي فيهـــا ومـــا كـــان
مقدراً على العبد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخمسمائة
===
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن جانشــاه قــال: ومــا كــان مقــدراً علــى العبــد لابــد أن يستوفيــه ثــم
مـد يـده وفتـح المقصـورة ودخلهــا فــرأى فيهــا بحيــرة عظيمــة وبجانــب البحيــرة قصــر صغيــر وهــو مبنــي
مـــن الذهـــب والفضـــة والبلـــور وشبابيكـــه مـــن الياقـــوت ورخامــــه مــــن الزبرجــــد الأخضــــر والبلخــــش
والزمــرد واجلواهــر مرصعــة فـــي الـــأرض علـــى هيئـــة الرخـــام وفـــي وســـط ذلـــك القصـــر فسقيـــة مـــن
الذهــب ملآنــة بالمــاء وحــول تلــك الفسقيــة وحـــوش وطيـــور متنوعـــة مـــن الذهـــب والفضـــة يخـــرج مـــن
بطونهــا المــاء وإذا هــب النسيــم يدخــل فــي آذانهــا فتصفــر كـــل صـــورة بلغتهـــا وبجانـــب الفسقيـــة ليـــوان
عظيـم وعليـه تخـت عظيــم مــن الياقــوت مرصــع بالــدر والجواهــر وعلــى ذلــك التخــت خيمــة منصوبــة
مــن الحريــر الأخضــر مزركشــة بالفصــوص والمعـــادن الفاخـــرة ومقـــدار سعتهـــا خمســـون ذراعـــاً وداخـــل
تلك الخيمة مخدع فيه البساط الذي كان للسيد سليمان عليه السلام.
ورأى جانشـــاه حـــول ذلـــك القصـــر بستانـــاً عظيمـــاً وفيـــه أشجـــار وأثمـــار وأنهـــار وفـــي دائــــرة القصــــر
مـــزارع مـــن الـــورد والريحـــان والنسريـــن ومـــن كـــل مشمـــوم وإذا هبـــت الريـــاح علــــى الأشجــــار تمايلــــت
تلــك الأغصــان ورأى جانشــاه فــي ذلــك البستــان مــن جميــع الأشجــار رطبــاً ويابســاً وكـــل ذلـــك فـــي
تلــك المقصــورة. فلمــا رأى جانشــاه هــذا الأمــر تعجــب منـــه غايـــة العجـــب وصـــار يتفـــرج فـــي ذلـــك
البستـان وفـي ذلـك القصــر علــى مــا فيهمــا مــن العجائــب والغرائــب ونظــر إلــى البحيــرة فــرأى حصاهــا
===
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة بعد الخمسمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن جانشــاه رأى فــي تلــك المقصــورة شيئــاً كثيــراً فتعجــب منــه ثــم
تمشـى حتـى دخـل القصـر الـذي فـي تلـك المقصـورة وطلـع علـى التخـت المنصـوب علــى الليــوان بجانــب
الفسقيــة ودخــل الخيمــة المنصوبــة فوقــه ونــام فــي تلــك الخيمــة مــدة مــن الزمــان ثــم أفــاق وقــام يتمشــى
حتـى خـرج مــن بــاب القصــر وجلــس علــى كرســي قــدام بــاب القصــر وهــو يتعجــب مــن حســن ذلــك
المكـان فبينمـا هـو جالـس إذ أقبـل عليـه مـن الجـو ثلاثـة طيــور فــي صفــة الحمــام ثــم إن الطيــور حطــوا
بجانــب البحيــرة ولعبــوا ساعــة وبعــد ذلــك نزعـــوا مـــا عليهـــم مـــن الريـــش فصـــاروا ثلـــاث بنـــات كأنهـــن
الأقمار ليس لهن في الدنيا شبيه ثم نزلن البحيرة وسبحن فيها ولعبن وضحكن.
فلمـــا رآهـــن جانشـــاه تعجـــب مـــن حسنهـــن وجمالهـــن واعتـــدال قدودهـــن ثـــم طلعـــن إلـــى البـــر ودرن
يتفرجــن فــي البستــان فلمــا رآهــن جانشــاه طلعــن إلــى البــر كـــاد عقلـــه أن يذهـــب وقـــام علـــى قدميـــه
وتمشــى حتــى وصــل إليهــن فلمــا قــرب منهــن سلــم عليهــن فــرددن عليــه السلــام ثـــم إنـــه سألهـــن وقـــال
لهــن: مــن أنتــن أيتهــا السيــدات الفاخــرات ومــن أيــن أقبلتــن فقالــت لــه الصغيــرة: نحــن أتينــا مــن ملكـــوت
===
اللـه تعالـى لنتفـرج فـي هـذا المكـان فتعجـب مــن حسنهــن ثــم قــال للصغيــرة: ارحمينــي وتعطفــي علــي
وارثـي لحالـي ومـا جـرى لـي فـي عمـري فقالـت لـه: دع عنــك هــذا الكلــام واذهــب إلــى حــال سبيلــك
فلما سمع الكلام بكى بكاء شديداً واشتدت به الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
بدت لي في البستان بالحلل الأخضر مفككة الأزرار محلولة الشعـر
فقلت لها ما الاسم قالت أنا التي كويت قلوب العاشقين على الجمر
شكوت إليها ما ألاقي من الهوى فقالت إلى صخر شكوت ولم تدر
فقلت لها إن كان قلبك صخر فقد أنبع الله الزلال من الصخر
فلمـا سمـع البنــات هــذا الشعــر مــن جانشــاه ضحكــن ولعبــن وغنيــن وطربــن ثــم إن جانشــاه أتــى إليهــن
بشــيء مــن الفواكـــه فأكلـــن وشربـــن ونمـــن مـــع جانشـــاه تلـــك الليلـــة إلـــى الصبـــاح فلمـــا أصبـــح الصبـــاح
لبســت البنــات ثيابهــن الريــش وصــرن هيئـــة الحمـــام وطـــرن ذاهبـــات إلـــى حـــال سبيلهـــن فلمـــا رآهـــن
جانشـاه طائـرات وقـد غبـن عــن عيونــه كــاد عقلــه أن يطيــر معهــن وزعــق زعقــة عظيمــة ووقــع مغشيــاً
عليه ومكث في غشيته طوال ذلك اليوم.
فبينمـا هـو طريــح علــى الــأرض وإذا بالشيــخ نصــر قــد أتــى مــن ملاقــاة الطيــور وفتــش علــى جانشــاه
ليرسلـه مـع الطيـور ويــروح إلــى بلــاده فلــم يــره فعلــم الشيــخ نصــر أنــه دخــل المقصــورة وقــد كــان الشيــخ
===
نصـر قــد قــال للطيــور: إن عنــدي ولــداً صغيــراً جــاءت بــه المقاديــر مــن بلــاد بعيــدة إلــى هــذه الــأرض
وأريــد منكــم أن تحملــوه وتوصلــوه إلــى بلــاده فقالــوا لـــه: سمعـــاً وطاعـــة ولـــم يـــزل الشيـــخ نصـــر يفتـــش
علــى جانشــاه حتــى أتــى إلــى بــاب المقصـــورة التـــي نهـــاه عـــن فتحهـــا فوجـــده مفتوحـــاً فدخـــل فـــرأى
جانشــاه مرميــاً تحــت شجــرة وهــو مغشــي عليــه فأتــاه بشــيء مــن الميــاه العطريــة ورشـــه علـــى وجهـــه
فأفاق من غشيته وصار يلتفت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية بعد الخمسمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الشيــخ نصــر لمــا رأى جانشــاه مرميـــاً تحـــت شجـــرة أتـــاه بشـــيء
مــن الميــاه العطريــة ورشــه علــى وجهــه فأفــاق مــن غشيتــه وصــار يلتفــت يمينــاً وشمــالاً فلــم يــر عنـــده
أحداً سوى الشيخ نصر فزادت به الحسرة وأنشد هذه الأبيات:
فبدت كبدر التم في ليلة السعد منعمـة الأطـراف ممشوقـة القـد
لها مقلة تسبي العقول بسحرها وثغر حكى الياقوت في حمرة الورد
تحدر فوق الردف أسود شعرها فإياك إياك الحباب مـن السعـد
===
وترسل سهم اللحظ من قوس حاجب يصيب ولم يخطئ ولو كان من بعد
فيا حسنها قد فاق كل ملاحة وليـس لهـا بيـن البريـة مــن نــد
فلمــا سمــع الشيــخ نصــر مــن جانشــاه هــذه الأشعــار قـــال لـــه: يـــا ولـــدي أمـــا قلـــت لـــك لا تفتـــح هـــذه
المقصـــورة ولا تدخلهـــا ولكـــن أخبنـــي يـــا ولـــدي بمـــا رأيـــت فيهـــا واحـــك لـــي حكايتـــك وعرفنـــي مـــا
جــرى لــك فحكـــى لـــه جانشـــاه حكايتـــه وأخبـــره بمـــا جـــرى لـــه مـــع الثلـــاث بنـــات وهـــو جالـــس فلمـــا
سمـع الشيـخ نصـر كلامـه قـال لـه: يـا ولــدي إن هــذه البنــات مــن بنــات الجــان وفــي كــل سنــة يأتيــن إلــى
هــذا المكــان فيلعبــن وينشرحــن إلــى وقــت العصــر ثـــم يذهبـــن إلـــى بلادهـــن فقـــال لـــه جانشـــاه: وأيـــن
بلادهن فقال له الشيخ نصر: والله يا ولدي ما أعلم أين بلادهن.
ثـم إن الشيـخ نصـر قـال لــه: قــم معــي وقــو نفســك حتــى أرسلــك إلــى بلــادك مــع الطيــور وخــل عنــك
هــذا العشــق فلمــا سمــع جانشــاه كلــام الشيــخ نصـــر صـــرخ صرخـــة عظيمـــة ووقـــع مغشيـــاً عليـــه ولمـــا
أفـاق قــال لــه: يــا والــدي أنــا لا أريــد الــرواح إلــى بلــادي حتــى أجتمــع بهــؤلاء البنــات واعلــم يــا والــدي
أنــي مــا بقيــت أذكــر أهلــي ولــو أمــوت بيــن يديــك ثــم بكــى وقـــال: أنـــا رضيـــت بـــأن أنظـــر وجـــه مـــن
عشقتها ولو في السنة مرة واحدة ثم صعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
ليت الخيال على الأحباب ما طرقا وليت هذا الهوى للناس ما خلقا
===
أصبر القلـب فـي يومـي وليلتـه وصار جسمي بنار الحب محترقا
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة بعد الخمسمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن جانشـــاه لمـــا فـــرغ مـــن شعـــره وقـــع علـــى رجلـــي الشيـــخ نصـــر
وقبلهمـا وبكـى بكـاء شديـداً وقــال لــه: ارحمنــي يرحمــك اللــه وأعيننــي علــى بلوتــي يعينــك اللــه فقــال
لـــه الشيـــخ نصـــر: يـــا ولـــدي واللـــه لا أعـــرف هـــؤلاء البنـــات ولا أدري أيـــن بلادهـــن ولكـــن يــــا ولــــدي
حيث تولعـت بإحداهـن فاقعـد عنـدي إلـى مثـل هـذا العـام لأنهـن يأتيـن فـي السنـة القابلـة فـي مثـل هـذا
اليـوم فـإذا قربـت الأيـام التـي يأتيـن فيهـا فكـن فـي البستـان تحــت شجــرة حيــن ينزلــن البحيــرة ويسبحــن
فيهـا ويلعبـن ويبعـدن عـن ثيابهـن فخـذ ثيـاب التـي تريدهـا منهـن فـإذا نظرتـك يطلعــن علــى البــر ليلبســن
ثيابهــن وتقــول لــك التــي أخــذت ثيابهــا بعذوبــة كلــام وحســن ابتســام: أعطنــي ثيابــي يـــا أخـــي حتـــى
ألبسهــا وأستتــر بهــا ومتــى قبلــت كلامهــا وأعطيتهــا ثيابهــا فإنــك لا تبلــغ مــرادك منهــا أبـــداً بـــل تلبـــس
ثيابهــا وتــروح إلــى أهلهــا ولا تنظرهــا بعــد ذلــك أبــداً فــإذا ظفــرت بثيابهــا فاحفظهــا تحــت إبطـــك ولا
تعطهــا إياهــا حتــى أرجــع مــن ملاقــاة الطيــور وأوفــق بينــك وبينهــا وأرسلــك إلــى بلــادك وهــي معـــك
===
وفي الليلة الرابعة بعد الخمسمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الشيـــخ نصـــر قـــال لجانشـــاه: احفــــظ ثيــــاب التــــي تريدهــــا ولا
تعطهــا إياهــا حتــى أرجــع مــن ملاقــاة الطيــور وأوفــق بينــك وبينهــا وأرسلــك إلــى بلــادك وهــذا الــذي
أقدر عليه يا ولدي لاغير.
فلمــا سمــع جانشــاه كلــام الشيــخ نصــر اطمــأن قلبــه وقعــد عنــده إلــى ثانــي عــام وصـــار يعـــد الماضـــي
مــن الأيــام التــي تأتــي الطيــور عقبهــا فلمــا جــاء ميعــاد مجــيء الطيــور أتــى الشيـــخ نصـــر إلـــى جانشـــاه
وقـال لـه: اعمـل بالوصيـة التـي أوصيتــك بهــا مــن أمــر ثيــاب البنــات فإننــي ذاهــب إلــى ملاقــاة الطيــور
فقــال جانشــاه: سمعــاً وطاعـــة لأمـــرك يـــا والـــدي ثـــم ذهـــب الشيـــخ نصـــر إلـــى ملاقـــاة الطيـــور وبعـــد
ذهابــه قــام جانشــاه وتمشــى حتــى دخــل البستــان واختفــى تحــت شجــرة بحيـــث لا يـــراه أحـــد وقعـــد
أول يـوم وثانـي يـوم وثالـث يـوم فلــم يأتيــن إليــه البنــات فقلــق وصــار فــي بكــاء وأنيــن ناشــيء عــن قلــب
حزيـن ولـم يـزل يبكــي حتــى أغمــي عليــه ثــم بعــد ساعــة أفــاق وجعــل ينظــر تــارة إلــى السمــاء وتــارة
ينظــر إلــى الــأرض وتــارة ينظــر إلــى البحيــرة وتـــارة ينظـــر إلـــى البـــر وقلبـــه يرتجـــف مـــن شـــدة العشـــق
فبينمـا هـو علـى هــذه الحالــة إذ أقبــل عليــه مــن الجــو ثلــاث طيــور فــي صفــة الحمــام ولكــن كــل حمامــة
===
قــدر النســر ثــم إنهــن نزلــن بجانــب البحيــرة وتلفتـــن يمينـــاً وشمـــالاً فلـــم يريـــن أحـــداً مـــن الإنـــس ولا مـــن
الجــن فنزعــن ثيابهــن ونزلــن البحيــرة وصــرن يلعبــن ويضحكــن وينشرحــن وهــن كسبائــك الفضـــة ثـــم إن
الكبيــرة منهــن قالــت لهــن: أخشــى يـــا أخواتـــي أن يكـــون أحـــداً مختفيـــاً لنـــا فـــي هـــذا القصـــر فقالـــت
الوسطـــى منهـــن: يـــا أختـــي إن هـــذا القصـــر مــــن عهــــد سليمــــان مــــا دخلــــه إنــــس ولا جــــان فقالــــت
الصغيـرة منهـن وهـي تضحـك: واللـه يـا أخواتـي إن كـان أحـد مختفيـاً فـي هـذا المكــان فإنــه لا يأخــذ إلا
أنــا ثـــم إنهـــن لعبـــن وضحكـــن وقلـــب جانشـــاه يرتجـــف مـــن فـــرط الغـــرام وهـــو مختـــف تحـــت الشجـــرة
ينظر وهن لا ينظرنه ثم إنهن سبحن في الماء حتى وصلن إلى وسط البحيرة وبعدن عن ثيابهن.
فقــام جانشــاه علــى قدميــه وهــو يجــري كالبـــرق الخاطـــف وأخـــذ ثيـــاب البنـــت الصغيـــرة وهـــي التـــي
تعلــق قلبــه بهــا وكــان اسمهــا شمســة فلمــا التفتــت رأت جانــاه فارتجفــت قلوبهـــن واستتـــرن منـــه بالمـــاء
وأتيـن إلـى قـرب البـر ثـم نظـرن إلـى وجـه جانشـاه فرأينـه كأنــه البــدر فــي ليلــة تمامــه فقلــن لــه: مــن أنــت
وكيـــف أتيـــت إلـــى هـــذا المكـــان وأخـــذت ثيـــاب السيـــدة شمســـة فقـــال لهـــن: تعاليـــن عنـــدي حتــــى
أحكـي لـك حكايتــي وأخبــرك بمــا جــرى لــي وأعلمــك بسبــب معرفتــي بــك فقالــت: يــا سيــدي وقــرة
عينــي وثمــرة فــؤادي أعطنــي ثيابــي حتــى ألبسهــا وأستتــر بهــا وأطلـــع عنـــدك فقـــال لهـــا جانشـــاه: يـــا
سيــدة الملــاح مــا يمكــن أن أعطيـــك ثيابـــك وأقتـــل نفـــس مـــن الغـــرام فـــلا أعطيـــك إلا إذا أتـــى الشيـــخ
===
نصــر ملــك الطيــور فلمــا سمعــت السيــدة شمســة كلــام جانشــاه قالــت لــه: إن كنــت لا تعطينــي ثيابـــي
فتأخــر عنــا قليــلاً حتــى يطلــع أخواتــي إلـــى البـــر ويلبســـن ثيابهـــن ويعطيننـــي شيئـــاً أستتـــر بـــه فقـــال
جانشاه: سمعاً وطاعة.
ثــم تمشــى مــن عندهــن إلــى القصــر ودخلــه فطلعــت السيــدة شمســة هــي وأخواتهــا إلـــى البـــر ولبســـن
ثيابهـن ثـم إن أخـت السيــدة شمســة الكبيــرة أعطتهــا ثيابــاً مــن ثيابهــن لا يمكنهــا الطيــران بهــا وألبستهــا
إياهـــا ثـــم قامـــت السيـــدة شمســـة وهـــي كالبـــدر الطالـــع والغـــزال الرائـــع وتمشـــت حتـــى وصلـــت إلـــى
جانشــاه فرأتــه جالســاً فــوق التخــت فسلمــت عليــه وجلســت قريبــاً منــه وقالــت لـــه: يـــا مليـــح الوجـــه
أنت الذي قتلتني وقتلت نفسك ولكن أخبرنا بما جرى لك حتى ننظر ما خبرك.
فلمــا سمــع جانشـــاه كلـــام السيـــدة شمســـة بكـــى حتـــى بـــل ثيابـــه مـــن دموعـــه فلمـــا علمـــت أنـــه مغـــرم
بحبهــا قامــت علــى قدميهــا وأخذتــه مــن يــده وأجلستــه بجانبهــا ومسحــت دموعــه بكمهـــا وقالـــت لـــه:
يـا مليـح الوجـه دع عنـك هـذا البكـاء واحـك لـي مــا جــرى لــك فحكــى لهــا مــا جــرى لــه وأخبرهــا بمــا
رآه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
قالـت: بلغنـي أيهــا الملــك السعيــد أن خــواً الملــك لمــا نظــروا الفــرس تضاحكــوا وقالــوا وعلــى مثــل هــذا
الفــرس يكــون مــا ذكــره الفتــى فمــا أظنــه إلا مجنونــاً ولكــن ســوف يظهــر لنــا أمــره وربمــا يكــون لــه شــأن
عظيــم ثــم إنهــم رفعــوا الفـــرس علـــى أيديهـــم ولـــم يزالـــوا حامليـــن لهـــا حتـــى وصلـــوا إلـــى قـــدام الملـــك
وأوقفوهـــا بيـــن يديـــه فاجتمـــع عليهـــا النـــاس ينظـــرون مـــن حســـن صنعتهـــا وحســـن سرجهــــا ولجامهــــا
واستحسنهــا الملــك أيضــاً وتعجــب منهــا غايـــة العجـــب ثـــم قـــال لبـــن الملـــك: يـــا فتـــى أهـــذه فرســـك
فقال: نعم أيها الملك هذه فرسي وسوف ترى منها العجب.
===
فقـال لـه الملــك: خــذ فرســك واركبهــا قــال: لا أركبهــا إلا إذا بعــد عنهــا العساكــر فأمــر الملــك العسكــر
الذيــن حولــه أن يبتعــدوا عنهــا مقــدار رميــة السهــم فقـــال لـــه: أيهـــا الملـــك هاأنـــا رائـــح أركـــب فرســـي
وأحمــل علــى جيشــك فأفرقهــم يمينــاً وشمــالاً وأصــدع قلوبهــم فقــال لــه الملــك: افعــل مــا تريــد ولا تبــق
عليهـم فإنهـم لا يبقـون عليـك ثــم إن ابــن الملــك توجــه إلــى فرســه وركبهــا واصطفــت لــه الجيــوش وقــال
بعضهــم لبعــض: إذا وصــل الغلــام بيــن الصفــوف نأخــذه بأسنــة الرمــاح وشفــار الصفــاح. فقــال واحـــد
منهــم: واللــه غنهــا مصيبــة كيــف نقتــل هــذا الغلــام صلحــب الوجــه المليــح والقــد الرجيــح فقــال واحـــد
آخـر: واللـه لــن تصلــوا إليــه إلا بعــد أمــر عظيــم ومــا فعــل الفتــى هــذه الفعــال إلا لمــا علــم مــن شجاعــة
نفســه وبراعتـــه فلمـــا استـــوى ابـــن الملـــك علـــى فرســـه فـــرك لولـــب الصعـــود فتطاولـــت إليـــه الأبصـــار
لينظــروا مــاذا يريــد أن يفعــل فماجــت فرســه واضطربــت حتــى عملــت أغــرب حركــات تعملهــا الخيـــل
وامتلأ جوفها بالهواء ثم ارتفعت وصعدت في الجو.
فلمـا رآه الملــك قــد ارتفــع وصعــد علــى جيشــه قــال: ويلكــم خــذوه قبــل أن تفوتكــم فعنــد ذلــك قــال
لـه وزرائـه ونوابـه: أيهـا الملـك هــل أحــد يلحــق الطيــر الطائــر ومــا هــذا إلا سحــر عظيــم قــد نجــاك اللــه
منـه فاحمـد اللـه تعالـى علـى خلاصـك مــن يــده فرجــع الملــك إلــى قصــره بعدمــا رأى مــن ابــن الملــك مــا
رأى ولمـا وصـل إلـى قصـره ذهـب إلـى ابنتـه وأخبرهـا بمـا جـرى لـه مـع ابـن الملـك فــي الميــدان فوجدهــا
===
فلمـا رآهـا أبوهـا علـى تلـك الحالــة ضمهــا وقبلهــا بيــن عينيهــا وقــال لهــا: يــا ابنتــي احمــدي اللــه تعالــى
واشكريــه حيــث خلصنــا مــن هــذا الساحــر الماكــر وجعــل يكــرر عليهــا مـــا رآه مـــن ابـــن الملـــك ويذكـــر
لهـا صفـة صعـوده فـي الهـواء وهــي لا تصغــي إلــى شــيء مــن قــول أبيهــا واشتــد بكاؤهــا ونحيبهــا ثــم
قالت في نفسهـا: واللـه لا آكـل طعامـاً وأشـرب شرابـاً حتـى يجمـع اللـه بينـي وبينـه فحصـل لأبيهـا الملـك
هـم عظيـم مـن أجـل ذلـك وشـق عليـه حــال ابنتــه وصــار حزيــن القلــب عليهــا وكلمــا يلاطفهــا لا تــزداد
إلا شغفاً به. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التسعين بعد الثلاثمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيــد أن الملــك صــار حزيــن القلــب علــى ابنتــه وكلمــا يلاطفهــا لا تــزداد إلا
شغفاً به هذا ما كان من أمر الملك وابنته.
وأمـا مـا كـان مـن أمـر ابـن الملـك فإنـه لمـا صعـد فـي الجــو اختلــى بنفســه وتذكــر حســن الجاريــة وجمالهــا
وكــان قــد ســأل أصحــاب الملـــك عـــن اســـم المدينـــة واســـم الملـــك واســـم ابنتـــه وكانـــت تلـــك المدينـــة
صنعاء ثم أنه جد في السيرحتـى أشـرف علـى مدينـة أبيـه ودار حـول المدينـة ثـم توجـه إلـى قصـر أبيـه
ونـزل فـوق السطـح وتـرك فرسـه هنـاك ونـزل إلــى والــده ودخــل عليــه فوجــده حزينــاً كئيبــاً لأجــل فراقــه
===
فلمـا رآه والـده قـام إليـه واعتنقـه وضمـه إلـى صـدره وفــرح بــه فرحــاً شديــداً ثــم أنــه لمــا اجتمــع بوالــده
وسألــه عــن الحكيــم الــذي عمــل الفــرس وقــال: يــا والــدي مــا فعــل الدهــر بــه فقــال لــه والــده: لا بــارك
الله في الحكيـم ولا فـي الساعـة التـي رأيتـه فيهـا لأنـه هـو الـذي كـان سببـاً لفراقـك منـا وهـو مسجـون يـا
ولدي من يوم غبت عنا فأمر ابن الملك بالإفراج عنه وإخراجه من السجن وإحضاره بين يديه.
فلمـا حضـر بيـن يديـه خلـع عليـه وأحسـن إليـه غايـة الإحســان إلا أنــه لــم يزوجــه ابنتــه فغضــب الحكيــم
مـن أجـل ذلـك غضبـاً شديـداً ونـدم علــى مــا فعــل وعلــم أن ابــن الملــك قــد عــرف ســر الفــرس وكيفيــة
سيرهــا ثــم أن الملــك قــال لابنــه: الــرأي عنــدي أنــك لا تقــرب هــذا الفــرس بعــد ذلــك ولا تركبهــا أبـــداً
بعـد يومـك هـذا لأنـك لا تعـرف أحوالهـا فأنــت منهــا علــى غــرور وكــان ابــن الملــك قــد حــدث أبــاه بمــا
جرى له مع ابنة الملك صاحب نلك المدينة وما جرى له مع أبيها.
فقــال لــه أبــوه: لــو أراد الملــك قتلــك لقتلــك ولكــن فــي أجلــك تأخيــر ثــم إن ابــن الملــك هاجـــت بلابلـــه
بحـب الجاريـة ابنـة الملـك صاحــب صنعــاء فقــام إلــى الفــرس وركبهــا وفــرك لولــب الصعــود فطــارت بــه
فـي الهـواء وعلـت بـه إلـى عنـان السمــاء فلمــا أصبــح الصبــاح افتقــده أبــوه فلــم يجــده فطلــع إلــى أعلــى
القصــر وهــو ملهــوف فنظــر إلــى ابنــه وهــو صاعــد فــي الهــواء فتأســف علــى فراقــه ونــدم كـــل النـــدم
حيـث لـم يأخـذ الفـرس ويخفـي أمـره ثـم قـال فـي نفسـه: واللـه إن رجـع إلـي ولـدي مـا بقيـت أخلـي هــذا
===
الفـرس لأجــل أن يطمئــن قلبــي علــى ولــدي ثــم إنــه عــاد إلــى بكائــه ونحيبــه. وأدرك شهــرزاد الصبــاح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والتسعين بعد الثلاثمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الملـك عـاد إلــى بكائــه ونحيبــه مــن حزنــه علــى ولــده هــذا مــا كــان
من أمره.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر ابنــه فإنــه لــم يــزل سائــراً فــي الجــو حتــى وقــف علــى مدينــة صنعــاء ونــزل فــي
المكـان الـذي كـان فيـه أولاً ومشـى مستخفيـاً حتـى وصـل إلـى محـل ابنــة الملــك فلــم يجدهــا لا هــي ولا
جواريهــا ولا الخــادم الــذي كــان محافظــاً عليهــا فعظــم عليــه ذلــك ثــم إنــه دار يفتــش عليهــا فــي القصــر
فوجدهــا فــي مجلــس آخــر غيــر محلهــا الــذي اجتمــع معهــا فيــه وقــد لزمــت الوســـاد وحولهـــا الجـــواري
والدايات فدخل عليهن وسلم عليهن.
فلمــا سمعــت الجاريــة كلامــه قامــت إليــه واعتنقتــه وجعلــت تقبلــه بيــن عينيــه وتضمـــه إلـــى صدرهـــا
فقـال لهــا: يــا سيدتــي أوحشتينــي هــذه المــدة فقالــت لــه: أنــت الــذي أوحشتنــي ولــو طالــت غيبتــك
عنــي لكنــت هلكــت بــلا شــك فقــال لهــا: يــا سيدتــي كيــف رأيــت حالــي مــع أبيــك ومــا صنــع بـــي
===
ولـولا محبتـك يـا فتنـة العالميـن لقتلتــه وجعلتــه عبــرة للناظريــن ولكــن أحبــه مــن أجلــك فقالــت لــه: كيــف
تغيـب عنـي وهـل تطيـب حياتـي بعـدك فقــال لهــا: أتطيعينــي وتصغــي إلــى قولــي فقالــت لــه: قــل مــا
شئـت فإنـي أجيبـك إلـى مـا تدعونـي إليـه ولا أخالفـك فـي شــيء فقــال لهــا: سيــري معــي إلــى بلــادي
وملكي فقالت له: حباً وكرامة.
فلمــا سمــع ابــن الملــك كلامهــا فـــرح فرحـــاً شديـــداً وأخـــذ بيدهـــا وعاهدهـــا بعهـــد اللـــه تعالـــى علـــى
ذلــك ثــم صعــد بهــا إلــى أعلــى سطــح القصــر وركــب فرســه وأركبهــا خلفــه ثــم ضمهــا إليــه وشدهــا
شــداً وثيقـــاً وحـــرك لولـــب الصعـــود الـــذي فـــي كتـــف الفـــرس فصعـــدت بهمـــا إلـــى الجـــو فعنـــد ذلـــك
زعقــت الجــواري وأعلمــن الملــك أباهــا وأمهــا فصعــدا مبادريــن إلــى سطــح القصــر والتفــت الملــك إلـــى
الجـو فـرأى الفـرس الآبنـوس وهـي طائـرة بهمـا فـي الهـواء فعنـد ذلـك انزعـج الملــك وزاد انزعاجــه وقــال:
يا ابن الملك سألتك بالله أن ترحمني وترحم زوجتي ولا تفرق بيننا وبين بنتنا فلم يجبه ابن الملك.
ثـم أن ابـن الملـك ظــن فــي نفســه أن الجاريــة ندمــت علــى فــراق أمهــا وأبيهــا فقــال لهــا: يــا فتنــة الزمــان
هـل لــك أن أردك إلــى أمــك وأبيــك فقالــت لــه: يــا سيــدي واللــه مــا مــرادي ذلــك إنمــا مــرادي أن أكــون
معك أينما تكون لأنني مشغولة بمحبتك عن كل شيء حتى أبي وأمي.
فلمـا سمـع ابــن الملــك كلامهــا فــرح بذلــك فرحــاً شديــداً وجعــل يسيــر الفــرس بهمــا سيــراً لطيفــاً لكيــلا
===
يزعجهـا ولـم يـزل يسيـر بهـا حتـى نظـر إلـى مـرج أخضـر وفيـه عيـن جاريـة فنـزلا هنـاك وأكـلا وشربـا ثـم
أن ابـن الملـك ركـب فرسـه وأردفهـا خلفـه وأوثقهـا بالربـاط خوفـاً عليهـا وسـار بهــا ولــم يــزل فــي الهــواء
حتى وصل إلى مدينة أبيه فاشتد فرحه.
ثـــم أراد أن يظهـــر للجاريـــة محـــل سلطانـــه وملـــك أبيـــه ويعرفهـــا أن ملـــك أبيـــه أعظـــم مـــن ملــــك أبيهــــا
فأنزلهـا فـي بعـض البساتيـن التـي يتفـرج فيهـا والـده وأدخلهـا فــي المقصــورة المعــدة لأبيــه واوقــف الفــرس
الآبنــوس علــى بــاب تلــك المقصــورة وأوصــى الجاريــة بالمحافظــة علــى الفــرس وقـــال لهـــا اقعـــدي ههنـــا
حتــى أرســل إليــك رسولــي فإنــي متوجــه إلــى أبــي لأجـــل أن أهـــيء لـــك قصـــراً وأظهـــر لـــك ملكـــي
ففرحـــت الجاريـــة عندمـــا سمعـــت منـــه هـــذا الكلـــام وقالـــت لـــه: افعــــل مــــا تريــــد. وأدرك شهــــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة فرحــت عندمـــا سمعـــت منـــه هـــذا الكلـــام وقالـــت لـــه:
افعـل مــا تريــد ثــم خطــر ببالهــا أنهــا لا تدخــل إلا بالتبجيــل والتشريــف كمــا يصلــح لأمثالهــا ثــم أن ابــن
الملــك تركهــا وســار حتــى وصــل إلــى المدينــة ودخـــل علـــى أبيـــه فلمـــا رأى أبـــوه فـــرح بقدومـــه وتلقـــاه
===
ورحـب بـه ثـم أن ابـن الملـك قـال لوالـده: اعلـم أننــي أتيــت ببنــت الملــك التــي كنــت أعلمتــك بهــا وقــد
تركتهـا خـارج المدينـة فـي بعـض البساتيـن وجئـت أعلمـك بهـا لأجــل أن تهــيء الموكــب وتخــرج لملاقاتهــا
وتظهـر لهـا ملكـك واعوانــك وجنــودك. فقــال لــه الملــك: حبــاً وكرامــة ثــم أمــر مــن وقتــه وساعتــه أهــل
المدينــة أن يزينــوا المدينــة أحســـن زينـــة وركـــب فـــي أكمـــل هيبـــة وأحســـن زينـــة هـــو وجميـــع عساكـــره
وأكابــر دولتــه وسائــر مملكتــه وخدمــه وأخــرج ابــن الملــك مــن قصــره الحلـــي والحلـــل ومـــا تدخـــره الملـــوك
وهيـــأ لهـــا عمـــارة مـــن الديبـــاج الأخضـــر والأحمـــر والأصفـــر وأجلــــس علــــى تلــــك العمــــارة الهنديــــات
والروميات والحبشيات وأظهر من الذخائر شيئاً عجيباً.
ثـم أن ابـن الملـك تـرك العمـارة بمـن فيهـا وسبـق إلــى البستــان ودخــل المقصــورة التــي تركهــا فيهــا وفتــش
فيهـا فلـم يجدهـا ولـم يجـد الفـرس فعنـد ذلـك لطـم علـى وجهـه ومـزق ثيابـه وجعـل يطـوف فـي البستـان
وهـو مدهـوش العقـل ثـم بعـد ذلـك رجـع إلــى عقلــه وقــال فــي نفســه: كيــف علمــت بســر هــذا الفــرس
وأنـا لـم أعلمهـا بشــيء مــن ذلــك ولعــل الحكيــم الفارســي الــذي عمــل الفــرس قــد وقــع عليهــا وأخذهــا
جـزاء مـا عملـه والـدي معـه ثـم أن ابـن الملـك طلـب حـراس البستـان وسألهــم عمــن مــر بهــم وقــال لهــم:
هـل نظرتـم أحـداً مـر بكـم ودخـل هـذا البستـان فقالــوا: مــا رأينــا أحــداً دخــل البستــان ســوى الحكيــم
الفارســـي فإنـــه دخـــل ليجمـــع الحشائـــش النافعـــة فلمـــا سمـــع كلامهـــم صـــح عندهــــم أن الــــذي أخــــذ
===
وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن ابــن الملــك لمــا سمــع كلامهــم صــح عنــده أن الــذي أخـــذ الجاريـــة
هـو ذلـك الحكيـم وكـان بالأمـر المقـدر أن ابـن الملــك لمــا تــرك الجاريــة فــي المقصــورة التــي فيهــا البستــان
وذهـب إلـى قصـر أبيـه ليهـيء أمـره دخـل الحكيـم الفارسـي البستـان ليجمـع شيئـاً مــن الحشيــش النافــع
فشـم رائحـة المسـك الطيـب التـي عبـق منهـا المكـان وكـان ذلــك الطيــب مــن رائحــة ابنــة الملــك فقصــد
الحكيــم تلــك الرائحــة حتــى وصــل إلــى تلــك المقصــورة فـــرأى الفـــرس التـــي صنعهـــا بيـــده علـــى بـــاب
المقصورة.
فلمــا رأى الحكيــم الفــرس امتــلأ قلبــه فرحــاً وســروراً إلا أنــه كــان كثيــر التأســف علــى الفـــرس حيـــث
خرجـــت مـــن يـــده فتقـــدم إلـــى الفـــرس وافتقـــد جميــــع أجزائهــــا فوجدهــــا سالمــــة ولمــــا أراد أن يركبهــــا
ويسيـر قـال فـي نفسـه: لا بـد أن أنظـر مـا جـاء بــه ابــن الملــك وتركــه مــع الفــرس ههنــا فدخــل المقصــورة
فوجـد الجاريـة جالسـة وهـي كالشمـس الصاحيــة فــي السمــاء الصافيــة ثــم توجــه إلــى المدينــة ليجــيء
لهـا بموكـب ويدخلهـا المدينـة فقالـت لـه: مـن أنـت فقـال لهــا: يــا سيدتــي أنــا رســول الملــك قــد أرسلنــي
إليــك وأمرنــي أن أنقلــك إلــى بستــان آخــر قريــب مــن المدينــة. فلمــا سمعــت الجاريــة منـــه ذلـــك الكلـــام
===
وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الحكيــم الفــارس لمــا أخبــر الجاريــة بأحـــوال ابـــن الملـــك صدقـــت
كلامـه ودخـل فـي عقلهـا وقامـت معـه ووضعـت يدهـا فـي يـده ثـم قالـت لـه: يـا والـدي مـا الــذي جئــت
لـي بـه معـك حتـى أركبـه فقـال: يـا سيدتـي الفـر سالتـي جئـت عليهـا تركبينهـا فقالـت لــه: أنــا لا أقــدر
علـى ركوبهـا وحـدي فتبسـم الحكيـم عندمـا سمـع ذلــك وعلــم أنــه قــد ظفــر بهــا فقــال لهــا: أنــا أركــب
معــك بنفســي ثــم ركــب وأركــب الجاريــة خلفـــه وضمهـــا إليـــه وشـــد وثاقهـــا وهـــي لا تعلـــم مـــا يريـــد
بهـــا ثـــم إنـــه حـــرك لولـــب الصعـــود فامتــــلأ جــــوف الفــــرس بالهــــواء وتحركــــت وماجــــت ثــــم ارتفعــــت
صاعـدة فـي الجـو ولـم تـزل سائـرة بهمـا حتـى غابـت عـن المدينـة. فقالـت لـه الصبيـة: يـا هـذا أيـن الـذي
قلتــه عــن ابــن الملــك حيــث زعمــت أنــه أرسلـــك إلـــي فقـــال لهـــا الحكيـــم: قبـــح اللـــه ابـــن الملـــك فإنـــه
خبيـث لئيـم فقالـت لــه: يــا ويلــك كيــف تخالــف أمــر مولــاك فيمــا أمــرك بــه فقــال لهــا: ليــس هــو مولــاي
فهــل تعرفيــن مــن أنــا فقالــت: لا أعرفــك إلا بمــا عرفتنــي بــه عــن نفســك فقــال لهــا: إنمــا إخبـــاري لـــك
بهــذا الخبــر حيلــة منــي عليــك وعلــى ابــن الملــك ولقــد كنــت متأسفــاً طــول عمــري علــى هــذه الفـــرس
التـي تحتـك فإنهـا صناعتـي وكـان قـد استولـى عليهــا والــآن قــد ظفــرت بهــا وبــك أيضــاً وقــد أحرقــت
===
فلمــا سمعــت الجاريــة كلامــه لطمــت علـــى وجههـــا ونـــادت: يـــا أسفـــاه لا حصلـــت حبيبـــي ولا بقيـــت
عنـد أبـي وأمـي وبكــت بكــاءً شديــداً علــى مــا حــل بهــا ولــم يــزل الحكيــم سائــراً بهــا إلــى بلــاد الــروم
حتــى نــزل بهــا فــي مــرج أخضــر ذي أنهــار وأشجــار واكــن ذلــك المــرج بالقــرب مــن مدينـــة وفـــي تلـــك
المدينــة ملــك عظيــم الشــأن فاتفــق فــي ذلــك اليــوم أن ملـــك تلـــك المدينـــة خـــرج إلـــى الصيـــد والنزهـــة
فجــاز علــى ذلــك المــرج فـــرأى الحكيـــم واقفـــاً والفـــرس والجاريـــة بجانبـــه فلـــم يشعـــر الحكيـــم إلا وقـــد
هجـم عليـه عبيـد الملـك وأخـذوه هـو والجاريـة والفـرس وأوقفـوا الجميــع بيــن يــدي الملــك فلمــا نظــر إلــى
قبـح منظـره وبشاعتـه ونظــر إلــى حســن الجاريــة وجمالهــا قــال لهــا: يــا سيدتــي مــا نسبــة هــذا الشيــخ
منـك فبـادر الحكيــم بالجــواب وقــال: هــي زوجتــي وابنــة عمــي كذبتــه الجاريــة عندمــا سمعــت قولــه
وقالت: أيها الملك والله لا أعرفه ولا هو بعلي بل أخذني قهراً بالحيلة.
فلمـا سمـع الملــك مقالهــا أمــر بضربــه فضربــوه حتــى كــاد أن يمــوت ثــم أمــر الملــك أن يحملــوه إلــى المدينــة
ويطرحــوه فــي السجــن ففعلــوا بــه ذلــك ثــم إن الملــك أخــذ الجاريــة والفــرس منــه ولكنــه لـــم يعلـــم بأمـــر
الفرس ولا بكيفية سرها. هذا ما كان من أمر الحكيم والجارية.
وأمـا مـا كــان مــن أمــر ابــن الملــك فإنــه لبــس ثيــاب السفــر وأخــذ مــا يحتــاج إليــه مــن المــال وسافــر وهــو
فـي أسـوأ حـال وسـار مسرعـاً يقتـص الأثـر فـي طلبهمـا مـن بلـد إلـى بلـد ومـن مدينـة إلـى مدينـة ويســأل
===
عـن الفـرس الآبنـوس وكـل مـن سمـع منــه خبــر الفــرس الآبنــوس يتعجــب منــه ويستعظــم ذلــك منــه فأقــام
علـى هـذا الحــال مــدة مــن الزمــان ومــع كثــرة الســؤال والتفتيــش عليهمــا لــم يقــع لهمــا علــى خبــر ثــم إنــه
ســار إلــى مدينــة أبــي الجاريــة وســأل هنــاك فلــم يسمــع لهــا بخبــر ووجـــد أباهـــا حزينـــاً علـــى فقدهـــا
فرجــع وقصــد بلــاد الــروم وجعــل يقتــص أثرهمـــا ويســـأل عنهمـــا. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت
عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن ابــن الملــك قصــد بلــاد الــروم وجعــل يقتــص أثرهمــا ويســأل عنهمــا
فاتفـق أنـه نـزل فـي خـان مـن الخانـات فـرأى جماعــة مــن التجــار جالسيــن يتحدثــون فجلــس قريبــاً منهــم
فسمــع أحدهــم يقــول: لقــد رأيــت عجبــاً مــن العجائــب فقالــوا: ومــا هــو قــال: إنـــي كنـــت فـــي بعـــض
الجهــات مـــن مدينـــة كـــذا وذكـــر اســـم المدينـــة التـــي فيهـــا الجاريـــة فسمعـــت أهلهـــا يتحدثـــون بحديـــث
غريــب وهــو أن ملــك المدينــة خــرج يومــاً مــن الأيــام إلـــى الصيـــد والقنـــص ومعـــه جماعـــة مـــن أصحابـــه
وأكابــر دولتــه. فلمــا طلعــوا إلــى البريــة جــازوا علــى مــرج أخضــر فوجــدوا هنــاك رجـــلاً واقفـــاً وإلـــى
جانبــه امــرأة جالســة ومعــه فــرس مــن آبنــوس فامــا الرجــل فإنــه قبيــح المنظــر مهــول الصــورة جـــداً وأمـــا
===
المــرأة فإنهــا صبيــة ذات حســن وجمــال وبهــاء وكمـــال وقـــد واعتـــدال وأمـــا الفـــرس فإنهـــا مـــن العجائـــب
التــي لــم يــر الــراؤون أحســن منهــا ولا أجمــل مــن صنعتهـــا فقـــال لـــه الحاضـــرون: فمـــا فعـــل الملـــك بهـــم
فقـال: أمـا الرجـل فإنــه أخــذه الملــك وسألــه عــن الجاريــة فادعــى أنهــا زوجتــه وابنــة عمــه وامــا الجاريــة
فإنهـا كذبتـه فـي قولـه فاخذهـا الملـك منـه وامـر بضربـه وطرحــه السجــن وأمــا الفــرس الآبنــوس فمــا لــي
بها علم.
فلمـا سمـع ابـن الملـك هـذا الكلــام مــن التاجــر دنــا منــه وصــار يسألــه برفــق وتلطــف حتــى أخبــره اســم
المدينـة واسـم ملكهـا فلمـا عـرف ابـن الملـك اسـم المدينـة واســم ملكهــا بــات ليلتــه مســرور فلمــا أصبــح
الصبــاح خــرج وسافــر ولــم يــزل مسافــراً حتـــى وصـــل إلـــى تلـــك المدينـــة فلمـــا أراد أن يدخلهـــا أخـــذه
البوابــون وأرادوا إحضــاره قــدام الملــك ليسألــه عــن حالــه وعــن سبــب مجيئــه إلــى تلـــك المدينـــة وعمـــا
يحسنـــه مـــن الصنائـــع وكانـــت هـــذه عـــادة الملـــك مـــن ســـؤال الغربــــاء عــــن أحوالهــــم وصنائعهــــم وكــــان
وصــول ابــن الملــك إلــى تلــك المدينــة فــي وقــت لا يمكــن الدخــول فيــه علــى الملـــك ولا المشـــاورة عليـــه
فأخذه البوابون وأتوا به إلى السجن ليضعوه فيه.
فلمـا نظـر السجانــون إلــى حسنــه وجمالــه لــم يهــن عليهــم أن يدخلــوه السجــن بــل أجلســوه معهــم خــارج
السجــن فلمــا جاءهــم الطعــام أكــل معهــم بحســب الكفايــة فلمــا فرغــوا مــن الأكــل جعلــوا يتحدثـــون ثـــم
===
أقبلــوا علــى ابــن الملــك وقالــوا لــه: مــن أي البلــاد أنــت فقــال: أنــا مـــن بلـــاد فـــارس بلـــاد الكاســـرة فلمـــا
سمعــــوا كلامــــه ضحكــــوا وقــــال بعضهــــم: يـــــا كســـــروى لقـــــد سمعـــــت حديـــــث النـــــاس وأخبارهـــــم
وشاهـدت احوالهـم فمـا رأيــت أكــذب مــن هــذا الكســروى الــذي عندنــا فــي السجــن فقــال آخــر: ولا
رأيـت أقبـح مـن خلقتـه ولا أبشـع مـن صورتـه فقـال لهــم: مــا الــذي بــان لكــم مــن كذبــه. فقالــوا: زعــم
أنـه حكيـم وكـان الملـك قـد رآه فـي طريقـه وهـو ذاهـب إلـى الصيـد ومعــه امــرأة بديعــة الحســن والجمــال
والبهــاء والكمــال والقــد والإعتــدال ومعــه أيضــاً فــرس مــن الآبنــوس الأســود مارأينـــا قـــط أحســـن منهـــا
فأمــا المــرأة فهــي عنــد الملــك وهــو لهــا محــب ولكــن تلــك المــرأة مجنونـــة ولـــو كـــان ذلـــك الرجـــل حكيمـــاً
لداواهــا والملــك مجتهــد فــي علاجهــا وغرضــه مداواتهــا ممــا هــي فيــه وأمــا الفــرس الآبنــوس فإنهـــا فـــي
خزانــة الملــك وامــا الرجــل القبيـــح المنظـــر الـــذي كـــان معهـــا فإنـــه عندنـــا فـــي السجـــن فـــإذا جـــن الليـــل
يبكــي وينتحــب أسفــاً علــى نفســه ولا يدعنـــا ننـــام. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن الكلـــام
المباح.
وفي الليلة السادسة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن المزكليــن فــي السجــن لمــا اخبــروه بخبــر الحكيــم الفارســـي الـــذي
===
عندهـم فـي السجـن وبمـا هـو فيـه مـن البكـاء والنحيـب خطـر ببالـه أن يدبـر تدبيـراً ليبلــغ غرضــه فلمــا
أراد البوابـــون النـــوم أدخلوهالسجـــن وأغلقـــوا عليـــه البـــاب فسمـــع الحكيـــم يبكـــي وينـــوح علـــى نفســـه
بالفارسيـة ويقـول فـي نوحـه: الويـل لـي بمــا جنيــت علــى نفســي وعلــى ابــن الملــك وبمــا فعلــت بالجاريــة
حيـث لـم أتركهـا ولـم أظفـر بمـرادي وذلـك كلــه مــن ســوء تدبيــري فإنــي طلبــت لنفســي مــا لا أستحقــه
وما لا يصلح لمثلي ومن طلب ما لا يصلح له وقع في مثل ما وقعت فيه.
فلمـا سمــع ابــن الملــك كلــام الحكيــم كلمــه بالفارسيــة وقــال لــه: إلــى كــم هــذا البكــاء والعويــل هــل تــرى
أنــه أصابــك مــا لــم يصــب غيــرك فلمــا سمــع الحكيــم كلامــه أنــس بــه وشكــا إليــه حالـــه ممـــا يجـــده مـــن
المشقــة فلمــا أصبــح الصبــاح أخــذ البوابــون ابــن الملــك واتــوا بـــه إلـــى ملكهـــم وأعلمـــوه أنـــه وصـــل إلـــى
المدينـة بالأمـس فـي وقـت لا يمكـن الدخـول فيـه علــى الملــك فسألــه الملــك وقــال لــه: مــن أي البلــاد ومــا
اسمـك ومـا صنعتـك ومـا سبـب مجيئــك إلــى هــذه المدينــة فقــال ابــن الملــك أمــا اسمــي فإنــه بالفارسيــة
حرجـــة وأمـــا بلـــادي فهـــي بلـــاد فـــارس وانــــا مــــن اهــــل العلــــم وخصوصــــاً علــــم الطــــب فإنــــي أداوي
المرضـى والمجانيــن ولهــذا أطــوف فــي الأقاليــم والمــدن لأستفيــد علمــاً علــى علمــي وإذا رأيــت مريضــاً
فإني أداويه فهذه صنعتي.
فلمـا سمـع الملـك كلامــه فــرح بــه فرحــاً شديــداً وقــال لــه: أيهــا الحكيــم الفاضــل لقــد وصلــت إلينــا فــي
===
وقــت الحاجــة إليــك ثــم أخبــره بخبــر الجاريــة وقــال لــه: إن داويتهـــا وأبرأتهـــا مـــن جنونهـــا فلـــك عنـــدي
جميـع مـا تطلبـه فلمـا سمـع كلـام الملـك قـال لــه: أعــز اللــه الملــك صــف لــي كــل شــيء رأيتــه مــن جنونــي
وأخبرنـي منـذ كــم يــوم عــرض لهــا هــذ الجنــون وكيــف أخذتهــا هــي والفــرس والحكيــم فأخبــره بالخبــر
مـن أولـه إلـى آخـره ثـم قـال لـه: إن الحكيـم فـي السجـن فقـال لــه: أيهــا الملــك السعيــد مــا فعلــت بالفــرس
التي كانت معهما فقال له: باقية عندي إلى الآن في بعض المقاصير.
فقـال ابـن الملـك فـي نفسـه: إن مـن الــرأي عنــدي أن اتفقــد الفــرس وأنظرهــا قبــل كــل شــيء فــإن كانــت
سالمـة لـم يحـدث فيهـا أمـر فقـد تـم لـي كــل مــا أريــد وإن رأيتهــا قــد بطلــت حركتهــا تحيلــت بحيلــة فــي
خلــاص مهجتــي ثــم التفــت إلــى الملــك وقـــال لـــه: ينبغـــي أن أنظـــر الفـــرس المذكـــور لعلـــي أجـــد شيئـــاً
يعيننــي علــى بــرء الجاريــة فقــال لــه الملــك: حبــاً وكرامــة ثــم قــام الملــك وأخــذه بيــده ودخــل معـــه إلـــى
الفــرس فجعــل ابــن الملـــك يطـــوف حـــول الفـــرس ويتفقدهـــا وينظـــر أحوالهـــا فوجدهـــا سالمـــة لـــم يعبهـــا
شـيء ففــرح ابــن الملــك بذلــك فرحــاً شديــداً وقــال: أعــز اللــه الملــك إنــي أريــد الدخــول علــى الجاريــة
حتـى أنظـر مـا يكـون منهـا وأرجـو اللـه أن يكــون برؤهــا علــى يــدي بسبــب الفــرس إن شــاء اللــه تعالــى
ثم أمر بالمحافظة على الفرس ومضى به الملك إلى البيت الذي فيه الجارية.
فلمـا دخـل عليهــا ابــن الملــك وجدهــا تتخبــط وتنصــرع علــى عادتهــا ولــم يكــن بهــا جنــون وإنمــا تفعــل
===
ذلــك حتــى لا يقربهــا أحــد فلمــا رآهــا ابــن الملــك علــى هــذه الحالــة قــال لهــا: لا بــأس عليــك يـــا فتنـــة
العالميـن ثـم أنـه جعـل يرفـق بهـا ويلاطفهــا إلــى أن عرفهــا بنفســه فلمــا عرفتــه صاحــت صيحــة عظيمــة
حتـى غشــي عليهــا مــن شــدة مــا حصــل لهــا مــن الفــرح فظــن الملــك أن هــذه الصرعــة مــن فزعهــا منــه
ثــم إن ابــن الملــك وضــع فمــه علــى أذنهــا وقــال لهــا: يــا فتنـــة العالميـــن احقنـــي دمـــي ودمـــك واصبـــري
وتجلـدي فقالـت لـه: سمعـاً وطاعـة ثـم إنـه خــرج مــن عندهــا وتوجــه إلــى الملــك فرحــاً مســروراً وقــال:
أيهــا الملــك السعيــد قــد عرفــت بسعادتــك داءهــا ودواءهــا وقــد داويتهــا لــك فقــم الـــآن وادخـــل إليهـــا
وليــن كلامــك لهــا وترفــق بهــا وعدهــا بمــا يسرهــا فإنــه يتــم لــك كـــل مـــا تريـــد منهـــا. وأدرك شهـــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن ابــن الملــك لمــا جعــل نفســه حكيمــاً ودخــل علــى الجاريــة وأعلمهــا
بنفسـه وأخبرهـا بالتدبيـر الـذي يدبـره فقالـت لـه: سمعـاً وطاعـة ثـم خـرج مـن عندهـا وتوجـه إلـى الملـك
وقـال لـه: قـم ادخـل عليهـا وليـن كلامـك لهـا وترفــق بهــا وعدهــا بمــا يسرهــا فإنــه يتــم لــك كــل مــا تريــد
منهــا فقــام الملــك ودخــل عليهــا فلمــا رأتــه قامــت إليــه وقبلـــت الـــأرض بيـــن يديـــه ورحبـــت بـــه ففـــرح
===
الملــك بذلــك فرحــاً شديــداً ثــم أمــر الجــواري والخـــدم أن يقومـــوا بخدمتهـــا ويدخلوهـــا الحمـــام ويجهـــزوا
لهـا الحلـي والحلـل فدخلــوا إليهــا وسلمــوا عليهــا فــردت عليهــم السلــام بألطــف منطــق وأحســن كلــام ثــم
ألبسوهــا حلــلاً منملابــس الملــوك ووضعـــوا فـــي عنقهـــا عقـــداً مـــن الجواهـــر وســـاروا بهـــا إلـــى الحمـــام
وخدموهــا ثــم أخرجوهــا مــن الحمــام كأنهــا بــدر التمــام ولمــا وصلــت إلــى الملــك سلمــت عليــه وقلبــت
الـأرض بيـن يديـه فحصـل للملـك بهــا ســرور عظيــم وقــال لابــن الملــك كــل ذلــك ببركتــك زادنــا اللــه مــن
نفحاتـك. فقـال لـه ابـن الملـك: إن تمـام برئهــا وكمــال أمرهــا أنــك تخــرج أنــت وكــل مــن معــك مــن أعوانــك
وعسكــرك إلــى المحــل الــذي كنــت وجدتهــا فيــه وتكــون صحبتــك الفــرس الآبنـــوس التـــي كانـــت معهـــا
لأجــل أن أعقــد عنهـــا العـــارض هنـــاك وأسجنـــه وأقتلـــه فـــلا يعـــود إليهـــا أبـــداً فقـــال لـــه الملـــك: حبـــاً
وكرامــة ثــم أخــرج الفــرس الآبنــوس إلــى المــرج الــذي وجدهـــا فيـــه هـــي والجاريـــة والحكيـــم الفارســـي
وركـب الملـك مـع جيشــه وأخــذ الجاريــة معــه وهــم لا يــدرون مــا يريــد أن يفعــل فلمــا وصــل إلــى ذلــك
المـرج أمـر ابـن الملـك الــذي جعــل نفســه حكيمــاً أن توضــع الجاريــة والفــرس بعيــداً عــن الملــك والعساكــر
بمقـدار مـد البصـر وقـال للملـك: دستــور عــن إذنــك أنــا أريــد أن أطلــق البخــور وأتلــو العزيمــة وأسجــن
العـارض هنــا حتــى لا يعــود إليهــا أبــداً ثــم بعــد ذلــك أركــب الفــرس الآبنــوس وأركــب الجاريــة خلفــي
فـإذا فعلـت ذلـك الفــرس تضطــرب وتمشــي حتــى تصــل إليــك وأدرك شهــرزاد الصبــاح فسكتــت عــن
===
وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن ابـن الملـك لمـا قــال لملــك الــروم: حتــى تصــل إليــك فعنــد ذلــك يتــم
الأمـر فافعـل بهـا بعـد ذلـك مـا تريـد فلمـا سمـع الملـك كلامـه فـرح فرحـاً شديــداً ثــم أن ابــن الملــك ركــب
الفــرس ووضــع الصبيــة خلفــه وصــار الملــك وجميــع عساكــره ينظـــرون إليـــه ثـــم إنـــه ضمهـــا إليـــه وشـــد
وثاقهــا وبعــد ذلــك فــرك ابــن الملــك لولــب الصعــود فصعــدت بهمــا الفــرس فــي الهــواء والعساكـــر تنظـــر
إليـه حتـى غـاب عـن اعينهـم ومكـث الملــك نصــف يــوم ينتظــر عودتــه إليــه فلــم يعــد فيئــس منــه ونــدم
ندمــاً عظيمــاً وتأســف علــى فــراق الجاريــة ثــم أخــذ عسكــره وعــاد إلــى مدينتــه. هــذا مــا كــان مـــن
أمره.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر ابــن الملــك فإنــه قصــد مدينــة أبيــه فرحــاً مســروراً ولــم يـــزل سائـــراً إلـــى أن نـــزل
علـى قصـره وأنــزل الجاريــة فــي القصــر وامــن عليهــا ثــم ذهــب إلــى أبيــه وأمــه فسلــم عليهمــا وأعلمهمــا
بقدوم الجارية ففرحا بذلك فرحاً شديداً. هذا ما كان من أمر ابن الملك والفرس والجارية.
وأمــا ماكــان مــن أمــر ملــك الــروم فإنــه لمــا عــاد إلــى مدينتــه احتجــب فــي قصــره حزينـــاً كئيبـــاً فدخـــل
عليــه وزراؤه وجعلــوا يسلونــه ويقولــون لــه أن الــذي أخــذ الجاريــة ساحــراً والحمــد للــه الــذي نجــاك مـــن
===
سحــره ومكــره ومــا زالــوا بــه حتـــى تسلـــى عنهـــا وأمـــا ابـــن الملـــك فإنـــه عمـــل الولائـــم العظيمـــة لأهـــل
المدينة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد الثلاثمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيــد أن ابــن الملــك عمــل الولائــم العظيمــة لأهــل المدينــة وأقامــوا فــي الفــرح
شهــراً كامــلاً ثــم دخــل علــى الجاريــة وفرحــا ببعضهمــا فرحــاً شديــداً هــذا مــا كــان مــن أمــره وأمــا مــا
كـان مـن أمـر والــده فإنــه كســر الفــرس الآبنــوس وأبطــل حركاتهــا ثــم إن ابــن الملــك كتــب كتابــاً إلــى أبــي
الجاريــة وذكــر لــه فيهــا حالهــا وأخبــره أنــه تــزوج بهــا وهــي عنــده فــي أحســن حـــال وأرسلـــه إليـــه مـــع
الرســول وصحبتــه هدايــا وتحفــاً نفيســة فلمــا وصــل الرســول إلـــى مدينـــة أبـــي الجاريـــة وهـــي صنعـــاء
اليمـن اوصــل الكتــاب والهدايــا إلــى ذلــك الملــك. فلمــا قــرأ الكتــاب فــرح فرحــاً شديــداً وقبــل الهدايــا
واكـرم الرسـول ثـم جهـز هديـة سنيــة لصهــره ابــن الملــك وأرسلهــا إليــه مــع ذلــك الرســول فرجــع بهــا إلــى
ابـن الملـك وأعلمـه بفـرح الملـك أبـي الجاريـة حيـن بلغـه خبـر ابنتـه فحصـل لـه سـرور عظيــم وصــار ابــن
الملـك فـي كـل سنــة يكاتــب صهــره ويهاديــه ولــم يزالــوا كذلــك حتــى توفــي الملــك أبــو الغلــام وتولــى هــو
بعــده فــي المملكــة فعــدل فــي الرعيــة وســار فيهــم بسيــرة مرضيــة فدانــت لـــه البلـــاد واطاعتـــه البلـــاد
===
واستمــروا علــى هــذه الحالــة فـــي ألـــذ عيـــش وأهنـــأه وأرغـــده إلـــى أن أتاهـــم هـــازم اللـــذات ومفـــرق
الجماعات ومخرب القصور ومعمر القبور فسبحان الذي لا يموت وبيده الملك والملكوت.
===
حكاية أنس الوجود مع محبوبته الورد في الأكمام
وممـا يحكـى أيضـاً أنـه فــي قديــم الزمــان وسالــف العصــر والــأوان ملــك عظيــم الشــأن ذو عــز وسلطــان
وكــان لــه وزيــر يسمــى ابراهيــم وكانــت لــه ابنــة بديعــة الحســن والجمـــال فائقـــة فـــي البهجـــة والكمـــال.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد بـــأن بنـــت الملـــك كانـــت فائقـــة البهجـــة والكمـــال ذات عقــــل وافــــر
وأدب باهــر إلا أنهــا تهـــوى المنادمـــة والـــراح والوجـــوه الملـــاح ورقائـــق الأشعـــار ونـــوادر الأخبـــار تدعـــو
العقول إلى الهوى رقة معانيها كما قال فيها بعض واصفيها:
كلفت بها فتانة التـرك والعـرب تجادلني في الفقه والنحو والأدب
تقول أنا المفعول بي وخفضتني لماذا وهذا فاعل فلـم أنتصـب
فقلت لها نفسي وروحي لك الفدا ألم تعلمي أن الزمان قد انقلـب
وإن كنت يوماً تنكريـن انقلابـه فها انظري ما عقدة الرأس في الذنب
وكـان اسمهـا الـورد فـي الأكمـام وسبــب تسميتهــا بذلــك فــرط رقتهــا وكمــال بهجتهــا وكــان الملــك محبــاً
===
منادمــاً لكمــال أدبهــا ومــن عــادة الملــك أنــه فــي كــل عــام يجمــع أعيــان مملكتــه ويلعــب بالكــرة فلمـــا كـــان
ذلـك اليـوم الـذي يجمـع فيـه النـاس للعـب بالكـرة جلسـت ابنـة الوزيـر فـي الشبـاك لتتفـرج فبينمـا هـم فــي
اللعـب إذ لاحـت منهـا التفاتـة فـرأت بيـن العسكـر شابـاً لـم يكـن أحسـن منـه منظــراً ولا أبهــى طلعــة نيــر
الوجـه ضاحـك السـن طويـل البـاع واسـع المنكـب فكـررت فيـه مــراراً فيــه النظــر فلــم تشبــع منــه النظــر
فقالـت لدايتهـا: مــا اســم هــذا الشــاب المليــح الشمائــل الــذي بيــن العسكــر فقالــت لهــا: يــا بنتــي الكــل
ملــاح فمــن هــو فيهــم فقالــت لهــا: اصبــري حتــى أشيـــر لـــك عليـــه ثـــم أخـــذت تفاحـــة ورمتهـــا عليـــه
فرفـع رأسـه فـرأى ابنـة الوزيـر فـي الشبــاك كأنهــا البــدر فــي الأفلــاك فلــم يــرد إليــه طرفــه وهــو بعشقهــا
مشغول الخاطر فأنشد قول الشاعر:
أرمانـــي القــــواس أم جفنــــاك فتكا بقلب الصـب حيـن رآك
وأتانــي السهــم المفـــوق برهـــة من جحفل أم جاء من شبـاك
فلمــا فــرغ اللعــب قالــت لدايتهــا: مــا اســم هــذا الشـــاب الـــذي أريتـــه لـــك قالـــت اسمـــه أنـــس الوجـــود
فهزت رأسها ونامت في مرتبتها وقدحت فكرتها ثم صعدت الزفرات وانشدت هذه الأبيات:
ما خاب من سماك أنس الوجود يا جامعاً ما بين أنـس الوجـود
يـا طلعـة البــدر الــذي وجهــه قـد نـور الكـون وعـم الوجــود
===
حاجبـك النـون التــي حــررت ومقلتـاك الصـاد صنـع الــودود
وقـدك الغصـن الرطيـب الـذي إذا دعي في كـل شـيء يجـود
قد فقت فرسان الورى سطوة ولم تـزل بفـرط حسنـك تسـود
فلمـا فرغـت مـن شعرهـا كتبتـه فـي قرطـاس ولفتـه فـي خرقـة الحريــر مطــرزة بالذهــب ووضعتــه تحــت
المخــدة وكانــت واحــدة مـــن داياتهـــا تنظـــر إليهـــا فجاءتهـــا وصـــارت تمارسهـــا حتـــى فاقـــت وسرقـــت
الورقـــة مـــن تحـــت المخـــدة وقرأتهـــا فعرفـــت أنهـــا حصـــل لهـــا وجــــد بأنــــس الوجــــود وبعــــد أن قــــرأت
الورقــة وضعتهــا فــي مكانهـــا فلمـــا استفاقـــت سيدتهـــا الـــورد فـــي الأكمـــام مـــن نومهـــا قالـــت لهـــا: يـــا
سيدتــي إنــي لــك مـــن الناصحـــات وعليـــك مـــن الشفيقـــات اعلمـــي أن الهـــوى شديـــد وكتمانـــه يذيـــب
الحديـد ويـورث الأمـراض والأسقـام ومـا علـى مــن يبــوح بالهــوى ملــام فقالــت لهــا الــورد فــي الأكمــام: يــا
دايتـــي ومـــا دواء الغـــرام قالـــت: دواؤه الوصـــال قالـــت: وكيـــف يوجــــد الوصــــال قالــــت: يــــا سيدتــــي
يوجــد بالمراسلــة وليــن الكلــام وإكثــار التحيـــة والسلـــام فهـــذا يجمـــع بيـــن الأحبـــاب وبـــه تسهـــل الأمـــور
والصعاب وإن كان ذلك أمر يا مولاتي فانا اولى بكتم سرك وقضاء حاجتك وحمل رسالتك.
فلمــا سمعــت منهــا الــورد فــي الأكمــام ذلــك طــار عقلهــا مــن الفــرح لكـــن أمسكـــت نفسهـــا عـــن الكلـــام
حتـى تنظـر عاقبـة أمرهـا وقالـت فـي نفسهـا: إن هخـذا الأمـر مـا عرفـه أحــد منــي فــلا أبــوح بــه لهــذه
===
المـرأة إلا بعـد أن أختبرهـا فقالـت المــرأة: يــا سيدتــي إنــي رأيــت فــي منامــي كــأن رجــلاً جاءنــي وقــال
لــي: أن سيدتــك وأنــس الوجــود متحابــان فمارســي أمرهمــا واحملـــي رسائلهمـــا واقضـــي حوائجهمـــا
واكتمــي أمرهمــا وأسرارهمــا يحصــل لــك خيــر كثيـــر وهاأنـــا قـــد قصصـــت مـــا رأيـــت عليـــك والأمـــر
إليــك فقالــت الــورد فــي الأكمــام لدايتهــا لمــا أخبرتهــا بالمنــام. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن
الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهــا الملــك السعيــد أن الــورد فــي الأكمــام قالــت لدايتهــا لمــا أخبرتهــا بالمنــام الــذي رأتــه:
هـــل تكتميـــن الأســـرار يـــا دايتـــي فقالـــت لهــــا: كيــــف لا أكتــــم الأســــرار وأنــــا مــــن خلاصــــة الحــــرار
فأخرجـت لهـا الورقـة التـي كتبـت فيهــا الشعــر وقالــت لهــا: اذهبــي برسالتــي هــذه إلــى أنــس الوجــود
فلمـا دخلـت عليـه قبلـت يديـه وحيتـه بألـف سلـام ثـم أعطتـه القرطـاس فقـرأه وفهـم معنـاه ثـم كتـب فــي
ظهره هذه الأبيات:
أعلـل قلبـي فـي الغــرام وأكتــم ولكن حالي عـن هـواي يترجـم
وإن فاض دمعي قلت جرح بمقلتي لئلا يرى حالي العـذول فيفهـم
===
رفعت إليكم قصتي أشتكي بها غرامي ووجدي كي ترقواوترحموا
وسطرتها من دمع عيني لعلهـا بما حل بي منكم إليكم تترجم
رعى الله وجهاً بالجمال مبرقـاً له البدر عبد والكواكب تخدم
على حسن ذات ما رأيت مثيلها ومن ميلها الأغصان عطفاً تتعلم
وأسألكم من غير حمـل مشقـة زيارتنـــا إن الوصـــال معظــــم
وهبت لكم روحي عسى تقبلونها فلي الوصل خلد والصدود جهنم
ثــم طــوى الكتــاب وقبلـــه واعطـــاه لهـــا وقـــال للهـــا: يـــا دايـــة استعطفـــي خاطـــر سيدتـــك فقالـــت لـــه:
سمعــاً وطاعــة ثــم أخــذت منــه المكتــوب ورجعــت إلــى سيدتهــا وأعطتهــا الققرطــاس فقبلتــه ورفعتــه
فوق رأسها ثم فتحته وقرأته وفهمت معناه وكتبت في أسفله هذه الأبيات:
يـــا مـــن تولــــع قلبــــه بجمالنــــا أصبر لعلك في الهوى تحظى بنا
لمــا علمنــا أن حبــك صـــادق وأصاب قلبك ما أصاب فؤادنا
زدناك فوق الوصل وصلاً مثله لكن منـع الوصـل مـن حجابنـا
وإذا تجلى الليل من فرط الهوى تتوقــد النيــران فــي أحشائنـــا
===
وقد انحشى مني الحشا بهوى الرشا يـا ليتـه مـا غـاب عـن أوطاننـا
فلمــا فرغــت مــن شعرهــا طــوت القرطــاس وأعطتــه للدايــة. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن
الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الـــورد فـــي الأكمـــام طـــوت القرطـــاس وأعطتـــه للدايـــة فأخذتـــه
وخرجـــت مـــن عنـــد الـــورد فـــي الأكمـــام بنـــت الوزيـــر فصادفهـــا الحاجـــب وقـــال لهــــا: أيــــن تذهبيــــن
فقالـت: إلــى الحمــام وقــد انزعجــت منــه فوقعــت الورقــة حيــن خرجــت مــن البــاب وقــت انزعاجهــا.
هــذا مــا كــان مــن امرهــا. وأمــا مــا كــان مــن أمــر الورقــة فــإن بعــض الخــدام رآهــا مرميــة فـــي الطريـــق
فأخذهـا ثـم أن الوزيـر خـرج مـن بـاب الحريــم وجلــس علــى سريــره فقصــد الخــادم الــذي التقــط الورقــة
فبينمـا الوزيـر جالــس علــى سريــره وإذا بذلــك الخــادم تقــدم إليــه وفــي يــده الورقــة وقــال لــه: يــا مولــاي
إنـي وجـدت هـذه الورقـة مرميـة فـي الـدار فاخذتهــا فتناولهــا الوزيــر مــن يــده وهــي مطويــة فــرأى فيهــا
الأشعـار التـي تقـدم ذكرهـا فقرأهـا وفهـم معناهـا ثـم تأمـل كتابتهـا فرآهـا بخـط ابنتــه فدخــل علــى أمهــا
وهــو يبكــي بكــاءً شديــداً حتــى ابتلــت لحيتــه. فقالــت لــه زوجتــه: مــا أبكــاك يــا مولـــاي فقـــال لهـــا:
===
خــذي هــذه الورقــة وانظــري مــا فيهــا فأخــذت الورقــة وقرأتهـــا فوجدتهـــا مشتملـــة علـــى مراسلـــة مـــن
بنتهـا الـورد فـي الأكمـام إلـى أنـس الوجـود فجاءهـا البكـاء لكنهــا غلبــت فــي نفسهــا وكفكفــت دموعهــا
وقالــت للوزيــر: يــا مولــاي إن البكــاء لا فائــدة فيــه وإنمــا الــرأي الصــواب أن تبصــر أن تتبصـــر فـــي أمـــر
يكـون فيـه صـون عرضـك وكتمـان أمــر ابنتــك وصــارت تسليــه وتخفــف عنــه الأحــزان فقــال لهــا: إنــي
خائـف علـى ابنتـي مـن العشـق امـا تعلميـن أن السلطـان يحــب أنــس الوجــود محبــة عظيمــة ولخوفــي مــن
هـذا الأمـر سببـان: الـأول مـن جهتـي وهـو أنهـا ابنتـي والثانـي مـن جهــة السلطــان وهــو أن أنــس الوجــود
محظــي عنــد السلطــان وربمــا يحـــدث مـــن هـــذا أمـــر عظيـــم فمـــا رأيـــك فـــي ذلـــك. وأدرك شهـــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الوزيــر لمــا أخبــر زوجتــه بخبــر ابنتــه وقــال لهــا: فمــا رأيـــك فـــي
ذلــــك قالــــت لــــه: اصبــــر علــــي حتــــى أصلــــي صلــــاة الإستخــــارة ثــــم إنهــــا صلـــــت ركعتيـــــن سنـــــة
الإستخــارة فلمــا فرغــت مــن صلاتهــا قالــت لزوجهـــا: فـــي وســـط بحـــر الكنـــوز جبـــلاً يسمـــى جبـــل
الثكلــى وسبــب تسميتـــه بذلـــك سيأتـــي وذاك الجبـــل لا يقـــدر علـــى الوصـــول إليـــه أحـــد إلا بالمشقـــة
===
فاجعــل لهــا موضعــاً هنــاك فاتفــق الوزيــر مــع زوجتـــه علـــى أن يبنـــي فيـــه قصـــراً منيعـــاً ويجعلهـــا فيـــه
ويضـــع عندهـــا مؤونتهـــا عامـــاً بعـــد عـــام ويجعـــل عندهـــا مــــن يؤنسهــــا ويخدمهــــا ثــــم جمــــع النجاريــــن
والبنائيــن والمهندسيــن وأرسلهــم إلــى ذلــك الجبــل فبنــوا لهــا قصــر منيعــاً لــم يــر الــراؤون ثــم هيــأ الــزاد
والراحلـة ودخـل علـى ابنتـه فـي الليـل وأمرهـا بالسيـر فأحـس قلبهـا بالفــراق فلمــا خرجــت ورأت هيئــة
الأسفــار بكــت بكــاءً شديــداً وكتبــت علــى البــاب تعـــرف أنـــس الوجـــود بمـــا جـــرى لهـــا مـــن الوجـــد
الذي تقشعر منه الجلود ويذيب الجلمود ويجري العبرات والذي كتبته هذه الأبيات:
باللــه يــا دار إن مـــر ضحـــى مسلمـــــاً بإشـــــارات يحيينــــــا
اهديه منا سلاماً زاكياً عطراً لأنـه ليـس يـدري أيـن أمسينــا
ولست أدري إلى أين الرحيل بنا لما مضوا بي سريعاً مستخفياً
في جنح ليل وطير الأيل قد عكفت علـى الغصـن تباكينــا وتنعينــا
وقال عنها لسان الحال واحرباه مــن التفــرق مـــا بيـــن المحبينـــا
لما رأيت كؤوس البعدقد ملئت والدهر من صرفها بالقهر يسقينا
مزجتها بجميل الصبر معتـذراً وعنكم الآن ليس الصبر يسلينا
فلمـا فرغـت مــن شعرهــا ركبــت وســاروا بهــا يقطعــون البــراري والقفــار والأوعــار حتــى وصلــوا إلــى
===
بحـــر الكنـــوز ونصبـــوا الخيـــام علـــى شاطـــئ البحـــر ومـــدوا لهـــا مركبــــاً عظيمــــة وأنزلوهــــا فيهــــا هــــي
وعائلتهـا وقـد أمرهـم أنهـم إذا وصلـوا إلـى الجبـل وأدخلوهـا فـي القصـر هــي وعائلتهــا يرجعــون بالمركــب
وبعـد أن يطلعــوا مــن المركــب يكسرونهــا فذهبــوا وفعلــوا جميــع مــا أمرهــم بــه ثــم رجعــوا وهــم يبكــون
على ما جرى. هذا ما كان من أمرهم.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر أنــس الوجــود فإنــه قــام مــن نومــه وصلــى الصبــح ثــم ركــب وتوجــه إلـــى خدمـــة
السلطـان فمـر فـي طريقـه علـى بـاب الوزيــر علــى جــري العــادة لعلــه يــرى أحــداً مــن أتبــاع الوزيــر الذيــن
كان يراهم ونظر إلى الباب فرأى الشعر المتقدم ذكره مكتوباً عليه.
فلما غاب عن وجوده واشتعلـت النـار فـي أحشائـه ورجـع إلـى داره ولـم يقـر لـه قـرار ولـم يـزل فـي قلـق
ووجـد إلـى أن دخـل فكتـم أمـره وتنكـر وخـرج فـي جـوف الليـل هائمـاً علـى غيـر طريـق وهـو لا يــدري
أيـن يسيـر فسـار الليـل كلـه وثانـي يـوم إلـى أن اشتــد الحــر وتلهبــت الجبــال واشتــد عليــه العطــش فنظــر
إلـى شجــرة فوجــد بجانبهــا جــدول مــاء يجــري فقصــد تلــك الشجــرة وجلــس فــي ظلهــا علــى شاطــئ
ذلـك الجـدول وأراد أن يشـرب فلـم يجـد للمـاء طعـم فــي فمــه وقــد تغيــر لونــه واصفــر وجهــه وتورمــت
قدماه من المشي والمشقة فبكى بكاءً شديداً وسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
سكر العاشق في حب الحبيب كلمـــــا زاد غرامـــــاً ولهيــــــب
===
كيف يهنأ العيش للصب الذي فارق الأحباب ذا شيء عجيب
ذبـــــت لمـــــا ذكــــــا وجــــــدي بهم وجرى دمعي على خدي صبيب
هـــل أراهـــم أو أرى ربعهــــم أحداً يبرى بـه القلـب الكئيـب
فلمـا فـرغ مـن شعـره بكـى حتـى بـل الثـرى ثــم قــام مــن وقتــه وساعتــه وســار مــن ذلــك المكــان فبينمــا
هــو سائــر فــي البــراري والقفــار إذ خــرج عليــه سبــع رقبتــه مختنقــة بشعــره ورأســه قــدر القبــة وفمـــه
أوسـع مـن البـاب وأنيابـه مثــل أنيــاب الفيــل فلمــا رآه أنــس الوجــود أيقــن بالمــوت واستقبــل القبلــة وتشهــد
واستعــد للمــوت وكــان قــد قــرأ فــي الكتــب أن مــن خــادع السبـــع انخـــدع لـــه لـــه لأنـــه ينخـــدع بالكلـــام
الطيـب وينتحـي بالمديـح فشـرع يقـول لــه: يــا أســد الغابــة يــا ليــث الفضــاء يــا ضرغــام يــا أبــا الفتيــان يــا
سلطـان الوحـوش إننــي عاشــق مشتــاق وقــد أتلفنــي العشــق والفــراق وحيــن فارقــت الأحبــاب غبــت
عــن الصــواب فاسمــع كلامــي وارحــم لوعتــي وغربتــي. فلمــا سمــع الأسدمقالتــه تأخـــر عنـــه وجلـــس
مقعيــاً علــى ذنبــه ورفــع رأســه إليــه وصــار يلعــب ذنبــه ويديــه فلمــا رأى أنــس الوجــود هــذه الحركـــات
أنشد هذه الأبيات:
أســـد البيـــداء هــــل تفلتنــــي قبــل مــا ألقــى الـــذي تيمنـــي
لسـت صيـداً لا ولا بـي سمـن فقـد مـن أهــواه قــد أسقمنــي
===
يـا أبـا الحـرث يـا ليــث الوغــى لا تشمت عاذلي فـي شجنـي
أنـــا صـــب مدمعـــي غرقنـــي وفـــراق الحــــب قــــد أقلقنــــي
واشتغالي في دجـى الليـل بهـا عن وجودي في الهـوى غيبنـي
فلمـــا فـــرغ مـــن شعـــره قـــام الأســـد ومشــــى نحــــوه. وأدرك شهــــرزاد الصبــــاح فسكتــــت عــــن الكلــــام
المباح.
وفي الليلة الرابعة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن أنـس الوجـود لمــا فــرغ مــن شعــره قــام الأســد ومشــى نحــوه بلطــف
وعينـاه مغرغرتــان بالدمــوع ولمــا وصــل إليــه لحســه بلسانــه ومشــى قدامــه وأشــار إليــه أن اتبعنــي ولــم
يــزل سائــراً وهــو معــه ساعــة مــن الزمــان حتــى طلــع بــه فــوق جبــل ثــم نــزل بــه مــن فـــوق ذلـــك الجبـــل
فرأى أثر المشي في البـراري فعـرف أن ذلـك الأثـر أثـر مشـي قـوم بالـورد فـي الأكمـام فتبـع الأثـر ومشـى
فيه فلما رآه الأسد يتبع الأثر وعرف أنه أثر مشي محبوبته رجع الأسد إلى حال سبيله.
وأمـا أنــس الوجــود فإنــه لــم يــزل ماشيــاً فــي الأثــر أيامــاً وليالــي حتــى أقبــل علــى بحــر عجــاج متلاطــم
الأمـواج ووصـل الأثـر إلـى شاطـئ البحـر وانقطـع فعلـم أنهــم ركبــوا البحــر وســاروا فيــه وانقطــع رجــاؤه
===
منهــم والتفــت يمينــاً وشمــالاً فلــم يــر أحــداً فــي البريــة فخشــي علــى نفســه مــن الوحــوش فصعــد علــى
جبـل عـال فبينمـا هـو فـي الجبــل إذ سمــع صــوت آدمــي يتكلــم مــن مغــارة فصغــى إليــه وإذا هــو عابــد
قــد تــرك الدنيــا واشتغــل بالعبــادة فطــرق عليــه المغــارة ثلــاث مــرات فلــم يجبــه العابــد فصعــد الزفـــرات
وأنشد هذه الأبيات:
كيف السبيل إلى أن أبلـغ الربـا وأتـرك الهـم والتكديـر والتعبــا
وكل هول مـن الأهـوال شيبنـي قلباً ورأساً مشيباً في زمان صبا
ولم أجد لي معيناً في الغرام ولا خلاص يخفف عني الوجد والنصبا
وكم أكابد في الأشواق من وله كأن دهري علي الآن قد انقلبا
وارحمتـاه لصـب عاشـق قلـق كأس التفرق والهجران قد شربا
فالنار في القلب والأحشاء قد محيت والعقل من لوعة التفريق قد سلبا
ما كان أعظم يوم جئت منزلهم وقد رأيت على الأبواب ما كتبا
بكيت حتى سقيت الأرض من حرق لكن كتمت على الدانين والغربا
يا عابداً قد تغاضى في مغارته كأن ذلك طعم العشق وانسلبا
===
فلمــا فــرغ مــن شعــره وإذا ببــاب المغــارة قــد انفتــح وسمــع قائــلاً يقــول: وارحمتــاه فدخــل البــاب وسلــم
علــى العابــد وقــال لــه: مــا اسمــك قــال: اسمــي أنــس الوجــود فقــال لــه: مـــا سبـــب مجيئـــك إلـــى هـــذا
المكـان فقـص عيـه قصتـه مـن أولهـا إلــى آخرهــا وأخبــره مــا جــرى لــه فبكــى العابــد وقــال لــه: يــا أنــس
الوجــود إن لــي فــي هــذا المكــان عشريــن عامــاً مــا رأيــت فيــه أحــداً إلا بالأمــس فإنــي سمعــت بكـــاءً
وغواشـاً فنظـرت إلـى جهـة الصـوت فرأيـت ناسـاً كثيريـن وخيامـاً منصوبــة علــى شاطــئ البحــر وأقامــوا
مركبــاً ونــزل فيــه قــوم منهــم وســاروا بــه فــي البحــر ثــم رجـــع بالمركـــب بعـــض مـــن نـــزل فيـــه وكســـروه
وتوجهـوا إلـى حـال سبيلهـم وأظـن أن الذيـن سـاروا علـى ظهـر البحـر ولــم يرجعــوا هــم الذيــن أنــت فــي
طلبهــم يــا أنــس الوجــود وحينئــذٍ يكــون همــك عظيمــاً وأنــت معــذور ولكــن لا يوجـــد محـــب إلا وقـــد
قاسى الحسرات ثم أنشد العابد هذه الأبيات:
أنس الوجود خلي البال تحسبني والشوق والوجد يطويني وينشرني
إني عرفت الهوى والعشق من صغري من حين كنت صبياً راضع اللبن
مارسته زمناً حتى عرفت به إن كنت تسأل عني فهو يعرفني
شربت كأس الجوى من لوعةٍ وضنى فصرت محواً بهمـن رقـة البـدن
قد كنت ذا قوة لكن هي جلدي وجيش صبري بأسياف اللحاظ فني
===
قضى الغرام على العشاق أجمعهم إن السلــو حــرام بدعــة الفنـــن
فلمــــا فــــرغ العابــــد مــــن إنشــــاد شعــــره قــــام إلــــى أنــــس الوجــــود وعانقـــــه. وأدرك شهـــــرزاد الصبـــــاح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن أن العابـــد لمـــا فـــرغ مـــن إنشـــاد شعـــره قـــام إلـــى أنـــس الوجــــود
وعانقــه وتباكيــا حتــى دوت الجبــال مــن بكائهمــا. ولــم يـــزالا يبكيـــان حتـــى وقعـــا مغشيـــاً عليهمـــا ثـــم
أفاقا وتعاهـدا علـى أنهمـا أخـوان فـي عهـد اللـه تعالـى ثـم قـال العابـد لأنـس الوجـود: أنـا فـي هـذه الليلـة
أصلي وأستخير الله على شيء تعمله فقال له أنس الوجود: سمعاً وطاعة.
هــذا مــا كــان مــن أنــس الوجــود وامــا مــا كــان مـــن أمـــر الـــورد فـــي الأكمـــام فإنهـــا لمـــا وصلـــوا بهـــا إلـــى
الجبــل وأدخلوهــا القصــر ورأتــه ورأت ترتيبــه بكــت وقالــت: واللــه إنــك مكــان مليــح غيــر أنــك ناقــص
وجـــود الحبيـــب فيـــك ورأت فـــي تلـــك الجزيـــرة أطيـــاراً فأمـــرت بعـــض أتباعهـــا أن ينصـــب لهـــا فخــــاً
ويصطـاد بـه منهـا وكـل مـا اصطـاده يضعـه فـي أقفـاص مـن داخــل القصــر ففعــل مــا أمرتــه بــه ثــم قعــدت
فــي شباكالقصــر وتذكــرت مــا جــرى لهــا وزاد بهــا الغــرام والوجــد والهيـــام فبكـــت العبـــرات وأنشـــدت
===
يا لمن أشتكي الغرام الذي بي وشجوني وفرقتني عن حبيبي
ولهيبـــاً بيـــن الضلــــوع ولكــــن لست أبديه خفيـة مـن رقيـب
ثـم أصبحـت رق عـود خلــال مـــن بعــــاد وحرقــــة ونحيــــب
أين عيـن الحبيـب حتـى ترانـي كيف أصبحت مثل حال السليب
قـد تعــدو علــي إذ حجبونــي في مكـان لـم يستطعـه حبيبـي
أسأل الشمس حمل ألف سلام عند وقت الشروق ثم الغروب
أحبيب قد أخجل البدر حسناً منذ تبدى وفاق قد القضيب
إن حكى الورد خده قلت فيه لست تحكي إن لم تكن من نصيبي
إن فـــي ثغـــره لسلســـال ريـــق يجلب البـرد عنـد حـر اللهيـب
كيف أسلوه وهو قلبي وروحي مسقمي ممرضي حبيبي طبيبي
هـذا مـا كـان مـن أمـر الـورد فـي الأكمــام وأمــا مــا كــان مــن أنــس الوجــود فــإن العابــد قــال لــه: انــزل إلــى
الــوادي وائتنــي مــن الفخيـــل بليـــف فنـــزل وجـــاء لـــه بليـــف فأخـــذه العابـــد وقتلـــه وجعلـــه شنفـــاً مثـــل
أشنـاف التبـن وقـال لـه: يـا أنـس الوجـود إن فـي جـوف الـوادي فرعـاً يطلـع وينشــف علــى أصولــه فانــزل
===
تبلـغ قصـدك فـإن مـن لـم يخاطـر بنفسـه لـم يبلـغ المقصـود فقــال: سمعــاً وطاعــة ثــم ودعــه وانصــرف مــن
عنـد إلـى مـا أمـره بـه بعـد أن دعـا لـه العابـد ولـم يـزل أنـس الوجـود سائـر إلـلا جــوف الــوادي وفعــل كمــا
قـال لـه العابـد ولمـا وصـل بالشنـف إلـى وسـط البحـر هبـت عليـه ريـح فزقـه الشنــف حتــى غــاب عــن
عيـن العابـد ولـم يـزل سابحـاً فـي لجـة البحــر ترفعــه موجــة وتحطــه أخــرى وهــو يــرى مــا فــي البحــر مــن
العجائــب والأهــوال إلــى أن رمتــه المقاديــر علــى جبــل الثكلــى بعــد ثلاثــة أيــام مــن فنــزل إلــى البــر مثــل
الفـرخ الدايــخ لهفــان مــن الجــوع والعطــش فوجــد فــي ذلــك المكــان أنهــاراً جاريــة وأطيــاراً مغــردة علــى
الأغصــان وأشجــاراً مثمــرة صنوانــاً وغيــر صنــوان فأكــل مــن الأثمــار وشــرب مــن الأنهــار وقــام يمشـــي
فـرأى بياضـاً علـى بعـد فمشـى جهتـه حتـى وصـل إليـه فوجــده قصــراً منيعــاً حصينــاً فأتــى إلــى بــاب
القصر فوجده مقفولاً فجلس عنده ثلاثة أيام.
فبينمــا هــو جالــس وإذا ببــاب القصــر قــد فتــح وخــرج منــه شخـــص مـــن الخـــدم فـــرأى أنـــس الوجـــود
قاعــداً فقــال لـــه: مـــن أيـــن أتيـــت ومـــن أوصلـــك إلـــى هنـــا فقـــال أنـــس الوجـــود: مـــن أصبهـــان وكنـــت
مسافـراً فـي البحـر بتجـارة فانكسـر المركـب الـذي كنـت فيــه فرمتنــي الأمــواج علــى ظهــر هــذه الجزيــرة
فبكــى الخــادم وعانقــه وقــال: حيــاك اللــه يــا وجــه الأحبــاب أن أصبهـــان بلـــادي ولـــي فيهـــا بنـــت عـــم
كنــت أحبهــا وأنــا صغيــر وكنــت مولعــاً بهــا فغــزى بلادنــا قــوم أقــوى منــا وأخذونــي فــي جملـــة الغنائـــم
===
وكنـت صغيـراً فقطعـوا إحليلــي ثــم باعونــي خادمــاً وهاأنــا فــي تلــك الحالــة. وأدرك شهــرزاد الصبــاح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الخــادم الــذي خــرج مـــن قصـــر الـــورد فـــي الأكمـــام حـــدث أنـــس
الوجـود بجميـع مـا حصـل وقـال لـه أن القـوم الذيـن أخذونـي قطعــوا إحليلــي وباعونــي خادمــاً وهاأنــا فــي
تلــك الحالــة وبعدمــا سلــم عليــه وحيــاه أدخلــه ساحــة القصــر فلمــا دخــل رأى بحيــرة عظيمـــة وحولهـــا
أشجــار وأغصــان وفيهــا أطيــار فــي أقفــاص مــن فضــة وأبواباهــا مــن الذهــب وتلــك الأقفـــاص معلقـــة
علــى الأغصــان والأطيــار فيهــا تناغــي وتسبــح الديــان فلمــا وصــل إلــى أولهــا تأملـــه فـــإذا هـــو قمـــري
فلمــا رآه الطيــر مــد صوتــه وقــال: يــا كريــم فغشــي علــى أنــس الوجــود فلمــا أفــاق مــن غشيتــه صعـــد
الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
أيهـا القمــري هــل بمثلــي تهيــم فاسـأل المولـى وغـرد يـا كريــم
يــا تــرى نوحــك هــذا طـــرب أو غرام منك في القلـوب مقيـم
أن تنح وجـداً لأحبـاب مضـوا أو خلفـت بهـم مضنـى سقيــم
===
يــا رعــى اللــه محبـــاً صادقـــاً لست أسلوه ولو عظمي رميم
فلمـا فـرغ مـن شعـره بكـى حتــى وقــع مغشيــاً عليــه وحيــن أفــاق مــن غشيتــه مشــى حتــى وصــل إلــى
ثانـــي قفـــص فوجـــده فاختـــاً فلمـــا رآه الفاخـــت غـــرد وقـــال: يـــا دايـــم أشكـــرك فصعـــد أنـــس الوجـــود
الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
وفاخـت قـد طـال فــي نوحــه يــا دائمــاً شكــراً علــى بلوتــي
عســى لعــل اللـــه مـــن فضلـــه يقضي بوصل الحب في سفرتي
ورب معســول اللمــى زارنــي فزادنـي عشقـاً علــى صبوتــي
قلــت والنيــران قــد أضرمــت في القلب حتى أحرقت مهجتي
والدمــع مسفــوك يحاكــي دمــاً قد فـاض يجـري علـى وجنتـي
مــــا تــــم مخلــــوق بــــلا محنـــــة لكـن لــي صبــراً علــى محنتــي
بقـــــدرة اللــــــه متــــــى لمنــــــي وقت الصفا يوماً على سادتي
جعلــت للعشــاق مالــي قـــرى لأنهـــــم قـــــوم علـــــى سنتــــــي
وأطلـق الأطيــار مــن سجنهــا واتــرك الأحــزان مــن فرحتـــي
===
إن الهزار لطيف الصوت يعجبني كأنه صوت صب في الغرام فني
وارحمتاه على العشاق ثم قلقوا من ليلة بالهوى والشوق والمحن
كأنهم من عظيم الشوق قد خلفوا بلا صباح ولا نوم مـن الشجـن
لمـا جننـت بمـن أهــواه قيدنــي فيــه الغــرام ولمــا فيــه قيدنـــي
تسلسل الدمع من عيني فقلت له سلاسل الدمع قد طالت فسلسلني
زاد اشتياقي وطال البعد وانعدمت كنوز صبري وفرط الوجد أتلفني
إن كان في الدهر أنصاف ويجمعني بمن أحب وستـر اللـه يشملنـي
قلعت ثوبي لحبي كي يرى جسدي بالصد والبعد والهجران كيف ضني
فلمـا فـرغ مـن شعـره تمشــى إلــى رابــع قفــص فوجــده بلبــلاً فنــاح وغــرد عنــد رؤيــة أنــس الوجــود فلمــا
سمع تغريده سكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
إن للبلبــل صوتــاً فــي السحــر شعل العاشق من حسن التوتر
في الهوى أنس الوجود المشتكي مـن غــرام قــد محــا منــه الأثــر
كم سمعنا صـوت ألحـان محـت طربــاً صلــد الحديــد والحجــر
===
وتذكرنـــــــا حبيبــــــــاً غائبــــــــاً فجــرى الدمــع سيــولاً ومطـــر
ولهيــب النــار فـــي أحشائنـــا مضمـــر ذاك كجمـــر بالشــــرر
متـــــع اللــــــه محبــــــاً عاشقــــــاً مـــن حبيـــب بوصــــال ونظــــر
إن للعشـــاق عـــذراً واضحـــاً ليس يدري العذر إلا ذو النظر
فلمـا فـرغ مـن شعـره مشـى قليـلاً فـرأى قفصـاً حسنـاً لـم يكـن هنـاك أحسـن منـه فلمــا قــرب منــه وجــده
حمـام الأيـك وهـو اليمـام المشهـور مــن بيــن الطيــور فوجــده ذاهــلاً باطــلاً ينــوح الغــرام وفــي عنقــه عقــد
مــن جوهــر بديــع النظــام ونأملــه فوجــده ذاهــلاً باطــلاً باهتــاً فــي قفصـــه فلمـــا رآه بهـــذا الحـــال أفـــاض
العبرات وأنشد هذه الأبيات:
يـا حمـام الأيـك أقرئـك السلــام يا أخا العشاق من أهل الغرام
إننــــي أهــــوى غــــزالاً أهيفـــــاً لحظـة أقطـع مـن حــد الحســام
في الهوى أحرق قلبي والحشـى وعــلا جسمــي تحــول وسقــام
ولذيــــذ الــــزاد قــــد أحرمتــــه مثل ما احرمت من طيب المنام
واصطبــاري وسلــوى رحـــلا والهوى بالوجد عندي قد أقام
===
وفي الليلة السابعة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيــد أن أنــس الوجــود لمــا فــرغ مــن شعــره التفــت إلــى صاحبــه الأصبهانــي
وقــال لــه: مــا هــذا القصــر ومــن هــو الــذي بنــاه قــال لــه: بنــاه وزيــر الملــك الفلانــي لابنتــه خوفـــاً عليهـــا
مـن عـوارض الزمـان وطـوارق الحدثــان وأسكنهــا فيــه هــي وأتباعهــا ولا تفتحــه إلا فــي كــل سنــة مــرة
لمـا تأتـي إليهـم مؤونتهـم فقـال فـي نفسـه: قـد حصــل المقصــود ولكــن المــدة طويلــة هــذا مــا كــان مــن أمــر
أنـس الوجـود وأمـا مـا كـان مـن أمـر الـورد فـي الأكمـام فإنهــا لــم يهنــأ لهــا شــراب ولا طعــام ولا قعــود ولا
منــام فقامــت وقــد زاد بهــا الغــرام والهيــام ودارت فــي أركــان القصــر فلــم تجــد لهــا مصرفـــاً فسكبـــت
العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
حبسونـــي عـــن حبيبـــي قــــوة وأذاقونــــي بسجنــــي لوعتـــــي
أحرقــوا قلبـــي بنيـــران الهـــوى حيث ردوا عن حبيبي نظرتي
حبسوني فـي قصـور شيـدت فــي جبــال خلقــت فـــي لجـــة
إن يكونـــوا قـــد رأوا سترتـــي لـم تـزد فــي الحــب إلا محنتــي
كيــف أسلــو والــذي بــي كلــه أصله فـي وجـه حبـي نظرتـي
===
وأنيسـي ذكرهـم فـي وحدتـي حين ألقى منم لقاهم وحشتـي
يــا تــرى هــل بعــد هــذا كلـــه يسمـــح الدهـــر بلقيـــا منيتــــي
فــلا فرغــت مــن شعرهــا طلعــت إلــى سطــح القصـــر وأخـــذت أثوابـــاً بعلبكيـــة وربطـــت نفسهـــا فيهـــا
حتــى وصلــت إلــى الــأرض وقــد كانــت لابســة أفخــر مــا عندهــا مــن اللبـــاس وفـــي عنقهـــا عقـــد مـــن
الجواهر وسارت في تلـك البـراري والقفـار حتـى وصلـت إلـى شاطـئ البحـر فـرأت صيـاداً فـي مركـب
دائـر فـي البحـر يصطـاد فرمـاه الريـح علـى تلـك الجزيـرة فالتفـت فـرأى الـورد فـي الأكمـام فـي تلـك الجزيـرة
فلما رآها فزع منها وخرج بالمركب هارباً فنادته وأكثرت إليه الإشارات وأنشدت هذه الأبيات:
يا أيها الصياد لا تخشى الكدر غننــــي إنسيــــة مثــــل البشـــــر
أريـد منـك أن تجيـب دعوتـي وتسمعـن قولـي بإسنــاد الخبــر
فارحم وقال الله حر صبوتـي إن أبصـرت عينـاك محبوبـاً نفــر
فإننــي أهـــوى مليحـــاً وجهـــه فاق وجـه الشمـس نـور القمـر
والظبـــــي لمـــــا رأى ألحاظــــــه قد قال إنـي عبـده ثـم اعتـذر
قد كتب الحسـن علـى وجنتـه سطراً بديعاً في المعاني مختصر
فمن رأى نور الهوى قد اهتدى أمـا الـذي ضــل تعــدى وكفــر
===
ومـــن يواقيـــت ومـــا أشبههــــا ولؤلــؤ رطــب وأنــواع الـــدرر
عسى حبيبي أن يوحي بالمنـى فـإن قلبـي ذاب شوقـاً وانفطـر
فلمـا سمـع الصيـاد كلامهـا أرسـى مركبـه علـى البـر وقـال لهـا: انزلـي فـي المركـب حتــى أعــدي بــك إلــى
أي موضـع تريديـن فنزلـت فـي المركــب وعــوم بهــا فلمــا فــارق البــر بقليــل هبــت علــى المركــب ريــح مــن
خلفهــا فســارت المركــب بسرعــة حتــى غــاب البــر عــن أعينهمــا وصــار الصيـــاد لا يعـــرف أن يذهـــب
ومكـث اشتـداد الريــح مــدة ثلاثــة أيــام ثــم سكــن الريــح بــإذن اللــه تعالــى ولــم تــزل المركــب تسيــر بهمــا
حتـــى وصلـــت إلـــى مدينـــة علـــى شاطـــئ البحـــر. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتــــت عــــن الكلــــام
المباح.
وفي الليلة الثامنة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن المركـب لمـا وصلـت بالصيـاد والــورد فــي الأكمــام إلــى مدينــة علــى
شاطـئ البحـر أراد الصيـاد أن يرسـي مركبــه علــى تلــك المدينــة وكــان فيهــا ملــك عظيــم السطــوة يقــال
لـه دربـاس وكـان فـي ذلـك الوقـت جالسـاً هـو وابنـه فـي قصـر مملكتـه وصـارا ينظـران مـن شبـاك القصـر
فالتفتـا إلـى جهـة البحـر فرأيـا تلـك المركـب فتأملاهـا فوجـدا فيهــا صبيــة كأنهــا البــدر فــي أفــق السمــاء
===
وفـي أذنيهـا حلـق مـن البلخـش الغالـي وفـي عنقهـا عقـد مـن الجوهـر النفيـس فعـرف الملـك أنهـا مـن بنـات
الأكابــر والملـــوك فنـــزل الملـــك مـــن قصـــره وخـــرج مـــن بـــاب القيطـــون فـــرأى المركـــب قـــد رســـت علـــى
الشاطـئ وكانــت البنــت نائمــة والصيــاد مشغــولاً بربــط المركــب فأيقظهــا الملــك مــن منامهــا فاستيقظــت
وهـي تبكــي فقــال لهــا الملــك: مــن أيــن أنــت وابنــة مــن أنــت ومــا سبــب مجيئــك هنــا فقالــت لــه الــورد
فـي الأكمـام: أنـا ابنـة إبراهيـم وزيـر الملـك الشامـخ وسبـب مجيئـي هنــا أمــر عجيــب وحكــت لــه جميــع
قصتها من أولها إلى آخرها ولم تخف عنه شيئاً ثم صعدت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:
قد قرح الدمع جفني فاقتضى عجباً من التكدر لما فاض وانسكبا
من أجل خل سوى في مهجتي أبداً ولم أنل في الهوى من وصله أربا
لـــه محيـــا جميـــل باهـــر نضـــر وفي الملاحة فاق الترك والعربـا
والشمس والبدر قد مالا لطلعته كالصب والتزما في حبه الأدبا
وطرفه بعجيب السحر مكتحل يريك قوساً لرمي السهم منتصبا
يا من له حالتي أوضحت معتذراً ارحم محباً به صرف الهوى لعبا
إن الهوى قد رماني في وسط ساحتكم ضعيف عزم ومنكم ارتجى حسبا
إن الكرام إذا ما حل ساحتهم مستحسب فحماهم يرفع الحسبا
===
فلمـا فرغـت مـن شعرهـا حكـت للملــك قصتهــا مــن أولهــا إلــى آخرهــا فقــال لهــا: لا خــوف عليــك ولا
فـزع قـد وصلـت إلــى مــرادك فــلا بــد أن أبلغــك مــا تريدينــه وأوصــل إليــك مــا تطلبينــه فاسمعــي منــي
هذه الكلمات ثم أنشد هذه الأبيات:
بنت الكرام بلغت القصد والأربا لك البشارات لا تخشى هنا نصبا
اليــوم أجمــع أمـــوالاً وأرسلهـــا لشامخ صحبة الفرسان والنجبا
نوافح المسك والديباج أرسلها وأرسل الفضة البيضاء والذهبا
نعــم وتخبــره عنـــي مكاتبتـــي أني مريـداً لـه صهـراً ومنتسبـا
وأبذل اليوم جهدي في معاونـه حتى يكون الذي تهوين مقتربا
قد ذقت طعم الهوى دهراً وأعرفه وأعذر اليوم من كأس الهوى شربا
فلمــا فــرغ مــن شعـــره خـــرج إلـــى عسكـــره ودعـــا بوزيـــره وحـــزم لـــه مـــالاً لا يحصـــى وأمـــره أن يذهـــب
بذلـك إلـى الملــك الشامــخ وقــال لــه: لا بــد أن تأتينــي بشخــص اسمــه أنــس الوجــود وقــل لــه: أنــه يريــد
مصاهرتـك بـأن يـزوج ابنتـه لأنـس الوجــود تابعــك فــلا بــد مــن إرسالــه معــي حتــى نعقــد عقــده عليهــا
فـي مملكـة أبيهـا ثـم أن الملـك دربـاس كتـب مكتوبـاً للملــك الشامــخ بمضمــون ذلــك وأعطــاه لوزيــره وأكــد
عليـه فـي الإتيـان بأنـس الوجـود وقـال لـه: إن لـم تأتنـي بـه تكــون معــزولاً عــن مرتبتــك فقــال لــه: سمعــاً
===
وطاعـة ثـم توجـه بالهديـة إلـى الملــك الشامــخ فلمــا وصــل إليــه بلغــه السلــام عــن الملــك دربــاس وأعطــاه
المكاتبـة والهديـة التـي معـه فلمـا رآه الملـك الشامـخ وقـرأ المكاتبــة ونظــر اســم أنــس الوجــود بكــى بكــاءً
شديــداً وقــال للوزيـــر المرســـل إليـــه: وأيـــن أنـــس الوجـــود فإنـــه ذهـــب ولا نعلـــم مكانـــه فأتنـــي بـــه وأنـــا
أعطيــك أضعــاف مــا جئــت بــه مــن الهديــة ثـــم بكـــى وأنّ واشتكـــى وافـــاض العبـــرات وأنشـــد هـــذه
الأبيات:
ردوا علــــــــــــــي حبيبــــــــــــــي لا حاجــــــــــة لــــــــــي بمـــــــــــال
ولا أريـــــــــــــــــد هدايــــــــــــــــــا مــــــــــن جواهــــــــــر ولآلـــــــــــي
قـــــد كـــــان عنــــــدي بــــــدراً سمـــــــــــا بأفــــــــــــق جمــــــــــــال
وفــــــــاق حسنــــــــاً ومعنــــــــى ولـــــــــــم يقــــــــــــس بغــــــــــــزال
وقـــــــــــد غصــــــــــــن بــــــــــــان أثمــــــــــــاره مــــــــــــن دلـــــــــــــال
وليــــس فــــي الغصـــــن طبـــــع يسبــــــــي عقــــــــول الرجـــــــــال
ربيبـــــــــــه وهـــــــــــو طفـــــــــــل علــــــــــى مهــــــــــاد الدلـــــــــــال
وإننـــــــــــــــــــــي لحزيــــــــــــــــــــــن عليـــــــــه مشغــــــــــول البــــــــــال
ثــن التفــت إلــى الوزيــر الــذي جــاء بالهديــة والرسالــة وقــال لـــه: اذهـــب إلـــى سيـــدك وأخبـــره أن أنـــس
===
الوجــود مضــى عــام وهــو غائــب وسيــده لــم يــدر أيــن ذهــب ولا يعــرف لــه خبــر فقــال لـــه الوزيـــر: يـــا
مولـاي إن سيـدي قـال لـي إن لـم تأتنـي بـه تكـن معـزولاً عـن الـوزارة ولا تدخـل مدينتـي فكيـف أذهـب
إليـــه بغيـــره فقـــال الملـــك الشامـــخ لوزيـــره ابراهيـــم: اذهـــب معـــه صحبـــة جماعـــة وفتشـــوا علـــى أنـــس
الوجــود فــي سائــر الأماكــن فقـــال لـــه: سمعـــاً وطاعـــة ثـــم أخـــذ مـــن أتباعـــه واصطحـــب وزيـــر الملـــك
درباس وساروا في طلب أنس الوجود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة بعد الأربعمائة
قالــــت: بلغنــــي أيهــــا الملــــك السعيــــد أن ابراهيــــم وزيــــر الملــــك الشامـــــخ أخـــــذ جماعـــــة مـــــن أتباعـــــه
واصطحــب وزيــر الملــك دربــاس وســاروا فــي طلــب أنــس الوجــود فكانــوا كلمــا مــروا بعـــرب أو قـــوم
يسألونهـــم عـــن أنـــس الوجـــود فيقولـــون لهـــم: هـــل مـــر بكـــم شخـــص اسمـــه كـــذا وصفتـــه كــــذا وكــــذا
فيقولـــون: لا نعلمـــه ومـــا زالـــوا يسألـــون المدائــــن والقــــرى ويفتشــــون فــــي السهــــول والأوعــــار والبــــراري
والقفــار حتــى وصلــوا إلــى شاطــئ البحــر وطلعــوا فــي مركــب ونزلــوا فيهــا وســاروا بهــا حتــى أقبلــوا
علــى جبــل الثكلــى. فقــال وزيــر الملــك دربــاس لوزيــر الملــك الشامــخ: لــأي شــيء سمـــي هـــذا الجبـــل
بذلـك الاسـم فقـال لـه: لأنـه نزلـت بـه جنيـة فـي قديـم الزمـان وكانـت نلــك الجنيــة مــن جــن الصيــن وقــد
===
أحبــت إنسانــاً ووقــع لــه معهــا غــرام وخافــت علــى نفسهــا مــن أهلهــا فلمــا زاد بهــا الغــرام فتشــت فـــي
الــأرض علــى مكــان تخفيــه فيــه عــن أهلهــا فوجــدت هــذا الجبــل منقطعــاً مــن الإنــس والجـــن بحيـــث لا
يهتــدي إلــى طريقــه أحــد مــن الإنــس والجــن فاختطفــت محبوبهــا ووضعتــه فيــه وصــارت تذهـــب إلـــى
أهلهــا وتأتيــه فــي خفيــة ولــم تــزل علــى ذلــك زمنــاً طويــلاً حتــى ولــدت منــه فــي ذلــك الجبــل أطفـــالاً
متعــددة وكــا كــل مــن يمــر علــى هــذا الجبــل مــن التجــار والمسافريــن فـــي البحـــر يسمـــع بكـــاء الأطفـــال
كبكـاء المـرأة التـي ثكلــت أولادهــا أي فقدتهــم فقيقــول: هــل هنــا ثكلــى فتعجــب وزيــر الملــك دربــاس
من هذا الكلام.
ثــم إنهــم ســاروا حتــى وصلــوا إلــى القصــر وطرقــوا البـــاب فانفتـــح البـــاب فخـــرج لهـــم خـــادم فعـــرف
ابراهيـم وزيـر الملـك الشامـخ فقبـل يـده ثـم دخـل القصـر فوجـد فـي فسحتـه رجـلاً فقيـراً بيــن الخداميــن
وهـو أنــس الوجــود فقــال لهــم: مــن أيــن هــذا فقالــوا لــه: إنــه رجــل تاجــر غــرق مالــه ونجــا بنفســه وهــو
مجـذوب فتركـه ثـم مشـى إلـى داخـل القصـر فلـم يجـد لابنتـه أثــراً فســأل الجــواري التــي هنــاك فقلــن لــه:
ما عرفنا كيف راحت ولا أقامت معنا سوى مدة يسيرة فسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
أيهـــا الـــدار التـــي أطيارهــــا قـد تغنـت وازدهـت أعتابهــا
فأتاهــا الصــب ينعــي شوقـــه ورآهـــــــا فتحـــــــت أبوابهــــــــا
===
كــان فيهــا كــل شــيء فاخـــر واستطاعت واعتلـى حجابهـا
وكسوهــا حلــل مــن سنـــدس يـا تـرى أيـن غــدت أصحابهــا
فلمــا فــرغ مــن شعــره بكــى وأنّ واشتكــى وقــال: لا حيلــة فــي قضــاء اللــه ولا مفــر ممـــا قـــدره وقضـــاه
ثـم طلـع إلـى سطـح القصـر فوجـد الثيـاب البعلبكيـة مربوطـة فـي شـرارف واصلـة إلـى الــأرض فعــرف
أنهـــا نزلـــت مـــن ذلـــك المكـــان وراحـــت كالهائـــج الولهــــان والتفــــت فــــرأى هنــــاك طيريــــن غرابــــاً وبومــــة
فتشاءم من ذلك وصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
أتيت إلـى دار الأحبـة راجيـاً بآثارهم اطفاء وجدي ولوعتي
فلم أجد الأحباب فيها ولم أجد بها غير مشؤمي غـراب وبومـة
وقال لسان الحال قد كنت ظالماً وفرقـت بيـن المغرميــن الأحبــة
فذق طعم ما ذاقوه من ألم الجوى وعش كمداً ما بين دمع وحرقة
ثـم نـزل مــن فــوق القصــر وهــو يبكــي وقــد أمــر الخــدام أن يخرجــوا إلــى الجبــل ويفتشــوا علــى سيدتهــم
ففعـلا ذلـك فلـم يجدوهـا. هـذا مـا كــان مــن أمرهــا وأمــا مــا كــان مــن أمــر أنــس الوجــود فإنــه لمــا تحقــق
أن الورد في الأكمـام قـد ذهبـت صـاح صيحـة عظيمـة ووقـع مغشيـاً عليـه واستمـر فـي غشيتـه فظنـوا
أنـه أخذتـه جذبــة مــن الرحمــن واستغــرق فــي جمــال هيبــة الديــان ولمــا يئســوا مــن وجــود أنــس الوجــود
===
واشتغـل قلـب الوزيـر ابراهيـم بفقـد ابنتـه الـورد فــي الأكمــام أرارد وزيــر الملــك دربــاس أن يتوجــه إلــى
بلـاده وإن لـم يفـز مـن سفـره بمـراده. فأخـذ يودعـه الوزيـر ابراهيـم والـد الـورد فـي الأكمــام فقــال لــه وزيــر
الملــك دربــاس: إنــي أريــد أن آخــذ هــذا الفقيــر معــي عســى اللــه أن يعطــف علــى الملـــك ببركتـــه لأنـــه
مجــذوب ثــم بعــد ذلــك أرسلــه إلــى بلـــاد أصبهـــان لأنهـــا قريبـــة مـــن بلادنـــا فقـــال: افعـــل مـــا تريـــد ثـــم
انصــرف كـــل منهمـــا متوجـــه إلـــى بلـــاده وقـــد أخـــذ وزيـــر الملـــك دربـــاس أنـــس الوجـــود معـــه. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة العاشرة بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن وزيـــر الملـــك دربـــاس أخـــذ أنـــس الوجـــود وهـــو مغشـــي عليـــه
وسـار ثلاثـة أيـام وهـو فـي غشيتـه محمـولاً علـى البغـال ولا يـدري هــل هــو محمــول أو لا فلمــا أفــاق مــن
غشيتــه قــال: فــي أي مكــان أنــا فقالــوا لــه: أنــت صحبــة وزيــر الملــك دربــاس ثـــم ذهبـــوا إلـــى الوزيـــر
وأخبــروه أنــه قــد أفــاق فأرســل إليــه مــاء الـــورد والسكـــر فيقـــوه وأنعشـــوه ولـــم يزالـــوا مسافريـــن حتـــى
قربـوا مـن مدينـة الملـك دربـاس فأرسـل الملـك إلـى الوزيـر يقــول لــه: إن لــم يكــن أنــس الوجــود معــك فــلا
تأتي أبداً.
===
فلمــا قــرأ مرســوم الملــك عســر عليــه ذلــك وكــان الوزيــر لا يعلــم أن الـــورد فـــي الأكمـــام عنـــد ولا يعلـــم
سبــب إرســال الملــك إيــاه إلــى أنــس الوجــود ولا يعلــم أن الوزيــر مرســل فــي طلبـــه والوزيـــر لا يعلـــم أن
هـذا هـو أنـس الوجـود فلمـا رأى الوزيـر أن أنـس الوجــود قــد استفــاق قــال لــه: إن الملــك أرسلنــي فــي
حاجة وهي لـم تقـض ولمـا علـم بقدومـي أرسـل إلـي مكتوبـاً يقـول لـي فيـه: إن لـم تكـن الحاجـة قضيـت
فـلا تدخــل مدينتــي فقــال لــه: ومــا حاجــة الملــك فحكــى لــه جميــع الحكايــة فقــال لــه أنــس الوجــود: لا
تخـف واذهـب إلــى الملــك وخذنــي معــك وأنــا أضمــن مجــيء أنــس الوجــود. ففــرح الوزيــر بذلــك وقــال
لــه: أحــق مــا تقــول فقــال: نعــم فركــب وأخــذه معــه وســار بــه إلــى الملــك فلمــا وصــلا إلــى الملــك قـــال
لــه: أيــن أنــس الوجــود فقــال لــه أنــس الوجــود: أيهــا الملــك أنــا أعــرف مكــان أنــس الوجــود فقربـــه الملـــك
إليــه وقــال لــه: فــي أي مكــان هــو قــال: فــي مكــان قريــب جــداً ولكـــن أخبرنـــي مـــاذا تريـــد منـــه وأنـــا
أحضـــره بيـــن يديـــك فقـــال لـــه: حبـــاً وكرامـــة ولكـــن هـــذا الأمـــر يحتـــاج إلــــى خلــــوة. ثــــم أمــــر النــــاس
بالإنصــراف ودخــل معــه خلــوة وأخبــره الملــك بالقصــة مـــن أولهـــا إلـــى آخرهـــا فقـــال لـــه أنـــس الوجـــود:
ائتينـي بثيـاب فاخـرة وألبسنـي إياهـا وأنـا آتيـك بأنـس الوجـود سريعـاً فأتـاه ببدلـة فاخـرة فلبسهــا وقــال:
أن أنس الوجود وكمد الحسود ثم رمى القلوب باللحظات وأنشد هذه الأبيات:
يؤانسنـي ذكـر الحبيـب بخلوتـي ويطرد عني في التباعد وحشتي
===
وشوقي شديد ليس يوجد مثله وأمري عجيب في الهوى والمحبة
فأقطع ليلي ساهر الجفن لم أنم وفي العشق أسعى بين ناروجنة
وقد كان لي صبر جميل عدمته وما منحني في الحب إلا بمحنتي
وقد رق جسمي من أليم بعادهم وغيرت الأشواق وصفي وصورتي
وأجفان عيني بالدموع تقرحت ولم أستطع أنـي أرجـع دمعتـي
وقد قل حيلي والفؤاد عدمتـه وكم ذا لاقـى لوعـة بعـد لوعـة
وقلبي ورأسي بالمشيب تشابها على سادة بالحسن أحسن سادة
على زعمهم كان التفرق بيننـا وما قصدهم إلا لقائي ووصلتي
فيا هل ترى بعد التقاطع والنوى أيمنعنـي دهـري بوصـل أحبتـي
ويطوي كتاب البعد من بعد نشره وتمحى براحات الوصال مشقتي
ويبقى حبيبي في الديار منادمي وتبدل أحزاني بصفو سريرتـي
فلمــا فــرغ مــن شعــره قــال لــه الملــك: واللــه إنكمــا لمحبــان صادقـــان وفـــي سمـــاء الحســـن كوكبـــان نيـــران
===
عليـه وأكرمـه وأحسـن إليـه ثـم أرسـل الملـك دربــاس إلــى الملــك الشامــخ وأخبــره بجميــع مــا اتفــق لــه مــن
أمــر أنــس الوجــود والــورد فــي الأكمــام ففــرح الملــك الشامـــخ بذلـــك غايـــة الفـــرح وأرســـل إليـــه مكتوبـــاً
مضمونه حيث حصل عقد العقد عندك ينبغي أن يكون الفرح والدخول عندي.
ثـــم جهـــز الجمـــال والخيـــل والرجـــال وأرســـل فـــي طلبهمـــا فلمـــا وصلـــت الرسالـــة إلـــى الملـــك دربــــاس
أمدهمــا بمــال عظيــم وأرسلهمــا مــع جملــة عسكــره فســاروا بهمـــا جتـــى دخلـــوا مدينتهمـــا وكـــان يومـــاً
مشهـــوداً لـــم يـــر أعظـــم منـــه وجمـــع الملـــك الشامـــخ سائـــر المطربـــات مـــن آلـــات المغانـــي وعمــــل الولائــــم
ومكثــوا علــى ذلــك سبعــة أيــام وفــي كــل يــوم يخلــع الملــك الشامــخ علــى النـــاس الخلـــع السنيـــة ويحســـن
إليهــم ثــم إن أنــس الوجـــود دخـــل علـــى الـــورد فـــي الأكمـــام فعانقهـــا وأخـــذا يبكيـــان مـــن فـــرط الفـــرح
والمسرات وأنشد هذه الأبيات:
جاء السرور أزال الهم والحزنا ثم اجتمعنا وأكمدنا حواسدنا
ونسمة الوصل قد هبت معطرة فأحيت القلب والأحشاء والبدنا
وبهجة الأنس قد لاحت مخلقة وفي الخوافق قد دقـت بشائرنـا
لا تحسبوا اننا باكون من حـزن لكن من فرح فاضت مدامعنا
فكم رأينا من الأهوال وانصرفت وقد صبرنا على من هيج الشجنا
===
فلمـا فــرغ مــن شعــره تعانقــا ولــم يــزالا متعانقيــن حتــى وقعــا مغشيــاً عليهمــا. وأدرك شهــرزاد الصبــاح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية عشرة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن أنــس الوجــود والــورد فــي الأكمــام لمــا اجتمعــا متعانقيــن ولــم يــزالا
متعانقيــن حتــى وقعــا مغشيــاً عليهمــا مــن لــذة الإجتمــاع فلمــا أفاقــا مــن غشيتهمــا أنشــد أنــس الوجــود
هذه الأبيات:
مــــا أحلاهــــا ليلـــــات الوفـــــا حيث أمسى لي حبيبي منصفا
وتوالـــى الوصـــل فيمـــا بيننــــا وانفصال الهجر عنـا قـد وفـى
وإلينــا الدهـــر يسعـــى مقبـــلاً بعــد مـــا مـــال وعنـــا انحرفـــا
نصـــب السعـــد لنـــا أعلامــــه وشربنـا منـه كأسـاً قـد صفــا
واجتمعنــا وتشاكينـــا الآســـى ولليلــــــات تقضــــــت بالجفـــــــا
ونسينـا مـا مضـى يـا سادتــي وعفـــا الرحمــــن عمــــا سلفــــا
مـــا ألـــذ العيـــش مـــا أطيبــــه لــم يزدنــي الوصــل إلا شغفـــا
===
فلمـــا فـــرغ مــــن شعــــره تعانقــــا واضطجعــــا فــــي خلوتهمــــا ولــــم يــــزالا فــــي منادمــــة وأشعــــار ولطــــف
وحكايـات وأخبـار حتـى غرقـا فــي بحــر الغــرام ومضــت عليهمــا سبعــة أيــام وهمــا لا يدريــان ليــلاً مــن
نهــار لفــرط مــا همــا فيــه مــن لـــذة وســـرور وصفـــو وحبـــور فكـــأن السبعـــة أيـــام يـــوم واحـــد ليـــس لـــه
ثانـــي ومـــا عرفــــا يــــوم الأسبــــوع إلا بمجــــيء آلــــات المغانــــي فأكثــــرت الــــورد فــــي الأكمــــام المتعجبــــات
وأنشدت هذه الأبيات:
على غيظ الحواسـد والرقيـب بلغنــا مــا نريـــد مـــن الحبيـــب
وأسعفنـــا التوصـــل باعتنــــاق علـى الديبــاج والقــز القشيــب
وفـرش مـن أديــم قــد حشونــا بريش الطير من شكـلٍ غريـب
وعن شرب المدام قـد اغتنينـا بريق الحب جـل عـن الضريـب
ومن طيب الوصال فليس ندري بأوقــات البعيــد مـــن القريـــب
ليالــــي سبعــــة مــــرت علينــــا ولم نشعر بهـا كـم مـن عجيـب
فهنونــــــي بأسبـــــــوع وقولـــــــوا أدام اللــــه وصلــــك بالحبيــــب
فلما فرغت من شعرها قبلها أنس الوجود ما ينوف عن المئات ثم أنشد هذه الأبيات:
أتـى يـوم الشـرور مــع التهانــي وجـاء الحــب مــن صدوفانــي
===
وأسقاني شراب الأنـس حتـى ذهلت عن الوجود بما سقانـي
فطربنا وانشرحنا واضطجعنا وصرنا فـي شـراب مـع أغانـي
ومن فرط السرور فليس ندري مـــــن الأيـــــام أولهــــــا وثانــــــي
ولا يــدري لمــر الصــد طعمـــاً وربــي قــد حبــاه بمــا حبانــي
فلمـا فـرغ مــن شعــره قامــا وخرجــا مــن مكانهمــا وأنعمــا علــى النــاس بالمــال والخلــع وأعطيــا ووهبــا إلــى
أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات فسبحان من لا يحول ولا يزول وإليه كل الأمور تؤول.
وممــا يحكــى أن الخليفــة هــارون الرشيــد كــان يحــب السيــدة زبيــدة محبــة عظيمــة وخصــص لهــا مكانــاً
للتنــزه وعمــل لهــا سياجــاً مــن الأشجــار وأرســل إليهــا المــاء مــن كــل جانــب فالتفــت عليهـــا الأشجـــار
حتـى لـو دخـل أحـد يغتسـل فـي تلــك البحيــرة لــم يــره أحــد مــن كثــرة أوراق الشجــر فاتفــق أن السيــدة
زبيـدة دخلــت ذلــك المكــان يومــاً وأتــت إلــى البحيــرة. وأدرك شهــرزاد الصبــاح فسكتــت عــن الكلــام
المباح.
وفي الليلة الثانية عشرة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهــا الملــك السعيــد أن السيــدة زبيــدة لمــا دخلــت ذلــك المكــان يومــاً وأتــت إلــى البحيــرة
===
وتفرجـت علـى حسنهـا وجمالهـا فأعجبهـا رونقهــا والتفــاف الأشجــار عليهــا وكــان ذلــك فــي يــوم الحــر
فقلعــت أثوابهــا ونزلــت إلــى البحيــرة ووقفــت وكانــت البحيـــرة لا تستـــر مـــن يقـــف فيهـــا فجعلـــت تمـــلأ
بإبريـق مـن عيـن وتصـب علـى بدنهــا فعلــم الخليفــة بذلــك فنــزل مــن قصــره يتجســس عليهــا مــن خلــف
أوراق الأشجــار فرآهــا عريانــة وقــد بــان منهــا مــا كــان مستــور فلمــا أحســـت بأميـــر المؤمنيـــن خلـــف
أوراق الأشجــار وعرفــت أنــه رآهــا عريانــة التفتــت إليــه ونظرتــه فاستحسنــت منــه ووضعـــت يدهـــا
علــى فرجهــا ففــاض مــن بيــن يديهــا لفـــرط كبـــره وغلظـــه فولـــى مـــن ساعتـــه وهـــو يتعجـــب مـــن ذلـــك
وينشد هذا البيت:
نظــــــــرت عينـــــــــي لحينـــــــــي وزكــــــــا وجــــــــدي لبينـــــــــي
ولـم يـدر بعـد ذلـك مـا يقـول فأرسـل خلــف أبــي نــواس يحضــره فلمــا حضــر بيــن يديــه قــال لــه الخليفــة:
أنشدني شعراً في أوله:
نظــــــــرت عينـــــــــي لحينـــــــــي وزكــــــــا وجــــــــدي لبينـــــــــي
فقال أبو نواس: سمعاً وطاعة وارتجل في أقرب اللحظات وأنشد هذه الأبيات:
نظــــــــرت عينـــــــــي لحينـــــــــي وزكــــــــا وجــــــــدي لبينـــــــــي
مـــــن غــــــزال قــــــد سبانــــــي تحـــــــــت ظـــــــــل الدرتيـــــــــن
===
نظرتنــــــــــــــــــي سترتـــــــــــــــــــه فــــــاض مــــــن بيــــــن اليديــــــن
ليتنــــــــــي كنـــــــــــت عليـــــــــــه ساعــــــــــــــة أو ساعتيــــــــــــــن
فتبسم أمير المؤمنين من كلامه وأحسن إليه وانصرف من عنده مسروراً.
وممــا يحكــى أن الملــك العــادل كســرى أنوشـــروان ركـــب يومـــاً إلـــى الصيـــد فانفـــرد عـــن عسكـــره ظبـــي
فبينمـا هـو سـاع خلـف الظبـي إذ رأى ضيعـة قريبـة منـه وكـان قـد عطـش عطشـاً شديـداً فتوجـه إلـى
تلــك الضيعــة وقصــد دار بــاب قــوم فــي طريقــه فطلــب مــاء ليشــرب فخرجــت صبيـــة فأبصرتـــه ثـــم
عـادت إلـى البيـت وعصـرت لـه عـوداً مـن قصـب السكـر ومزجـت مـا عصرتـه منـه بالمـاء ووضعتــه فــي
قـدح ووضعـت عليـه شيئـاً مـن الطيـب يشبـه التـراب ثـم سلمتـه إلـى أنوشـروان فنظـر فـي القـدح فــرأى
فيـه شيئـاً يشبـه التـراب فجعـل يشـرب منـه قليـلاً حتـى انتهـى إلـى آخـره ثـم قـال للصبيـة: أيتهــا الصبيــة
نعــم المــاء مــا أحلــاه لــولا ذلــك القــذي الــذي فيــه فإنــه كــدره فقالــت الصبيـــة: أيهـــا الضيـــف أنـــا عمـــداً
ألقيــت فيــه ذلـــك القـــذي الـــذي كـــدره فقـــال الملـــك: ولـــم فعلـــت ذلـــك فقالـــت: لأنـــي رأيتـــك شديـــد
العطــش وخفــت أن تشربــه نهلــة واحــدة فيضــرك فلــو لــم يكــن فيــه قــذي لكنــت شربتــه بسرعــة نهلـــة
واحــدة وكــان يضــرك شربــه علــى هــذه الطريقــة فتعجــب الملــك العـــادل أنوشـــروان مـــن كلامهـــا وذكـــاء
عقلهـا وعلـم أن مـا قالتـه ناشـئ عــن ذكــاء وفطنــة وجــودة عقــل فقــال لهــا: مــن أي عــود عصــرت ذلــك
===
المـــاء فقالـــت: مـــن عـــود واحـــد فتعجـــب أنوشـــروان وطلـــب جريـــدة الخـــراج الـــذي يحصـــل مـــن تلـــك
القريـة فـرأى خراجهـا قليـلاً فأضمـر فـي نفسـه أنـه إذا عـاد إلـى تختـه يزيـد فــي خــراج تلــك القريــة وقــال:
قريـة يكـون فـي عـود واحـد منهـا هـذا المـاء كيــف يكــون خراجهــا هــذا القــدر القليــل ثــم انصــرف عــن
تلــك القريــة إلــى الصيــد وفــي آخــر النهــار رجــع إليهــا واجتــاز علــى ذلــك البــاب منفــرداً وطلــب المــاء
ليشـــرب فخرجـــت تلـــك الصبيـــة بعينهـــا فرأتـــه فعرفتـــه ثـــم عـــادت لتخـــرج لـــه المـــاء فأبطــــأت عليــــه
فاستعجلهـــا أنوشـــروان وقـــال: لـــأي شـــيء أبطـــأت وأدرك شهــــرزاد الصبــــاح فسكتــــت عــــن الكلــــام
المباح.
وفي الليلة الثالثة عشرة بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الملـــك أنوشـــروان لمـــا استعجـــل الصبيـــة قـــال لهـــا: لـــأي شـــيء
أبطــأت فقالــت: لأنـــه لـــم يخـــرج مـــن عـــود واحـــد قـــد تغيـــرت فقـــال لهـــا: ومـــا سبـــب ذلـــك فقالـــت:
سببـــه أن نيـــة السلطـــان قـــد تغيـــرت فقـــال لهـــا: مـــن أيـــن جـــاءك قالـــت: سمعنـــا مـــن العقـــلاء أنــــه إذا
تغيـرت نيـة السلطـان علـى قـوم زالـت بركتهـم وقلـت خيراتــه فضــح أنوشــروان وأزال مــن نفســه مــا كــان
أضمر لهم عليه وتزوج بتلك الصبية حالاً حيث أعجبه فرط ذكائها وفطنتها وحسن كلامها.
===
وممــا يحكــى أنــه كــان رجــل بخــاري بمدينــة سقــا يحمــل بالمــاء إلــى دار رجـــل صائـــغ ومضـــى لـــه علـــى
تلـــك الحالـــة ثلاثـــون سنـــة وكـــان لذلـــك الصائـــغ زوجـــة فـــي غايـــة الحســـن والجمـــال والبهـــاء والكمــــال
موصوفـة بالديانـة والحفـظ فجـاء السقـا علــى عادتــه يومــاً وصــب المــاء فــي الخبــاب وكانــت قائمــة فــي
وسـط الــدار فدنــا منهــا السقــا وأخــذ بيدهــا وفركهــا وعصرهــا ثــم مضــى وتركهــا فلمــا جــاء زوجهــا
مـن السـوق قالـت لـه: إنـي أريـد أن تعرفنـي أي شـيء صنعـت هـذا اليــوم فــي الســوق مــا يغضــب اللــه
تعالـى فقـال الرجـل: مـا صنعـت شيئــاً يغضــب اللــه تعالــى فقالــت المــرأة: بلــى واللــه إنــك فعلــت شيئــاً
يغضب الله تعالى وإن لم تحدثنـي بمـا صنعـت وتصدقنـي فـي حديثـك لا أقعـد فـي بيتـك ولا ترانـي ولا
أراك فقال: أخبرك بما فعلته في يومـي هـذا علـى وجـه الصـدق اتفـق لـي أننـي جالـس فـي الدكـان علـى
عادتــي إذا جــاءت امــرأة إلــى دكانــي وأمرتنــي أن أصــوغ لهــا إســواراً وانصرفــت فصغــت لهـــا ســـواراً
مـــن ذهـــب ورفعتـــه فلمـــا حضـــرت أتيتهـــا بـــه فأخرجـــت يدهــــا ووضعــــت الســــوار فــــي ساعدهــــا
فتحيرت من بياض يدها وحسن زندها الذي يسبي الناظر وتذكرت قول الشاعر:
وسواعد تزهو بحسـن أسـاور كالنار تضـرم فـوق مـاء جـار
فكأنمــــا والتبــــر محتــــاط بهــــا مـــاء تمنطـــق معجبـــاً بالنــــار
فأخـذت يدهـا وعصرتهـا ولويتهـا فقــال لــه المــرأة: اللــه أكبــر لــم فعلــت هــذا الجــرم إن ذلــك السقــا الــذي
===
كـان يدخـل بيتنـا منــذ ثلاثيــن سنــة ولــم نــر فيــه خيانــة أخــذ اليــوم يــدي وعصرهــا ولواهــا فقــال اللــه:
نسـأل اللـه الأمـان أيتهـا المـرأة إنـي تائــب ممــا كــان منــي فاستغفــري اللــه فقالــت المــرأة: غفــر اللــه لــي ولــك
ورزقنــا حســن العاقبــة فلــم كــان الغــد جــاء الرجــل السقــا وألقــى نفســـه بيـــن يـــدي المـــرأة وتمـــرغ علـــى
التـراب واعتــذر إليهــا وقــال: يــا سيدتــي اجعلينــي فــي حــل ممــا أغرانــي بــه الشيطــان حيــث أضلنــي
وأغواني. فقالـت لـه المـرأة: امـض إلـى حـال سبيلـك فـإن ذلـك الخطـأ لـم يكـن منـك وإنمـا كـان سببـه مـن
زوجـي حيـث فعـل مـا فعـل فـي الدكـان فاقتـص اللـه منـه فـي الدنيـا وقيـل أن الرجـل الصائــغ لمــا أخبرتــه
زوجتــه بمــا فعــل السقــا معهــا قــال: دقــة بدقــة ولــو زدت لــزاد السقــا فصــار هــذا الكلــام مثـــلاً سائـــراً
بيــن النــاس فينبغــي للمــرأة مــع زوجهــا ظاهــراً وباطنـــاً وتقنـــع منـــه بالقليـــل إن لـــم يقـــدر علـــى الكثيـــر
وتقتدي بعائشة الصديقة وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما لتكون مع حواشي السلف.
وممـا يحكـى أنـه كـان فـي قديـم الزمـان وسالـف العصـر والــأوان امــرأة صالحــة فــي بنــي إسرائيــل وكانــت
تلــك المــرأة دينــة عابــدة تخــرج كــل يــوم إلــى المصلــى بستـــان فـــإذا خرجـــت إلـــى المصلـــى تدخـــل ذلـــك
البستــان وتتوضــأ منــه وكــان فــي البستــان شيخــان يحرسانــه فتعلــق الشيخــان بتلــك المــرأة وراوداهـــا
عــن نفسهــا فأبــت فقــالا لهــا: إن لــم تمكنينــا مــن نفســك لنشهــدن عليــك بالزنــا فقالـــت لهمـــا الجاريـــة:
اللــه يكفينــي شركمــا ففتحــا بــاب البستــان وصاحــا فأقبــل عليهمــا النــاس مــن كـــل مكـــان وقالـــوا: مـــا
===
خبركمـــا فقـــالا: إنـــا وجدنـــا هـــذه الجاريـــة مـــع شـــاب يفجــــر بهــــا وانفلــــت الشــــاب مــــن أيدينــــا وكــــان
النــاس فــي ذلــك الوقــت ينــادون بفضيحــة الزانــي ثلاثــة أيــام ثــم يرجمونــه فنــادوا عليهــا ثلاثـــة أيـــام مـــن
أجـل الفضيحـة وكــان الشيخــان فــي كــل يــوم يدانــون منهــا ويضعــان أيديهمــا علــى رأسهــا ويقولــان لهــا:
الحمـد للـه الـذي أنـزل بـك نقمتـه. فلمـا أرادوا رجمهـا تبعهـم دانيـال وهـو ابــن اثنتــي عشــرة سنــة وهــذه
أول معجـزة علـى نبينــا عليــه الصلــاة والسلــام ولــم يــزل تابعــاً لهــم حتــى لحقهــم وقــال: لا تعجلــوا عليهــا
بالرجم حتى أقضي بينهم فوضعوا له كرسياً.
ثــم جلــس وفــرق الشيخيــن وهــو أول مــن فــرق بيــن الشهــود فقــال لأحدهمــا: مــا رأيــت فذكــر لـــه مـــا
جــرى فقــال لــه: حصــل ذلــك فــي أي مكــان فــي البستــان فقــال: فــي الجانــب الشرقــي تحـــت شجـــرة
كمثـري ثـم سـأل الثانـي عمـا رأى فأخبــره بمــا جــرى فقــال لــه: فــي أي مكــان فــي البستــان فقــال: فــي
الجانــب الغربــي تحــت شجــرة تفـــاح هـــذا والجاريـــة واقفـــة رافعـــة رأسهـــا ويديهـــا إلـــى السمـــاء وهـــي
تدعـو اللـه بالخلـاص فأنـزل اللـه تعالـى صاعقـة مـن العـذاب فأحرقـت الشيخيــن وأظهــر اللــه تعالــى بــراءة
الجارية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة عشرة بعد الأربعمائة
===
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيـــد أن الصاعقـــة نزلـــت علـــى الشيخيـــن فأحرقتهمـــا وأظهـــر اللـــه بـــراءة
الجارية وهذا أول ما جرى من المعجزات لنبي الله دانيال عليه السلام.
ويحكــى أن أميــر المؤمنيــن هـــارون الرشيـــد خـــرج يومـــاً مـــن الأيـــام هـــو وأبـــا إسحـــاق النديـــم وجعفـــر
البرمكـي وأبـو نـواس وسـاروا فـي الصحـراء فـرأوا شيخـاً متكئـاً علـى حمــار لــه فقــال هــارون الرشيــد
لجعفــر: اســأل هــذا الشيــخ مــن أيــن هــو فقــال لــه جعفـــر: مـــن أيـــن جئـــت قـــال: مـــن البصـــرة فقـــال لـــه
جعفـــر: وإلـــى أيـــن سيـــرك قـــال إلـــى بغـــداد قـــال: ومـــا تصنـــع فيهـــا قـــال: ألتمـــس دواء لعينـــي فقــــال
هــارون الرشيــد: يــا جعفــر مازحـــه فقـــال: إذا مازحتـــه أسمـــع منـــه مـــا أكـــره فقـــال: بحقـــي عليـــك أن
تمازحــه فقــال جعفــر للشيــخ: إن وصفــت لــك دواء ينفعــك مـــا الـــذي تكافئنـــي بـــه فقـــال لـــه: إن اللـــه
تعالـى يكافئـك عنـي مـا هـو خيـر لـك مـن مكافئتـي فقـال: انصـت إلـي حتــى أصــف لــك هــذا الــدواء
الــذي لا أصفــه لأحــد غيــرك فقــال لــه: ومــا هــو فقــال جعفــر: خــذ لــك ثلــاث أواق مـــن هبـــوب الريـــح
وثلـــاث أواق مـــن شعـــاع الشمـــس وثلـــاث أواق مـــن زهـــر القمـــر وثلـــاث أواق مـــن نـــور الســـراج واجمـــع
الجميـع وضعهـا فـي الريـح ثلاثـة أشهـر ثـم بعـد ذلـك ضعهـا فـي هـون بـلا قعـر ودقهــا ثلاثــة أشهــر فــإذا
دققتها تضعها في جفنـك مشقوقـة وضـع الجفـة فـي الريـح ثلاثـة أشهـر ثـم استعمـل مـن هـذا الـدواء فـي
كــل يــوم ثلاثــة دراهــم عنــد النــوم واستمــر علــى ذلــك ثلاثــة أشهــر فإنــك تعافــى إن شــاء اللــه تعالـــى
===
فلمـا سمـع الشيـخ كلـام جعفـر انسطـح علـى حمــاره وضــرط ضرطــة منكــرة وقــال: خــذ هــذه الضرطــة
مكافـأة لـك علـى وصفـك هـذا الـدواء فـإذا استعملتـه ورزقنــي اللــه العافيــة أعطيتــك جاريــة تخدمــك
فـي حياتـك خدمـة يقطـع اللـه بهـا أجلـك فـإذا مــت وعجــل اللــه بروحــك إلــى النــار وسخمــت وجهــك
بخراهـا مـن حزنهـا عليـك وتنـدب وتلطــم وتنــوح وتقــول فــي نياحهــا: يــا ساقــع الذقــن مــا أسقــع ذقنــك
فضحك هارون الرشيد حتى استلقى على قفاه وأمر لذلك الرجل بثلاثة آلاف دينار.
وحكــى الشريــف حسيــن بــن ريــان أن أميــر المؤمنيــن عمــر بــن الخطــاب كــان جالســاً فــي بعــض الأيــام
للقضـاء بيــن النــاس والحكــم بيــن الرعايــا وعنــده أكابــر الصحابــة مــن أهــل الــرأي والإصابــة فبينمــا هــو
جالــس إذ أقبــل عليــه شــاب مــن أحســن الشبــاب نظيــف الثيــاب وقــد تعلــق بـــه شابـــان مـــن أحســـن
الشبـاب وقـد جذبـه الشابـان مـن طوقـه وأوقفـاه بيـن يـدي أميــر المؤمنيــن عمــر بــن الخطــاب فنظــر أميــر
المؤمنيــن إليهمــا وإليــه فأمرهمــا بالكــف عنــه وأدنــاه منــه وقــال للشابـــان: مـــا قصتكمـــا معـــه فقـــالا: يـــا
أميـر المؤمنيـن نحـن أخـوان شقيقـان وباتبـاع الحـق حقيقـان كـان لنـا أب شيـخ كبيــر حســن لتدبيــر معظــم
فـــي القبائـــل منــــزه عــــن الرذائــــل معــــروف بالفضائــــل ربانــــا صغــــاراً واولانــــا كبــــاراً. وأدرك شهــــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الشابيـن قـالا لأميـر المؤمنيـن عمـر بـن الخطـاب إن أبانـا كــان معظمــاً
فــي القبائــل منــزه عــن الرذائـــل معروفـــاً بالفضائـــل ربانـــا صغـــاراً وأولانـــا كبـــاراً جـــم المناقـــب والمفاخـــر
حقيقاً بقول الشاعر:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم كلا لعمري ولكـن منـه شيبـان
فكم أب قد علا بابن ذوي شرف كما علت برسـول اللـه عدنـان
فخـرج يومـاً إلـى حديقـة لـه ليتنـزه فـي أشجارهـا ويقتطـف يانـع ثمارهـا فقتلــه هــذا الشــاب وعــدل عــن
طريــق الرشــاد ونسألــك القصــاً كمــا جــاء والحكــم فيــه بمـــا أمـــرك اللـــه فنظـــر عمـــر إلـــى الشـــاب نظـــرة
مرهبــة وقــال لــه: قــد سمعــت مــن هذيــن الغلاميــن الخطــاب فمــا تقــول أنــت فــي الجـــواب وكـــان ذلـــك
الغلـام ثابـت الجنـان جـريء اللسانقـد خلـع ثيـاب الهلــع ونــزع لبــاس الجــزع فتبســم وتكلــم بأفصــح لســان
وحيـا أميـر المؤمنيـن بكلمـات حسـان ثـم قـال: واللـه يـا أميـر المؤمنيـن لقـد وعيـت مـا ادعـوا صدقــاً فيمــا
قالــاه حيــث أخبــرا بمــا جــرى وكــان أمــر اللــه قــدراً مقــدوراً ولكــن سأذكــر قصتــي بيــن يديـــك والأمـــر
فيهـا إليـك اعلـم يـا أميـر المؤمنيـن أنــي مــن صميــم العــرب العربــاء الذيــن هــم أشــرف مــن تحــت الجربــاء
نشـأت فـي منـازل الباديـة فأصابـت قومـي سـود السنيـن العاديـة فأقبلـت إلـى ظاهــر هــذا البلــد بالأهــل
والمـال والولـد وسلكـت بعـض طرائقهـا إلـى المسيـر بيـن حدائقهـا بنيـاق كريمـة عزيـزات علــي بينهــن فحــل
===
كريـم الأصـل كثيـر النســل مليــح الشكــل يكثــر منهــن النتــاج ويمشــي بينهــن كأنــه ملــك عليــه تــاج فنــدت
بعـض النيـاق إلـى حديقـة أبيهـم وقـد ظهـر مـن الحائـط أشجارهـا فتناولتـه بمشفرهــا فطردتهــا عــن تلــك
الحديقــة وإذا بشيــخ مــن الحائــط قــد ظهــر وزفيــر غيظــه يرمــي الشــرر وفــي يــده اليمنــى حجـــر وهـــو
يهــادى كالليــث إذا حضــر فضــرب الفحــل بذلــك الحجــر فقتلــه لأنــه أصــاب مقتلـــه فلمـــا رأيـــت الفحـــل
قــد سقــط بجانبــي آنســت إلــى قلبــي قــد توقــدت فيــه جمــرات الغضــب قتناولــت ذلــك الحجــر بعينــه
وضربتـه بـه فكـان سببـاً لحينـه ولقـي سـوء مقبلـه والمـرء مقتــول بمــا قتــل وعنــد إصابتــه بالحجــر صــاح
صيحــــة عظيمــــة وصــــرخ صرخــــة أليمــــة فأسرعــــت بالسيــــر مـــــن مكانـــــي فأســـــرع هـــــذا الشابـــــان
وأمسكانـي وإليـك أحضرانـي وبيـن يديـك أوقفانـي فقـال عمـر رضـي اللـه تعالـى عنـه: قــد اعترفــت بمــا
اقترفــت وتعــذر الخلــاص ووجــب القصــاً ولــات حيــن منــاً فقــال الشــاب: سمعــاً وطاعــة لمــا حكـــم بـــه
الإمـام ورضيـت بمـا اقتضتـه شريعـة الإسلـام ولكــن لــي أخ صغيــر كــان لــه أب كبيــر خصــه قبــل وفاتــه
بمـال جزيـل وذهـب جليـل وقـد سلـم أمـره لــي وأشهــد اللــه علــي وقــال: هــذا لأخيــك عنــدك فاحفظــه
جهــدك فأخــذت ذلــك المــال ودفنتــه ولا أحــد يعلــم بــه إلا أنــا فـــإن حكمـــت الـــآن بقتلـــي ذهـــب المـــلا
وكنـت السبـب فـي ذهابـه وطالبـك الصغيـر بحقـه يـوم يقضــي اللــه بيــن خلقــه وإن أنــت انتظرتنــي ثلاثــة
أيـام أقمـت مـن يتولـى أمـر الغلــام وعــدت وافيــاً بالذمــام ولــي مــن يضمننــي علــى هــذا الكلــام. فأطــرق
===
أميـر المؤمنيـن رأسـه ثـم نظــر إلــى مــن حضــره وقــال: مــن يقــوم بضمانــه والعــود إلــى مكانــه فنظــر الغلــام
إلى وجـوه مـن فـي المجلـس وأشـار إلـى أبـي ذر دون الحاضريـن وقـال: هـذا يكفلنـي ويضمننـي. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة عشرة بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الشـاب لمـا أشـار إلـى أبـي ذر وقـال: هـذا يكفلنـي ويضمننـي قــال
عمــر رضــي اللــه عنــه: يــا أبــا ذر أسمعــت هــذا الكلــام وتضمــن لــي حضـــور هـــذا الغلـــام قـــال: نعـــم
يـا أميـر المؤمنيــن أضمنــه إلــى ثلاثــة أيــام فرضــي بذلــك وأذن للغلــام فــي الإنصــراف فلمــا انقضــت مــدة
الإمهــال وكــاد وقتهــا أن يــزول أو زال ولــم يحضــر الشــاب إلــى مجلـــس عمـــر والصحابـــة حولـــه كالنجـــوم
حـول القمـر وأبـو ذر قـد حضـر والخصمــان ينتظــران فقــالا: أيــن الغريــم يــا أبــا ذر كيــف رجــوع مــن فــر
ولكــن نحــن لا نبــرح مــن مكاننــا حتــى تأتينــا للأخــذ بثأرنــا بــه. فقــال أبــو ذر: وحــق الملـــك العلـــام أن
انقضـت الثلاثـة أيـام ولـم يحضــر الغلــام وفيــت بالضمــان وسلمــت نفســي للإمــام فقــال عمــر رضــي اللــه
عنـه: واللـه إن تأخـر الغلـام لأقضيـن فـي أبـي ذر مـا اقتضتـه شريعـة الإسلـام فهملـت عبــرات الحاضريــن
وارتفعـــت زفـــرات الناظريـــن وعظـــم الضجيـــج فعـــرض أكابـــر الصحابــــة علــــى الشابيــــن أخــــذ الديــــة
===
واغتنـام الاثنيــة فأبيــا ولــم يقبــلا إلا الأخــذ بالثــأر فبينمــا النــاس يموجــون ويضجــون تأسفــاً علــى أبــي
ذر إذ أقبـل الغلـام ووقــف بيــن يــدي الإمــام وسلــم عليــه بأحســن سلــام ووجهــه مشــرق يتهلــل وبالعــرق
يتكلـل وقـال لـه: قـد أسلمـت الصبـي إلـى أخوالـه وعرفتهـم بجميـع أحوالـه وأطلعتهـم علــى مكــان مالــه.
ثـم اقتحمـت هاجـرة الحـر ووفيــت فــاه الحــر فتعجــب النــاس مــن صدقــه ووفائــه وإقدامــه علــى المــوت
واجترائــه فقــال لــه بعضهــم: ماأكرمـــك مـــن غلـــام وأوفـــاك بالعهـــد والزمـــام فقـــال الغلـــام: أمـــا تحققتـــم أن
المــوت إذا حضــر لا ينجــو منــه أحــد وغنمــا وفيــت كيــلا يقــال ذهــب الوفــاء مــن النــاس فقــال أبــو ذر:
واللــه يــا أميــر المؤمنيــن لقــد ضمنـــت هـــذا الغلـــام ولـــم أعرفـــه مـــن أي قـــوم ولا رأيتـــه قبـــل ذلـــك اليـــوم
ولكــن لمــا أعــرض عمــر حضــر وقصدنــي وقـــال: هـــذا يضمننـــي ويكفلنـــي لـــم أستحســـن رده وأبـــت
المـروة أن تخيـب قصـده إذ ليـس فـي إجابـة القصـد مـن بـاس كيــلا يقــال ذهــب الفضــل مــن النــاس فعنــد
ذلـك قــال الشابــان: يــا أميــر المؤمنيــن قــد وهبنــا لهــذا الشــاب دم أبينــا حيــث بــدل الوحشــة بالإينــاس
كيــلا يقــال ذهــب المعــروف مـــن النـــاس فاستبشـــر الإمـــام بالعفـــو عـــن الغلـــام وصدقـــه ووفائـــه بالذمـــام
واستكبــر مــروءة إبــي ذر دون جلسائــه واستحســن اعتمــاد الشابيــن فـــي اصطنـــاع المعـــروف وأثنـــى
عليهما ثناء الشاكر وتمثل بقول الشاعر:
مــن يصنــع الخيــر بيــن الــورى لا يذهب الخير بين الله والناس
===
ثــم عــرض عليهمــا أن يصــرف ديـــة أبيهمـــا مـــن بيـــت المـــال فقـــالا: إنمـــا عفونـــا عنـــه ابتغـــاء وجـــه اللـــه
الكريم المتعال ومن بيته كذا لا يتبع إحسانه مناً ولا أذى.
وممـا يحكـى أن أميـر المؤمنيـن هـارون الرشيـد كــان لــه ولــد قــد بلــغ مــن العمــر ستــة عشــرة عامــاً وكــان
معـرض عـن الدنيـا وسالكـاً طريقــة الزهــاد والعبــاد فكــان يخــرج لإلــى المقابــر ويقــول: قــد كنتــم تملكــون
الدنيـا فمـا ذلكـم بمنجيكـم وقـد صرتـم إلـى قبوركـم فيـا ليـت شعــري مــا قلتــم ومــا قيــل لكــم ويبكــي
بكاء الخائف الوجل وينشد قول القائل:
تروعني الجنائـز فـي كـل وقـت ويحزننـــــي بكـــــاء النائحـــــات
فاتفـق أن أبــاه مــر عليــه فــي بعــض الأيــام وهــو فــي موكبــه وحولــه وزرائــه وكبــراء دولتــه وأهــل مملكتــه
فـرأوا ولـد أميـر المؤمنيـن وعلـى جسـد جبـة مـن صـوف وعلــى رأســه مئــزر مــن صــوف فقــال بعضهــم
لبعــض: لقــد فضــح هــذا الولــد أميــر المؤمنيــن بيــن الملــوك فلــو عاتبــه لرجــع عمــا هــو فيــه فسمـــع أميـــر
المؤمنين كلامهـم فكلمـه فـي ذلـك وقـال لـه: لقـد فضحتنـي بمـا أنـت عليـه فنظـر إليـه ولـم يجبـه. ثـم نظـر
إلــى طائــر علــى شرفــة مــن شرفــات القصــر فقــال لــه: أيهــا الطائــر بحــق الــذي خلقــك أن تسقـــط علـــى
يـدي فانقـض الطائـر علـى يـد الغلـام ثــم قــال لــه: ارجــع إلــى موضعــك فرجــع إلــى موضعــه ثــم قــال لــه:
اسقــط علــى يــد أميــر المؤمنيــن فأبــى أن يسقــط علــى يــده فقــال الغلـــام لأبيـــه: يـــا أميـــر المؤمنيـــن أنـــت
===
الـذي فضحتنـي بيـن الأوليـاء بحبـك الدنيـا وقـد عزمـت علـى مفارقتــك مفارقــة لا أعــود إليــك بعدهــا
إلا في الآخرة.
ثـم انحـدر فـي البصـرة فكـان يعمـل مـع الفعلـة فـي الطيــن وكــان لا يعمــل فــي كــل يــوم إلا بدرهــم ودانــق
فيتقـــوت بالدانـــق ويتصـــدق بالدرهـــم قــــال أبــــو عامــــر البصــــري وكــــان قــــد وقــــع فــــي داري حائــــط
فخرجـت إلـى موقـف الفعلـة لأنظــر رجــلاً يعمــل لــي فيــه فوقعــت عينــي علــى شــاب مليــح ذي وجــه
صبيـح فجئـت إليـه وسلمـت عليـه وقلــت لــه: يــا حبيبــي أتريــد الخدمــة فقــال: نعــم فقلــت: قــم معــي
إلـى بنـاء الحائـط فقـال لـي: بشــروط أشترطهــا عليــك قلــت: يــا حبيبــي مــا هــي قــال: الأجــرة درهــم
ودانق وإذا أذن المؤذن تتركني حتى أصلي مع الجماعة قلت: نعم.
ثـم أخذتـه وذهبـت بـه إلـى المنـزل فخــدم خدمــة لــم أر مثلهــا وذكــرت لــه الغــداء فقــال: لا فعلمــت أنــه
صائـم فلمـا سمـع الـآذان قـال لـي: قـد علمـت الشـرط فقلـت: نعـم فحـل حزامــه وتفــرغ للوضــوء وتوضــأ
وضـوءاً لـم أر أحسـن منـه. ثـم خـرج إلـى الصلـاة فصلـى مــع الجماعــة ثــم رجــع إلــى خدمتــه فلمــا أذن
العصـر توضـأ وذهـب إلـى الصلـاة ثـم عـاد إلـى الخدمـة فقلــت لــه: يــا حبيبــي قــد انتهــى وقــت الخدمــة
فــإن خدمــة الفعلــة إلــى العصــر فقــال: سبحــان اللــه إنمــا خدمتــي إلــى الليــل ولــم يــزل يخــدم إلــى الليـــل
فأعطيتــه درهميــن. فلمــا رآهمــا قــال: مــا هــذا قلــت: واللــه إن هــذا بعــض أجرتــك لاجتهـــادك فـــي
===
خدمتـي فرمــى بهمــا إلــي وقــال: لا أريــد زيــادة علــى مــا كــان بينــي وبينــك فرغبتــه فلــم أقــدر عليــه
فأعطيتــه درهمــاً ودانقــاً وســار فلمــا أصبــح الصبــاح بكـــرت إلـــى الموقـــف فلـــم أجـــده فسألـــت عنـــه
فقيـل لـي: أنـه لا يأتـي ههنـا إلا فــي يــوم السبــت فقــط فلمــا كــان يــوم السبــت الثانــي ذهبــت إلــى ذلــك
المكان فوجدته فقلت لـه: باسـم اللـه تفضـل إلـى الخدمـة. فقـال لـي: علـى الشـروط التـي تعلمهـا قلـت:
نعـم فذهبـت بــه إلــى داري ووقفــت وهــو لا يرانــي فأخــذ كفــاً مــن الطيــن ووضعــه علــى الحائــط فــإذا
الحجـارة يتركــب بعضهــا علــى بعــض فقلــت: هكــذا أوليــاء اللــه فخــدم يومــه ذلــك وزاد فيــه علــى مــا
تقــدم فلمــا كــان الليــل دفعــت لــه أجرتــه فأخذهــا وســـار فلمـــا جـــاء يـــوم السبـــت الثالـــث أتيـــت إلـــى
الموقــف فلــم أجــده فسألــت عنــه فقيــل لــي: هــو مريــض راقـــد فـــي خيمـــة فلانـــة وكانـــت تلـــك المـــرأة
مشهــورة بالصلــاح ولهــا خيمــة مــن قصــب الجبانـــة فســـرت إلـــى الخيمـــة ودخلتهـــا فـــإذا هـــو مضطجـــع
علـى الـأرض وليـس تحتـه شـيء وقـد وضـع رأســه علــى لبنــة ووجهــه يتهلــل نــوراً فسلمــت عليــه فــرد
علي السلام فجلس عند رأسه أبكي على صغر سنه وغربته وتوفيقه لطاعة ربه.
ثــم قلــت لـــه: ألـــك حاجـــة قـــال: نعـــم قلـــت: ومـــا هـــي قـــال: إذا كـــان الغـــد تجـــيء إلـــي فـــي وقـــت
الضحى فتجدني ميتاً فتغسلني وتحفر قبري ولا تعلم بذلـك أحـداً وتكفننـي فـي هـذه الجبـة التـي علـي
بعـد أن تفتقهـا وتفتـش جيبهـا وتخـرج مـا فيـه وتحفظـه عنـدك فـإذا صليـت علـي وواريتنــي فــي التــراب
===
فاذهـب إلـى بغـداد وارتقـب الخليفـة هـارون الرشيـد حتـى يخـرج وادفـع لـه مـا تجـده فـي جيبـي واقرئـه
من السلام ثم تشهد وأثنى على ربه بأبلغ الكلمات وأنشد هذه الأبيات:
بلــغ أمانــة مـــن وافـــت منيتـــه إلى الرشيد فإن الأجر في ذاكا
وقل غريب له شـوق لرؤيتكـم على تمادي الهوى والبعد لباكا
ما صده عنك لا بغض ولا ملل لـــأن قربتـــه مـــن لثــــم يمناكــــا
وإنمــا أبعدتــه عنــك يـــا أبتـــي نفس لها عفة عـن نيـل دنياكـا
ثــــم أن الغلــــام بعــــد ذلــــك اشتغــــل بالإستغفــــار. وأدرك شهـــــرزاد الصبـــــاح فسكتـــــت عـــــن الكلـــــام
المباح.
وفي الليلة السابعة عشرة بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الغلـــام بعـــد ذلـــك اشتغـــل بالإستغفـــار والصلـــاة والسلـــام علـــى
سيد الأبرار وتلاوة بعض الآيات ثم أنشد هذه الأبيات:
يــــا والــــدي لا تفتـــــر بتنعـــــم فالعمرينفـــــد والنعيـــــم يـــــزول
وإذا علمت بحال قوم ساءهـم فاعلــم بأنــك عنهمــو مســـؤول
===
قـال أبـو عامـر البصـري: فلمــا فــرغ الغلــام مــن وصيتــه وإنشــاده ذهبــت عنــه وتوجهــت إلــى بيتــي فلمــا
أصبــح الصبــاح ذهبــت إليــه مــن الغــد وقــت الضحــى فوجدتـــه قـــد مـــات رحمـــة اللـــه عليـــه فغسلتـــه
وفتقت جبته فوجد فـي جيبـه ياقوتـة تسـاوي آلافـاً مـن الدنانيـر فقلـت فـي نفسـي: واللـه إن هـذا الفتـى
لقـد زهـد فـي الدنيــا غايــة الزهــد ثــم بعــد أن دفنتــه توجهــت إلــى بغــداد ووصلــت إلــى دار الخلافــة
وصـرت أترقــب خــروج الرشيــد إلــى أن خــرج فتعرضــت لــه فــي بعــض الطــرق ودفعــت إليــه الياقوتــة
فلمـــا رآهـــا عرفهـــا فخـــر مغشيـــاً عليـــه فقبـــض علـــي الخـــدم فلمـــا أفـــاق قـــال للخـــدم: أفرجـــوا عنــــه
وأرسلـوه برفـق إلـى القصـر ففعلـوا مأمرهـم بـه فلمــا دخــل قصــره طلبنــي وأدخلنــي محلــه وقــال لــي: مــا
فعــل صاحــب هــذه الياقونــة فقلــت: قــد مــات ووصفــت لــه حالـــه فجعـــل يبكـــي ويقـــول: انتفـــع الولـــد
وخـاب الوالـد ثـم نـادى: يــا فلانــة فخرجــت امــرأة فلمــا رأتنــي أرادت أن ترجــع فقــال لهــا: تعالــي ومــا
عليــك منــه فدخلــت وسلمــت فرمــى إليهـــا الياقوتـــة فلمـــا رأتهـــا صرخـــت صرخـــة عظيمـــة ووقعـــت
مغشيـــاً عليهـــا فلمـــا أفاقـــت مـــن غشيتهـــا قالـــت: يـــا أميـــر المؤمنيـــن مـــا فعـــل اللـــه بولـــدي فقـــال لـــي:
أخبرهـا بشأنـه وأخذتـه العبــرة فأخبرتهــا بشأنــه فجعلــت تبكــي وتقــول بصــوت ضعيــف: مــا أشوقنــي
إلـى لقائـك يـا قـرة عينـي ليتنـي كنـت أسقيـك إذا لـم تجـد مـن يسقيـك ليتنـي كنـت أؤانسـك إذا لــم تجــد
مؤانساً ثم سكبت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
===
من بعد عز وشمل كان مجتمعاَ أضحى فريداً وحيداً لا يرى أحدا
يبيـن للنـاس مـا الأيــام تضمــره لم يترك الموت منـا واحـداً أبـدا
يا غائباً قد قضى ربي بغربته وصار منيبعد القـرب مبتعـدا
إن أيأس الموت من لقياك يا ولدي فإننا نلتقـي يـوم الحسـاب غـدا
فقلـــت: يـــا أميـــر المؤمنيـــن أهـــو ولـــدك قـــال: نعـــم وقـــد كـــان قبـــل ولايتـــي هـــذا الأمــــر يــــزور العلمــــاء
ويجالــس الصالحيــن فلمــا وليــت هــذا الأمــر نفــر منــي وباعــد نفســه عنــي فقلــت لأمــه: إن هـــذا الولـــد
منقطـع إلـى اللـه تعالـى وربمــا تصيبــه الشدائــد ويكابــد الإمتحــان فادفعــي إليــه هــذه الياقوتــة ليجدهــا
وقـت الإحتيـاج إليهــا فدفعتهــا إليــه وعزمــت عليــه أن يمسكهــا فامتثــل لأمرهــا وأخذهــا منهــا ثــم تــرك
لنـا دنيانـا وغـاب عنـا ولـم يـزل غائبـاً عنـا حتـى لقـي اللـه عـز وجـل تقيــاً نقيــاً ثــم قــال: قــم فأرنــي قبــره
فخرجـت معـه وجعلـت أسيـر إلـى أن أريتـه إيـاه فجعـل يبكـي وينتحــب حتــى وقــع مغشيــاً عليــه فلمــا
أفــاق مــن غشيتــه استغفــر اللــه وقــال: إنــا للــه وإنــا إليــه راجعــون ودعــا لــه بخيــر ثــم سألنــي الصحبـــة
فقلت له: يا أمير المؤمنين إن لي في ولدك أعظم العظات ثم انشدت هذه الأبيات:
أنا الغريب فلا آوي إلـى أحـد أنا الغريب وإن أمسيت في بلدي
أنـا الغريـب فـلا أهـل ولا ولـد وليس لي أحد يأوي إلى أحـد
===
فالحمد للـه رب العالميـن علـى أفضاله لبقاء الروح في الجسـد
وممـا يحكـى عــن بعــض الفضــلاء أنــه قــال: مــررت بفقيــه فــي كتــاب وهويقــريء الصبيــان فوجدتــه فــي
هيئــة حسنــة وقمــاش مليــح فأقبلــت عليــه فقــام لــي وأجلسنــي معــه فمارستــه فــي القــراءات والنحـــو
والشعـر واللغــة فــإذا هــو كامــل فــي كــل مــا يــراد منــه فقلــت لــه: قــوى اللــه عزمــك فإنــك عــارف بكــل
مايـراد منـك ثـم عاشرتـه مـدة وكـل يـوم يظهـر فيـه حسـن فقلـت فـي نفسـي: إن هـذا شيـئ عجيـب مــن
فقيـه يعلـم الصبيــان مــع أن العقــلاء اتفقــوا علــى نقــص عقــل معلــم الصبيــان ثــم فارقتــه وكنــت كــل أيــام
قلائــل أتفقــده وأزوره فأتيــت إليــه فــي بعــض الأيــام علــى عادتــي مــن زيارتــه فوجــدت الكتــاب مغلقــاً
فسألـت جيرانـه فقالــوا: أنــه مــات عنــده ميــت فقلــت فــي نفســي: وجــب علينــا أن نعزيــه فجئــت إلــى
بابــه وطرقتــه فخرجــت لــي جاريــة وقالــت: مــا تريــد فقلــت: أريــد مولــاك فقالــت: إن مولـــاي قاعـــداً
فــي العــراء وحــده فقلــت لهــا: قولــي لــه أن صديقــك فلانــاً يطلـــب أن يعزيـــك فراحـــت وأخبرتـــه فقـــال
لهـا: دعيـه يدخـل فأذنـت لـي فـي الدخـول فدخلــت إليــه فرأيتــه جالســاً وحــده ومعصبــاً رأســه فقلــت
لـه: عظـم اللـه أجـرك وهـذا سبيـل لا بـد لكـل أحـد منــه فعليــك بالصبــر ثــم قلــت لــه: مــن الــذي مــات
لــك فقــال: أعــز النـــاس علـــي وأحبهـــم إلـــي فقلـــت: لعلـــه والـــدك فقـــال: لا قلـــت: والدتـــك قـــال: لا.
قلــت: أخــوك قــال: لا. قلــت: أحــد مــن اقاربــك قــال: لا. قلــت فمــا نسبتــه إليــك قــال: حبيبتـــي.
===
فقلت في نفسـي: هـذا أول المباحـث فـي قلـة عقلـه ثـم قلـت لـه: قـد يوجـد غيرهـا ممـا هـو أحسـن منهـا
فقـال: أنـا مـا رأيتهـا حتـى أعـرف إن كـان غيرهـا أحســن منهــا أو لا فقلــت فــي نفســي: وهــذا مبحــث
ثــان فقلــت لــه: وكيــف عشقــت مــن لا تراهــا فقــال: اعلــم أنــي كنــت جالســاً فــي الطاقـــة وإذا برجـــل
عابر طريق يغني هذا البيت:
يا أم عمرو جزاك اللـه مكرمـة ردي علـي فـؤادي أينمــا كانــا
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة عشرة بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الفقيــه قــال: لمـــا غنـــى الرجـــل المـــار فـــي الطريـــق بالشعـــر الـــذي
سمعتـه منـه قلـت فـي نفسـي أولاً أن أم عمـرو هـذه مـا فـي الدنيــا مثلهــا مــا كــان يتغزلــون فيهــا فتعلقــت
بحبها فلما كان بعد يومين عبر ذلك الرجل وهو ينشد هذا البيت:
إذا ذهـب الحمــار بــأم عمــرو فلا رجعت ولا رجـع الحمـار
فعلمــت أنهــا ماتــت فحزنــت عليهــا ومضــى لــي ثلاثــة أيــام وأنــا فــي العـــزاء فتركتـــه وانصرفـــت بعدمـــا
تحققت قلة عقله.
===
وممـا يحكـى مـن قلـة عقـل معلـم الصبيــان أنــه كــان رجــل فقيــه فــي مكتــب فدخــل عليــه رجــل ظريــف
وجلــس عنــده ومارســه فــرآه فقيهــاً نحويــاً لغويــاً شاعــراً أديبــاً فهيمــاً لطيفــاً فتعجــب مـــن ذلـــك وقـــال:
إن الذيــن يعلمــون الصبيــان فــي المكاتــب ليــس لهــم عقــل كامــل فلمــا هــم بالإنصــراف مــن عنــد الفقيـــه
قـال لـه: أنـت ضيفـي فـي هـذه الليلـة فأجابـه إلـى الضيافـة وتوجـه صحبتـه إلـى منزلــه فأكرمــه وأتــى لــه
بالطعـام فأكـلا وشربـا ثـم جلسـا بعـد ذلـك يتحدثـان إلـى ثلـث الليـل وبعـد ذلـك جهــز لــه الفــراش وطلــع
إلـى حريمـه فاضطجـع الضيـف وأراد النـوم وإذا بصــراخ كثيــر ثــار فــي حريمــه فســأل: مــا الخبــر فقالــوا
لـه: أن الشيـخ حصـل لـه أمـر عظيــم وهــو فــي آخــر رمــق فقــال: أطلعونــي لــه فطلعــوه لــه ودخــل عليــه
فــرآه مغشيــاً عليــه ودمــه سائــل فــرش المــاء علـــى وجهـــه. فلمـــا أفـــاق قـــال لـــه: مـــا هـــذا الحـــال أنـــت
طلعــت مــن عنــدي فــي غايــة مــا يكــون مــن الحــظ وأنــت صحيـــح البـــدن فمـــا أصابـــك فقـــال لـــه: يـــا
أخـي بعدمـا طلعتمـن عنـدك جلسـت أتذكـر فـي مصنوعـات اللـه تعالـى وقلـت فــي نفســي: كــل شــيء
خلقـه اللـه للإنسـان فيـه نفـع لـأن اللــه سبحانــه وتعالــى خلــق اليديــن للبطــش والرجليــن للمشــي والعينيــن
للنظـر والأذنيـن للسمـاع والذكـر للجمــاع وهلــم جــرا إلا هاتيــن البيضتيــن ليــس لهمــا نفــع فأخــذت مــوس
كـان عنـدي وقطعتهمـا فحصـل لـي هـذا الأمـر فنـزل مـن عنـده وقـال: صـدق مـن قـال أن كـل فقيــه يعلــم
الصبيان ليس له عقل كامل ولو كان يعرف جميع العلوم.
===
وممــا يحكــى أيضــاً أن بعــض المجاوريــن كــان لا يعــرف الخــط ولا القــراءة وإنمــا يحتـــال علـــى النـــاس بحيـــل
يأكــل منهــا الخبــز فخطــر ببالــه يومــاً مــن الأيــام أنــه يفتــح لــه مكتبــاً ويقــريء فيــه الصبيــان فجمــع ألواحــاً
وأوراقــاً مكتوبــة وعلقهــا فــي مكــان وكبــر عمامتــه وجلــس علــى بــاب المكتــب فصـــار النـــاس يمـــرون
عليـه وينظـرون إلـى عمامتــه وإلــى الألــواح فيظنــون أنــه فقيــه جيــد فيأتــون إليــه بأولادهــم فصــار يقــول
لهـذا: اكتـب ولهـذا: اقــرأ فصــار الأولــاد يعلــم بعضهــم بعضــاً فبينمــا هــو ذات يــوم جالــس علــى بــاب
المكتـب علـى عادتـه وإذا بامـرأة مقبلـة مـن بعيـد وبيدهـا مكتـوب فقــال فــي بالــه: لا بــد أن هــذه المــرأة
تقصدنـي لأقـرأ لهـا المكتــوب الــذي معهــا فكيــف يكــون حالــي معهــا وانــا لا أعــرف قــراءة الخــط وهــم
بالنــزول ليهــرب منهـــا فلحقتـــه قبـــل أن ينـــزل وقالـــت لـــه: إلـــى أيـــن فقـــال لهـــا: أريـــد أن أصلـــي الظهـــر
وأعـود فقالـت لـه: الظهـر بعيـد فاقـرأ لــي هــذا الكتــاب فأخــذه وجعــل أعلــاه أسفلــه وصــار ينظــر إليــه
ويهــز عمامتــه تــارة ويرقــص حواجبـــه أخـــرى ويظهـــر غيظـــاً وكـــان زوج المـــرأة غائبـــاً والكتـــاب مرســـل
إليهـا مـن عنـده فلمـا رأت الفقيــه علــى تلــك الحالــة قالــت فــي نفسهــا: لا شــك أن زوجــي مــات وهــذا
الفقيــه يستحــي أن يقــول لــي أنــه مــات فقالــت لــه: هــل أشــق ثيابــي فقــال لهــا: شقــي فقالــت لــه: هــل
ألطـم علـى وجهـي فقــال لهــا: الطمــي فأخــذت الكتــاب مــن يــده وعــادت إلــى منزلهــا وصــارت تبكــي
هــي وأولادهــا فسمــع بعــض جيرانهــا البكــاء فسألــوا عــن حالهــا فقيــل لهــم: أنــه جاءهـــا كتـــاب بمـــوت
===
زوجهــا فقــال رجــل: إن هــذا الكلــام كــذب لــأن زوجهــا أرســل لــي مكتوبـــاً بالأمـــس يخبرنـــي فيـــه أن
طيـب بخيـر وعافيـة وأنـه بعـد عشـرة أيـام يكـون عندهــا فقــام مــن ساعتــه وجــاء إلــى المــرأة وقــال لهــا:
أيــن الكتــاب الــذي جــاء فجــاءت بــه إليــه وأخــذه منهــا وقــرأه وإذا فيـــه: أمـــا بعـــد فإنـــي طيـــب بخيـــر
وعافيـــة وبعـــد عشـــرة أيـــام أكـــون عندكـــم وقـــد أرسلـــت إليكـــم ملحفـــة ومكمـــرة فأخــــذت الكتــــاب
وعـادت فيـه إلـى الفقيـه وقالـت لـه: مـا حملـك علـى الـذي فعلتــه معــي وأخبرتــه بمــا قالــه جارهــا منــس
سلامـة زوجهـا وأنــه أرســل إليهــا ملحفــة ومكمــرة فقــال لهــا: لقــد صدقــت ولكــن يــا حرمــة اعذرينــي
فإني كنت في تلك الساعة مغتاظاً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة عشرة بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيـــد أن المـــرأة قالـــت للفقيـــه: مـــا حملـــك علـــى الـــذي فعلتـــه معـــي فقـــال
لهـا: إنـي كنـت فـي تلـك الساعـة مغتاظـاً مشغـول الخاطـر ورأيـت المكمـرة ملفوفــة فــي الملحفــة فظننــت
أنـــه مـــات وكفنـــوه وكانـــت المـــرأة لا تعـــرف الحيلـــة فقالـــت لــــه: أنــــت معــــذور وأخــــذت الكتــــاب منــــه
وانصرفت.
وحكــي أن ملكــاً مــن الملــوك خــرج مستخفيـــاً ليطلـــع علـــى أحـــوال رعيتـــه فوصـــل إلـــى قريـــة عظيمـــة
===
فوقــف ببــاب دار مــن دور القريـــة وطلـــب مـــاء فخرجـــت إليـــه امـــرأة جميلـــة بكـــوز مـــاء فناولتـــه إيـــاه
فشـرب فلمـا نظـر إليهـا افتتـن بهـا فراودهــا عــن نفسهــا وكانــت المــرأة عارفــة بــه فدخلــت بــه وأجلستــه
وأخرجـت لـع كتابـاً وقالـت: انظـر فـي هـذا الكتــاب إلــى أن أصلــح أمــري وأرجــع إليــك فجلــس يطالــع
فـي الكتـاب وإذا فيـه الزجـر عـن الزنـا ومـا أعـده اللـه لأهلـه مـن العـذاب فاقشعــر جلــده وتــاب إلــى اللــه
وصــاح بالمــرأة واعطاهــا الكتــاب وذهــب وكــان زوج المــرأة غائبــاً فلمــا حضـــر أخبرتـــه بالخبـــر فتحيـــر
وقــال فــي نفســه: أخـــاف أن يكـــون وقـــع غـــرض الملـــك فيهـــا فلـــم يتجاســـر علـــى وطئهـــا بعـــد ذلـــك
ومكـث علـى ذلـك مـدة فأعلمـت المـرأة أقاربهـا بمـا حصـل لهــا مــع زوجهــا فعرفــوه إلــى الملــك فلمــا مثــل
بيـن يديـه قـال أقـارب المـرأة: أعـز اللـه الملـك إن هـذا الرجــل استأجــر منــا أرضــاً للزراعــة فزرعهــا مــدة
ثــم عطلهــا فــلا هــو يتركهــا حتــى نؤجرهــا لمــن يزرعهـــا ولا هـــو يزرعهـــا وقـــد حصـــل الضـــرر للـــأرض
فنخاف فسادها بسبب التعطيل لأن الأرض إذا لم تزرع فسدت.
فقــال الملــك: مــا الــذي يمنعــك مــن زرع أرضــك فقــال: أعــز اللــه الملــك أنــه قــد بلغنــي أن الأســد قـــد
دخـل الـأرض فهبتـه ولـم أخــاف علــى الدنــو منهــا لعلمــي أنــه لا طاقــة لــي بالأســد وأخــاف منــه ففهــم
الملــك القصــة وقــال لــه: يــا هــذا إن أرضــط لــم يطاهــا الأســد وأرضــك طيبــة الــزرع فازرعهــا بــارك
الله لك فيها فإن الأسد لا يعدو عليها ثم أمر له ولزوجته بصلة حسنة وصرفهم.
===
وممـــا يحكـــى أن إسحـــق بـــن ابراهيـــم الموصلـــي قـــال: اتفـــق أننـــي ضجـــرت مـــن ملازمـــة دار الخليفــــة
والخدمـــة بهـــا فركبـــت وخرجـــت ببكـــرة النهـــار وعزمـــت علـــى أن أطـــوف الصحـــراء وأتفـــرج وقلـــت
لغلمانـي: غـا جـاء رسـول الخليفـة أو غيـره فعرفـوه أننـي بكـرت فـي بعـض مهماتـي وأنكـم لا تعرفـون أيـن
ذهبـت ثـم مضيـت وحـدي وطفـت فـي المدينـة وقـد حمـي النهـار فوقفـت فــي شــارع يعــرف بالحــرم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة العشرين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن اسحــق بــن ابراهيــم الموصلــي قــال: لمــا حمــي النهــار وقفــت فــي
شــارع يعــرف بالحــرم لأستظــل مــن حــر الشمــس وكــان للــدار جنـــاح بـــارز علـــى الطريـــق فلـــم ألبـــث
حتـى جـاء خـادم أســود يقــود حمــاراً فرأيــت جاريــة راكبــة وتحتهــا منديــل مكلــل بالجواهــر وعليهــا مــن
اللبــاس الفاخــر مــلا غايــة بعــده ورأيــت لهــا قوامــاً حسنــاً وطرفــاً فاتــراً وشمائــل ظريفــة فسألـــت عنهـــا
بعـض الماريـن فقـال لــي: إنهــا مغنيــة وقــد تعلــق بحبهــا قلبــي عنــد نظــري إليهــا وقــد قــدرت أن أستقــر
على ظهر دابتي.
ثـم أنهـا دخلـت الـدار التـي كنـت واقفـاً علـى بابهـا فجعلــت أتفكــر فــي حيلــة أتوصــل بهــا إليهــا فبينمــا
===
أنــا واقــف إذ أقبــل رجلــان شابــان جميلــان فاستأذنــا فــأذن لهمــا صاحــب الــدار فنــزلا ونزلــت معهمــا
ودخلـت صحبتهمـا فظنـا أن صاحــب الــدار دعانــي فجلسنــا ساعــة فاتــى بالطعــام فأكلنــا ثــم وضــع
الشـراب بيـن يدينـا ثـم خرجـت الجاريـة وفـي يدهـا عـود فغنـت وشربنـا وقمـت لأقضـي حاجــة فســأل
صاحــب المنــزل الرجليــن عنــي فأخبــراه أنهمــا لا يعرفانــي فقــال: هــذا طفيلــي ولكنــه ظريـــف فأجملـــوا
عشرته ثم جئت فجلست في مكاني فغنت الجارية بلحنلطيف وأنشدت هذين البيتي:
قـل للغزالـة وهــي غيــر غزالــة والجؤذر المكحول غير الجـؤذر
لمذكــر الخلـــوات غيـــر مؤنـــث ومؤنـث الخطـوات غيـر مذكــر
فأدتــه أداءً حسنــاً وشــرب القــوم وأعجبهــم ذلــك ثــم غنــت طرقـــاً شتـــى بألحـــان غريبـــة وغنـــت مـــن
جملتها طريقة هي لي وأنشدت تقول:
الطلــــــــــــــــول الــــــــــــــــدوارس فارقتهــــــــــــــــــا الوانـــــــــــــــــــي
أوحشـــــــت بعــــــــد أنسهــــــــا فهـــــــــي قفـــــــــراء طامـــــــــس
فكــان أمرهــا أصلـــح فيهـــا مـــن الأولـــى ثـــم غنـــت طرقـــاً شتـــى بألحـــان غريبـــة مـــن القديـــم والحديـــث
وغنت في أثنائها طريقة هي لي وأنشدت تقول:
قـــــــل لمـــــــن صـــــــد عاتبـــــــاً ونــــــــــأى عنــــــــــك جانبــــــــــا
===
فاستعدتـه منهـا لأصححـه فأقبـل علـي أحـد الرجليـن وقــال: مــا رأينــا طفيليــاً أصفــق وجهــاً منــك أمــا
ترضـى بالتطفـل حتـى اقترحـت وقـد صـح فيـك المثــل: طفيلــي فأطرقــت حيــاء فأطرقــت حيــاء ولــم
أجبــه فجعــل صاحبــه يكفــه عنــي فــلا ينكــف ثــم قامــوا إلــى الصلــاة فتأخــرت قليـــلاً وأخـــذت العـــود
وشــددت طرفيــه وأصلحتــه إصلاحــاً محكمــاً وعــدت إلــى موضعــي فصليــت معهـــم ولمـــا فرغنـــا مـــن
الصلـاة رجـع ذلــك الرجــل إلــى اللــوم علــي والتعنيــف ولــج فــي عربدتــه وأنــا صامــت فأخــذت الجاريــة
العود وجسته فانكرت حاله وقالت: من جس عودي فقالوا: ما جسه أحد منا.
قالـــت: بلـــى واللـــه لقـــد جســـه حـــاذق متقـــدم فـــي الصناعـــة لأنـــه أحكــــم أوتــــاره وأصلحــــه إصلــــاح
حــاذق فــي صنعتــه فقلــت لهــا: أنــا الــذي أصلحتــه. فقالــت: باللــه عليــك أن تأخــذه وتضــرب عليـــه
فأخذتــه وضربــت عليــه طريقــة عجيبـــة صعبـــة تكـــاد أن تميـــت الأحيـــاء وتحيـــي الأمـــوات وانشـــدت
عليه هذه الأبيات:
وكــان لـــي قلـــب أعيـــش بـــه فاكتــــــوى بالنــــــار واحترقــــــا
أنــــــــا لـــــــــم أرزق محبتهـــــــــا وإنمــــــا للعبــــــد مــــــا رزقــــــا
إن لم يكن ما ذقت طعم الهوى ذاقــــه لا شــــك مــــن عشقــــا
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن إسحـق بـن ابراهيـم الموصلـي قـال: لمـا فرغـت مـن شعــري لــم يبــق
===
أحـد مـن الجماعـة إلا ووثـب مــن موضعــه وجلســوا بيــن يــدي وقالــوا: باللــه عليــك يــا سيدنــا أن تغنــي
لنا صوتاً آخر فقلت: حباً وكرامة ثم أحكمت الضربات وغنيت بهذه الأبيات:
ألا مـن لقــب ذوائــب بنوائــب أناخت به الأحزان من كل جانب
حرام على رامي فؤادي بسهمه دم صبـه بيـن الحشــا والتــراب
تبيـــن بيــــن البيــــن إن اقترابــــه على البين من ضمن الظنون الكواذب
أراق دماً لولا الهوى ما أراقـه فهل لدمـي مـن ثائـر ومطالـب
فلمـا فـرغ مـن شعـره لـم يبـق أحـد منهـم إلا وقـام علـى قدميـه ثــم رمــى بنفســه علــى الــأرض مــن شــدة
مــا اصابــه مـــن الطـــرب قـــال: فرميـــت العـــود مـــن يـــدي فقالـــوا: باللـــه عليـــك أن لا تفعـــل هـــذا وزدنـــا
صوتــاً آخــر زادك اللــه مــن نعمتــه فقلــت لهــم: يــا قــوم أزيدكــم صوتــاً آخــر وآخــر وآخــر وأعرفكــم مــن
انـا أنـا إسحـق بـن ابراهيـم الموصلــي واللــه غنــي لآتيــه علــى الخليفــة إذا طلبنــي وانتــم قــد أسمعتمونــي
غليــظ مــا أكرهــه فـــي هـــذا اليـــوم فواللـــه لا نطقـــت بحـــرف ولا جلســـت معكـــم حتـــى تخرجـــوا هـــذا
العربيد من بينكم فقال له صاحبه: من هذا حذرتك وخفت عليك.
ثــم أخــذوا بيــده وأخرجــوه فأخــذت العــود وغنيــت الأصــوات التــي غنتهـــا الجاريـــة مـــن صنعتـــي ثـــم
أسـررت إلـى صاحـب الـدار أن الجاريـة قـد وقعـت محبتهـا فـي قلبـي ولا صبـر لـي عنهـا فقــال الرجــل:
===
هـي لـك بشــرط فقلــت: ومــا هــو قــال: أن تقيــم عنــدي شهــراً فأقمــت عنــده شهــراً ولا يعــرف أحــد
أين أنا والخليفة يفتش علي في كل موضع ولا يعرف لي خبراً.
فلمــا انقضــى الشهـــر سلـــم لـــي الجاريـــة ومـــا يتعلـــق بهـــا مـــن الأمتعـــة النفيســـة وأعطانـــي خادمـــاً آخـــر
فجئــت بذلــك إلــى منزلــي كانــي حــزت الدنيـــا باسرهـــا مـــن شـــدة فرحـــي بالجاريـــة ثـــم ركبـــت إلـــى
المأمــون مــن وقتــي فلمــا حضــرت بيــن يديــه قــال: ويحــك يــا إسحــق وأيــن كنــت فأخبرتــه بخبــري فقـــال
علـي بذلـك الرجـل فـي هــذه الساعــة فدللتهــم علــى داره فأرســل إليــه الخليفــة فلمــا حضــر سألــه عــن
القصـة فأخبـره بهـا فقـال لــه: أنــت رجــل ذو مــروءة والــرأي أن تعــان علــى مروءتــك فأمــر لــه بمائــة ألــف
درهـم وقـال لـي: يـا إسحــق أحضــر الجاريــة فأحضرتهــا وغنــت لــه وأطربتــه فحصــل لــه منهــا ســرور
عظيــم فقــال قــد جعلــت عليهــا نوبــة كــل يــوم خميــس فتحضــر وتغنــي مــن وراء الستــارة ثــم أمـــر لهـــا
بخمسين ألف درهم فوالله لقد ربحت في تلك الركبة.
وممــا يحكــى أن القاســم بــن عــدي حكــى عــن رجــل مــن بنــي تميــم قــال: خرجــت فـــي طلـــب ضالـــة
فـوردت علـى ميـاه بنـي طـي فرأيـت فريقيـن أحدهمـا قريـب مـن الآخـر وإذا فـي أحـد الفريقيـن كلـام مثـل
كلــام الفريــق الآخــر فتأملــت فرأيــت فــي أحــد الفريقيــن شابــاً قــد أنهكــه المــرض وهــو فــي مثـــل الشنـــن
البالي فبينما أنا أتأمله وإذا هو ينشد هذه الأبيات:
===
مرضت فعادنـي أهلـي جميعـاً فمــا لــك لا تــري فيمــن يعــود
لو كنت المريضة جئت أسعى إليـــك ولــــم ينبهنــــي الوعيــــد
عدمتك منهمو فبقيت وحدي وفقد الألف يا سكني شديـد
فسمعــت كلامــه جاريــة مـــن الفريـــق الآخـــر فبـــادرت نحـــوه وتبعهـــا أهلهـــا وجعلـــت تضاربهـــم فأحـــس
الشـاب فوثـب نحوهـا فبـادر إليـه أهـل فريقـه وتعلقـوا بــه فجعــل يجــذب نفســه وهــي تجــذب نفسهــا مــن
فريقهـا حتـى تخلصـا وقصـد كـل واحــد منهمــا صاحبــه حتــى التقيــا بيــن الفريقيــن وتعانقــا ثــم خــرا إلــى
الأرض ميتين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أنــه ممــا يحكــى أن محمـــد الأنبـــاري قـــال: خرجـــت مـــن الأنبـــار فـــي
بعـض الأسفـار إلـى عموريـة مـن بلــاد الــروم فنزلــت فــي أثنــاء الطريــق بديــر الأنــوار فــي قريــة مــن قــرى
عموريـة فخـرج إلـي صاحـب الديـر والرئيــس علــى الرهبــان وكــان اسمــه عبــد المسيــح فأدخلنــي الديــر
فوجدت فيه أربعـون راهبـاً فأكرمونـي فـي تلـك الليلـة بضيافـة حسنـة ثـم رحلـت عنهـم فـي الغـد وقـد
رأيـت مـن كثـرة اجتهادهــم وعبادتهــم مــا لــم أره مــن غيرهــم فقضيــت أربــي مــن عموريــة ثــم رجعــت
===
فلمــا كــان العــام المقبــل حججــت إلــى مكــة فبينمـــا أنـــا أطـــوف حـــول البيـــت إذ رأيـــت عبـــد المسيـــح
يطـوف أيضـاً ومعــه خمســة أنفــار مــن أصحابــه الرهبــان فلمــا تحققــت معرفتــه تقدمــت إليــه وقلــت لــه:
هــل أنــت عبــد المسيــح الراهــب قــال: بــل أنــا عبــد اللـــه الراغـــب فجعلـــت أقبـــل شيبتـــه وأبكـــي ثـــم
أخــذت بيــده وملــت إلــى جانــب الحــرم وقلــت لــه: أخبرنــي سبــب إسلامـــك فقـــال: إنـــه مـــن أعجـــب
العجائـب وذلـك أن جماعـة مـن زهـاد المسلميـن مـروا فـي القريـة التـي فيهـا ديرنـا فأرسلــوا شابــاً يشتــري
لهـم طعامـاً فـرأى فــي الســوق جاريــة نصرانيــة تبيــع الخبــز وهــي مــن أحســن النســاء صــورة فلمــا نظــر
إليها فتن بها وسقط على وجهه مغشياً عليه.
فلمـا أفـاق عـاد إلـى أصحابـه وأخبرهـم بمـا أصابـه وقـال: امضــوا إلــى شأنكــم فلســت بذاهــب معكــم
فعدلــوه ووعظــوه فلــم يلتفــت إليهــم فانصرفــوا عنــه ودخــل القريــة وقعــد عنــد بــاب حانــوت تلــك المــرأة
فسألتـه عـن حاجتـه فاخبرهـا أنـه عاشـق لهـا فأعرضـت عنـه فمكـث فـي موضعـه ثلاثـة أيـام لــم يطعــم
طعامـاً بـل صـار شاخصـاً إلـى وجههـا فلمـا رأتـه لا ينصــرف عنهــا ذهبــت إلــى أهلهــا وأخبرتهــم بخبــره
فسلطــوا عليــه الصبيــان فرمـــوه بالحجـــارة حتـــى رضـــوا أضلاعـــه وشجـــوا رأســـه وهـــو مـــع ذلـــك لا
ينصـــرف فعـــزم أهـــل القريـــة علـــى قتلـــه فجاءنـــي رجـــلاً منهـــم وأخبرنـــي بحالـــه فذهبـــت إليـــه فرأيتـــه
طريحــاً فمسحــت الــدم عــن وجهــه وحملتــه إلــى الديــر وداويــت جراحاتــه وأقـــام عنـــدي أربعـــة عشـــر
===
يومـــاً فلمـــا قـــدر علــــى المشــــي خــــرج مــــن الديــــر. وأدرك شهــــرزاد الصبــــاح فسكتــــت عــــن الكلــــام
المباح.
وفي الليلة الثانية والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الراهــب عبــد اللــه قــال: فحملتــه إلــى الديـــر وداويـــت جراحاتـــه
وأقــام عنــدي أربعــة عشــر يومــاً فلمــا قــدر علــى المشــي خــرج مـــن الديـــر إلـــى بـــاب حانـــوت الجاريـــة
وقعــد ينظــر إليهــا فلمــا أبصرتــه قامــت إليــه وقالــت لــه: واللــه لقـــد رحمتـــك فهـــل لـــك أن تدخـــل فـــي
دينــي وانــا أتزوجــك فقــال: معــاذ اللــه أن أنسلــخ مــن ديــن التوحيـــد وأدخـــل فـــي ديـــن الشـــرك فقالـــت:
قـم وادخـل معــي إلــى داري واقــض منــي أربــك وانصــرف راشــداً فقــال: لا مــا كنــت لأذهــب عبــادة
اثنــي عشـــرة سنـــة بشهـــوة لحظـــة واحـــدة فقالـــت: انصـــرف عنـــي حينئـــذ قـــال: لا يطاوعنـــي قلبـــي
فأعرضــت عنــه بوجههــا. ثــم فطــن بــه الصبيــان فأقبلــوا عليــه يرمونــه بالحجــارة فسقــط علـــى وجهـــه
وهـو يقــول: إن ولــي اللــه الــذي نــزل الكتــاب وهــو يتولــى الصالحيــن فخرجــت مــن الديــر وطــردت عنــه
الصبيـان ورفعـت رأسـه عـن الـأرض فسمعتـه يقـول: اللهــم اجمــع بينــي وبينهــا فــي الجنــة فحملتــه إلــى
الديـر فمـات قبـل أن أصـل بـه إليـه فخرجـت بـه عـن القريـة وحفــرت لــه قبــراً ودفنتــه. فلمــا دخــل الليــل
===
وذهــب نصفــه صرخــت تلــك المــرأة وهــي فــي فراشهــا صرخــة فاجتمــع غليهــا أهـــل القريـــة وسألوهـــا
عـن قصتهـا فقالـت: بينمـا أنـا إذ دخـل علــي هــذا الرجــل المسلــم فأخــذ بيــدي وانطلــق بــي إلــى الجنــة
فلمـا صـار بـي إلـى بابهـا منعنـي خازنهـا مـن دخولهـا وقـال: إنهــا محرمــة علــى الكافريــن فأسلمــت علــى
يديــه ودخلــت معــه فرأيــت فيهــا مــن القصــور والأشجــار مــا لــم يمكــن أناصفــه لكــم ثــم غنـــه أخذنـــي
إلـى قصـر مــن الجوهــر وقــال لــي: إن هــذا القصــر لــي ولــك وانــا لا أدخلــه إلا معــك وبعــد خمــس ليــال
تكونيـن عنـدي فيـه إن شـاء اللـه ثـم مـد يـده إلـى شجـرة علـى بـاب ذلـك القصـر فقطـف منهــا تفاحتيــن
وأعطانيهمـا وقـال: كلـي هـذه واخفـي الأخـرى حتـى يراهــا الرهبــان فأكلــت واحــدة فمــا رأيــت أطيــب
منها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة قالـــت: لمـــا قطـــف التفاحتيـــن وأعطانيهمـــا وقـــال: كلـــي
هــذه واخفــي الأخــرى حتــى يراهــا الرهبــان فأكلــت واحــدة فمــا رأيــت أطيــب منهــا ثــم أخـــذ بيـــدي
حتـى أوصلنـي إلـى داري فلمـا استيقظـت مـن منامـي وجـدت طعـم التفـاح فــي فمــي والتفاحــة الثانيــة
عنــدي ثــم أخرجــت التفاحــة فأشرقــت فــي ظلــام الليــل كانهــا كوكــب دري فجــاؤوا بالمــرأة إلــى الديـــر
===
ومعهــا التفاحــة فقصــت علينـــا الرؤيـــا وأخرجـــت لنـــا التفاحـــة فلـــم نـــر شيئـــاً مثلهـــا فـــي سائـــر فواكـــه
الدنيــا. فأخــذت سكينــاً وشققتهــا علــى عــدد أصحابــي فــلا رأينــا ألــذ مــن طعمهــا ولا أطيـــب مـــن
رائحتهــا فقلنــا: لعــل هــذا شيطــان تمثـــل إليهـــا ليغويهـــا عـــن دينهـــا فأخذهـــا أهلهـــا وانصرفـــوا ثـــم أنهـــا
امتنعـــت عـــن الأكـــل والشـــرب فلمـــا كانـــت الليلـــة الخامســـة قامـــت مـــن فراشهـــا وخرجـــت مـــن بيتهــــا
وتوجهت إلى قبر ذلك المسلم وألقت نفسها عليه وماتت ولم يعلم بها أهلها.
فلمـا كـان وقـت الصبـاح أقبـل علــى القريــة شيخــان مسلمــان عليهمــا ثيــاب مــن الشعــر ومعهمــا امرأتــان
كذلــك فقــالا: يــا أهــل القريــة إن اللــه تعالــى عندكــم وليــة مــن أوليائــه قــد ماتــت مسلمــة ونحــن نتولاهـــا
دونكــم فطلــب أهــل القريــة تلــك المــرأة فوجدوهــا علــى القبــر ميتــة فقالــوا: هــذه صاحبتنــا قــد ماتــت
على ديننا ونحن نتولاها فقال الشيخان: إنها ماتت مسلمة ونحن نتولاها.
واشتــد الخصــام والنــزاع بينهمـــا فقـــال أحـــد الشيخيـــن: إن علامـــة إسلامهـــا أن يجتمـــع رهبـــان الديـــر
الأربعـون ويجذبوهـا عـن القبـر فـإن قـدروا علـى حملهـا مـن الـأرض فهــي نصرانيــة وإن لــم يقــدروا علــى
ذلــك يتقــدم واحــد منــا ويجذبهــا فــإن جــاءت معــه فهـــي مسلمـــة فرضـــي أهـــل القريـــة بذلـــك واجتمـــع
الأربعــون راهبــاً وقــوى بعضهــم بعضــاً وأتوهــا ليحملوهــا فلــم يقـــدروا علـــى ذلـــك. وأدرك شهـــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الراهــب عبــد اللـــه قـــال: وأتوهـــا ليحملوهـــا فلـــم يقـــدروا علـــى
ذلــك فربطنــا فــي وسطهــا حبــلاً عظيمــاً وجذبناهـــا فانقطـــع الحبـــل ولـــم تتحـــرك فتقـــدم أهـــل القريـــة
وفعلــوا كذلــك فلــم تتحــرك مــن موضعهــا فلمــا عجزنــا عــن حملهــا بكــل حيلـــة قلنـــا لأحـــد الشيخيـــن:
تقـدم أنـت واحملهـا فتقـدم إليهـا أحدهمـا ولفهـا فــي ردائــه وقــال: بســم اللــه الرحمــن الرحيــم وعلــى ملــة
رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلــم ثــم حملهــا فــي حضنــه وانصــرف بهــا المسلمــون إلـــى غـــار هنـــاك
فوضعوهــا فيــه وجــاءت المرأتــان فغسلتاهــا وكفنتاهــا ثــم حملاهــا الشيخـــان وصليـــا عليهـــا ودفناهـــا
إلـى جانـب قبـره وانصرفـا ونحـن نشاهـد هـذا كلــه. فلمــا خــلا بعضنــا ببعــض قلنــا: إن الحــق أحــق أن
يتبــع وقــد وضــح لنــا الحــق بالمشاهــدة والعيــان ولا برهــان لنـــا علـــى صحـــة الإسلـــام أوضـــح لنـــا مـــم
رأينـاه باعيننـا ثـم أسلمــت وأسلــم رهبــان الديــر جميعهــم وكذلــك أهــل القريــة ثــم إننــا بعثنــا إلــى أهــل
الجزيــرة نستدعـــي فقيهـــاً يعلمنـــا شرائـــع الإسلـــام وأحكـــام الديـــن فجاءنـــا فقيـــه صالـــح فعلمنـــا العبـــادة
وأحكام الإسلام ونحن اليوم على خير كثير ولله الحمد والمنة.
وممـا يحكـى أن بعـض الفضـلاء قـال: مـا رأيـت فــي النســاء أذكــى خاطــراً وأحســن فطنــة وأعــوز علمــاً
وأجــود قريحــة وأظــرف أخلاقــاً مــن امــرأة واعظــة مــن أهــل بغــداد يقــال لهــا سيــدة المشايــخ اتفـــق أنهـــا
جـاءت إلـى مدينـة حمــاة سنــة إحــدى وستيــن وخمسمائــة فكانــت تعــظ النــاس علــى الكرســي وعظــاً
===
شافيــاً وكــان يتــردد علـــى منزلهـــا جماعـــة مـــن المتفقهيـــن وذوي المعـــارف والـــآداب يطارحونهـــا مسائـــل
الفقــه ويناظرونهــا فــي الخلــاف فمضيــت إليهــا ومعــي رفيــق مـــن أهـــل الـــأدب. فلمـــا جلسنـــا عندهـــا
وضعـت بيـن أيدينـا طبقـاً مـن الفاكهـة وجلسـت هــي خلــف ستــر وكــان لهــا أخــاً حســن الصــورة قائمــاً
علـى رؤوسنـا فـي الخدمـة فلمـا أكلنـا شرعنـا فـي مطارحـة الفقـه فسألتهـا مسألــة فقهيــة مشتملــة علــى
خلـاف بيـن الأئمـة فشرعـت تتكلـم فـي جوابهـا وانـا أصغـي إليهـا وجعـل رفيقـي ينظـر إلـى وجــه أخيهــا
ويتأمـل فــي محاسنــه ولا يصغــي إليهــا وهــي تلحظــه مــن وراء الستــر فلمــا فرغــت مــن كلامهــا التفتــت
إليــه وقالــت: أظنــك ممــن يفضــل الرجــال علــى النســاء قــال: أجــل. قالـــت: ولـــم ذلـــك قـــال: لـــأن اللـــه
فضل الذكر على الأنثى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الشيــخ أجابهــا بقولـــه: لـــأن اللـــه فضـــل الذكـــر علـــى الأنثـــى وأنـــا
أحــب الفاضــل وأكــره المفضــول فضحكـــت ثـــم قالـــت: انصفنـــي فـــي المناظـــرة إن ناظرتـــك فـــي هـــذا
البحــث قــال: نعــم قالــت: فمــا الدليــل علـــى تفضيـــل الذكـــر علـــى الأنثـــى قـــال: المنقـــول والمعقـــول أمـــا
المنقـول فالكتـاب والسنـة أمـا الكتـاب فقولـه تعالـى: الرجـال قوامـون علـى النسـاء بمـا فضــل اللــه بعضهــم
===
على بعض. وقوله تعالى: فـإن لـم يكونـا رجليـن فرجـل وامرأتـان. وقولـه تعالـى فـي الميـراث: وإن كانـوا
أخـوة رجــالاً ونســاءً فللذكــر مثــل حــظ الأنثييــن فاللــه سبحانــه وتعالــى فضــل الذكــر علــى الأنثــى فــي
هـذه المواضــع وأخبــر أن الأنثــى علــى النصــف مــن الذكــر لأنــه أفضــل منهــا وأمــا السنــة فمــا روي عــن
النبــي صلــى اللــه عليــه وسلــم أنــه جعــل ديــة المــرأة علــى النصـــف مـــن ديـــة الرجـــل وأمـــا المعقـــول فـــإن
الذكر فاعل والأنثى مفعول بها والفاعل أفضل من المفعول بها.
فقالـت لـه: أحسنـت يـا سيـدي لكنــك واللــه أظهــرت حجتــي عليــك مــن لسانــك ونطقــت ببرهــان هــو
عليـك لا لــك وذلــك أن اللــه سبحانــه وتعالــى إنمــا فضــل الذكــر علــى الأنثــى بمجــرد وصــف الذكوريــة
وهــذا لا نــزاع فيــه بينـــي وبينـــك وقـــد يستـــوي فـــي هـــذا الوصـــف الطفـــل والغلـــام والشـــاب والكهـــل
والشيــخ لا فــرق بينهــم فــي ذلــك وإذا كانــت الفضيلــة إنمــا حصلــت لــه بوصــف الذكوريـــة فينبغـــي أن
يميـل طبعـك وترتـاح نفسـك إلـى الشيـخ كمـا ترتـاح إلـى الغلـام إذ لا فـرق بينهمـا فـي الذكوريـة وإنمــا وقــع
الخلـاف بينـي وبينـك فـي الصفـات المقصـودة مـن حسـن العشـرة والإستمـاع وانـت لـم تـأت ببرهــان علــى
فضـل الغلـام علـى الأنثـى فـي ذلـك فقـال لهـا: يـا سيدتـي أمــا علمــت مــا اختــص بــه الغلــام مــن اعتــدال
القـد وتوريـد الخـد وملاحــة الإبتســام وعذوبــة الكلــام فالغلمــان بهــذا أفضــل مــن النســاء والدليــل علــى
ذلـك مـا روي عـن النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم أنـه قـال: )لا تدعـو النظـر إلـى المـرد فـإن فيهـم لمحــة مــن
===
الحـــور العيـــن( وتفضيـــل الغلـــام علـــى الجاريـــة لا يخفـــى علـــى أحـــد مـــن النـــاس ومـــا أحســـن قـــول أبـــا
نواس:
أقـــل مـــا فيــــه مــــن فضائلــــه أمنـك مــن طمثــه ومــن حبلــه
وقول الشاعر:
قال الإمام أبـو نـواس وهـو فـي شــرع الخلاعــة والمجـــون يقلـــد
يـا أمــة تهــوى العــذارا تمتعــوا مـن لـذة الخلـد ليســت توجــد
ولــأن الجاريــة إذا بالــغ الواصــف فــي وصفهــا وأراد تزويجهـــا بذكـــر محاســـن أوصافهـــا شبههـــا بالغلـــام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الشيــخ قــال: ولــأن الجاريــة إذا بالــغ الواصــف فــي وصفهــا وأراد
تزويجها بذكر محاسن أوصافها شبهها بالغلام لما له من المآثر كما قال الشاعر:
غلامية الأرداف تهتز في الصب كما اهتز في ريح الشمال قضيب
فلــولا أن الغلــام أفضــل وأحســن لمـــا شبهـــت بـــه الجاريـــة واعلمـــي صانـــك اللـــه تعالـــى أن الغلـــام سهـــل
===
القيـــاد موافـــق علـــى المـــزاد حســـن العشـــرة والأخلـــاق مائـــل عـــن الخلـــاف للوفـــاق ولا سيمـــا إن تنمنـــم
هـذاره واخضـر شاربـه وجـرت حمـرة الشبيبـة فـي وجنتـه حتـى صـار كالبـدر التمـام ومــا أحســن قــول
أبي تمام:
قال الوشاة بدا في الخد عارضه فقلت لا تكثروا مـا ذاك عابـه
لمــا استقــل بـــأرداف تجاذبـــه واخضر فوق جمان الدر شاربه
وأقســم الـــورد أيمانـــاً مغلظـــة أن لا يفــارق خديــه عجائبـــه
كلمتــــه بجفــــون غيــــر ناطقــــة فكان من ورده ما نال حاجبه
الحسن منك على ما كنت تعهده والشعــر أحـــرزه ممـــن يطالبـــه
أحلى وأحسن ما كانت شمائله إذا لاح عارضه واخضر شاربه
وصار من كان يلحي في محبته أن يحك عني وعنه اقل صاحبه
فهــذه فضيلــة فــي الغلمــان لــم تعطهــا النســـاء وكفـــى بذلـــك للغلمـــان عليهـــن فخـــراً ومزيـــة فقالـــت لـــه:
عافــاك اللــه تعالــى إنــك قــد شرطــت علــى نفســـك المناظـــرة وقـــد تكلمـــت ومـــا قصـــرت واستدللـــت
بهـذه الأدلـة علــى مــا ذكــرت ولكــن الــآن قــد حصــل الحــق فــلا تعــدل عــن سبيلــه وإن لــم تقنــع بإجمــال
الدليــل فأنــا آتيــك بتفضيلــه باللــه عليــك أيــن الغلــام مــن الفتــاة مــن يقيــس السخلــة علــى المهــاة إنمــا الفتــاة
===
رخيمـــة الكلــــام حسنــــة القــــوام فهــــي كقضيــــب الريحــــان بثغــــر كأقحــــوان وشعــــر كالأرســــوان وخــــد
كشقائــق النعمــان ووجــه كتفــاح وشفــة كالـــراح وثـــدي كالرمـــان ومعاطـــف كالأغصـــان وهـــي ذات قـــد
معتـــدل وجســـم متجـــدل وخـــد كخـــد السيـــف اللائـــح وجبيـــن واضـــح وحاجبيـــن مقرونيـــن وعينيـــن
كحلاويـــن إن نطقـــت فاللؤلـــؤ الرطـــب يتناثـــر مـــن فيهـــا وتجـــذب القلـــوب برقـــة معانيهـــا وغـــن تبسمـــت
ظننــت البــدر يتلــألأ مــن بيـــن شفتيهـــا وإن رنـــت فالسيـــوف تســـل مـــن مقلتيهـــا إليهـــا تنتهـــي المحاســـن
وعليها مدار الظاعن والقاطن ولها شفتان حمراوان ألين من الزبد وأحلى مذاقاً من الشهد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن المــرأة الواعظــة لمــا وصفــت الفتــاة قالــت: ولهــا شفتـــان حمـــراوان
أليـن مـن الزبـد وأحلـى مذاقــاً مــن الشهــد ثــم قالــت بعــد ذلــك ولهــا صــدر كجــادة الفجــاج فيــه ثديــان
كأنهمــا حقــان مــن عــاج وبطــن لطيــف الكشـــح كالزهـــر الغـــض وعكـــن قـــد انعطفـــت وانطـــوى بعضهـــا
علــى بعــض وفخــذان ملتفــان كأنهمــا الــدر عمــودان وأرداف تمــوج كأنهـــا بحـــر مـــن بلـــور أو جبـــال مـــن
نــور ولهــا قدمــان لطيفــان وكفــان كأنهمـــا سبائـــك العقبـــان فيـــا مسكيـــن أيـــن الالأنـــس مـــن الجـــان ومـــن
===
قـال: الدنيـا عبــارة عــن النســاء كــان صادقــاً وأمــا مــا ذكــرت مــن الحديــث الشريــف فهــو حجــة عليــك
لا لـك لـأن النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم قـال: لا تدعـو النظـر إلـى المـرد فـإن فيهـم لمحـة مـن الحـور العيــن
فشبـه المـرد بالحـور العيـن ولا شـك أن المشبـه بـه أفضـل مـن المشبـه فلـولا أن النسـاء أفضـل وأحســن لمــا
شبــه بهــن غيرهــن وأمــا قولــك: أن الجاريــة تشبــه الغلــام فليــس الأمــر كذلــك بــل الغلــام يشبــه بالجاريـــة
حتــى قالــوا: أنهــا تصلــح للأمريــن جميعــاً عــدولاً منهــم عــن سلــوك طريــق الحــق عنــد النـــاس كمـــا قـــال
كبيرهم أبو نواس:
ممشوقــــــة القصـــــــر غلاميـــــــة تصلـــــــح للوطـــــــي والزانـــــــي
وأمـــا مـــا ذكرتـــه مـــن حســـن نيـــات العـــذار وخضـــار الشــــارب وأن الغلــــام يــــزداد بــــه حسنــــاً وجمــــالاً
فواللـــه لقـــد عدلـــت عـــن الطريـــق غيـــر التحقيـــق لـــأن العـــذار يبـــذر حسنـــات الجمــــال بالسيئــــآت ثــــم
أنشدت هذه الأبيات:
بــدا الشعــر فــي وجههفانتقـــم لعاشقــــــه منــــــه لمــــــا ظلــــــم
ولــم أر فــي وجهـــه كالدخـــا ن إلا وسالفـــــــــــه كالحمـــــــــــم
إذا اســـود فاضـــل قرطاســــه فمــــا ظنكــــم بمكـــــان القلـــــم
فـــــإن فضلـــــوه علـــــى غيـــــره فمـــا ذلـــك إلا لجهــــل الحكــــم
===
فلمــا فرغـــت مـــن شعرهـــا قـــال للرجـــل: سبحـــان اللـــه العظيـــم. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت
عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن المــرأة الواعظــة لمــا فرغــت مــن شعرهــا قالـــت للرجـــل: سبحـــان
اللــه العظيــم كيــف يخفــى عليــك كمــال اللــذة فــي النســاء وان النعيــم المقيــم لا يكــون إلا بهــن وذلــك أن
اللـه سبحانـه وتعالـى وعـد الأنبيـاء والأوليـاء فـي الجنـة بالحـور العيـن وجعلهـن جـزاء لأعمالهــن الصالحــة
ولـو علــم اللــه تعالــى أن فــي غيرهــن لــذة الإستمتــاع لجزاهــم بــه ووعدهــم إيــاه وقــال صلــى اللــه عليــه
وسلـم: حبـب إلـي مـن دنياكـم ثلـاث النسـاء والطيــب وقــرة عينــي فــي الصلــاة وإنمــا جعــل اللــه الولــدان
خدمـاً للأنبيـاء والأوليـاء فـي الجنـة لـأن الجنـة دار نعيــم وتلــذذ ولا يكمــل ذلــك إلا بخدمــة الولــدان وامــا
استعمالهـم لغيـر الخدمـة فهـو مــن الخيــال والوبــال وأنــا أستغفــر اللــه العظيــم لــي ولكــم ولسائــر المسلميــن
إنـه هـو الغفـور الرحيـم. ثـم سكتـت فلـم تجبنـا عـن شـيء بعـد ذلــك فخرجنــا مــن عندهــا مسروريــن
من مناظرتها متأسفين على مفارقتها.
وممــا يحكــى أن أبــا سويــد قــال: اتفــق أننــي أنــا وجماعــة مــن أصحابــي دخلنـــا بستانـــاً يومـــاً مـــن الأيـــام
===
لنشتــري شيئــاً مــن الفواكــه فرأينــا فــي جانــب ذلــك البستــان عجـــوزاً صبيحـــة الوجـــه غيـــر أن شعـــر
رأسهـا أبيـض وهـي تسرحـه بمشـط مـن العـاج فوقفنــا عندهــا فلــم تجفــل منــا ولــم تغــط رأسهــا فقلــت
لهــا: يــا عجــوز لــو صبغــت شعــرك أســود لكنــت أحســن مــن صبيـــة فمـــا منعـــك مـــن ذلـــك فرفعـــت
رأسها إلي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن أبــا السويــد قــال: لمـــا قلـــت للعجـــوز ذلـــك رفعـــت رأسهـــا إلـــي
وحملقت العينين وأنشدت هذين البيتين:
وصبغت ما صبغ الزمان فلم يدم صبغـي ودامـت صبغـة الأيــام
أيـام الرفـل لـي ثيـاب شيبتنــي وأناك من خلفـي ومـن قدامـي
فقلت لها: لله درك من عجوز ما أصدقك في اللهج بالحرام وأكذبك في دعوى التوبة من الآثام.
وممـــا يحكـــى أن علـــي بـــن محمـــد بـــن عبـــد اللـــه بـــن طاهـــر استعـــرض جاريـــة اسمهـــا مؤنـــس للشــــراء
وكانــت فاضلــة أديبــة شاعــرة فقــال لهــا: مــا اسمــك يــا جاريــة قالــت: أعــز اللـــه الأميـــن اسمـــي مؤنـــس
وكان قد عرف اسمها قبل ذلك فأطرق ساعة ثم رفع رأسه إليها وأنشد هذا البيت:
===
قالت: أعز الله الأمير وأنشدت هذا البيت:
إذا رأينــا محبــاً قــد أضــر بـــه داء الصبابــة أولينــاه إحسانـــا
فأعجبتــه فاشتراهــا بسبعيــن ألــف درهـــم وأولدهـــا عبـــد اللـــه بـــن محمـــد صاحـــب المآثـــر وقـــال أبـــو
العيتـا: كـان عندنـا فـي الـدرب امرأتـان إحداهمـا تعشـق رجـلاً والأخــرى تعشــق أمــرد فاجتمعتــا ليلــة
علـى سطـح إحاهمـا وهــو قريــب مــن داري وهمــا لا يعلمــان بــي فقالــت صاحبــة الأمــرد للأخــرى: يــا
أختـــي كيـــف تصبريـــن علـــى خشونـــة اللحيـــة حيـــن تقـــع علـــى صـــدرك وقـــت لثمـــك وتقـــع شفتيــــك
وخديــك فقالـــت لهـــا: يـــا رعنـــاء وهـــل يزيـــن الشجـــر إلا ورقـــه والخيـــار إلا زغبـــه وهـــل رأيـــت فـــي
الدنيـــا أقبـــح مـــن قـــرع منتـــوف أمـــا علمـــت أن اللحيـــة للرجـــل مثـــل الذوائـــب للمـــرأة ومــــا الفــــرق بيــــن
الذوائـب واللحيـة امـا علمـت أن اللـه سبحانــه وتعالــى خلــق فــي السمــاء ملكــاً يقــول سبحــان مــن زيــن
ارجـال بالذوائـب فلـولا أن اللحـى كالذوائـب فـي الجمـال لمـا قـرن بينهمــا يــا رعنــاء مالــي وفــرش نفســي
تحــت الغلــام الــذي يعاجلنــي إنزالـــه ويسابقنـــي انحلالـــه وإذا رهـــز أجـــاد وكلمـــا خلـــص عـــاد فاتعظـــت
صاحبة الغلام بمقالتها وقالت: سلوت صاحبي ورب الكعبة.
===
حكاية تودد الجارية
وممــا يحكــى أنــه كــان ببغــداد رجــل ذو مقــدار وكــان موســر بالمــال والعقـــار وهـــو مـــن التجـــار الكبـــار
وقـد سهـل عليـه دنيـاه ولـم يبلغـه مـن الذريـة مـا يتمنــاه ومضــت عليــه مــدة مــن الزمــان ولــم يــرزق بأنــاث
ولا ذكــور فكبــر سنــه ورق عظمــه وانحنــى ظهــره وكثــر وهنــه وهمــه فخــاف ذهــاب مالــه ونسبـــه إذ
لــم يكــن لــه ولــد يرثــه ويذكــر بــه فتضــرع إلــى اللــه تعالــى وصــام النهــار وقــام الليـــل ونـــذر النـــذور للـــه
تعالــى الحــي القيــوم وزار الصالحيــن وأكثــر التضــرع إلــى اللــه تعالـــى فاستجـــاب اللـــه لـــه وقبـــل دعـــاؤه
ورحــم تضرعــه وشكــواه فمــا كــان إلا قليــل مــن الأيــام حتــى جامــع إحــدى نسائـــه فحملـــت منـــه فـــي
ليلتهـــا ووقتهـــا وساعتهـــا وأتمـــت أشهرهـــا ووضعـــت حملهـــا وجـــاءت بذكـــر كأنــــه فلقــــة قمــــر فأوفــــى
بالنـذر وشكـر اللــه عــز وجــل وصــدق وكســا الأرامــل والأيتــام وليلــة سابــع الولــادة سمــاه بأبــي الحســن
فرضعتــه المراضــع وحضنتــه الحواضــن وحملتـــه المماليـــك والخـــدم إلـــى أنكبـــر ونشـــأ وترعـــرع وانتشـــى
وتعلـــم القــــرآن العظيــــم وفرائــــض الإسلــــام وأمــــور الديــــن القويــــم والخــــط والشعــــر والحســــاب والرمــــي
بالنشـــاب فكـــان فريـــد دهـــره وأحســـن أهـــل زمانـــه وعصـــره ذا وجـــه مليـــح ولســــان فصيــــح يتهــــادى
تمايـلاً واعتـدالاً ويترامـى تدلـلاً واختيـالاً بخـد أحمـر وجبيــن أزهــر وعــذار أخضــر كمــا قــال فيــه بعــض
===
بـــدا الربيـــع العـــذار للحـــدق والورد بعـد الربيـع كيـف بقـي
أما ترى النبـت فـوق عارضـه بنفسجــاً طالعـــاً مـــن الـــورق
فأقــام مــع أبيــه برهــة مــن الزمــن فــي أحســن حـــال وأبـــوه بـــه فـــرح وســـرور إلـــى أن بلـــغ مبالـــغ الرجـــال
فأجلسـه أبـوه بيـن يديـه يومـاً مـن الأيـام وقـال لـه: يـا ولـدي غنـه قـد قـرب الأجـل وحانـت وفاتـي ولـم يبـق
غيـر لقـاء اللـه عـز وجـل وقـد خلفـت لـك مـا يكفيــك إلــى ولــد الولــد مــن المــال المتيــن والضيــاع والأملــاك
والبساتيــن فاتــق اللــه تعالــى يــا ولــدي فيمــا خلفتــه لــك ولا تمتــع مــن رفــدك فلـــم يكـــن إلا قليـــل حتـــى
مــرض الرجــل ومــات فجهــزه ولــده أحســن تجهيــز ودفنــه ورجــع إلــى منزلــه وقعـــد للعـــزاء أيامـــاً وليالـــي
وإذا بأصحابــه قــد دخلــوا عليــه وقالــوا لــه: مــن خلــف مثلــك مــا مــات وكــل مــا فــات فقـــد فـــات ومـــا
يصلــح العــزاء إلا للبنــات والنســاء المخــدرات ولــم يزالــوا بــه حتــى دخــل الحمــام ودخلـــوا عليـــه وفكـــوا
حزنه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن أبــا الحســن لمــا دخــل عليــه أصحابــه الحمــام وفكــوا حزنــه نســـي
وصيــة أبيــه وذهــل لكثــرة المــال وظــن أن الدهــر يبقــى معــه علــى حــال وأن المــال ليـــس لـــه زوال فأكـــل
===
وشـرب ولـذ وطــرب وخلــع ووهــب وجــاد بالذهــب ولــازم أكــل الدجــاج وفــض ختــم الزجــاج وقهقهــة
القنانــي واستمــاع الأغانــي ولــم يــزل علــى هــذا الحــال إلــى أن نفــذ المــال وقعــد الحــال وذهــب مـــا كـــان
لديـه وسقـط فـي يديـه ولـم يبـق لـه بعـد أن أتلـف مــا أتلــف غيــر وصيفــة خلفهــا لــه والــده مــن جملــة مــا
خلــف وكانــت الوصيفــة هــذه ليــس لهــا نظيــر فــي الحســن والجمــال والبهــاء والكمــال والقــد والاعتــدال
وهــي ذات فنــون وآداب وفضائــل تستطـــاب قـــد فاقـــت أهـــل عصرهـــا وأوانهـــا وصـــارت أشهـــر مـــن
علــم فــي افتتانهــا وزادت علــى الملــاح بالعلــم والعمــل والتثنــي والميــل مـــع كونهـــا خماسيـــة القـــد مقارنـــة
للسعــد بجبينيــن كأنهمــا هلــال شعبــان وحاجبيــن أزجيــن وعيــون كعيــون غزلــان وأنــف كخـــد الحســـام
وخــد كشقائــق النعمــان وفــم كخاتــم سليمــان وأسنــان كأنهــا عقـــود الجمـــان وســـرة تســـع أوقيـــة دهـــن
بــان وخصــر أنحــل مــن جســم مــن أضنــاه الهــوى وأسقمــه الكتمــان وردف أثقــل مــن الكثبــان وبالجملـــة
فهي في الحسن والجمال جديرة بقول من قال:
إن أقبلـــــت بحســـــن قوامهــــــا أو أدبـرت قتلـت بصـد فراقهـا
شمسيــــــة بدريــــــة غصنيـــــــة ليس الجفا والبعد من أخلاقها
جنات عدن تحت جيب قميصها والبدر في فلـك علـى أطواقهـا
تسلــب مــن يراهــا بحســـن جمالهـــا وبريـــق ابتسامتهـــا وترميـــه بعيونـــا نبـــل سهامهـــا وهـــي مـــع هـــذا كلـــه
===
فصيحـة الكلـام حسنـة النظـام فلمـا نفـذ جميـع مالـه وتبيـن سـوء حالــه ولــم يبــق معــه غيــر هــذه الجاريــة
أقـام ثلاثـة أيـام وهـو لـم يـذق طعـم طعـام ولـم يستـرح فـي منــام فقالــت لــه الجاريــة: يــا سيــدي احملنــي
إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة قالــت لسيدهــا: يــا سيــدي احملنــي إلــى أميـــر المؤمنيـــن
هـارون الرشيـد الخامـس مـن بنـي العبـاس واطلـب ثمنـي منــه عشــرة آلــاف دينــار فــإن استغلانــي فقــل
لـه: يـا أميـر المؤمنيــن وصيفتــي تســاوي أكثــر مــن ذلــك فاختبرهــا يعظــم قدرهــا فــي عينــك لــأن هــذه
الجاريـة ليـس لهــا نظيــر ولا تصلــح إلا لمثلــك. ثــم قالــت لــه: إيــاك أن تبيعنــي بــدون مــا قلــت لــك مــن
الثمــن فإنــه قليــل فــي مثلــي وكــان سيــد الجاريــة لا يعلــم قدرهــا ولا يعــرف أنهــا ليــس لهـــا نظيـــر فـــي
زمانها.
ثــم أنــه حملهــا إلــى أميــر المؤمنيــن هــارون الرشيــد وقدمهــا لــه وذكــر مـــا قالـــت فقـــال لهـــا الخليفـــة: مـــا
اسمــك قالــت: اسمــي تـــودد قـــال: يـــا تـــودد مـــا تحسنيـــن مـــن العلـــوم قالـــت: يـــا سيـــدي إنـــي أعـــرف
النحــو والشعـــر والفقـــه والتفسيـــر واللغـــة وأعـــرف فـــن الموسيقـــى وعلـــم الفرائـــض والحســـاب والقسمـــة
===
والمساحـــة وأساطيـــر الأوليـــن وأعـــرف القـــرآن العظيـــم وقـــد قرأتـــه بالسبـــع والعشـــر وبالأربـــع عشــــرة
وأعــرف عــدد ســوره وآياتــه وأحزابــه وأنصافــه وأرباعــه وأثمانــه وأعشــاره وسجداتـــه وعـــدد أحرفـــه
وأعـرف مــا فيــه مــن الناســخ والمنســوخ والمدنيــة والمكيــة وأسبــاب التنزيــل وأعــرف الحديــث الشريــف
درايــة وروايــة المسنــد منــه والمرســل ونظــرت فــي علــوم الرياضـــة والهندســـة والفلسفـــة وعلـــم الحكمـــة
والمنطـــق والمعانـــي والبيـــان وحفظـــت كثيــــراً مــــن العلــــم وتعلقــــت بالشعــــر وضربــــت العــــود وعرفــــت
مواضـع النغــم فيــه ومواقــع حركــات أوتــاره فــإن غنيــت ورقصــت فتنــت وإن تزينــت وتطيبــت قتلــت
وبالجملة فإني وصلت إلى شيء لم يعرفه إلا الراسخون في العلم.
فلــام سمــع الخليفــة هــارون الرشيــد كلامهــا علـــى صغـــر سنهـــا تعجـــب مـــن فصاحـــة لسانهـــا والتفـــت
إلـى مولاهـا وقـال: إنـي أحضـر مـن يناظرهـا فـي جميـع مـا ادعتـه فـإن أجابـت دفعــت لــك ثمنهــا وزيــادة
وإن لـم تجــب فأنــت أولــى بهــا فقــال مولاهــا: يــا أميــر المؤمنيــن حبــاً وكرامــة فكتــب أميــر المؤمنيــن إلــى
عامـل البصـرة بـأن يرسـل إليـه إبراهيـم بـن سيـار النظـام وكــان أعظــم أهــل زمانــه فــي الحجــة والبلاغــة
والشعــــر والمنطــــق وأمــــره أن يحضــــر القــــراء والعلمــــاء والأطبـــــاء والمنجميـــــن والحكمـــــاء والمهندسيـــــن
والفلاسفــة وكــان ابراهيــم أعلــم مـــن الجميـــع فمـــا كـــان إلا قليـــل حتـــى حضـــروا دار الخلافـــة وهـــم لا
يعلمـون الخبـر فدعاهـم أميـر المؤمنيـن إلـى مجلسـه وأمرهـم بالجلــوس فجلســوا ثــم أمــر أن تحضــر الجاريــة
===
تــودد فحضــرت وأظهــرت نفسهـــا وهـــي كأنهـــا كوكـــب دري فوضـــع لهـــا كرســـي مـــن ذهـــب فسلمـــت
ونطقـــت بفصاحـــة لســـان وقالـــت: يـــا أميـــر المؤمنيـــن مـــر مــــن حضــــر مــــن العلمــــاء والقــــراء والأطبــــاء
والمنجميـن والحكمـاء والمهندسيـن والفلاسفـة أن يناظرونــي. فقــال لهــم أميــر المؤمنيــن: أريــد منكــم أن
تناظـروا هـذه الجاريـة فـي أمـر دينهـا وأن تدحضـوا حجتهـا فـي كــل مــا ادعتــه فقالــوا: السمــع والطاعــة
للـه ولـك يـا أميـر المؤمنيـن فعنـد ذلـك أطرقـت الجاريـة برأسهــا إلــى الــأرض وقالــت: أيكــم الفقيــه العالــم
المقــري المحـــدث فقـــال أحدهـــم: أنـــا ذلـــك الرجـــل الـــذي طلبـــت فقالـــت لـــه: اســـأل عمـــا شئـــت قـــال
لهــا: أنــت قــرأت كتــاب اللــه العزيــز وعرفــت ناسخــه ومنسوخــه وتدبــرت آياتـــه وحروفـــه قالـــت: نعـــم
فقـال لهـا: أسألــك عــن الفرائــض الواجبــة والسنــن القائمــة فأخبرينــي أيتهــا الجاريــة عــن ذلــك ومــن ربــك
ومــن إمامــك ومــا قبلتــك وأخوانــك ومــا طريقــك ومــا منهاجـــك قالـــت: اللـــه ربـــي ومحمـــد صلـــى اللـــه
عليـه وسلـم نبيـي والقـرآن إمامـي والكعبـة قبلتـي والمؤمنـون أخوانــي والخيــر طريقــي والسنــة منهاجــي.
فتعجـب الخليفـة مـن قولهـا ومـن فصاحـة لسانهـا علـى صغـر سنهـا ثــم قــال لهــا: أيتهــا الجاريــة أخبرينــي
بمــا عرفــت اللـــه تعالـــى قالـــت: بالعقـــل قـــال: ومـــا العقـــل قالـــت: العقـــل عقلـــان عقـــل موهـــوب وعقـــل
مكسوب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملــــك السعيــــد أن الجاريــــة قالــــت: قالــــت: العقــــل عقلــــان موهــــوب ومكســــوب
فالعقـل الموهـوب هـو الـذي خلقــه اللــه عــز وجــل يهــدي بــه مــن يشــاء مــن عبــاده والعقــل المكســوب هــو
الــذي يكسبــه المــرء بتأدبــه وحســن معروفــه فقــال لهـــا: أحسنـــت ثـــم قـــال: أيـــن يكـــون العقـــل قالـــت:
يقذفه الله في القلـب فيصعـد شعاعـه فـي الدمـاغ حتـى يستقـر قـال لهـا: أحسنـت ثـم قـال: أخبرينـي بمـا
عرفـت النبــي صلــى اللــه عليــه وسلــم قالــت: بقــراءة كتــاب اللــه تعالــى وبالآيــات والدلالــات والبراهيــن
والمعجـــزات قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن الفرائـــض الواجبـــة والسنــــن القائمــــة قالــــت: أمــــا الفرائــــض
الواجبـــة فخمـــس: شهـــادة أن لا إلـــه إلا اللـــه وحـــده لا شريـــك لـــه وأن محمـــد عبـــده ورسولـــه وإقامـــة
الصلــاة وإيتــاء الزكــاة وصــوم رمضــان وحــج بيـــت اللـــه الحـــرام مـــن استطـــاع إليـــه سبيـــلاً وأمـــا السنـــن
فهـي أربـع: الليـل والنهــار والشمــس والقمــر وهــن يدنيــن العمــر والأمــل وليــس يعلــم ابــن آدم أنهــن يهدمــن
الأجل.
قــال: أحسنـــت فأخبرينـــي مـــا شعائـــر الإيمـــان قالـــت: شعائـــر الإيمـــان الصلـــاة والزكـــاة والصـــوم والحـــج
واجتنبـا الحـرام. وقـال: أحسنـت أخبرينـي بــأي شــيء تقوميــن إلــى الصلــاة قالــت: بنيــة العبوديــة مقــرة
بالربوبيـة قـال: فأخبرينـي كـم فـرض اللـه عليــك قبــل قيامــك إلــى الصلــاة قالــت: الطهــارة وستــر العــورة
واجتنــاب الثيــاب المتنجســة والوقــوف علــى مكــان طاهــر والتوجــه للقبلـــة والنيـــة وتكبيـــرة الإحـــرام.
===
قــال: أحسنــت فاخبرينــي بــم تخرجيــن مـــن بيتـــك إلـــى الصلـــاة قالـــت: بنيـــة العبـــادة قـــال: فبـــأي نيـــة
تدخليــن المسجــد قالــت: بنيــة الخدمــة قـــال: فبمـــاذا تستقبليـــن القبلـــة قالـــت: بثلـــاث فرائـــض وسنـــة
قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي مـــا مبـــدأ الصلـــاة ومـــا تحليلهـــا ومـــا تحريمهـــا قالـــت: مبـــدأ الصلــــاة الطهــــور
وتحريمهــا تحريمــة تكبيــرة الإحــرام وتحليــل السلــام مــن الصلــاة قــال: فمــاذا يجــب علــى مــن تركهــا قالـــت:
روي فـي الصحيـح مـن تـرك الصلـاة عامـداً متعمـداً مـن غيــر عــذر فــلا حــظ لــه فــي الإسلــام. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة لمــا ذكــرت الحديــث الشريــف قــال لهــا الفقيـــه: أحسنـــت
فأخبرينــي عــن الصلـــاة مـــا هـــي قالـــت: الصلـــاة ســـر بيـــن العبـــد وربـــه وفيهـــا عشـــرة خصـــال: تنـــور
القلـــب وتضـــيء الوجـــه وترضـــي الرحمـــن وتغضـــب الشيطـــان وتدفـــع البـــلاء وتكفــــي شــــر الأعــــداء
وتكثـــر الرحمـــة وتدفـــع النقمـــة وتقـــرب العبـــد مــــن مولــــاه وتنهــــي عــــن الفحشــــاء والمنكــــر وهــــي مــــن
الواجبـــات المفروضـــات المكتوبـــات وهـــي عمـــاد الديـــن قـــال: أحسنـــت فأخبرينــــي مــــا مفتــــاح الصلــــاة
قالــت: الوضــوء قــال: مــا مفتــاح الوضــوء قالــت: التسميـــة قـــال: فمـــا مفتـــاح التسميـــة قالـــت: اليقيـــن
===
قـــال: فمـــا مفتـــاح اليقيـــن قالـــت: التوكـــل قـــال: فمـــا مفتـــاح التوكـــل قالـــت: الرجـــاء قـــال: فمـــا مفتـــاح
الرجــاء قالــت: الطاعــة قــال: فمــا مفتــاح الطاعـــة قالـــت: الاعتـــراف للـــه تعالـــى بالوحدانيـــة والإقـــرار
له بالربوبية.
قــال: أحسنــت فأخبرينــي عــن فــروض الوضــوء قالــت: ستــة أشيــاء علـــى مذهـــب الإمـــام الشافعـــي
محمـد بـن ادريـس رضـي اللـه عنـه النيــة عنــد غســل الوجــه وغســل اليديــن مــع المرفقيــن ومســح بعــض
الــرأس وغســل الرجليــن مــع الكعبيــن والترتيــب وسنتــه عشــرة أشيــاء: التسميـــة وغســـل الكفيـــن قبـــل
إدخالهمـــــا الإنـــــاء والمضمضــــــة والاستنشــــــاق ومســــــح بعــــــض الــــــرأس ومســــــح الأذنيــــــن ظاهرهمــــــا
وباطنهمــا بمــاء جديــد وتخليــل اللحيـــة الكثـــة وتخليـــل أصابـــع اليديـــن والرجليـــن وتقديـــم اليمنـــى علـــى
اليســرى والطهــارة ثلاثــاً ثلاثــاً والموالــاة فــإذا فــرغ مــن الوضــوء قــال: أشهــد أن لا إلــه إلا اللـــه وحـــده لا
شريـــك لـــه وأشهـــد أن محمـــداً عبـــده ورسولـــه اللهـــم اجعلنـــي مــــن التوابيــــن واجعلنــــي مــــن المطهريــــن
سبحانــك اللهــم وبحمــدك أشهــد أن لا إلــه إلا أنـــت أستغفـــرك وأتـــوب إليـــك فقـــد جـــاء فـــي الحديـــث
الشريـف عــن النبــي صلــى اللــه عليــه وسلــم أنــه قــال: مــن قالهــا عقــب كــل وضــوء فتحــت لــه أبــواب
الجنــة الثمانيــة يدخــل مــن أيهــا شــاء. قــال: أحسنــت فغــذا أراد الإنســان الوضــوء مـــاذا يكـــون عنـــده
مــن الملائكــة والشياطيــن قالــت: إذا تهيــأ الإنســان للوضــوء أتــت الملائكــة عـــن يمينـــه والشياطيـــن عـــن
===
شماله فإذا ذكـر اللـه تعالـى فـي ابتـداء الوضـوء فـرت منـه الشياطيـن واستولـت عليـه الملائكـة بخيمـة مـن
نـور لهـا أربعـة أطنـاب مـع كــل طنــب ملــك يسبــح اللــه تعالــى ويستغفــر لــه مــا دام فــي إنصــات أو ذكــر
فإن لم يذكـر اللـه عـز وجـل عنـد ابتـداء الوضـوء ولـم ينصـت استولـت عليـه الشياطيـن وانصرفـت عنـه
الملائكـة ووسـوس لـه الشيطـان حتـى يدخـل عليـه الشـك والنقـص فـي وضوئـه. فقــد قــال عليــه الصلــاة
والسلــام: الوضــوء الصالــح يطــرد الشيطــان ويؤمـــن مـــن جـــور السلطـــان وقـــال أيضـــاً: مـــن نزلـــت عليـــه
بليــة وهــو علــى غيــر وضــوء فــلا يلومــن إلا نفســه قــال: أحسنــت فأخبرينــي عمـــا يفعـــل الشخـــص إذا
استيقــظ مــن منامــه قالــت: إذا استيقــظ الشخــص مــن منامــه فليغســل يديــه ثلاثــاً قبــل إدخالهمــا فــي
الإنـاء قـال: أحسنـت فأخبرينـي عـن فــروض الغســل وعــن سننــه قالــت: فــروض الغســل النيــة وتعميــم
البــدن بالمــاء إلــى جميــع الشعــر والبشــرة وأمــا سننــه فلوضــوء قبلــه والتدليـــك وتخليـــل الشعـــر وتأخيـــر
غسـل الرجليـن فـي قـول آخـر الغسـل قـال ك أحسنــت. وأدرك شهــرزاد الصبــاح فسكتــت عــن الكلــام
المباح.
وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملـــك السعيـــد أن الجاريـــة لمـــا أخبـــرت الفقيـــه عـــن فـــروض الغســـل وسننـــه قـــال:
===
أحسنــت فأخبرينـــي عـــن أسبـــاب التيمـــم وفرضـــه وسننـــه قالـــت: أمـــا أسبابـــه فسبعـــة: فقـــد المـــاء
والخـوف والحاجــة إليــه وإضلالــه فــي رحلــة والمــرض والجبيــرة والجــراح. وأمــا فروضــه فأربعــة: النيــة
والتــراب وضربــة للوجــه وضربــة لليديـــن وأمـــا سننـــه فالتسميـــة وتقديـــم اليمنـــى علـــى اليســـرى قـــال:
أحسنـــت فأخبرينـــي عــــن شــــروط الصلــــاة وعــــن أركانهــــا وسننهــــا قالــــت: أمــــا شروطهــــا فخمســــة
أشيـاء: طهـارة الأعضـاء وستـر العــورة ودخــول الوقــت يقينــاً أو ظنــاً واستقبــال القبلــة والوقــوف علــى
مكـــان طاهـــر وأمـــا أركانهـــا فالنيـــة وتكبيـــرة الإحـــرام والقيـــام مـــع القـــدرة وقـــراءة الفاتحـــة وبســــم اللــــه
الرحمـن الرحيـم آيـة منهـا علــى مذهــب الإمــام الشافعــي والركــوع والطمأنينــة فيــه والاعتــدال والطمأنينــة
فيـه والسجـود والطمأنينـة فيـه والجلـوس بيـن السجدتيــن والطمأنينــة فيــه والتشهــد الأخيــر والجلــوس لــه
والصلـاة علـى النبـي صلــى اللــه عليــه وسلــم فيــه والتسليمــة الأولــى ونيــة الخــروج مــن الصلــاة فــي قــول
وأمــا سننهــا فالــأذان والإقامــة ورفــع اليديــن عنــد الإحـــرام ودعـــاء الإفتتـــاح والتعـــوذ والتأميـــن وقـــراءة
السـورة بعـد الفاتحـة والتكبيـرات عنـد الإنتقالـات وقـول سمـع اللـه لمـن حمـده ربنـا لـك الحمــد والجهــر فــي
موضعــه والإســرار فــي موضعــه والتشهــد الأولــى والجلــوس لــه والصلــاة علــى النبــي صلـــى اللـــه عليـــه
وسلـم فيـه والصلـاة علـى الـآل فـي التشهــد الأخيــر والتسليمــة الثانيــة قــال: أحسنــت فأخبرينــي فبمــاذا
تجـــب الزكـــاة قالـــت: تجـــب فـــي الذهـــب والفضـــة والإبـــل والبقـــر والغنـــم والحنطـــة والشعيـــر والدخـــن
===
والــذرة والفــول والحمــص والــأرز والزبيــب والتمــر قــال أحسنــت فأخبرينــي فـــي كـــم تجـــب الزكـــاة فـــي
الذهـــب قالـــت: لا زكـــاة فيمـــا دون عشريـــن مثقـــالاً فـــإذا بلغـــت العشريـــن ففيهـــا نصــــف مثقــــال ومــــا
زاد فبحسابـه قـال: فأخبرينـي فـي كـم يجـب الزكـاة فـي الإبــل قالــت: فــي كــل خمــس شــاة إلــى خمــس
وعشريـن فيهـا بنـت مخـاض قـال: أحسنـت فأخبرينـي فـي كـم تجـب الزكـاة فـي الــورق قــال: ليــس فيمــا
دون مائتـــي درهـــم فــــإذا بلغــــت المائتيــــن فيهــــا خمســــة دراهــــم وان زاد فبحسابــــه قــــال: أحسنــــت
فأخبرينـي فـي كـم تجـب الزكـاة فـي الشـاة قالـت: إذا بلغـت أربعيـن فيهـا شـاة قـال: أحسنـت فأخبرينــي
عــن الصــوم وفرضــه قالــت: أمــا فــروض الصــوم فالنيــة والإمســاك عــن الأكــل والشـــرب والجمـــاع وتعـــم
القـــيء وهـــو واجـــب علـــى كـــل مكلـــف خـــال عـــن الحيـــض والنفـــاس ويجـــب رؤيـــة الهلـــال أو بإخبـــار
عـدل يقـع فــي قلــب المخبــر صدقــه ومــن واجباتــه تثبيــت النيــة وأمــا سننــه فتعجيــل الفطــور وتأخيــر
السحــور وتــرك الكلــام إلا فــي الخيــر والذكـــر وتلـــاوة القـــرآن قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن شـــيء لا
يفســد الصــوم قالــت: الأذهــان والإكتحـــال وغبـــار الطريـــق وابتلـــاع الريـــق وخـــروج المنـــي بالإحتلـــام أو
النظــر لامــرأة أجنبيــة والفصــادة والحجامــة هــذا كلــه لا يفســد الصــوم. قــال: أحسنــت فأخبرينــي عـــن
صلـاة العيديـن قالـت: ركعتـان وهمـا سنـة مـن غيـر آذان وإقامــة ولكــن يقــول الصلــاة جامعــة ويكبــر فــي
الأولـى سبعـاً ى تكبيـرة الإحـرام وفـي الثانيـة خمسـاً سـوى تكبيـرة القيـام علـى مذهـب الإمــام الشافعــي
===
وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الجاريــة لمــا أخبــرت الفقيــه عــن صلــاة العيديــن قــال لهــا: أحسنــت
فأخبرينــي عــن صلــاة كســـوف الشمـــس وخســـوف القمـــر قالـــت: ركعتـــان بغيـــر آذان ولا إقامـــة يأتـــي
ركعــة بقياميــن وركوعيــن وسجوديــن ويجلــس وينشــد ويسلــم ثــم يخطــب ويستغفــر اللـــه تعالـــى مكـــان
التكبيــر فــي خطبتــي العيديــن ويحــول رداءه بــأن يجعــل أعلــاه أسفلــه ويدعــوا ويتضــرع قــال: أحسنــت
فأخبرينـي عـن صلـاة الوتـر قالـت: الوتـر أقلـه ركعــة واحــدة وأكثــره إحــدى عشــر ركعــة قــال: أحسنــت
فأخبرينــي عـــن صلـــاة الضحـــى قالـــت: أقلهـــا ركعتـــان وأكثرهـــا اثنتـــي عشـــر ركعـــة قـــال: أحسنـــت
فأخبرينـــي عـــن الإعتكـــاف قالـــت: هـــو سنـــة قـــال: فمــــا شروطــــه قالــــت: النيــــة وأن لا تخــــرج مــــن
المسجد إلا لحاجة ولا يباشر النساء وأن يصوم ويترك الكلام.
قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي بمـــاذا يجـــب الحـــج قالــــت: بالبلــــوغ والعقــــل والإسلــــام والاستطاعــــة وهــــو
واجــب فــي العمــر مــرة واحــدة قبــل المــوت قــال: فمــا فــروض الحــج قالـــت: الإحـــرام والوقـــوف بعرفـــة
والطـواف والسعــي والحلــق والتقصيــر قــال: فمــا فــروض العمــرة قالــت: الإحــرام بهــا وطوافهــا وسعيهــا
قــال: فمــا فــروض الإحــرام قالــت: التجــرد مــن المخيــط واجتنــاب الطيــب وتــرك حلــق الـــرأس وتقليـــم
===
الأظافـــر وقتـــل الصيـــد والنكــــاح قــــال: فمــــا سنــــن الحــــج قالــــت: التلبيــــة وطــــواف القــــدوم والــــوداع
والمبيـــت بالمزدلفــــة ورمــــي الجمــــار. قــــال: أحسنــــت فمــــا الجهــــاد ومــــا أركانــــه قالــــت: أمــــا أركانــــه
فخــروج الكفــار علينــا ووجــود الإمــام والعــدة والثبـــات عنـــد لقـــاء العـــدو وأمـــا سننـــه فهـــو التحريـــض
علــى القتــال لقولــه تعالــى: يــا أيهــا النبــي حــرض المؤمنيــن علــى القتـــال قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن
فــروض البيــع وسننــه قالــت: أمــا فــروض البيــع فالإيجـــاب والقبـــول وأن يكـــون البيـــع مملوكـــاً منتفعـــاً بـــه
مقــدوراً علــى تسليمــه وتــرك الربــا وأمــا سننــه فالإقالــة والخيـــار قبـــل التفريـــق لقولـــه صلـــى اللـــه عليـــه
وسلـم: البيعـان بالخيـار مـا لـم يتفرقـا قـال: أحسنـت فأخبرينـي عـن شــيء لا يجــوز بيــع بعضــه ببعــض
قالـت: حفظـت فـي ذلـك حديثـاً صحيحـاً عـن نافـع عـن رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلــم أنــه نهــى
عــن بيــع التمــر بالرطــب والتيــن باليابــس والقديـــد باللحـــم والزبـــد بالسمـــن وكـــل مـــا كـــان مـــن صنـــف
واحد مأكول فلا يجوز بيع بعضه ببعض.
فلمـا سمـع الفقيـه كلامهـا وعـرف أنهــا ذكيــة فطنــة حاذقــة عالمــة بالفقــه والحديــث والتفسيــر وغيــر ذلــك
قـال فـي نفسـه: لا بـد أن أتحيـل عليهـا حتـى أغلبهــا فــي مجلــس أميــر المؤمنيــن فقــال لهــا: يــا جاريــة مــا
معنــى الوضــوء فــي اللغــة قالــت: الوضــوء فــي اللغــة النظافــة والخلــوص مــن الأدنــاس قــال: فمــا معنـــى
الصلــاة فــي اللغــة قالــت: الدعــاء بخيــر قــال: فمــا معنــى الغســل فــي اللغــة قالــت: التطهيــر قـــال: فمـــا
===
معنــى الصــوم فــي اللغــة قالــت: الإمســاك قــال: فمــا معنــى الزكــاة فــي اللغــة قالــت: الزيـــادة قـــال: فمـــا
معنــى الحــج فــي اللغــة قالــت: القصــد قــال: فمــا معنـــى الجهـــاد فـــي اللغـــة قالـــت: الدفـــاع فانقطعـــت
حجة الفقيه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الفقيـه لمـا انقطعــت حجتــه قــام علــى قدميــه وقــال: أشهــد اللــه يــا
أميــر المؤمنيــن بــأن الجاريــة أعلــم منــي فــي الفقــه فقالــت لــه الجاريــة: أسألــك عــن شــي فأتنــي جوابــه
سريعــاً إن كنـــت عارفـــاً قـــال: اسألـــي قالـــت: مـــا سهـــام الديـــن قـــال: هـــي عشـــرة: الأولـــى الشهـــادة
وهـــي الملـــة الثانـــي الصلـــاة وهــــي الفطــــرة الثالــــث الزكــــاة وهــــي الطهــــارة الرابــــع الصــــوم وهــــي الجنــــة
الخامــس الحــج وهــي الشريعــة الســادس الجهــاد وهــي الكفايــة السابــع والثامــن الأمــر بالمعـــروف والنهـــي
عن المنكر وهما الغيرة التاسع الجماعة وهي الألفة العاشر طلب العلم وهي الطريق الجيدة.
قالــت: أحسنــت وقــد بقيـــت عليـــك مسألـــة فمـــا أصـــول الإسلـــام قـــال: هـــي أربعـــة: صحـــة العقـــد
وصدق العقد وحفظ الحد والوفاء بالعهد.
قالـت: بقيـت مسألـة أخــرى فــإن أجبــت وإلا أخــذت ثيابــك قــال: قولــي يــا جاريــة قالــت: فمــا فــروع
===
الإسلـام فسكـت ساعـة ولـم يجــب بشــيء فقالــت: انــزع ثيابــك وأنــا أفسرهــا لــك قــال أميــر المؤمنيــن:
فسريهـا وأنـا أنـزع لـك مـا عليـه مـن الثيـاب قالـت: اثنـي وعشـرون فرعـاً التمسـك بكتـاب اللـه والإقتـداء
برسولــه صلــى اللــه عليــه وسلــم وكــف الــأذى وأكــل الحلــال واجتنـــاب الحـــرام ورد المظالـــم إلـــى أهلهـــا
والتوبــة والفقــه فــي الديــن وحـــب الجليـــل واتبـــاع التنزيـــل والتأهـــب للرحيـــل وقـــوة اليقيـــن والعفـــو عنـــد
المقـدرة والقـوة عنـد الضعـف والصبـر عنـد المصيبـة ومعرفـة اللـه تعالـى ومعرفـة مـا جــاء بــه نبيــه صلــى
الله عليه وسلم ومخالفة اللعين إبليس ومجاهدة النفس ومخالفتها والإخلاص لله.
فلمـا سمــع أميــر المؤمنيــن ذلــك منهــا أمــر أن تنــزع ثيــاب الفقيــه وطيلسانــه فنزعهمــا ذلــك الفقيــه وخــرج
مقهــوراً منهــا خجــلاً مــن بيــن يــدي أميــر المؤمنيــن ثــم قــام رجــل آخــر وقــال: يــا جاريـــة اسمعـــي منـــي
مسائــل قليلــة قالــت لــه: قــل قــال: فمــا شــرط صحــة المسلـــم قالـــت: القـــدر المعلـــوم والجنـــس المعلـــوم
والأجــل المعلــوم قــال: أحسنــت فمــا فــروض الأكــل وسننــه قالــت: فــروض الأكــل الإعتـــراف بـــان اللـــه
تعالـى رزقـه وأطعمــه وسقــاه والشكــر للــه تعالــى علــى ذلــك قــال: فمــا الشكــر قالــت: صــرف العبــد
لجميـع مـا أنعـم اللـه بــه عليــه فيمــا خلــق لأجلــه قــال: فمــا سنــن الأكــل قالــت: التسميــة وغســل اليديــن
والجلـوس علـى الـورك الأيسـر والأكـل بثلـاث أصابـع والكــل ممــا لــك قــال:: أحسنــت فأخبرينــي مــا آداب
الأكــل قالــت: أن تصغــر اللقمــة وتقــل النظــر إلــى جليســك قـــال: أحسنـــت. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح
===
وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة لمــا سئلـــت عـــن آداب الأكـــل وذكـــرت الجـــواب قـــال لهـــا
الفقيـــه السائـــل: أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن عقائـــد القلـــب وأضدادهـــا قالـــت: هـــن ثلــــاث وأضدادهــــا
ثلــاث: الأولــى اعتقــاد الإيمــان وضدهــا مجانيــة الكفــر والثانيــة اعتقــاد السنـــة وضدهـــا مجانيـــة البدعـــة
والثالثــة اعتقـــاد الطاعـــة وضدهـــا مجانيـــة المعصيـــة قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن شـــروط الوضـــوء
قالـــت: الإسلـــام والتميـــز وطهـــور المـــاء وعـــدم المانـــع الحســـن وعـــدم المانـــع الشرعـــي قــــال: أحسنــــت
فأخبرينـي عـن الإيمـان قالـت: الإيمـان ينقسـم إلـى تسعـة أقسـام: إيمـان بالمعبــودة وإيمــان بالعبوديــة وإيمــان
بالخصوصيـــة وإيمـــان بالقبضتيـــن وإيمـــان بالناســـخ وإيمـــان بالمنســـوخ وإن تؤمـــن باللـــه وملائكتـــه وكتبـــه
ورسلـه وتؤمـن بالقضـاء والقــدر خيــره وشــره وحلــوه ومــره. قــال: أحسنــت فأخبرينــي عــن ثلــاث تمنــع
ثلاثـاً قالـت: نعـم. روي عـن سفيــان الثــوري أنــه قــال: ثلــاث تذهــب ثلاثــاً: الاستخفــاف بالصالحيــن
يذهــــب الآخــــرة والاستخفــــاف بالملــــوك يذهــــب الــــروح والاستخفــــاف بالنفقــــة يذهــــب المــــال قـــــال:
أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن مفاتيـــح السمـــوات وكـــم لهـــا مـــن بـــاب قالـــت: قـــال اللـــه تعالــــى: وفتحــــت
السمـاء فكانــت أبوابــاً. وقــال عليــه الصلــاة والسلــام: وليــس يعلــم عــدة أبــواب السمــاء إلا الــذي خلــق
===
السمـاء ومـا مـن أحـد مـن بنـي آدم إلا ولـه بابــان فــي السمــاء بــاب ينــزل منــه رزقــه وبــاب يصعــد منــه
عمله ولا يغلق باب رزقه حتى ينقطع أجله ولا يغلق باب عمله حتى تصعد روحه.
قــال: أحسنــت فأخبرينــي عــن شــيء وعــن نصــف شــيء وعــن لا شــيء قالــت: الشــيء هــو المؤمــن
ونصــف الشــيء هــو المنافــق وأن لا شــيء هــو الكافــر قــال: أحسنــت فأخبرينــي عــن القلــوب قالــت:
قلــب سليــم وقلــب سقيــم وقلــب منيــب وقلــب نذيــر وقلــب منيــر فالقلـــب السليـــم هـــو قلـــب الخليـــل
والقلــب السقيــم هــو قلــب الكافــر والقلــب المنيــب هــو قلــب المتقيــن الخائفيــن والقلــب النذيــر هــو قلــب
سيدنـا محمـد صلـى اللـه عليــه وسلــم والقلــب المنيــر هــو قلــب مــن يتبعــه وقلــوب العلمــاء ثلاثــة: قلــب
متعلــق بالدنيــا وقلــب متعلــق بالآخــرة وقلــب متعلــق بمولــاه وقيــل: إن القلــوب ثلاثــة: قلــب معلــق وهـــو
قلــب الكافــر وقلــب معــدوم وهــو قلــب المنافـــق وقلـــب ثابـــت وهـــو قلـــب المؤمـــن وقيـــل هـــي ثلاثـــة:
قلــب مشــروح بالنــور والإيمــان وقلــب مجــروح مــن خــوف الهجـــران وقلـــب خائـــف مـــن الخذلـــان قـــال:
أحسنت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة لمــا سألهــا الفقيـــه الثانـــي وأجابتـــه وقـــال لهـــا: أحسنـــت
===
قالـت: يـا أميـر المؤمنيـن إنـه قـد سألنـي حتـى عيـي وأنــا أسألــه مسألتيــن فــإن أتــى بجوابهمــا فــذاك وإلا
أخـذت ثيابـه وانصـرف بسلـام فقـال لهـا الفقيـه: سلينـي مــا شئــت قالــت: فمــا تقــول فــي الإيمــان قــال:
الإيمــان إقــرار باللســان وتصديــق بالقلــب وعمــل بالجــوارح وقــال عليــه الصلــاة والسلــام: لا يكمـــل المـــرء
فــي الإيمــان حتــى يكمــل فيــه خمــس خصــال التوكــل علــى اللــه والتفويــض إلــى اللــه والتسليــم لأمــر اللــه
والرضــا بقضــاء اللــه وأن تكــون أمــوره للــه فإنــه مــن أحــب اللــه وأعطــى للـــه ومنـــع للـــه فقـــد استكمـــل
الإيمـان. قالـت: فأخبرنـي عـن فـرض الفـرض وعـن فـرض فـي ابتـداء كـل فـرض وعـن فـرض يحتـاج إليــه
كـل فـرض وعـن سنـة داخلـة فـي الفـرض وعـن سنـة يتـم بهـا الفـرض فسكـت ولـم يجـب بشـيء فأمرهــا
أميـر المؤمنيـن بـأن تفسرهــا وأمــره أن ينــزع ثيابــه ويعطيهــا إياهــا فعنــد ذلــك قالــت: يــا فقيــه أمــا فــرض
الفـرض فمعرفـة اللـه تعالـى وأمـا الفـرض الـذي فـي ابتــداء كــل فــرض فهــي شهــادة أن لا إلــه إلا اللــه وأن
محمـداً رسـول اللـه. وأمـا الفـرض الـذي يحتـاج إليـه كــل فــرض فهــو الوضــوء وأمــا الفــرض المستغــرق كــل
فــرض فهــو الغســل مــن الجنابــة وأمــا السنــة الداخلــة فــي الفــرض فهــي تخليــل الأصابـــع وتخليـــل اللحيـــة
الكثيفـة وأمـا السنـة التـي يتـم بهـا الفـرض فهـو الإختتـان فعنـد ذلـك تبيـن عجـز الفقيـه وقـام علـى قدميـه
وقـال: أشهــد اللــه يــا أميــر المؤمنيــن أن هــذه الجاريــة أعلــم منــي بالفقــه وغيــره ثــم نــزع ثيابــه وانصــرف
مقهوراً.
===
وأمــا حكايتهــا مــع المقــرئ فإنهــا التفتــت إلــى مــن بقــي مـــن العلمـــاء الحاضريـــن وقالـــت: أيكـــم الأستـــاذ
المقـــرئ بالعالـــم بالقـــرآن السبـــع والنحـــو واللغـــة فقـــام إليهـــا المقـــرئ وجلـــس بيـــن يديهـــا وقـــال لهـــا: هـــل
قـــرأت كتـــاب اللـــه تعالـــى وأحكمـــت معرفـــة آياتـــه وناسخـــه ومنسوخــــه ومحكمــــه ومتشابهــــه ومكيــــه
ومدنيــه وفهمــت تفسيــره وعرفتيــه علــى الروايــات والأصــول فــي القــرآن قالــت: نعـــم. قـــال: أخبرينـــي
عــن عــدد ســور القــرآن وكــم فيــه مــن عشــر وكــم فيــه مــن آيــات وكــم فيــه مـــن حـــرف وكـــم فيـــه مـــن
سجـدة وكـم فيـه مـن نبـي مذكـور وكـم فيـه مـن سـورة مدنيـة وكـم فيــه مــن ســورة مكيــة وكــم فيــه مــن
طيــر قالــت: يــا سيــدي أمــا ســور القــرآن فمائــة وأربـــع عشـــرة ســـورة المكـــي منهـــا سبعـــون والمدنـــي
أربـــع وأربعـــون وأمـــا أعشـــاره فستمائـــة عشـــر واحـــد وعشـــرون عشـــراً وأمـــا الآيــــات فســــت آلــــاف
ومائتـان آيـة وأمــا أحرفــه فثلاثــة وعشــرون ألفــاً وستمائــة وسبعــون حرفــاً وللقــارئ بكــل حــرف عشــر
حسنـــات وأمـــا السجـــدات فأربـــع عشـــر سجـــدة. وأدرك شهـــرزاد الصبــــاح فسكتــــت عــــن الكلــــام
المباح.
وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن لمــا سألهــا المقــرئ عـــن القـــرآن الكريـــم أجابتـــه وقالـــت لـــه: وأمـــا
===
الأنبيـــاء الذيـــن ذكــــرت أسماؤهــــم فــــي القــــرآن فخمســــة وعشــــرون نبيــــاً وهــــم: آدم ونــــوح وإبراهيــــم
وإسماعيــل واسحــق ويعقــوب ويوســف واليســع ولــوط وصالــح وهــود وشعيــب وداود وسليمـــان وذو
الكفـــل وإدريـــس وإليــــاس ويحيــــى وزكريــــا وأيــــوب وموســــى وهــــارون ومحمــــد صلــــوات اللــــه عليهــــم
أجمعيــــن وأمــــا الطيــــر فهــــن تســــع قــــال: مــــا اسمهــــن قالـــــت: البعـــــوض والذبـــــاب والنمـــــل والهدهـــــد
والغراب والجراد والأبابيل وطير عيسى عليه السلام وهو الخفاش.
قـــال: أحسنـــت أي ســـورة فـــي القـــرآن أفضـــل قالـــت: ســـورة البقـــرة قـــال: فـــأي آيــــة أعظــــم قالــــت:
آيــة الكرســي وهــي خمســون كلمــة مــع كــل كلمــة خمســون بركــة قــال: فــأي آيــة فيهــا تســع آيـــات قالـــت
قوله تعالى: )إن فـي خلـق السمـوات والـأرض واختلـاف الليـل والنهـار والفلـك التـي تجـري فـي البحـر بمـا
ينفــع النــاس( إلــى آخــر الآيــة. قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي أي آيـــة أعـــدل قالـــت: إن اللـــه يأمـــر بالعـــدل
والإحســـان وإيتـــاء ذي القربـــى وينهـــى عـــن الفحشـــاء والمنكـــر والبغـــي قـــال: فـــأي آيـــة أطمـــع قالـــت:
قولــه تعالــى: )أيطمــع كــل امــرئ منهــم أن يدخــل جنــة النعيـــم( قـــال: فـــأي جنـــة أرجـــى قالـــت: قولـــه
تعالــى: )قــل يــا عبــادي الذيــن أسرفــوا علــى أنفسهــم لا تقنطـــوا مـــن رحمـــة اللـــه إن اللـــه يغفـــر الذنـــوب
جميعــاً إنــه هــو الغفــور الرحيـــم(. قـــال: أحسنـــت فأخبرينـــي بـــأي قـــراءة تقرأيـــن قالـــت: بقـــراءة أهـــل
الجنـــة وهـــي قـــراءة نافـــع قـــال: فـــأي آيـــة كـــذب فيهـــا الأنبيـــاء قالـــت: قولـــه تعالــــى: )وجــــاؤوا علــــى
===
قميصــه بــدم كــذب( وهــم أخــوة يوســف قــال: فأخبرينـــي أي آيـــة صـــدق فيهـــا الكفـــار قالـــت: قولـــه
تعالــى: )وقالــت اليهــود ليســت النصــارى علــى شــيء وقالــت النصــارى ليســت اليهـــود علـــى شـــيء
وهــم يتلــون الكتــاب( فهــم صدقــوا جميعــاً قــال: فمــا آيــة قالهــا اللــه لنفســه قالــت: قولــه تعالــى: )ومــا
خلقــت الجــن والأنــس إلا ليعبـــدون( قـــال: فـــأي آيـــة فيهـــا قـــول الملائكـــة قالـــت: قولـــه تعالـــى: )ونحـــن
نسبــح بحمــدك ونقــدس لــك( قــال: فأخبرينــي عــن أعــوذ باللـــه مـــن الشيطـــان الرجيـــم ومـــا جـــاء فيهـــا
قالـــت: التعـــوذ واجـــب أمـــر اللـــه بـــه عنـــد القـــراءة والدليـــل عليـــه قولـــه تعالـــى: )فاستعــــذ باللــــه مــــن
الشيطان الرجيم(.
قــال: أخبرينــي مــا لفــظ الاستعــاذة ومــا الخلـــاف فيهـــا قالـــت: منهـــم مـــن يستعيـــذ بقولـــه: أعـــوذ باللـــه
السميـع العليـم مـن الشيطـان الرجيــم ومنهــم مــن يقــول: أعــوذ باللــه القــوي والأحســن مــا نطــق بــه القــرآن
العظيــم ووردت بــه السنــة وكـــان صلـــى اللـــه عليـــه وسلـــم إذا استفتـــح القـــرآن قـــال: أعـــوذ باللـــه مـــن
الشيطــان الرجيــم. وروي عــن نافــع عــن أبيــه قــال: كــان رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلــم إذا قـــام
يصلـي فـي الليـل قـال: اللـه أكبـر كبيـراً والحمـد للــه كثيــراً وسبحــان اللــه بكــرة وأصيــلاً ثــم يقــول: أعــوذ
بالله من الشيطان الرجيم ومن همزات الشياطين ونزعاتهم.
وروي عـن ابـن عبـاس رضـي اللـه قـال: أول مــا نــزل جبريــل علــى النبــي صلــى اللــه عليــه وسلــم علمــه
===
الإستعـاذة وقـال لـه: قـل يـا محمـد أعـوذ باللــه السميــع العليــم ثــم قــل بســم اللــه الرحمــن الرحيــم ثــم اقــرأ
باســـم ربـــك الـــذي خلـــق خلـــق الإنســـان مـــن علـــق. فلمـــا سمـــع المقـــرئ كلامهـــا تعجــــب مــــن لفظهــــا
وفصاحتها ثم قال لهـا: يـا جاريـة مـا تقوليـن فـي قولـه تعالـى: بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم هـل هـي آيـة مـن
آيــات القــرآن قالــت: نعــم آيــة مــن القــرآن فــي النمــل وآيــة بيــن كــل سورتيــن والاختلــاف فــي ذلـــك بيـــن
العلماء كثير قال: أحسنت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الأربعين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيــد أن الجاريــة لمــا أجابــت المقــرئ وقالــت: إن بســم اللــه الرحمــن الرحيــم
فيها إختلاف كثير بين العلمـاء قـال: أحسنـت فأخبرينـي لـم لا تكتـب بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم فـي أول
سـورة بـراءة قالـت: لمـا نزلـت سـورة بـراءة بنقـض العهــد الــذي كــان بينــه صلــى اللــه عليــه وسلــم وبيــن
المشتركيـن وجـه لهـم النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم علـي بـن أبـي طالـب كـرم اللـه وجهـه فــي يــوم موســم
بسـورة بـراءة فقرأهـا عليهـم ولـم يقـرأ بسـم اللـه الرحمــن الرحيــم. قــال: فاخبرينــي عــن فضــل بســم اللــه
الرحمـن الرحيـم وبركتهـا قالـت: روي عـن النبــي صلــى اللــه عليــه وسلــم أنــه قــال: مــا قــرأت بســم اللــه
الرحمـن الرحيــم علــى مريــض إلا عوفــي مــن مرضــه. وقيــل: لمــا خلــق اللــه العــرش اضطــرب اضطرابــاً
===
عظيمــاً فكتـــب عليـــه بســـم اللـــه الرحمـــن الرحيـــم فسكـــن اضطرابـــه. ولمـــا نزلـــت بســـم اللـــه الرحمـــن
الرحيــم علــى رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلــم قــال: أمنــت مــن ثلاثــة: الخســـف والمســـح والغـــرق
وفضلهـا عظيــم وبركتهــا كثيــرة يطــول شرحهــا وقــد روي عــن رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلــم أنــه
قــال: يؤتــى برجــل يــوم القيامــة فيحاســب فــلا يلقــى لــه حسنــة فيؤمــر بــه إلــى النــار فيقــول: إلهــي مـــا
أنصفتنـي فيقـول اللـه عـز وجـل: ولـم ذلــك فيقــول: يــا رب لأنــك سميــت نفســك الرحمــن الرحيــم وتريــد
أن تعذبنـي بالنـار فقـال اللـه جـل جلالـه: أنــا سميــت نفســي الرحمــن الرحيــم أمضــوا بعبــدي إلــى الجنــة
برحمتي وأنا أرحم الراحمين.
قــال: أحسنــت فاخبرينــي عــن أول بــدء بســم اللــه الرحمــن الرحيــم قالــت: لمــا أنــزل اللــه تعالـــى القـــرآن
كتبــوا باسمــك اللهــم فلمــا أنــزل اللــه تعالــى قــل ادعــوا اللــه وادعــوا الرحمــن أيـــا مـــا ندعـــوا فلـــه الأسمـــاء
الحسنــى كتبــوا بســم اللــه الرحمــن الرحيــم فلمــا أنــزل وإلهكــم إلــه واحــد لا إلــه إلا هــو الرحمـــن الرحيـــم
كتبوا بسم الله الرحمن الرحيم.
فلمــا سمــع المقــرئ كلامهــا أطــرق رأســه وقــال فــي نفســه: إن هــذا لعجـــب عجيـــب وكيـــف تكلمـــت
هـذه الجاريـة فـي بـدء بسـم اللـه الرحمـن الرحيــم واللــه لا بــد مــن أن أتحيــل عليهــا لعلــي أغلبهــا ثــم قــال
لهــا: يــا جاريــة هــل أنــزل اللــه القــرآن جملــة واحــدة أو أنزلــه متفرقــاً قالــت: نــزل بــه جبريــل الأميــن عليــه
===
السلـام مـن عنـد رب العالميــن علــى نبيــه محمــد سيــد المرسليــن وخاتــم النبييــن بالأمــر والنهــي والوعــد
والوعيـد والأخبـار والأمثــال فــي عشريــن سنــة آيــات متفرقــات علــى حســب الوقائــع. قــال: أحسنــت
فأخبرينـي عـن أول سـورة نزلـت علـى رسـول اللـه صلـى اللـه عليــه وسلــم قالــت: فــي قــول ابــن عبــاس
سـورة العلـق وفـي قـول ابـن جابـر بـن عبـد اللـه سـورة المدثـر ثـم أنزلـت السـور والآيـات بعــد ذلــك قــال:
فأخبرينــي عــن آخــر آيــة نزلــت عليــه قالــت: هــي آيــة الربــا وقيــل: إذا جــاء نصــر اللــه والفتــح. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والأربعين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الجاريـة لـم أجابـت المقـرئ عـن آخـر آيـة نزلـت فـي القــرآن قــال لهــا:
أحسنـت فأخبرينـي عـن عـدد الصحابــة الذيــن جمعــوا القــرآن علــى عهــد رســول اللــه صلــى اللــه عليــه
وسلـم قالـت: هـم أربعـة: أبـي كعـب وزيـر بـن ثابـت وأبـو عبيـدة عامــر بــن الجــراح وعثمــان بــن عفــان
رضـي اللــه عنهــم أجمعيــن قــال: أحسنــت فأخبرينــي عــن القــراء الذيــن تؤخــذ عنهــم القــراءات قالــت:
هم أربعة: عبد الله بن مسعـود وأبـي كعـب ومعـاذ بـن جبـل وسالـم بـن عبـد اللـه قـال: فمـا تقوليـن فـي
قولـــه تعالـــى: )ومـــا ذبـــح علـــى النصـــب( قالـــت: هـــي الأصنـــام التـــي تنصـــب وتعبـــد مـــن دون اللـــه
===
قـال: فمـا تقوليـن فـي قولـه تعالـى: )تعلـم مـا فـي نفسـي ولا أعلـم مـا فـي نفسـك( قالـت: تعلـم حقيقتـي
ومــا عنــدي ولا أعلــم مــا عنــدك والدليــل علــى هـــذا قولـــه تعالـــى: )إنـــك أنـــت علـــام الغيـــوب( وقيـــل
تعلـم عينـي ولا أعلـم عينـك قـال: فمـا تقوليـن فـي قولـه تعالــى: )يــا أيهــا الذيــن آمنــوا لا تحرمــوا طيبــات
مــا أحــل اللــه لكــم( قالــت: حدثنــي الشيــخ رحمــه اللــه تعالــى عــن الضحـــاك أنـــه قـــال: هـــم قـــوم مـــن
المسلميـن قالـوا: أنقطـع مذاكيرنـا ونلبـس المســوح فنزلــت هــذه الآيــة وقــال قتــادة: أنهــا نزلــت فــي جماعــة
مـن أصحــاب رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلــم وهــم: علــي بــن أبــي طالــب وعثمــان بــن مصعــب
وغيرهمـا وقالـوا: نخصـي أنفسنـا ونلبـس الشعـر ونترهـب فنزلـت هـذه الآيــة قــال: فمــا تقوليــن فــي قولــه
تعالى: )واتخـذ اللـه إبراهيـم خليـلاً( قالـت: الخليـل المحتـاج الفقيـر وفـي قـول آخـر هـو المحـب المنقطـع إلـى
اللـه تعالـى الـذي ليـس لانقطاعـه اختلــال فلمــا رآهــا المقــرئ تمــر فــي كلامهــا مــر السحــاب ولــم تتوقــف
في الجواب قـام علـى قدميـه وقـال: أشهـد اللـه يـا أميـر المؤمنيـن أن هـذه الجاريـة أعلـم منـي فـي القـراءات
وغيرها.
فعنــد ذلــك قالــت الجاريــة: أنــا أسألــك مسألــة واحـــدة فـــإن أتيـــت بجوابهـــا فـــذاك وإلا نزعـــت ثيابـــك
قال أمير المؤمنين: سليـه فقالـت: مـا تقـول فـي آيـة فيهـا ثلاثـة وعشـرون كافـاً وآيـة فيهـا ستـة عشـر ميمـاً
وآيــة فيهــا مائــة وأربعــون عينـــاً وحـــزب ليـــس فيـــه جلالـــة فعجـــز المقـــرئ عـــن الجـــواب فقالـــت: انـــزع
===
ثيابك فنزع ثيابه ثم قالت: يـا أميـر المؤمنيـن إن الآيـة التـي فيهـا ستـة عشـر ميمـاً فـي سـورة هـود وهـي
قولـه تعالـى: )قيـل يـا نـوح اهبـط بسلـام منـا وبركــات اللــه عليــك( وإن الآيــة التــي فيهــا ثلاثــة وعشــرون
كافـاً فـي سـورة البقـرة وهــي آيــة الديــن وإن الآيــة التــي فيهــا مائــة وأربعــون عينــاً فــي ســورة الأعــراف
وهــي قولــه تعالــى: )واختــار موســى قومــه سبعيــن رجــلاً لميقاتنتــا لكــل رجـــل عينـــان( وإن الحـــزب
الـذي فيــه جلالــه هــو ســورة اقتربــت الساعــة وانشــق القمــر والرحمــن والواقعــة فعنــد ذلــك نــزع المقــرئ
ثيابه التي عليه وانصرف خجلاً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والأربعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة لمـــا غلبـــت المقـــرئ ونـــزع ثيابـــه وانصـــرف خجـــلاً تقـــدم
إليهــا الطبيــب الماهــر وقــال: فرغنــا مــن علــم الأديــان فتيقظـــي لعلـــم الأبـــدان وأخبرينـــي عـــن الإنســـان
وكيـف خلقـه وكـم فـي جسـده مـن عـرق وكـم مــن عظــم وكــم مــن فقــارة وأيــن أول العــروق ولمــي سمــي
آدم آدم قالــــت: سمــــي آدم لآدمتــــه أي سمــــرة لونــــه وقيــــل: لأنــــه خلــــق مــــن أديــــم الـــــأرض أي ظاهـــــر
وجههــا صــدره مــن تربــة الكعبــة ورأســه مــن تربــة المشــرق ورجلـــاه مـــن تربـــة المغـــرب وخلـــق اللـــه لـــه
سبعـة أبـواب فـي رأسـه وهـي: العينـان والأذنـان والمنخـران والفـم وجعـل لـه منفذيـن قبلـه ودبـره فجعـل
===
العينيــن حاســة النظــر والأذنيــن حاســة السمــع والمنخريــن حاســة الشـــم والفـــم حاســـة الـــذوق وجعـــل
اللسـان ينطـق بمـا ف ضميـر الإنسـان وخلـق آدم مكبـاً مـن أربعــة عناصــر وهــي: المــاء والتــراب والنــار
والهــواء فكانــت الصفــراء طبــع النــار وهـــي حـــارة يابســـة والســـوداء طبـــع التـــراب وهـــو بـــارد يابـــس
والبلغـم طبـع المـاء وهـو بـارد رطـب والـدم طبـع الهـواء وهـو حــار رطــب وخلــق فــي الإنســان ثلثمائــة
وستيــن عرقــاً ومائتيــن وأربعــون عظمــاً وثلاثــة أرواح حيوانــي ونفسانــي وطبيعـــي وجعـــل لكـــل منهـــا
حكمــاً وخلــق لــه قلبــاً وطحــالاً ورئتــان وستــة أمعــاء وكبـــداً وكليتيـــن واليتيـــن ومخـــاً وعظمـــاً وجلـــداً
وخمـس حـواس سامعـة وباصـرة وشامـة وفائقـة ولامسـة وجعـل القلــب فــي الجانــب الأيســر مــن الصــدر
وجعـل المعـدة أمـام الرئـة مروحـة للقلــب وجعــل الكبــد فــي الجانــب الأيمــن محاذيــة للقلــب وخلــق مــا دون
ذلــك مــن الحجــاب والمعــاء وركــب ترائــب الصــدر وشبكهــا بالأضلــاع قــال: أحسنــت فأخبرينـــي كـــم
فــي رأس ابــن آدم مــن بطــن قالـــت: ثلاثـــة بطـــون وهـــي تشتمـــل علـــى خمـــس قـــوى تسمـــى الحـــواس
الباطنيـة وهـي الحـس المشتـرك والخيــال والمتصرفــة والواهمــة والحافظــة قــال: أحسنــت فأخبرينــي عــن
هيكل العظام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد الأربعمائة
===
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الجاريـــة لمـــا قـــال لهـــا الطبيـــب: أخبرينـــي عـــن هيكـــل العظــــام
قالـت: هـو مؤلـف مـن مائتيـن وأربعــون عظمــة وينقســم إلــى ثلاثــة أقســام: رأس وجــذع وأطــراف أمــا
الـــرأس فتنقســـم إلـــى جمجمـــة ووجـــه فالجمجمـــة مركبـــة مـــن ثمانيـــة عظـــام ويضــــاف إليهــــا عظيمــــات
السمـع الأربـع والوجــه ينقســم إلــى فــك علــوي وفــك سفلــي فالعلــوي يشتمــل علــى أحــد عشــر عظمــاً
والسفلــي عظــم واحــد ويضــاف إليــه الأسنــان وهــي اثنتــان وثلاثــون سنـــاً وكذلـــك العظـــم اللامـــي.
وأمــا الجــذع فينقســم إلــى سلسلـــة فقاريـــة وصـــدر وحـــوض فالسلسلـــة مركبـــة مـــن أربعـــة وعشـــرون
عظمـاً تسمـى الفقـار والصـدر مركـب مـن القفــص والأضلــاع التــي هــي أربــع وعشــرون ضلعــاً فــي كــل
جانب اثنتا عشرة والحوض مركب من العظمين الحرقفيين والعجز والعصعص.
وأمـا الأطـراف فتنقسـم إلـى طرفيـن علوييـن وطرفيــن سفلييــن فالعلويــان ينقســم كــل منهمــا أولاً منكــب
مركـب مـن الكتـف والترقـوة وثانيـاً إلـى عضـد وهـو عظـم واحـد وثالثـاً إلـى ساعـد مركـب مــن عظميــن
همـا: الكعبـرة والزنـد ورابعـاً إلـى كتـف ينقسـم إلـى رسـخ ومشــط وأصابــع فالرســخ مركــب مــن ثمانيــة
عظــام مصفوفــة صفيــن كــل منهمــا يشتمـــل علـــى أربعـــة عظـــام والمشـــط يشتمـــل علـــى خمســـة عظـــام
والأصابــع عدتهــا خمــس كــل منهــا مركــب مــن ثلاثــة عظــام تسمــى السلاميــات إلا الإبهــام فإنهــا مركبـــة
مـن اثنيـن فقـط والطرفـان السفليـان تنقسـم كـل منهمـا أولاً إلـى فخـذ هـو عظـم واحـد وثانيـاً إلــى ســاق
===
مركــب مـــن ثلاثـــة عظـــام: القصبـــة والشظيـــة والرضفـــة وثالثـــاُ إلـــى قـــدم ينقســـم كالكـــف إلـــى رســـغ
ومشـط وأصابــع. فالرســغ مركــب مــن سبعــة عظــام مصفوفــة صفيــن الــأول فيــه عظمــان والثانــي فيــه
خمســـة والمشـــط مركـــب مـــن خمســـة عظـــام والأصابــــع وعدتهــــا خمــــس كــــل منهــــا مركبــــة مــــن ثلــــاث
سلاميــات إلا الإبهــام فمــن سلامييــن فقــط. قــال: أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن أصـــل العـــروق. قالـــت:
أصــل العــروق الوتيــن ومنــه تتشعــب العــروق وهــي كثيــرة لا يعلــم عددهــا إلا الــذي خلقهـــا وقيـــل إنهـــا
ثلثمائـة وستـون عرقـاً كمـا سبـق وقــد جعــل اللــه اللســان ترجمانــاً والعينيــن سراجــاً والمنخريــن منشقيــن
واليديـن جناحيــن ثــم إن الكبــد فيــه الرحمــة والطحــال فيــه الضحــك والكليتيــن فيهمــا المكــر والخديعــة
والمعـدة خزانــة والقلــب عمــاد الجســد فــإذا أصلــح القلــب صلــح الجســد كلــه وإذا فســد فســد الجســد
كلــه قــال: أخبرينــي عــن الدلالــات والعلامــات الظاهــرة التـــي يستـــدل بهـــا علـــى المـــرض فـــي الأعضـــاء
الظاهــرة والباطنــة قالــت: نعــم إذا كــان الطبيـــب ذا فهـــم نظـــر فـــي أحـــوال البـــدن واستـــدل واستـــدل
بجـس اليديـن علـى الصلابــة والحــرارة واليبوســة والبــرودة والرطوبــة وقــد توجــد فــي المحســوس دلالــات
علــى الأمــراض الباطنــة كصفــرة العينيــن فإنهــا تــدل علــى البرقــان وتحقـــق الظهـــر فإنـــه يـــدل الرئـــة قـــال:
أحسنت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الجاريـــة لمـــا وصفــــت للطبيــــب العلامــــات الظاهــــرة قــــال لهــــا:
أحسنــت فمــا العلامـــات الباطنـــة قالـــت: إن الوقـــوف علـــى الأمـــراض بالعلامـــات الباطنـــة يؤخـــذ مـــن
ستــة قوانيــن الــأول مــن الأفعــال والثانــي ممــا يستغفــر مــن البــدن والثالــث مــن الوجــع والرابــع مــن الموضـــع
والخامــس مـــن الـــورم والســـادس مـــن الأعـــراض. قـــال: أخبرينـــي بـــم يصـــل الـــأذى مـــن الـــرأس قالـــت:
بإدخــال الطعــام علــى العــام قبــل هضــم الــأول والشبــع علــى الشبــع فهـــو الـــذي أفنـــى الأمـــم فمـــن أراد
البقــاء فليباكــر بالغــداء ولا يتمـــس العشـــاء وليقلـــل مـــن مجامعـــة النســـاء وليخفـــف الـــرداء وأن لا يكثـــر
الفصـــد ولا الحجامـــة وأن يجعـــل بطنـــه ثلـــاث أثلـــاث ثلـــث للطعــــام وثلــــث للمــــاء وثلــــث للتنفــــس لــــأن
مصـران بنـي آدم ثمانيــة عشــر شبــراً يجــب أن يجعــل ستــة للطعــام وستــة للشــراب وستــة للتنفــس وإذا
مشى برفق كان أوفق له وأجمل لبدنه وأكمل لقول تعالى: )ولا تمش على الأرض مرحاً(.
قـــال: أحسنـــت فأخبرينــــي مــــا علامــــة الصفــــراء ومــــاذا يخــــاف منهــــا قالــــت: تعــــرف بصفــــرة اللــــون
ومــــرارة الفــــم والجفــــاف وضعــــف الشهــــوة وسرعــــة النبــــض ويخــــاف صاحبهــــا مــــن الحمـــــى المحرقـــــة
والبرصــام والحمـــرة واليرقـــان والـــورم وقـــروح الأمعـــاء وكثـــرة العطـــش فهـــذه علامـــات الصفـــراء. قـــال:
أحسنـــت فأخبرينـــي عـــن علامـــات الســـوداء ومـــاذا يخـــاف علـــى صاحبهــــا إذا غلبــــت علــــى البــــدن
قالـت: إنهــا تتولــد مــن الشهــوة الكاذبــة وكثــرة الوسوســة والهــم والغــم فينبغــي حينئــذٍ أن تستفــرغ وإلا
===
تولـد منهـا الماليخوليـا والجـذام والسرطـان وأوجـاع الطحـال وقــروح الأمعــاء. قــال: أحسنــت فأخبرينــي
إلـــى كـــم جـــزء ينقســـم الطـــب قالـــت: ينقســـم إلـــى جزءيـــن: أحدهمـــا علـــم تدبيـــر الأبـــدان المريضــــة
والأخـر كيفيـة ردهـا إلـى حـال صحتهـا. قـال: فأخبرينـي أي وقــت يمــون شــرب الأدويــة أنفــع فيــه منــه
فـي غيـره قالـت: إذا جـرى المـاء فـي العـود وانعقـد الحـب فـي العنقـود وطلـع السعــد سعــود فقــد دخــل
وقــت نفــع شــرب الــدواء وطــرد الــداء فقــال: أخبرينــي عـــن وقـــت إذا شـــرب فيـــه الإنســـان مـــن إنـــاء
جديـد يكـون شرابـه أهنـأ وأمـرأ منـه فــي غيــره وتصعــد لــه رائحــة طيبــة ذكيــة قالــت: إذا صبــر بعــد
أكـل الطعـام ساعـة. قـال: فأخبرينـي عـن طعـام لا تتسبــب عنــه أسقــام قالــت: هــو الــذي لا يطعــم إلا
بعـد الجـوع وإذا طعـم لا تمتلـئ منــه الضلــوع لقــول جالينــوس الحكيــم: مــن أراد إدخــال الطعــام فليبطــئ
ثـم لا يخطـئ ولنختـم بقولـه عليـه الصلـاة والسلــام: المعــدة بيــت الــداء والحميــة رأس الــدواء وأصــل كــل
داء البردة يعني التخمة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريـــة لمـــا قالـــت للطبيـــب: المعـــدة بيـــت الـــداء والحميـــة رأس
الــدواء الحديــث قــال لهــا: فمــا تقوليــن فـــي الحمـــام قالـــت: لا يدخلـــه شبعـــان وقـــد قـــال رســـول اللـــه
===
صلـــى اللـــه عليـــه وسلـــم: نعـــم البيـــت الحمـــام ينظــــف الجســــد ويذكــــر النــــار قــــال: فــــأي الحمامــــات
أحســن قالــت: مــا عــذب مـــاؤه واتســـع فضـــاؤه وطـــاب هـــواؤه بحيـــث تكـــون أهويتـــه أربعـــة خريفـــي
وصيفــي وشتــوي وربيعــي: قــال: فأخبرينــي أي الطعــام أفضــل قالــت: مــا صنعــت النســاء وقــل فيــه
العنــاء وأكلتــه بالهنــاء وأفضــل الطعــام الثريــد لقولــه عليــه الصلـــاة والسلـــام: فضـــل الثريـــد علـــى الطعـــام
كفضــــل عائشــــة علــــى سائــــر النســــاء قــــال: فــــأي الــــأدم أفضــــل قالــــت: اللحــــم لقولــــه عليــــه الصلـــــاة
والسلـــام: أفضـــل الـــأدم اللحـــم لأنـــه لـــذة للدنيـــا والآخـــرة قـــال فأخبرينـــي فــــأي اللحــــم أفضــــل قالــــت:
الضـان ويجتنـب القديـد لأنـه لا فائــدة فيــه قــال: أخبرينــي عــن الفاكهــة قالــت: كلهــا فــي إقبالهــا واتركهــا
إذا انقضــى زمانهـــا قـــال: فمـــا تقوليـــن فـــي شـــرب المـــاء قالـــت: لا تشربـــه شربـــاً ولا تعبـــه عبـــاً فإنـــه
يؤذيــك صداعــه ويشــوش عليــك مــن الــأذى أنواعــه ولا تشربــه عقــب خروجــك مـــن الحمـــام ولا عقـــب
الجمــاع ولا عقــب الطعــام إلا بعــد مضــي خمــس عشــر درجــة للشـــاب وللشيـــخ بعـــد أربعيـــن درجـــة
ولا عقـب يقظتـك مـن المنــام قــال: أحسنــت فاخبرينــي عــن شــرب الخمــر قالــت: أفــلا يكفيــك زاجــراً
مـا جـاء فـي كتـاب اللـه تعالـى حيــث قــال: )إنمــا الخمــر والميســر والأنصــاب والأزلــام رجــس مــن عمــل
الشيطـان فاجتنبـوه لعلكـم تفلحـون(. وقـال تعالــى: )يسألونــك عــن الخمــر والميســر والأنصــاب والأزلــام
رجــس مــن عمــل الشيطــان فاجتنبــوه لعلكــم تفلحــون(. وقــال تعالــى: )يسألونــك عــن الخمــر والميســـر
===
قــل فيهمــا إثــم كبيــر ومنافــع للنــاس وإثمهمـــا أكبـــر مـــن نفعهمـــا(. وأمـــا المنافـــع التـــي فيهـــا فإنهـــا تفتـــت
حصـى الكلـى وتقـوي الأمعـاء وتنفــي الهــم وتحــرك الكــرم وتحفــظ الصحــة وتعيــن علــى الهضــم وتصــح
البـــدن وتخـــرج الأمـــراض مـــن المفاصـــل وتنقـــي الجســـم مـــن الأخلـــاط الفاســـدة وتولـــد الطـــرب والفـــرح
وتقــوي الغريــزة وتشــد المثانــة وتقــوي الكبــد وتفتــح الســدد وتحمــر الوجــه وتنقــي الفضلــات عـــن الـــرأس
والدمــاغ وتبطــئ بالمشيــب ولــولا اللــه عــز وجــل حرمهــا لــم يكــن علــى وجــه الــأرض مــا يقــوم مقامهــا.
وأمـا الميسـر فهـو القمـار قـال: فــأي شــيء فــي الخمــر أحســن قالــت: مــا كــان بعــد ثمانيــن يومــاً أو أكثــر
وقـد اعتصـر مـن عنـب أبيـض ولـم يشبـه مـاء ولا شـيء علـى وجـه الـأرض مثلهـا قـال: فمـا تقوليـن فــي
الحجامـــة قالـــت: ذلـــك لمـــن كـــان ممتلئـــاً مـــن الـــدم وليـــس فيـــه نقصـــان فـــي دمــــه فمــــن أراد الحجامــــة
فليحتجم فـي نقـص الهلـال فـي يـوم بـلا غيـم ولا ريـح ولا مطـر ويكـون فـي السابـع عشـر مـن الشهـر وإن
وافــق يــوم الثلاثــاء كــان أبلــغ فــي النفــع ولا شــيء أنفــع مــن الحجامــة للدمـــاغ وتصفيـــة الذهـــن. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والأربعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الجاريــة لمــا وصفــت منافــع الحجامــة قــال لهــا الحكيــم: أخبرينــي
===
عــن أحســن الحجامــة قالــت: أحسنهــا علــى الريــق فإنهــا تزيــد فــي العقــل وفـــي الحفـــظ لمـــا روي عنـــه
عليـه الصلـاة والسلـام: أنـه كـان مـا اشتكـى إليــه أحــد وجعــاً فــي رأســه أو رجليــه إلا قــال لــه احتجــم
وإذا احتجــم لا يأكــل علــى الريــق مالحـــاً فإنـــه يـــورث الجـــرب ولا يأكـــل علـــى أثـــره حامضـــاً قـــال: فـــأي
وقــت تكــره فيــه الحجامــة قالــت: يــوم السبــت والأربعــاء ومــن احتجــم فيهــا فـــلا يلومـــن إلا نفســـه ولا
يحتجـم فـي شـدة الحـر ولا فـي شــدة البــرد وخيــار أيامــه أيــام الربيــع قــال: أخبرينــي عــن المجامعــة فلمــا
سمعــت ذلــك أطرقــت وطأطــأت رأسهــا واستحيــت مــن إجلــالاً لأميــر المؤمنيـــن ثـــم قالـــت: واللـــه يـــا
أميــر المؤمنيــن مــا عجــزت بــل خجلــت وإن جوابــه علــى طــرف لسانــي. قــال لهــا: يــا جاريــة تكلمــي
قالـــت لـــه: إن النكـــاح فيـــه فضائـــل مريـــدة وأمـــور حميـــدة منهـــا أنـــه يخفـــف البـــدن الممتلـــئ بالســــوداء
ويسكـن حـرارة العشــق ويجلــب المحبــة ويبســط القلــب ويقطــع الوحشــة والإكثــار منــه فــي أيــام الصيــف
والخريــف أشــد ضــرراً فــي أيــام الشتــاء والربيــع قـــال: فأخبرينـــي عـــن منافعـــه قالـــت: إنـــه يزيـــل الهـــم
والوســـواس ويسكـــن العشـــق والغضـــب وينفــــع القــــروح هــــذا إذا كــــان الغالــــب علــــى الطبــــع والبــــرودة
واليبوســـة وإلا فالإكثـــار منـــه يضعـــف النظـــر ويتولـــد منـــه وجـــع الساقيـــن والـــرأس والظهـــر وإيـــاك مــــن
مجامعــة العجـــوز فإنهـــا مـــن القواتـــل. قـــال الإمـــام علـــي كـــرم اللـــه وجهـــه: أربـــع يقتلـــن ويهرمـــن البـــدن:
دخـــول الحمـــام علـــى الشبـــع وأكـــل المالـــح والمجامعـــة علـــى الامتــــلاء ومجامعــــة المريضــــة فإنهــــا تضعــــف
===
قوتــك وتسقــم بدنــك والعجــوز ســم قاتــل قــال: فمــا أطيــب الجمـــاع قالـــت: إذا كانـــت المـــرأة صغيـــرة
السن مليحة القد حسنة الخد كريمة الجد بارزة النهد فهي تزيد قوة في صحة بدنك.
قــال: فأخبرينـــي عـــن أي وقـــت يطيـــب فيـــه الجمـــاع قالـــت: إذا كـــان ليـــلاً فبعـــد هضـــم الطعـــام وإذا
كــان نهــاراً فبعــد الغــداء قــال: فأخبرينــي عــن أفضــل الفواكــه قالــت: الرمــان والأتـــرج قـــال: فأخبرينـــي
عـــن أفضـــل البقـــول قالـــت: الهندبـــاء وقــــال: فمــــا أفضــــل الرياحيــــن قالــــت: البنفســــج والــــورد قــــال:
فأخبرينـي عـن قـرار منـي الرجــل قالــت: إن فــي الرجــل عرقــاً يسقــي سائــر العــروق فيجتمــع المــاء مــن
ثلثمائـة وستيـن عرقـاً ثـم يدخـل فـي البيضـة اليسـرى دمـاً أحمـر فينبطـح مـن حــرارة مــراج بنــي آدم مــاءً
غليظـاً أبيـض رائحتـه مثـل رائحـة الطلـع قـال: أحسنـت فأخبرينـي عـن طيـر يمنــي ويحيــض قالــت: هــو
الخفـاش أي الوطـواط قــال: فأخبرينــي عــن شــيء إذا حبــس عــاش وإذا شــم الهــواء مــات قالــت: هــو
السمـــك قـــال: فأخبرينــــي عــــن شجــــاع يبيــــض قالــــت: الثعبــــان فعجــــز الطبيــــب مــــن كثــــرة أسئلتــــه
وسكـت فقالـت الجاريـة: يـا أميــر المؤمنيــن إنــه سألنــي حتــى عيــي وأنــا أسألــه مسألــة واحــدة فــإن لــم
يجب أخذت ثيابه حلالاً لي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والأربعين بعد الأربعمائة
===
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن لمـا قالـت لأميـر المؤمنيـن إنـه سألنـي حتـى عيـي وأنــا أسألــه مسألــة
واحـدة فـإن لـم يجـب أخـذت ثيابـه حلـالاً لـي قـال لهـا الخليفـة: سليـه قالـت: مـا تقـول فــي شــيء يشبــه
الــأرض استــدارة ويــوارى عــن العيــون فقــاره قليــل القيمــة والقــدر ضيــق الصــدر والنحــر مقيـــد وهـــو
غيـر آبـق موثـق وهـو غيـر سـارق مطعـون لا فـي القتـال مجـرو ولا فـي النضـال يأكـل الدهــر مــرة ويشــرب
المـاء مـن كثـرة وتـاره يضـرب مـن غيـر جنايــة ويستخــدم لا مــن كفايــة مجمــوع بعــد تفرقــه متواضــع لا مــن
تملقـه حامــل لا لولــد فــي بطنــه مائــل لا يسنــد ركنــه فيتطهــر ويصلــي فيتغيــر يجامــع بــلا ذكــر ويصــارع
بــلا حــذر يريــح ويستريــح ويعــد فــلا يصيــح أكــرم مــن النديــم وأبعــد مـــن الحميـــم يفـــارق زوجتـــه ليـــلاً
ويعانقها نهاراً مسكنه الأطراف في مساكن الأشراف.
فسكــت الطبيــب ولــم يجــب بشــيء وتحيــر فــي أمــره وتغيــر لونــه واطـــرق برأســـه ساعـــة ولـــم يتكلـــم
فقالـــت: أيهـــا الطبيـــب تكلـــم وإلا فانـــزع ثيابـــك فقـــام وقـــال: يـــا أميـــر المؤمنيـــن أشهـــد علـــى أن هـــذه
الجاريـة أعلـم منـي بالطـب وغيـره ولا لـي طاقـة ونـزع مـا عليـه مـن ثيـاب وخـرج هاربـاً فعنـد ذلــك قــال
هلا أمير المؤمنين: فسري لنا ما قلتيه فقالت: يا أمير المؤمنين هذا الزرار والعروة.
وأمــا مــا كــان مــن أمرهــا مــع المنجــم فإنهــا قالــت: مــن كــان منكــم منجمــاً فليقــم فنهــض إليهـــا وجلـــس
بيــن يديهــا فلمــا رأتـــه ضحكـــت وقالـــت: أنـــت المنجـــم الحاســـب الكاتـــب قـــال: نعـــم قالـــت: اســـأل
===
عمــا شئــت وباللــه التوفيــق قــال: أخبرينــي عــن الشمـــس وطلوهـــا وأفولهـــا قالـــت: اعلـــم أن الشمـــس
تطلــع مــن عيــون وتأفــل فــي عيــون فعيــون الطلــوع أجـــزاء المتســـارق وعيـــون الأفـــول أجـــزاء المغـــارب
وكلتاهمـا مائـة وثمانـون جــزءاً. قــال اللــه تعالــى: )فــلا أقســم بــرب المشــارق والمغــارب( وقــال تعالــى:
)هـو الـذي جعـل الشمـس ضيــاءً والقمــر نــوراً وقــدره منــازل لتعلمــوا عــدد السنيــن والحســاب( فالقمــر
سلطــان الليــل والشمــس سلطــان النهـــار وهمـــا مستبقـــان متداركـــان. قـــال اللـــه تعالـــى: )لا الشمـــس
ينبغــي لهــا أن تــدرك القمــر ولا الليــل سابــق النهـــار وكـــل فـــي فلـــك يسبحـــون(. قـــال: فأخبرينـــي إذا
جــاء الليــل كيــف يكــون النهـــار وإذا جـــاء النهـــار كيـــف يكـــون الليـــل قالـــت: )يولـــج الليـــل فـــي النهـــار
ويولــج النهــار فــي الليــل( قــال: أخبرينــي عــن منــازل القمــر قالــت: منــازل القمــر ثمــان وعشـــرون منزلـــة
وهـي: السرطـان والبطيـن والثريـا والدبــران والهقعــة والهنعــة والــذراع والنثــرة والطــرف والجبهــة والزبــرة
والصرفــة والعــواء والسمــك والغفــر والزبانــا والإكليــل والقلــب والشولــة والنعائـــم والبلـــدة وسعـــد الذابـــح
وسعـد بلـع وسعـد السعــود وسعــد الأخيبــة والفــرع المقــدم والفــرع المؤخــر والرشــاء وهــي مرتبــة علــى
حـروف أبجـد هـوز إلـى آخرهـا وفيهـا سـر غامــض لا يعلمــه إلا اللــه سبحانــه وتعالــى والراسخــون فــي
العلـم وأمـا قسمتهـا علــى البــروج الاثنــي عشــر فهــي أن تعطــي كــل بــرج منزليتــن وثلــث منزلــة فتجعــل
الشرطيــن والبطيــن وثلــث الثريــا للحمــل وثلثــي الثريــا مــع الديــران وثلثــي اللعــة للثــور وثلــث الهقعــة مـــع
===
الهنعــة والــذراع للجــوزاء والنتــرة والطــرف وثلــث الجبهــة للسرطــان وثلثيهمــا مـــع الزبـــرة وثلثـــي الصفـــة
للأســد وثلثهــا مــع العــواء والسمــاك للسنبلــة والغفــر والزبانــي وثلــث الإكليــل للميــزان وثلثــي الإكليــل مـــع
القلــب وثلثــي الشولــة للعقـــرب وثلثهـــا مـــع النعايـــم والبلـــدة للقـــوس وسعـــد الذبائـــح وسعـــد بلـــع وثلـــث
المقــدم للجــدي وثلثــي المقــدم مــع المؤخــر وثلثــي الرشــا للحــوت وثلــث الرشــا وسعــد السعـــود وسعـــد
الأخبية للدلو. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الجاريـــة لمـــا عـــدت المنـــازل وقسمتهـــا علــــى البــــروج قــــال لهــــا
المنجـم: أحسنــت فاخبرينــي عــن الكواكــب السيــارة وعــن طبائعهــا وعــن مكثهــا فــي البــروج والسعــد
منهــــا والنحــــس وأيــــن بيوتهــــا وشرفهــــا وسقوطهــــا قالــــت: المجلـــــس ضيـــــق ولكـــــن سأخبـــــرك. أمـــــا
الكواكـــب فسبعـــة وهـــي: الشمـــس والقمـــر وعطـــارد والزهـــرة والمريــــخ والمشتــــري وزحــــل فالشمــــس
حـارة يابســة نحيســة بالمقارنــة سعيــدة بالنظــرة تمكــث غــي كــل بــرج ثلاثيــن يومــاً والقمــر بــارد رطــب
سعيــد يمكــث فــي كــل بــرج يوميــن وثلــث يــوم وعطــارد ممتــزج سعــد مــع السعــود نحــس مــع النحـــوس
يمكـث فـي كـل بـرج سبعـة عشـر يومـاً ونصـف اليـوم والزهــرة معتدلــة سعيــدة تمكــث فــي كــل بــرج مــن
===
البـروج خمسـة وعشريـن يومـاً والمريـخ نحـس يمكـث فــي كــل بــرج عشــرة أشهــر والمشتــري سعــد يمكــث
في كل برج سنة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح
وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن المشتــري سعــد يمكــث فــي كــل بــرج سنــة وزحــل بـــارد يابـــس
نحـس يمكـث فـي كـل بـرج ثلاثيـن شهـراً والشمـس بيتهـا الأسـد وشرفهـا الحمــل وهبوطهــا الدلــو والقمــر
بيتـــه السرطـــان وشرفـــه الثـــور وهبوطـــه الحمـــل ووبالـــه السرطـــان والأســــد والمشتــــري بيتــــه الحــــوت
والقـــوس وهبوطـــه العقـــرب ووبالـــه الجـــدي وزحـــل بيتـــه الجـــدي والدلـــو وشرفــــه الميــــزان والسرطــــان
وهبوطـــه الجـــدي ووبالـــه الجـــوزاء والأســـد والزهـــرة بيتهـــا الثـــور وشرفهـــا الحـــوت وهبوطهــــا الميــــزان
ووبالهـا الحمــل والعقــرب وعطــارد بيتــه الجــوزاء والسنبلــة وهبوطــه الحــوت ووبالــه الثــور والمريــخ بيتــه
الحمل والعقرب وشرفه الجدي وهبوطه السرطان ووباله الميزان.
فلمــا نظــر المنجــم إلــى حذقهــا وعلمهــا وحســن كلامهــا وفهمهــا ابتغــى لــه حيلــة يخجلهــا بهــا بيــن يــدي
أميــر المؤمنيــن فقــال لهــا: يــا جاريــة هـــل ينـــزل فـــي هـــذا الشهـــر مطـــراً فأطرقـــت ساعـــة ثـــم تفكـــرت
طويـلاً حتـى ظـن أميـر المؤمنيـن أنهـا عجــزت عــن جوابهــا فقــال لهــا المنجــم: لــم لا تتكلميــن فقالــت: لا
===
أتكلــم إلا إن أذن لــي بالكلــام أميـــر المؤمنيـــن فقـــال لهـــا أميـــر المؤمنيـــن: وكيـــف ذلـــك قالـــت: أريـــد أن
تعطينـي سيفـاً أضـرب بـه عنقـه لأنـه زنديـق فضحـك أميـر المؤمنيــن وضحــك مــن حولــه ثــم قالــت: يــا
منجـم خمسـة لا يعلمهـا إلا اللـه تعالـى وقـرأت: )إن اللـه عنـده علـم الساعـة وينــزل الغيــث ويعلــم مــا فــي
الأرحـــام ومـــا تـــدري نفـــس مـــاذا تكســـب غـــداً ومـــا تـــدري نفـــس بـــأي أرض تمــــوت إن اللــــه عليــــم
خبيــر( قــال لهــا: أحسنــت إنــي واللــه مــا أردت إلا اختبــارك فقالــت: اعلــم أن أصحــاب التقويــم لهـــم
إشــارات وعلامــات ترجــع إلــى الكواكــب بالنظــر إلــى دخــول السنــة وللنـــاس فيهـــا تجـــارب قـــال: ومـــا
هـــي قالـــت: إن لكـــل يـــوم مـــن الأيـــام كوكبـــاً يملكـــه فــــإذا كــــان أول يــــوم مــــن السنــــة يــــوم الأحــــد فهــــو
الشمــس ويــدل ذلــك واللــه أعلــم علــى الجــور مــن الملــوك والسلاطيــن والولــاة وكثــرة الوخـــم وقلـــة المطـــر
وأن تكــون النــاس فــي هــرج عظيــم وتكـــون الحبـــوب طيبـــة إلا العـــدس فإنـــه يعطـــب ويفســـد العنـــب
ويغلـو الكتـان ويرخـص القمـح مـن أول طوبـة إلـى آخـر برمهـات ويكثـر القتـال بيـن الملـوك ويكثـر الخيــر فــي
تلم السنة والله أعلم.
قــال: فأخبرينــي عــن يــوم الاثنيــن قالــت: هــو القمــر ويــدل ذلــك علــى صلــاح ولــاة الأمـــور والعمـــال وأن
تكــون السنــة كثيـــرة الأمطـــار. وتكـــون الحبـــوب طيبـــة ويفســـد بـــزر الكتـــان ويرخـــص القمـــح ويكثـــر
العنـــب ويقـــل العســـل ويرخـــص القطـــن واللـــه أعلـــم. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتــــت عــــن الكلــــام
===
وفي الليلة الخمسين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن الجاريــة لمــا فرغــت مــن بيــان يــوم الاثنيــن قــال لهــا: أخبرينــي عــن
يـــوم الثلاثـــاء قالـــت: هـــو المريـــخ ويـــدل ذلـــك علـــى مـــوت كبـــار النـــاس وكثـــرة الفنــــاء وإراقــــة الدمــــاء
والغـلاء فـي الحــب وقلــة الأمطــار وأن يكــون السمــك قليــلا ويزيــد فــي أيــام وينقــص فــي أيــام ويرخــص
العســل والعــدس ويغلــو بــذر الكتــان فــي تلــك السنــة وفيهــا يفلــح الشعيـــر دون سائـــر الحبـــوب ويكثـــر
القتال بين الملوك ويكثر الموت بالدم ويكثر موت الحمير والله أعلم.
قــال: فأخبرينــي عــن يــوم الأربعــاء قالــت هــو عطــارد ويــدل ذلــك علــى هــرج عظيــم يقــع فـــي النـــاس
وعلـــى كثـــرة العـــدو وأن تكـــون الأمطـــار معتدلـــة وأن يفســـد بعـــض الـــزرع وأن يكثــــر مــــوت الــــدواب
ومـوت الأطفـال ويكثـر القتــل فــي البحــر مــن برمــوده إلــى مســرى وترخــص بقيــة الحبــوب ويكثــر الرعــد
والبرق ويغلو العسل ويكثر طلع النخل ويكثر الكتان والقطن ويغلو الفجل والبصل والله أعلم.
قـال: أخبرينـي عـن يـوم الخميــس قالــت: هــو للمشتــري ويــدل ذلــك علــى العــدل فــي الــوزراء والصلــاح
فـــي القضــــاء والفقــــراء وأهــــل الديــــن وأن يكــــون الخيــــر كثيــــراً وتكثــــر الأمطــــار والثمــــار والأشجــــار
والحبوب ويرخص الكتان والقطن والعسل والعنب ويكثر السمك والله أعلم.
===
قـال: أخبرينـي عـن يـوم الجمعــة قالــت: هــو للزهــرة ويــدل ذلــك علــى الجــور فــي كبــار الجــن والتحــدث
بالــزور والبهتــان وأن يكثــر النـــدى ويطيـــب الخريـــف فـــي البلـــاد ويكـــون الرخـــص فـــي بلـــاد دون بلـــاد
ويكثـر الفسـاد فـي البـر والبحـر ويغلـو بـذر الكتـان ويغلـو القمـح فـي هاتـور ويرخـص فـي وامشيــر ويغلــو
العسل ويفسد العنب والبطيخ والله أعلم.
قــال: فأخبرينــي عــن يــوم السبــت قالـــت: هـــو لزحـــل ويـــدل ذلـــك علـــى إيثـــار العبيـــد والـــروم ومـــن لا
خيـر فيـه ولا فـي قربـه وأن يكـون الغـلاء والقحـط كثيـراً ويكـون الغنـم كثيـراً ويكثـر المـوت فــي بنــي آدم
والويل لأهل مصر والشام من جور السلطان وتقل البركة من الزرع وتفسد الحبوب والله أعلم.
ثــم إن المنجــم أطــرق برأســه وطأطــأ رأســه فقالــت: يــا منجــم أسألــك مسألــة واحــدة فــإن لــم تجـــب
أخـذت ثيابـك قـال لهــا: قولــي: أيــن يكــون سكــن زحــل قــال: فــي السمــاء السابعــة قالــت: فالشمــس
قـال: فـي السمـاء الرابعـة قالـت: فالزهـرة قـال: فــي السمــاء الثالثــة قالــت: فعطــارد قــال: فــي السمــاء
الثانيــة قالــت: فالقمــر قــال: فــي السمــاء الأولــى قالــت: أحسنــت وبقــي عليـــك مسألـــة واحـــدة قـــال:
اسألــي قالــت: فأخبرنــي عــن النجــوم إلــى كــم جــزء تنقســم فسكــت ولــم يجـــب قالـــت: انـــزع ثيابـــك
فنزعهـا ولمـا أخذتهـا قـال لهـا أميـر المؤمنيـن: فسـري لنـا هـذه المسألـة فقالـت: يـا أميـر المؤمنيـن هـم ثلاثــة
أجـزاء جـزء معلـق بسمــاء الدنيــا كالقناديــل وهــو ينيــر الــأرض وجــزء ترمــي بــه الشياطيــن إذا استرقــوا
===
السمــع. قــال اللــه تعالــى: ولقــد زينــا السمــاء الدنيــا بمصابيــح وجعلناهــا رجامــاً للشياطيـــن. والجـــزء
الثالـث معلـق بالهـواء وهـو ينيـر البحــار ومــا فيهــا. قــال المنجــم: بقــي لنــا مسألــة واحــدة فــإن أجابــت
أقررت لها قالت: قل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والخمسين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أنــه قــال: أخبرينــي عــن أربعــة أشيــاء متضــادة مترتبــة علـــى أربعـــة
أشيـــاء متضـــادة قالـــت: هـــي الحـــرارة والبــــرودة والرطوبــــة واليبوســــة خلــــق اللــــه مــــن الحــــرارة النــــار
وطبعهـا حـار يابـس وخلــق مــن اليبوســة التــراب وطعمــه بــارد يابــس وخلــق مــن البــرودة المــاء وطبعــه
بـارد رطـب وخلـق مـن الرطوبـة الهـواء وطبعـه حـار رطــب ثــم خلــق اثنــي عشــر برجــاً وهــي الحمــل
والثــور والجــوزاء والسرطــان والأســد والسنبلـــة والميـــزان والعقـــرب والقـــوس والجـــدي والدلـــو والحـــوت
وجعلهــا علــى أربــع طبائــع ثلاثــة ناريــة وثلاثــة ترابيــة وثلاثـــة هوائيـــة مائيـــة فالحمـــل والأســـد والقـــوس
ناريــــة والثــــور والسنبلــــة والجــــدي ترابيــــة والجــــوزاء والميــــزان والدلـــــو هوائيـــــة والسرطـــــان والعقـــــرب
والحوت مائية. فقام المنجم وقال: اشهدوا على أنها أعلم مني وانصرف مغلوباً.
ثــم قالــت: يــا أميــر المؤمنيــن أيـــن الفيلســـوف فنهـــض إليهـــا رجـــل وتقـــدم وقـــال: أخبرينـــي عـــن الدهـــر
===
وحــده وأيامــه ومــا جــاء فيــه قالــت: إن الدهــر هــو اســم واقــع علــى ساعــات الليــل والنهــار وان هــي
مقاديـر جــري الشمــس والقمــر فــي أفلاكهمــا كمــا أخبــر اللــه تعالــى حيــث قــال: )وآيــة لهــم الليــل نسلــخ
منـه النهـار فـإذا هـم مظلمـون والشمــس تجــري لمستقــر لهــا ذلــك تقديــر العزيــز العليــم(. قــال: أخبرينــي
عــن ابــن آدم كيــف يصــل إليــه الكفــر قالــت: روي عــن رســول اللــه صلــى اللــه عليــه وسلـــم أنـــه قـــال:
الكفــر فــي ابــن آدم يجــري كمــا يجــري الــدم فــي عروقــه حيــث يســب الدنيــا والدهـــر والليلـــة والساعـــة
وقــال عليــه الصلــاة والسلــام: لا يســب أحدكـــم الدهـــر والليلـــة والساعـــة وقـــال عليـــه الصلـــاة والسلـــام:
لا يسـب أحدكـم الدهـر فـإن الدهـر هـو اللـه ولا يسـب أحدكـم الدنيـا فتقــول: لا أعــان اللــه مــن يسبنــي
ولا يسـب أحدكــم هــذه الساعــة فــإن الساعــة آتيــة لا ريــب فيهــا ولا يســب أحدكــم الــأرض فإنهــا آيــة
لقوله تعالى: )منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى(.
قــال: فأخبرينــي عــن خمســة أكلــوا وشربــوا ومــا خرجــوا مــن ظهــر ولا بطــن قالـــت: هـــو آدم وشمعـــون
وناقــة صالــح وكبــش إسماعيــل والطيــر الــذي رآه أبــا بكــر الصديــق فــي الغــار. قــال: فأخبرينـــي عـــن
خمســة فــي الجنــة لا مــن الإنــس ولا مــن الجــن ولا مــن الملائكــة قالــت: ذئــب يعقــوب وكلـــب أصحـــاب
الكهـف وحمــار العزيــز وناقــة صالــح ودلــال بغلــة النبــي صلــى اللــه عليــه وسلــم. قــال: فأخبرينــي عــن
رجـل صلـى صلـاة لا فـي الـأرض ولا فـي السمـاء قالـت: هـو سليمـان حيـن صلـى علــى بساطــه وهــو
===
علـى الريــح قــال: أخبرينــي عمــن صلــى صلــاة الصبــح فنظــر إلــى أمــة فحرمــت عليــه فلمــا كــان الظهــر
حلـت لـه فلمـا كـان العصـر حرمــت عليــه فلمــا كــان المغــرب حلــت لــه فلمــا كــان العشــاء حرمــت عليــه
فلمـا كـان الصبـح حلـت لـه قالـت: هـذا رجـل نظـر إلـى أمـة غيـره عنـد الصبــح وهــي حــرام عليــه فلمــا
كــان الظهــر اشتراهــا فحلــت لــه فلمــا كــان العصــر أعتقهــا فحرمـــت عليـــه فلمـــا كـــان المغـــرب تزوجهـــا
فحلت له فلما كان العشاء طلقها فحرمت عليه فلما كان الصبح راجعها فحلت له.
قـال: أخبرينـي عـن قبـر مشـى بصاحبـه قالـت: هـو حــوت يونــس بــن متــى حيــن ابتلعــه قــال: أخبرينــي
عــن بقعــة واحــدة طلعــت عليهــا الشمــس مــرة واحــدة ولا تطلـــع عليهـــا بعـــد إلـــى يـــوم القيامـــة قالـــت:
البحر حين ضربـه موسـى بعصـاه فانفلـق اثنـي عشـر فرقـاً علـى عـدد الأسبـاط وطلعـت عليـه الشمـس
ولم تعد له إلى يوم القيامة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والخمسين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الفيلســـوف قـــال بعــــد ذلــــك للجاريــــة أخبرينــــي عــــن أول ذيــــل
سحــب علــى وجــه الــأرض قالــت: ذيــل هاجــر حيــاء مـــن ســـارة فصـــارت سنـــة فـــي العـــرب قـــال:
أخبرينــي عــن شــيء يتنفــس بــلا روح قالــت قولــه تعالــى: )والصبــح إذا تنفـــس( قـــال: أخبرينـــي عـــن
===
حمــام طائــر اقبــل علــى شجــرة عاليــة فــوق بعضـــه فوقهـــا وبعضهـــا تحتهـــا فقالـــت: الفرقـــة التـــي فـــوق
الشجـرة إلـى التـي تحتهـا إن طلعـت واحـدة منكـن صرتـن الثلـث وإن نزلـت منــا واحــدة كنــا مثلكــن فــي
العـدد قالـت الجاريـة: كــان الحمــام اثنتــي عشــرة حمامــة فــوق منهــن فــوق الشجــرة سبــع وتحتهــا خمــس
فـإذا طلعـت واحــدة صــار الــذي فــوق قــدر الــذي تحــت مرتيــن ولــو نزلــت واحــدة صــار الــذي تحــت
مساو بالذي فوق والله أعلم فتجرد الفيلسوف من ثيابه وخرج هارباً.
وأمــا حكايتهــا مــع النظــام فــإن الجاريــة التفتــت إلــى العلمــاء الحاضريــن وقالــت: أيكــم المتكلــم فــي كــل
فــن وعلــم فقــام إليهــا النظــام وقــال لهــا: لا تحسبينــي كغيــري فقالــت لــه: الأصــح عنــدي أنــك مغلـــوب
لأنـك مـدع واللـه ينصرنـي عليـك حتـى أجـردك مـن ثيابـك فلـو أرسلـت مــن يأتيــك بشــيء تلبســه لكــان
خيــراً لــك فقــال: واللــه لأغلبنــك وأجعلنـــك حديثـــاً يتحـــدث بـــه النـــاس جيـــلاً بعـــد جيـــل فقالـــت لـــه
الجاريــة: كفــر عــن يمينــك قــال: أخبرينــي عــن خمســة أشيــاء خلقهــا اللــه قبــل خلـــق الخلـــق قالـــت لـــه:
المـــاء والتـــراب والنـــوم والظلمـــة والثمـــار قـــال: أخبرينـــي عـــن شـــيء خلقـــه اللـــه بيــــد القــــدرة قالــــت:
العـرش وشجـرة طوبـى وآدم وجنـة عـدن فهـؤلاء خلقهــم اللــه بيــد القــدرة وسائــر المخلوقــات قــال لهــم:
كونـوا فكانـوا. قـال: أخبرينـي عـن أبيـك فـي الإسلـام قالـت: محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم قــال: فمــن
أبـو محمــد قالــت: إبراهيــم خليــل اللــه قــال: فأخبرينــي مــا أولــك ومــا آخــرك قالــت: أولــي نطفــة مــذرة
===
خلقت من التراب فصرت شخصا فصيحا في السؤال وفي الجواب
وعدت إلى التراب فصرت فيه كأنـي مـا برحــت مــن التــراب
قـال: فأخبرينـي عـن شـيء أولـه عـود وآخـره روح قالـت: عصــا موســى حيــن ألقاهــا فــي الــوادي فــإذا
هـي حيـة تسعـى بـإذن اللـه تعالـى قــال: فأخبرينــي عــن قولــه تعالــى: ولــي فيهــا مــآرب أخــرى قالــت:
كـان يغرسهـا فـي الـأرض فتزهــو وتثمــر وتظلــه مــن الحــر والبــرد وتحملــه إذا عيــى وتحــرس لــه الغنــم إذا
نـام مــن السبــاع قــال: أخبرينــي عــن أنثــى مــن ذكــر وذكــر مــن أنثــى قالــت: حــواء مــن آدم وعيســى مــن
مريـم قـال: فأخبرينـي عـن أربــع نيــران نــار تأكــل ونــار تشــرب ولا تشــرب ونــار تشــرب ولا تأكــل ونــار
تأكــل ولا تشـــرب قالـــت: أمـــا النـــار التـــي تأكـــل ولا تشـــرب فهـــي نـــار الدنيـــا وأمـــا النـــار التـــي تأكـــل
وتشـرب فهـي نـار جهنـم وأمـا النـار التـي تشـرب ولا تأكـل فهــي نــار الشمــس وأمــا النــار التــي لا تأكــل
ولا تشــرب فهــي نــار القمــر قــال: أخبرينــي كــم كلمــة كلــم اللــه موســـى قالـــت: روي عـــن رســـول اللـــه
صلـى اللـه عليـه وسلـم أنـه قـال: كلـم اللـه موسـى ألـف كلمـة وخمسمائــة عشــرة كلمــة قــال أخبرينــي عــن
أربعــة عشــر كلمــة رب العالميــن قالــت: السمــوات السبــع والأرضــون السبــع لمــا قالتــا: أتينــا طائعيــن.
فلمـا قالـت لـه الجـواب قـال لهـا: أخبرينــي عــن آدم وأول خلقتــه قالــت: خلــق اللــه آدم مــن طيــن والطيــن
مــن زبــد والزبــد مــن بحــر والبحــر مــن ظلمــة والظلمــة مــن ثــور والثــور مــن حــوت والحــوت مــن صخــرة
===
والصخــرة مــن ياقوتــة والياقوتــة مــن مـــاء والمـــاء مـــن القـــدرة لقولـــه تعالـــى: إنمـــا أمـــره إذا أراد شيئـــاً أن
يقول له: كن فيكون قال: فأخبريني عن قول الشاعر:
وآكلــــــة بغيــــــر فــــــم وبطــــــن لها الأشجار والحيوانات قوت
فإن أطعمتها انتعشت وعاشت ولــــو أسقيتهـــــا مـــــاء تمـــــوت
قالت: هي النار قال: فأخبريني عن قول الشاعر:
خليلـان ممنوعـان مــن كــل لــذة يبيتـــان طـــول الليـــل يعتنقــــان
هما يحفظان الأهل من كل آفة وعنـد طلـوع الشمـس يفترقـان
قالـت: همـا مصراعـا البـاب قـال: فأخبرينـي عــن أبــواب جهنــم قالــت: سبعــة وهــي ضمــن بيتيــن مــن
الشعر:
جهنـم ولظـى ثـم الحطيـم كــذا عد السعير وكل القول في سقر
وبعـد ذلـك جحيـم ثـم هاويــة فذاك عدتهم في قـول مختصـر
قال: فأخبريني عن قول الشاعر:
وذات ذوائــــب تنجــــر طــــولا وراها في المجيء وفي الذهـاب
بعيــن لــم تـــذق للنـــوم طعمـــا ولا ذرفت لدمع ذي انسكاب
===
قالــت: هــي الإبــرة قــال: فأخبرينــي عــن الصــراط ومــا هــو ومــا طولــه ومــا عرضــه قالـــت: أمـــا طولـــه
فثلاثــة آلــاف عـــام ألـــف هبوطـــه وألـــف صعـــوده والـــف استـــواء وهـــو أحـــد مـــن السيـــف وأرق مـــن
الشعرة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيــد أن الجاريــة لمــا وصفــت لــه الصــراط قــال: أخبرينــي كــم لنبينــا محمــد
صلــى اللــه عليــه وسلــم مــن شفاعــة قالــت لــه: ثلــاث شفاعــات قــال لهــا: هــل كــان أبــو بكـــر أول مـــن
أسلــم قالــت نعــم. قــال: إن علــي أسلــم قبــل ابابكـــر قالـــت: إن علـــي أتـــى النبـــي صلـــى اللـــه عليـــه
وسلــم وهــو ابــن سبــع سنيــن فأعطــاه اللــه الهدايــة علــى صغـــر سنـــه فمـــا سجـــد لصنـــم قـــط قـــال:
فأخبرينـي أعلــي أفضــل أم العبــاس فعلمــت أن هــذه مكيــدة لهــا فــإن قالــت: علــي أفضــل مــن العبــاس
فمــا لهــا مــن عــذر عنــد أميــر المؤمنيــن فأطرقــت ساعــة وهــي تـــارة تحمـــر وتـــارة تصفـــر ثـــم قالـــت:
تسألنـي عـن اسميـن فاضليـن لكـل منهمـا فضـل فارجـع بنـا إلـى مـا كنـا فيـه فلمـا سمعهـا الخليفـة هــارون
الرشيــد استــوى قائمــاً علــى قدميــه وقــال لهــا: أحسنــت ورب الكعبــة يــا تــودد فعنــد ذلــك قــال لهـــا
إبراهيم النظام: أخبريني عن قول الشاعر:
===
ويأخذ كل الناس منها منافعـا وتؤكل بعد العصر في رمضان
قالـــت: قصـــب السكـــر قـــال: فأخبرينـــي عـــن مسائـــل كثيـــرة قالـــت: ومـــا هـــي قـــال: مـــا أحلــــى مــــن
العســل ومــا أحــد مــن السيــف ومـــا أســـرع مـــن السهـــم ومـــا لـــذة ساعـــة ومـــا ســـرور ثلاثـــة أيـــام ومـــا
أطيـب يـوم ومـا فرحــة جمعــة ومــا الحــق الــذي لا ينكــره صاحــب الباطــل ومــا سجــن القبــو ومــا فرحــة
القلــب ومــا كيــد النفــس ومــا مــوت الحيــاة ومــا الــداء الــذي لا يــداوى ومــا العــار الـــذي لا ينجلـــي ومـــا
الدابة التي لا تـأوي إلـى العمـران وتسكـن الخـراب وتبغـض بنـي آدم وخلـق فيهـا خلـق مـن سبعـة جبابـرة
قالـت لـه: اسمـع جـواب مـا قلـت ثـم انـزع ثيابـك حتـى أفسـر لــك ذلــك قــال لهــا أميــر المؤمنيــن: فســري
وهــو ينــزع ثيابــه قالــت: أمــا مــا هــو أحلــى مــن العســل فهــو حــب الأولــاد الباريــن بوالديهــم وأمــا ماهــو
أحــد مــن السيــف فهــو اللســان وأمـــا مـــا اســـرع مـــن السهـــم فهـــو عيـــن الميعـــان وأمـــا لـــذة ساعـــة فهـــو
الجمـاع وأمـا سـرور ثلاثـة أيـام فهـو النـورة للنســاء وأمــا مــا هــو أطيــب يــوم فهــو يــوم الربــح فــي التجــارة
وأمــا فرحــة جمعــة فهــو العــروس وأمــا الحــق الــذي لا ينكــره صاحــب الباطـــل فهـــو المـــوت وأمـــا سجـــن
القبــر فهــو الولــد الســوء وأمــا فرحــة القلــب فهــي المــرأة المطيعــة لزوجهــا وقيــل: اللحـــم حيـــن ينـــزل عـــن
القلـــب فإنـــه يفـــرح بذلـــك وأمـــا كيـــد النفـــس فهـــو العبـــد العاصـــي وأمـــا مـــوت الحيـــاة فهـــو الفقـــر وأمــــا
الــداء الــذي لا يــداوى فهــو ســوء الخلــق وأمــا العـــار الـــذي لا ينجلـــي فهـــو البنـــت الســـوء وأمـــا الدابـــة
===
التـي لا تـأوي إلـى العمـران وتسكــن الخــراب وتبغــض بنــي آدم وخلــق فيهــا سبعــة جبابــرة فــإن الجــرادة
رأسهــا كــرأس الفــرس وعنقهــا عنــق الثــور وجناحهــا جنــاح النســر ورجلهــا رجــل الجمــل وذنبهــا ذنـــب
الحية وبطنها بطن العقرب وقرنها قرن الغزال.
فتعجـب الخليفـة هـارون الرشيـد مـن حذقهــا وفهمهــا ثــم قــال للنظــام: انــزع ثيابــك فقــام وقــال: أشهــد
علـى جميـع مـن حضـر هـذا المجلـس أنهـا أعلـم منـي ومـن كـل عالـم ونـزع ثيابـه وقـال لهـا: خذيهـا لا بــارك
اللـه لـك فيهـا فأمـر لـه أميـر المؤمنيـن بثيـاب يلبسهـا ثـم قـال أميـر المؤمنيـن: يـا تـودد بقـي عليـك شـيء ممــا
وعـدت بــه وهــو الشطرنــج وأمــر بإحضــار الشطرنــج والكمنجــة والنــرد فحضــروا وجلــس الشطرنجــي
معهــــا وصفــــت بينهمــــا الصفــــوف ونقــــل ونقلــــت فمــــا نقــــل شيئــــاً إلا أفسدتـــــه عـــــن قريـــــب. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الجاريـــة لمـــا لعبـــت الشطرنـــج مـــع المعلـــم بحضـــرة أميـــر المؤمنيـــن
هــارون الرشيــد صــارت كلمــا نقــل نقــلاً أفسدتــه حتــى غلبتــه ورأى الشــاه مــات فقـــال: أنـــا أردت أن
أطعمـك حتـى تظنـي أنـك عارفـة لكـن صفـي حتــى أريــك فلمــا صفــت الثانــي قــال فــي نفســه: افتــح
===
عينيـك وإلا غلبتـك وصــار مــا يخــرج قطعــة إلا بحســاب ومــا زال يلعــب حتــى قالــت لــه: الشــاه مــات
فلمـا رأى ذلـك منهـا دهـش مـن حذقهـا وفهمهـا فضحكـت وقالـت لــه: يــا معلــم أنــا أراهنــك فــي هــذه
المــرة الثالثــة علــى أن أرفـــع لـــك الفـــرزان ورخ الميمنـــة وفـــرس الميســـرة وإن غلبتنـــي فخـــذ ثيابـــي وإن
غلبتك أخذت ثيابك.
قـال: رضيـت بهـذا الشـرط ثـم صفــا الصفيــن ورفــع الفــرزان والــرخ والفــرس وقالــت لــه: انقــل يــا معلــم
فنقــل وقــال: مــا لــي لا أغلبهــا بعــد هــذه الحطيطــة وعقــد عقــداً وإذا هـــي نقلـــت نقـــلاً قليـــلاً إلـــى أن
صيــرت لــه فرزانـــا ودنـــت منـــه وقربـــت البيـــادق والقطـــع وشغلتـــه وأطعمتـــه قطعـــة فقطعهـــا فقالـــت:
الكيـل كيـل وافـي والـرز رز صافـي فكــل حتــى تزيــد علــى الشبــع مــا يقتلــك يــا ابــن آدم إلا الطمــع أمــا
تعلـم أنـي أطعمتــك لأخدعــك انظــر فهــذا الشــاه مــات ثــم قالــت لــه: انــزع ثيابــك فقــال لهــا اتركــي لــي
السراويـل وأجـرك علـى اللـه وحلـف باللـه لا يناظـر أحـداً مـا دامـت تـودد ببغــداد ثــم نــزع ثيابــه وسلمهــا
لهــا وانصــرف. فجــيء بلاعــب النــرد فقالــت لــه: إن غلبتــك فـــي هـــذا اليـــوم فمـــاذا تعطينـــي قـــال:
أعطيـك عشـر ثيـاب مـن الديبـاج القسطنطينـي المطـرز بالذهـب وعشـر ثيـاب مـن المخمــل وإن غلبتــك
فمـا أريـد منـك إلا أن تكتبـي لـي درجـاً بأنـي غلبتـك قالــت لــه: دونــك ومــا عولــت عليــه فلعــب فــإذا
هـو قـد خسـر وقـام وهـو يرطـن بالإفرنجيــة ويقــول: ونعمــة أميــر المؤمنيــن إنهــا لا يوجــد مثلهــا فــي سائــر
===
البلـــاد ثـــم إن أميـــر المؤمنيـــن دعـــا بأربـــاب آلـــات الضـــرب قالـــت: نعـــم فأمـــر بإحضـــار عــــود محكــــوم
مدعـوك مجـرود صاحبـه بالهجـران مكـدود فوضتـه فـي حجرهـا وأرخــت عليــه نهدهــا وانحنــت عليــه
انحنـاءة والـدة ترضـع ولدهـا وضربـت عليـه اثنـي عشــر نغمــاً حتــى مــاج المجلــس مــن الطــرب وأنشــدت
تقول:
أقصروا هجركـم أقلـوا جفاكـم فــــؤادي وحقكــــم ماسلاكــــم
وارحمــوا باكيــاً حزينــاً كئيبـــا ذا غـــرام متيـــم فــــي هواكــــم
فطـرب أميـر المؤمنيـن وقـال: بـارك اللــه فيــك ورحــم مــن علمــك فقامــت وقبلــت الــأرض بيــن يديــه ثــم
إن أميــر المؤمنيــن أمــر بإحضــار المــال ودفــع لمولاهــا مائــة ألــف دينــار وقـــال لهـــا: يـــا تـــودد تمنـــي علـــي
قالـت: تمنيـت عليـك أن تردنـي إلـى سيـدي الـذي باعنـي فقـال لهـا: نعـم فردهـا إليــه وأعطاهــا خمســة
آلـاف دينـار لنفسهــا وجعــل سيدهــا نديمــاً لــه علــى طــول الزمــان. وأدرك شهــرزاد الصبــاح فسكتــت
عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الخليفــة أعطــى الجاريــة خمســة آلــاف دينــار وردهــا إلــى مولاهــا
===
وجعلـه نديمـاً لـه علـى طـول الزمــان وأطلــق لــه فــي كــل شهــر ألــف دينــار وقعــد مــع جاريتــه تــودد فــي
أرغـد عيـش فأعجـب الملـك مـن فصاحـة هـذه الجاريــة ومــن غــزارة علمهــا وفهمهــا وفضلهــا فــي كامــل
العلـوم وانظـر إلــى مــروءة أميــر المؤمنيــن هــارون الرشيــد حيــث أعطــى سيدهــا هــذا المــال وقــال لهــا:
تمنــي علــي فتمنــت عليــه أن يردهــا إلــى سيدهــا فردهــا إليــه وأعطاهــا خمســـة آلـــاف دينـــار لنفسهـــا
وجعــل سيدهــا نديمــاً لــه فأيــن يوجــد هــذا الكــرم بعـــد الخلفـــاء العباسييـــن رحمـــة اللـــه تعالـــى عليهـــم
أجمعين.
جملة حكايات تتضمن عدم الاغترار بالدنيا والوثوق بها وما ناسب ذلك
وممـــا يحكـــى أيهـــا الملـــك السيعـــد أن ملكـــاً مـــن الملـــوك المتقدميـــن أراد أن يركـــب يومـــاً فـــي جملـــة أهـــل
مملكتـــه وأربـــاب دولتـــه ويظهـــر للخلائـــق عجائــــب زينتــــه فأمــــر أصحابــــه وأمــــراءه وكبــــراء دولتــــه أن
يأخـذوا أهبـة الخـروج معـه وأمـر خـازن الثيــاب بــأن يحضــر لــه مــن أفخــر الثيــاب مــا يصلــح للملــك فــي
زينتــه وأمــر بإحضــار خيلــه الموصوفـــة العتـــاق المعروفـــة ففعلـــوا ذلـــك ثـــم إنـــه اختـــار مـــن الثيـــاب مـــا
أعجبــه ومــن الخيــل مــا استحسنــه ثــم لبــس الثيــاب وركــب الجــواد وســار بالموكــب والطــوق المرصـــع
بالجواهــر وأصنـــاف الـــدرر واليواقيـــت وجعـــل يركـــب الحصـــان فـــي عسكـــره ويفتخـــر بتيهـــه وتجبـــره
فأتاه إبليس فوضع يده علـى ممخـره ونفـخ فـي أنفـه نفخـة الكبـر والعجـب فزهـا وقـال فـي نفسـه: مـن فـي
===
العامـل مثلـي وطفــق يتيــه بالعجــب الأكبــر ويظهــر الأبهــة ويزهــو بالخيــلاء ولا ينظــر إلــى أحــد مــن تيهــه
وتكبره وعجبه وفخره.
فوقـف بيـن يديـه رجـل عليـه ثيـاب رثـة فسلــم عليــه فلــم يــرد عليــه السلــام فقبــض علــى عنــان فرســه
فقــال لــه الملــك: ارفــع يــدك فإنــك لا تــدري بعنــان مــن قـــد أمسكـــت فقـــال لـــه: إن لـــي إليـــك حاجـــة
فقــال: اصبــر حتــى أنــزل واذكــر حاجتــك فقــال: إنهــا ســر ولا أقولهــا إلا فــي أذنــك فمــال بسمعــه إليـــه
فقـال لـه: أنـا ملـك المــوت وأريــد قبــض روحــك فقــال: امهلنــي بقــدر مــا أعــود إلــى بيتــي وأودع أهلــي
وأولـادي وجيرانـي وزوجتـي فقـال: كــلا لا تعــود ولــن تراهــم أبــداً فإنــه قــد مضــى أجــل عمــرك فأخــذ
روحه وهو على ظهر فرسه فخر ميتاً ومضى ملك الموت من هناك.
فأتــى رجــلاً صالحـــاً قـــد رضـــي اللـــه عنـــه فسلـــم عليـــه فـــرد عليـــه السلـــام فقـــال ملـــك المـــوت: أيهـــا
الرجـل الصالـح إن لـي إليـك حاجـة وهـي سـر فقـال لـه الرجـل الصالـح: اذكـر حاجتــك فــي أذنــي فقــال:
أنــا ملــك المــوت فقــال الرجــل مرحبــاً بــك الحمــد للــه فإنــي كنــت كثيــراً أراقــب مجيئــك ووصولـــك إلـــي
ولقــد طالــت غيبتــك علــى المشتــاق إلــى قدومــك فقــال لــه ملـــك المـــوت: إن كـــان لـــك شغـــل فاقضـــه
فقـال لـه: ليـس لـي شغـل أهـم عنـدي مــن لقــاء ربــي عــز وجــل فقــال: كيــف تحــب أن أقبــض روحــك
فإنــي أمــرت أن أقبضهــا كيــف أردت وأحببــت فقــال: أمهلنـــي حتـــى أتوضـــأ وأصلـــي فـــإذا سجـــدت
===
فاقبــــض روحــــي وأنــــا ساجــــد فقــــال ملــــك المــــوت: إن ربــــي عــــز وجـــــل أن لا أقبـــــض روحـــــك إلا
باختيــارك كيــف أردت وأنــا أفعــل مــا قلــت فقــام الرجــل وتوضـــأ وصلـــى فقبـــض ملـــك المـــوت روحـــه
وهو ساجد ونقله الله تعالى إلى محل الرحمة والرضوان والمغفرة.
وحكـي أن ملكـاً مـن الملــوك كــان قــد جمــع مــالاً عظيمــاً لا يحصــى عــدده واحتــوى علــى أشيــاء كثيــرة
مـن كـل نـوع خلقــه اللــه تعالــى فــي الدنيــا ليرفــه عــن نفســه حتــى إذا أراد أن يتفــرغ لمــا جمعــه مــن النعــم
الطائلـة بنـى لـه قصـراً عاليـاً مرتفعـاً شاهقـاً يصلـح للملـوك ويكـون لائقـاً ثــم ركــب عليــه بابيــن ووثــب لــه
الغلمــان والأجنــاد والبوابيــن كمــا أراد ثــم أمــر الطبــاخ فــي بعــض الأيــام أن يصنــع لــه شيئــاً مــن أطيــب
الطعـــام وجمـــع أهلـــه وحشمـــه وأصحابـــه وخدمـــه ليأكلـــوا عنـــده وينالـــوا رفـــده وجلـــس علــــى سريــــر
مملكتــه وسيادتــه واتكــأ علــى وسادتــه وخاطــب نفســه وقــال: يـــا نفـــس قـــد جمعـــت لـــك نعـــم الدنيـــا
بأسرهــا فالـــآن تفرغـــي وكلـــي مـــن هـــذه النعـــم مهنـــأة بالعمـــر الطويـــل والحـــظ الجزيـــل وأدرك شهـــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والخمسين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الملــك لمــا حــدث نفســـه وقـــال لهـــا: كلـــي مـــن هـــذه النعـــم مهنـــأة
===
بالعمـر الطويــل والحــظ الجزيــل ولــم يفــرغ ممــا حــدث بــه نفســه حتــى أتــاه رجــل مــن ظاهــر القصــر عليــه
ثيـاب رثــة وفــي عنقــه مخلــاة معلقــة علــى هيئــة سائــل يســأل الطعــام فجــاء وطــرق حلقــة بــاب القصــر
طرقـة عظيمـة هائلـة كــادت تزلــزل القصــر وتزعــج الشريــر فخــاف الغلمــان فوثبــوا إلــى البــاب وصاحــوا
بالطـــارق وقالـــوا لـــه: ويحـــك مـــا هـــذه الفعلـــة وســـوء الـــأدب اصبـــر حتـــى يأكـــل الملـــك ونعطيــــك ممــــا
يفضــل فقــال للغلمــان: قولــوا لصاحبكــم يخــرج إلــي حتــى يكلمنــي فلــي حاجــة وشغــل مهــم وأمــر ملـــم
قالـــوا: تنـــح أيهـــا الضيـــف مـــن أنـــت حتـــى تأمـــر صاحبنـــا بالخـــروج إليــــك فقــــال لهــــم: عرفــــوه ذلــــك
فجـاؤوا إليـه وعرفـوه فقــال: هــلا زجرتمــوه وجردتــم عليــه السلــام ونهرتمــوه ثــم طــرق البــاب أعظــم مــن
الطرقــة الأولــى فنهــض الغلمــان إليــه بالعصــي والسلــام وقصــدوه ليحاربــوه فصــاح بهــم صيحـــة وقـــال:
الزمـــوا أماكنكـــم فأنـــا ملـــك المـــوت فرعبـــت قلوبهـــم وذهبـــت عقولهـــم وطاشـــت حلومهــــم وارتعــــدت
فرائصهــم وبطلــت عــن الحركــة جوارحهـــم فقـــال لهـــم الملـــك: قولـــوا لـــه أن يأخـــذ بـــدلاً منـــي وعوضـــاً
عنـي فقـال ملـك المـوت: لا آخــذ بــدلاً ولا أتيــت إلا مــن أجلــك ثــم أن ملــك المــوت قبــض علــى روحــه
وهو على سريره قال الله تعالى: )حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون(.
وممـا يحكـى أن ملكـاً جبــاراً مــن ملــوك بنــي إسرائيــل كــان فــي بعــض الأيــام جالســاً علــى سريــر مملكتــه
فــرأى رجــلاً قــد دخــل عليــه مــن بــاب الــدار ولــه صــورة منكــرة وهيئـــة هائلـــة فاشمئـــز مـــن هجومـــه
===
عليــه وفــزع مــن هيئتــه فوثــب فــي وجهــه وقــال: مــن أنــت أيهـــا الرجـــل ومـــن أذن لـــك بالدخـــول علـــي
وأمــرك بالمجـــيء إلـــى داري فقـــال: أمرنـــي صاحـــب الـــدار وأنـــا لا يحجبنـــي حاجـــب ولا أحتـــاج فـــي
دخولـي علـى الملـوك إلـى اذن ولا أرهـب سياسـة سلطــان ولا كثــرة أعــوان أنــا الــذي لا يفزعنــي جبــار
ولا لأحــد مــن قبضــت فــرار أنــا هــادم اللــذات ومفــرق الجماعــات فلمـــا سمـــع الملـــك هـــذا الكلـــام خـــر
علـى وجهـه ودبـت الرعـدة فــي بدنــه ووقــع مغشيــاً عليــه فلمــا أفــاق قــال: أنــت ملــك الــوت قــال: نعــم
قــال: أقسمــت عليــك باللــه إلا مــا أمهلتنــي يومــاً واحــداً لأستغفــر مــن ذنبــي وأطلــب العــذر مــن ربــي
وأرد الأمـوال التـي فـي خزائنـي إلـى أربابهـا ولا أتحمـل مشقــة حسابهــا وويــل عقابهــا فقــال ملــك المــوت:
هيهات لا سبيل لك إلى ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والخمسين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن ملــك المــوت قــال للملــك: هيهــات لا سبيــل لــك إلــى ذلــك وكيــف
أمهلـــك وأيـــام عمـــرك محسوبـــة وأنفاســــك معــــدودة وأوقاتــــك مثبوتــــة مكتوبــــة فقــــال: أمهلنــــي ساعــــة
فقــال: إن الساعـــة فـــي الحســـاب قـــد مضـــت وأنـــت غافـــل وانقضـــت وأنـــت ذاهـــل وقـــد استوفيـــت
أنفاســك ولــم يبــق لــك إلا نفــس واحــد فقــال: مــن يكــون عنــدي إذا نقلــت إلــى لحـــدي قـــال: لا يكـــون
===
عنـدك إلا عملـك فقـال: مـا لـي عمـل قـال: لا جــرم أنــه يكــون مقيلــك فــي النــار ومصيــرك إلــى غضــب
الجبـار ثـم قبـض روحـه فخـر ساقطـاً عـن سريـره ووقـع إلـى الـأرض فحصـل الضجيـج فـي أهـل مملكتــه
وارتفعـت الأصـوات وعـلا الصيـاح والبكـاء ولـو علمــوا مــا يصيــر إليــه مــن سخــط ربــه لكــان بكاؤهــم
عليه أكثر وعويلهم أشد وأوفر.
وممـا يحكـى أنـه كـان فـي بنـي إسرائيـل قـاض مـن قضاتهـم وكــان لــه زوجــة بديعــة الجمــال كثيــرة الصــون
والصبــر والاحتمــال فــأراد ذلــك القاضــي النهــوض إلــى زيــارة البيــت المقــدس فاستخلـــف أخـــاه علـــى
القضــاء وأوصـــاه بزوجتـــه وكـــان أخـــوه قـــد سمـــع بحسنهـــا وجمالهـــا فكلـــف بهـــا فلمـــا ســـار القاضـــي
توجـه إليهـا وراودهــا عــن نفسهــا فامتنعــت واعتصمــت بالــورع فأكثــر الطلــب عليهــا وهــي تمتنــع فلمــا
يئـس منهـا خـاف أن تخبــر أخــاه بصنيعــه إذا رجــع فاستدعــى بشهــود زور يشهــدون عليهــا بالزنــا ثــم
رفـع مسألتهـا إلــى ملــك ذلــك الزمــان فأمــر برجمهــا فحفــروا لهــا حفــرة وأقعدوهــا فيهــا ورجمــت حتــى
غطتهـا الحجـارة وقــال: تكــون الحفــرة قبرهــا فلمــا جــن الليــل صــارت تئــن مــن شــدة مــا نالهــا فمــر بهــا
رجـل يريـد قريـة فلمـا سمـع أنينهـا قصدهــا وأخرجهــا مــن الحفــرة وحملهــا إلــى زوجتــه وأمرهــا بمداواتهــا
حتى شفيت.
وكــان للمــرأة ولــد فدفعتــه إليهــا فصـــارت تكفلـــه ويبيـــت معهـــا فـــي بيـــت ثـــان فرآهـــا أحـــد الشطـــار
===
فطمــع فيهــا وأرســل يراودهـــا عـــن نفسهـــا فامتنعـــت فعـــزم علـــى قتلهـــا فجاءهـــا الليـــل ودخـــل عليهـــا
البيـت وهـي نائمــة ثــم هــوى بالسكيــن إليهــا فوافــق الصبــي فذبحــه فلمــا علــم أنــه ذبــح الصبــي أدركــه
الخــوف فخــرج مــن البيــت وعصمهــا اللــه منــه ولمــا أصبحــت وجــدت الصبـــي مذبوحـــاً وجـــاءت أمـــه
وقالــت: أنــت التــي ذبحتيــه ثــم ضربتهـــا ضربـــاً موجعـــاً وارادت ذبحهـــا فجـــاء زوجهـــا وأنقذهـــا منهـــا
وقال: والله لم تفعل ذلك.
فخرجــت المــرأة فــارة بنفسهــا لا تــدري أيــن تتوجـــه وكـــان معهـــا بعـــض دراهـــم فمـــرت بقريـــة والنـــاس
مجتمعـون ورجـل مصلـوب علـى جـذع شجـرة إلا أنـه فـي قيــد الحيــاة فقالــت: يــا قــوم مــا لــه قالــوا لهــا:
أصــاب ذنبــاً لا يكفــره إلا قتلــه أو صدقــه كــذا وكــذا مــن الدراهــم فقالــت: خـــذوا الدراهـــم وأطلقـــوه
فتــاب علــى يديهــا ونــذر علــى نفســه أنــه يخدمهــا للــه تعالـــى حتـــى يتوفـــاه اللـــه ثـــم بنـــى لهـــا صومعـــة
أسكنهـا فيهــا وصــار يحتطــب ويأتيهــا بقوتهــا واجتهــدت المــرأة فــي العبــادة حتــى كــان لا يأتيهــا مريــض
أو مصاب فتدعو له إلا شفي من وقته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن المــرأة لمــا صــارت مقصــودة للنــاس وهــي مقبلــة علــى عبادتهــا فــي
===
الصومعـة كــان مــن قضــاء اللــه تعالــى أنــه نــزل بأخــي زوجهــا الــذي رجمهــا عاهــة فــي وجهــه وأصــاب
المـرأة التـي ضربتهـا بــرص وابتلــى الشاطــر بوجــع أقعــده وقــد جــاء القاضــي زوجهــا مــن حجــه وســأل
أخــاه عنهــا فأخبــره أنهــا ماتــت فأســف عليهــا واحتسبهــا عنــد اللــه ثــم تسامعــت النــاس بالمــرأة حتــى
كانــوا يقصــدون صومعتهــا مــن أطــراف الــأرض ذات الطــول والعــرض فقـــال القاضـــي لأخيـــه: يـــا أخـــي
هــل قصــدت هــذه المــرأة الصالحــة لعــل اللــه يجعــل لــك علــى يديهــا شفــاء قــال: يــا أخــي احملنـــي إليهـــا
وسمـع بهـا زوج المـرأة التـي نـزل بهـا البـرص فسـار بهـا إليهـا وسمــع أهــل الشاطــر المقعــد بخبرهــا فســاروا
بـه إليهـا أيضـاً واجتمـع الجميـع عنــد بــاب صومعتهــا وكانــت تــرى جميــع مــن يأتــي صومعتهــا مــن حيــث
لا يراهــا أحــد فانتظــروا خادمهــا حتــى جــاء ورغبــوا إليـــه فـــي أن يستـــأذن لهـــم فـــي الدخـــول عليهـــا
ففعــل فتنقبــت واستتــرت ووقفــت عنــد البــاب تنظــر زوجهـــا وأخـــاه اللـــص والمـــرأة فعرفتهـــم وهـــم لا
يعرفونهــا فقالــت لهــم: يــا هــؤلاء إنكــم مــا تستريحــون ممــا بكــم حتــى تعترفــون بذنوبكــم فــإن العبــد إذا
اعتـرف بذنبـه تـاب اللـه عليـه وأعطـاه مــا هــو متوجــه إليــه. فقــال القاضــي لأخيــه: يــا أخــي تــب إلــى
اللـه ولا تصــر علــى عصيانــك فإنــه أنفــع لخلاصــك فعنــد ذلــك قــال أخ القاضــي: الــآن أقــول الحــق إنــي
فعلــت بزوجتــك مــا هــو كــذا وكــذا وهــذا ذنبــي فقالــت البرصــاء: وأنــا كانــت عنــدي امـــرأة فنسبـــت
غليهــا مــا لــم أعلمــه وضربتهــا عمــداً وهــذا ذنبــي فقــال المقعــد: وأنــا دخلــت علــى امــرأة لأقتلهــا بعـــد
===
فقالـــت المــــرأة: اللهــــم كمــــا أريتهــــم ذل المعصيــــة فأرهــــم عــــز الطاعــــة إنــــك علــــى كــــل شــــيء قديــــر
فشفاهــم اللــه عــز وجــل وجعــل القاضـــي ينظـــر إليهـــا ويتأملهـــا فسألتـــه عـــن سبـــب النظـــر فقـــال لهـــا:
كانــت لــي زوجــة ولــولا أنهــا ماتــت لقلــت أنهــا أنـــت فعرفتـــه بنفسهـــا وجعـــلا يحمـــدان اللـــه عـــز وجـــل
علـــى مـــا مـــن عليهمـــا بـــه مـــن جمـــع شملهمـــا ثـــم طفـــق كـــل مـــن أخ القاضــــي واللــــص والمــــرأة يسألونهــــا
المسامحـة فسامحـت الجميـع وعبـدوا اللـه تعالــى فــي ذلــك المكــان مــع لــزوم خدمتهــا إلــى أن فــرق المــوت
بينهم.
وممــا يحكــى أن بعــض الســادة قــال: بينمــا أنــا أطــوف بالكعبــة فــي ليلــة مظلمـــة إذ سمعـــت صوتـــاً ذي
أنيــن ينطــق عــن قلــب حزيــن وهــو يقــول: يــا كريــم لطفــك القديــم فــإن قلبــي علــى العهــد مقيـــم فتطايـــر
قلبــي لسمـــاع ذلـــك الصـــوت تطايـــراً أشرفـــت منـــه علـــى المـــوت فقصـــدت نحـــوه فـــإذا صاحبتـــه امـــرأة
فقلــت: السلــام عليــك يــا أمــة اللــه فقالــت: وعليــك السلــام ورحمــة اللــه وبركاتــه فقلـــت: أسألـــك باللـــه
العظيـم مــا العهــد الــذي قلبــك عليــه مقيــم فقالــت: لــولا أقسمــت بالجبــار مــا أطلعتــك علــى الأســرار
انظـر مـا بيـن يـدي نظــر فــإذا بيــن يديهــا صبــي نائــم يغــط فــي نومــه فقالــت: خرجــت وأنــا حامــل بهــذا
الصبـــي لأحـــج هـــذا البيـــت فركبـــت علـــى سفينـــة فهاجـــت علينـــا الأمـــواج واختلفـــت علينـــا الريــــاح
وانكسـرت بنـا السفينـة فنجـوت علــى لــوح منهــا ووضعــت هــذا الصبــي وأنــا علــى ذلــك اللــوح فبينمــا
===
وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملـــك السعيـــد أن الجاريـــة قالـــت: لمـــا انكســـرت السفينـــة نجـــوت علـــى لـــوح منهـــا
ووضعـت هـذا الصبـي وأنـا علـى ذلـك اللـوح فبينمـا هـو فـي حجـري والأمـواج تضربنــي إذ نظــرت إلــى
رجـل مـن ملاحـي السفينـة وحصـل معـي وقـال لــي: واللــه لقــد كنــت أهــواك وأنــت فــي السفينــة والــآن
قـد حصلـت معـك فمكنينـي مـن نفسـك وإلا قذفتـك فـي هـذا البحــر فقلــت: ويحــك أمــا كــان لــك ممــا
رأيــت تذكــرة وعبــرة فقــال: إنــي رأيــت مثــل ذلــك مــراراً ونجـــوت وأنـــا لا أبالـــي فقلـــت: يـــا هـــذا نحـــن
فـي بليـة ارجـو السلامـة منهـا بالطاعـة لا بالمعصيـة فألــح علــي فخفــت منــه وأردت أن أخادعــه فقلــت
لـه: مهـلاً حتـى ينـام هــذا الطفــل فأخــذه مــن حجــري وقذفــه فــي البحــر فلمــا رأيــت جرأتــه ومــا فعــل
بالصبـي طـار قلبـي وزاد كربـي فرفعـت رأسـي إلـى السمـاء وقلـت: يـا مـن يحـول بيـن المـرء وقلبــه حــل
بينـي وبيـن هـذا الأسـد إنـك علـى كـل شـيء قديـر فواللـه مـا فرغـت مـن كلامــي إلا ودابــة قــد طلعــت
مـــن البحـــر فاختطفتـــه مـــن فـــوق اللـــوح وبقيـــت وحــــدي وزاد كربــــي وحزنــــي اشفاقــــاً علــــى ولــــدي
فأنشدت وقلت:
مــــرة العيــــن حبيبــــي ولــــدي ضاع حيث الوجه أوهى جلدي
===
ليـس لـي فـي كربتـي مـن فـرج غيـــر ألطافـــك يــــا معتمــــدي
أنت يا رب تـرى مـا حـل بـي مـــن غرامـــي بفراقـــي ولــــدي
فاجمع الشمل وكـن لـي راحمـاً فرجائــي فيــك أقــوى عــددي
فبقيــت علــى تلــك الحالــة يومــاً وليلــة فلمــا كــان الصبــاح نظــرت قلــع سفينــة تلــوح مــن بعــد فمــا زالـــت
الأمــواج تقذفنــي والريــاح تسوقنــي حتــى وصلــت إلــى تلــك السفينــة التــي كنــت أرى قلعهــا فأخذنـــي
أهـل السفينـة ووضعونــي فيهــا فنظــرت فــإذا ولــدي بينهــم فتراميــت عليــه وقلــت: يــا قــوم هــذا ولــدي
فمــن أيــن كــان لكــم قالــوا: بينمــا نحــن نسيــر فــي البحــر إذ حبســت السفينـــة فـــإذا دابـــة كأنهـــا المدينـــة
العظيمـة وهــذا الصبــي علــى ظهرهــا يمــص إبهامــه فأخذنــاه فلمــا سمعــت ذلــك حدثتهــم بقصتــي ومــا
جـرى لـي وشكــرت ربــي علــى مــا أنالنــي وعاهدتــه أن لا أبــرح مــن بيتــه ولا أنثنــي عــن خدمتــه ومــا
سألتــه بعــد ذلــك شيئــاً إلا أعطانــي إيــاه فممــدت يــدي إلــى كيــس النفقــة وأردت أن أعطيهــا فقالـــت:
إليــك عنــي يــا بطــال أأحدثــك بإفضالــه وكــرم فعالــه وآخــذ الرفــد عــن يــد غيـــره فلـــم أقـــدر علـــى أن
أجعلها تقبل مني شيئاً فتركتها وانصرفت من عندها وأنا أنشد وأقول هذه الأبيات:
وكــم لــك مـــن لطـــف خفـــي يـدق خفــاه عــن فهــم الذكــي
وكـم بسـر أنـي مـن بعـد عسـر وفــرج لوعــة القلـــب الشجـــي
===
إذا ضاقت بك الأسباب يومـاً فثــق بالواحــد الصمــد العلــي
تشفــــع بالنبــــي فكــــل عبـــــد يفـــــــوز إذا تشفـــــــع بالنبـــــــي
وما زالت في عبادة بها ملازمة بيته إلى أن أدركها الموت.
وممـا يحكـى أنـه كـان مـن بنــي إسرائيــل رجــل مــن خيارهــم وقــد اجتهــد فــي عبــادة ربــه وزهــد دنيــاه
وأزالهـا عـن قلبــه وكانــت لــه زوجــة مساعــدة لــه علــى شأنــه مطيعــة لــه فــي كــل زمــان وكانــا يعيشــان
مـن عمـل الأطبــاق والمــراوح يعملــان النهــار كلــه فــإذا كــان آخــر النهــار خــرج الرجــل بمــا عملــاه فــي يــده
ومشـى بـه يمــر علــى الأزقــة والطــرق يلتمــس مشتريــاً يبيــع لــه ذلــك وكانــا يديمــان الصــوم فأصبحــا فــي
يــوم مــن الأيــام وهمـــا صائمـــان وقـــد عمـــلا يومهمـــا ذلـــك فلمـــا كـــان آخـــر النهـــار وخـــرج علـــى عادتـــه
وبيــده مــا عملــاه يطلــب مــن يشتريــه منــه فمــر ببـــاب أحـــد أبنـــاء الدنيـــا وأهـــل الرفاهيـــة والجـــاه وكـــان
الرجـــل وضـــيء الوجـــه جميـــل الصـــورة فرأتـــه امـــرأة صاحـــب الـــدار فعشقتـــه ومـــال قلبهـــا إليـــه ميــــلاً
شديــداً وكــان زوجهــا غائبــاً فدعــت خادمتهــا وقالــت لهــا: لعلــك تتحليـــن علـــى ذلـــك الرجـــل لتأتـــي
بــه عندنــا. فخرجــت الخادمــة ودعتــه لتشتـــري منـــه مـــا بيـــده وردتـــه مـــن طريقـــه. وأدرك شهـــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الخادمـــة خرجـــت إلــــى الرجــــل ودعتــــه وقالــــت: ادخــــل فــــإن
سيدتـي تريـد أن تشتـري مـن هــذا الــذي بيــدك شيئــاً بعــد أن تختبــره وتنظــر إليــه فتخيــل الرجــل أنهــا
صادقـة فــي قولهــا ولــم يــر فــي ذلــك بأســاً فدخــل وقعــد كمــا أمرتــه فأغلقــت البــاب عليــه وخرجــت
سيدتهـا مـن بيتهــا وأمسكــت بجلابيبــه وجذبتــه وأدخلتــه وقالــت لــه: كــم ذا أطلــب خلــوة منــك وقــد
عيـل صبـري مـن أجلــك وهــذا البيــت مبخــر والطعــام محضــر وصاحــب الــدار غائــب فــي هــذه الليلــة
وأنــا قــد وهبــت لــك نفســي ولطالمــا طلبتنــي الملـــوك والرؤســـاء وأصحـــاب الدنيـــا فلـــم ألتفـــت لأحـــد
منهـم وطـال أمرهـا فـي القـول والرجـل لا يرفـع رأسـه مـن الــأرض حيــاء مــن اللــه تعالــى وخوفــاً مــن أليــم
عقابه كما قال الشاعر:
ورب كبيـــرة مـــا حـــال بينـــي وبيــــن ركوبهــــا إلــــى الحيـــــاء
وكـان هــو الــدواء لهــا ولكــن إذا ذهـــب الحيـــاء فــــلا دواء
قــال: وطمــع الرجــل فــي أن يخلــص نفســه منهــا فلــم يقــدر فقــال: أريــد منــك شيئــاً فقالـــت: ومـــا هـــو
قـال: أريـد مـاء طاهـراً أصعـد بـه إلـى أعلـى موضـع فـي دارك لأقضـي بـه أمـراً وأغســل بــه درنــاً ممــا لا
يمكننــي أن أطلعــك عليــه فقالــت: الــدار متسعـــة ولهـــا خبايـــا وزوايـــا وبيـــت المطهـــرة معـــد قـــال: مـــا
غرضــي إلا الارتفــاع فقالــت لخادمتهــا: اصعــدي بــه إلــى المنظــرة العليــا مـــن الـــدار فصعـــدت بـــه إلـــى
===
أعلــى موضــع فيهــا ودفعــت لــه آنيــة المــاء ونزلــت فتوضــأ الرجــل وصلـــى ركعتيـــن ونظـــر إلـــى الـــأرض
ليلقــي نفســه فرآهــا بعيــدة فخــاف أن لا يصــل إليهـــا وقـــد يتمـــزق ثـــم تفكـــر فـــي معصيـــة اللـــه تعالـــى
وعقابـه فهـان عليــه بــذل نفســه وسفــك دمــه فقــال: إلهــي وسيــدي تــرى مــا نــزل بــي ولا يخفــى عليــك
حالــي إنــك علــى كــل شــيء قديــر ثــم إن الرجــل ألقــى نفســه مــن أعلــى المنظــرة فبعــث اللــه إليــه ملكــاً
احتملـه علـى جناحـه وأنزلـه إلـى الــأرض سالمــاً دون أن ينالــه مــا يؤذيــه فلمــا استقــر بالــأرض حمــد اللــه
عز وجل على ما أولاه من عصمته وما أناله من رحمته.
وسـار دون شـيء إلــى زوجتــه وكــان قــد أبطــأ عنهــا فدخــل وليــس معــه شــيء فسألتــه عــن سبــب
بطئـه وعمـا خـرج بـه فـي يـده ومـا فعـل بـه وكيـف رجـع بـدون شـيء فأخبرهـا بمـا عـرض لـه مـن الفتنـة
وأنـه ألقـى نفســه مــن ذلــك الموضــع فنجــاه اللــه فلقالــت زوجتــه: الحمــد للــه الــذي صــرف عنــك الفتنــة
وحـال بينـك وبيـن المحنـة ثـم قالـت: يـا رجــل إن الجيــران قــد تعــودوا منــا أن نوقــد تنــوراً كــل ليلــة فــإن
رأونـا الليلـة دون نـار وعلمـوا أننـا بـلا شــيء ومــن شكــر الــه كتــم مــا نحــن فيــه مــن الخصاصــة ووصــال
صـــوم هـــذه الليلـــة باليـــوم الماضـــي وقيامهـــا للـــه تعالـــى فقامـــت إلـــى التنـــور وملأتـــه حطبـــاً وأضرمتـــه
لتغالط به الجيران وأنشدت تقول هذه الأبيات:
سأكتم ما بي من غرامي وأشجاني وأضرم ناري كي أغالط جيراني
===
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والستين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن المــرأة أضرمــت النــار كــي تغالــط الجيــران نهضــت هــي وزوجهــا
فتوضــآ وقامــا إلــى الصلــاة فــإذا امــرأة مــن جاراتهــا تستــأذن فـــي أن توقـــد مـــن تنورهـــا فقـــالا لهـــا: لا
شأنــك والتنــور فلمــا دخلــت المــرأة مــن التنــور لتأخــذ النـــار نـــادت: يـــا فلانـــه أدركـــي خبـــزك قبـــل أن
يحتـــرق فقالـــت امـــرأة الرجـــل لزوجهـــا: أسمعـــت مـــا تقـــول هـــذه المـــرأة فقـــال: قومـــي وانظـــري فقامــــت
وتوجهــت للتنــور فــإذا هــو قــد امتـــلأ مـــن خبـــز نقـــي أبيـــض فأخـــذت المـــرأة الأرغفـــة ودخلـــت علـــى
زوجهــا وهــي تشكــر اللــه عــز وجــل علــى مــا أولــى مــن الخيــر العميــم والمــن الجسيــم فأكــلا مــن الخبــز
وشربــا مــن المــاء وحمــدا اللــه تعالــى ثــم قالــت المـــرأة لزوجهـــا: تعـــال ندعـــو اللـــه تعالـــى عســـاه أن يمـــن
علينـا بشـيء يغنينـا عـن كـد العيشـة وتعـب العمـل ويعيننــا بــه علــى عبادتــه والقيــام بطاعتــه قــال لهــا:
نعـم فدعـا الرجـل ربـه وأمنـت المــرأة علــى دعائــه فــإذا السقــف قــد انفــرج ونزلــت ياقوتــة أضــاء البيــت
من نورها فزادا شكراً وثناء وسرا بتلك الياقوتة سروراً كثيراً وصليا ما شاء الله تعالى.
فلمـا كـان آخـر الليـل نامـا فــرأت المــرأة فــي منامهــا كأنهــا دخلــت الجنــة وشاهــدت منابــر كثيــرة مصفوفــة
===
وكراســـي كثيـــرة منصوبـــة فقالــــت: مــــا هــــذه المنابــــر ومــــا هــــذه الكراســــي فقيــــل لهــــا: هــــذه منابــــر
الأنبيــاء وهــذه كراســي الصديقيــن والصالحيـــن فقالـــت: وأيـــن كرســـي زوجـــي فلـــان فقيـــل لهـــا: هـــذا
فنظـرت إليـه فـإذا فـي جانبـه ثلــم فقالــت: ومــا هــذا الثلــم فقيــل لهــا: هــو ثلــم الياقوتــة المنزلــة عليكمــا
من سقف بيتكما.
فانتبهـت مـن منامهـا وهـي باكيـة حزينــة علــى نقصــان كرســي زوجهــا بيــن كراســي الصديقيــن فقالــت:
أيهـا الرجـل ادع ربــك أن يــرد هــذه الياقوتــة إلــى موضعهــا فمكابــدة الجــوع والمسكنــة فــي الأيــام القلائــل
أهـون مـن ثلـم كرسيــك بيــن أصحــاب الفضائــل فدعــا الرجــل ربــه فــإذا الياقوتــة قــد ســارت صاعــدة
إلى السقف وهما ينظران إليها وما زالا على فقرهما وعبادتهما حتى لقيا الله عز وجل.
وممـــا يحكـــى أن سيـــدي إبراهيـــم الخـــواص رحمـــة اللـــه عليـــه قـــال: طالبتنـــي نفســـي فــــي وقــــت مــــن
الأوقــات بالخــروج إلــى بلــاد الكفــار فكففتهــا فلــم تكـــف وتكتـــف وعملـــت علـــى نفـــي هـــذا الخاطـــر
فلــم ينتــف فخرجــت أختــرق ديارهـــا وأجـــول أقطارهـــا والعنايـــة تكتنفنـــي والرعايـــة تحفنـــي لا ألقـــى
نصرانيــاً إلا غــض ناظــره عنــي وتباعــد منــي إلــى أن أتيــت مصــراً مــن الأمصــار فوجــدت عنـــد بابهـــا
جماعــة مـــن العبيـــد عليهـــم الأسلحـــة وبأيديهـــم الحديـــد فلمـــا رأونـــي قـــاوا علـــى القـــدوم وقالـــوا لـــي:
أطبيـــب أنـــت قلـــت: نعـــم فقالـــوا: أجـــب الملـــك واحتملونـــي إليــــه فــــإذا هــــو ملــــك عظيــــم ذو وجــــه
===
وسيــم. فلمــا دخلــت عليــه نظــر إلــي وقــال: أطبيـــب أنـــت قلـــت: نعـــم فقـــال: احملـــوه إليهـــا وعرفـــوه
بالشــرط قبــل دخولــه عليهــا فأخرجونــي وقالــوا لــي: إن للملــك ابنــة قـــد أصابهـــا إعلـــال شديـــد وقـــد
أعيـا الأطبـاء علاجهـا ومـا مـن طبيـب دخـل عليهــا وعالجهــا ولــم يفــد طبــه إلا قتلــه الملــك فانظــر مــاذا
تــرى فقلــت لهــم: إن الملــك سألنــي إليهــا فأدخلونــي عليهــا فاحتملونــي إلــى بابهــا فلمــا وصلــت قرعــوه
فإذا هي تنادي: من داخل الدار أدخلوها على الطبيب صاحب السر العجيب وأنشدت تقول:
افتحوا الباب فقد جاء الطبيب وانظروا نحوي فلي سر عجيب
فلكــــــــم مقتــــــــرب مبتعــــــــد ولكـــم مبتعـــد وهــــو قريــــب
كنتــم فيمــا بينكــم فــي غربــة فـــأراد الحـــق أنســـي بغريـــب
جمعتنـــــــــا نسبـــــــــة دينيــــــــــة فتـــــرى أي محـــــب وحبيـــــب
ودعانــــي للتلاقــــي إذا دعـــــا حجـب العـاذل عنـا والرقيــب
فاتركـوا عذلـي وخلـوا لومكــم إنني يـا ويحكـم لسـت أجيـب
لسـت ألـوي نحــو فــان غائــب إنمـــا قصـــدي بـــاق لا يغيـــب
قــال: فــإذا شيــخ كبيــر قــد فتــح البــاب بسرعـــة وقـــال: ادخـــل فدخلـــت فـــإذا بيـــت مبســـوط بأنـــواع
الرياحين وستـر مضـروب فـي زاويتـه ومـن خلفـه أنيـن ضعيـف يخـرج مـن هيكـل نحيـف فجلسـت بـإزاء
===
الستــر وأردت أن أسلــم فتذكــرت قولــه صلــى اللــه عليــه وسلــم: لا تبــدؤا اليهـــود والنصـــارى بالسلـــام
وإذا لقيتموهــم فــي طريــق فاضطروهــم إلــى أضيقــه فأمسكــت فنــادت مــن داخــل الستـــر: أيـــن سلـــام
التوحيـــد والإخلـــاص يـــا خـــواص قـــال: فتعجبـــت مـــن ذلـــك وقلـــت: مـــن أيــــن عرفتينــــي فقالــــت: إذا
صفــت القلــوب والخواطــر أعربــت الألســن عــن مخبـــآت الضمائـــر وقـــد سألتـــه البارحـــة أن يبعـــث إلـــي
وليــاً مــن أوليائــه يكــون لــي علــى يديــه الخلــاص فنوديــت مــن زوايــا بيتــي لا تحزنــي إنـــا سنرســـل إليـــك
إبراهيـم الخـواص. فقلـت لهـا: مـا خبـرك فقالـت لـي: أنـا منـذ أربـع سنيـن قـد لـاح لـي الحــق المبيــن فهــو
المحـدث والأنيـس والمقـرب والجليـس. فرمقنـي قومـي بالعيـون وظنـوا بـي الظنـون ونسبونــي إلــى الجنــون
فمــا دخــل علــي طبيــب منهــم إلا أوحشنــي ولا زائــر إلا أدهشنــي فقلــت: ومــا دليـــل ذلـــك علـــى مـــا
وصلـــت إليـــه قالـــت: براهينـــه الواضحـــة وآياتـــه اللائحـــة وإذا وضـــح لـــك السبيـــل شاهـــدت المدلــــول
والدليـــل قـــال: فبينمـــا أنـــا أكلمهـــا إذ جـــاء الشيـــخ الموكـــل بهـــا وقـــال لهــــا: مــــا فعــــل طبيبــــك قالــــت:
عرف العلة وأصاب الدواء.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والستين بعد الأربعمائة
===
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الشيــخ الموكــل بهــا لمــا دخـــل عليهـــا قـــال لهـــا: مـــا فعـــل طبيبـــك
قالـت: عـرف العلـة وأصـاب الـدواء فظهـر لـي منـه البشـر والسـرور وقابلنـي بالبــر والحبــور فســار إلــى
الملــك وأخبــره فحضــه الملــك علــى إكرامـــي فبقيـــت اختلـــف إليهـــا سبعـــة أيـــام فقالـــت: يـــا أباإسحـــق
متــى تكــون الهجــرة إلـــى دار الإسلـــام فقلـــت: كيـــف يكـــون خروجـــك ومـــن يتجاســـر عليـــه فقالـــت:
الذي أدخلك علي وساقك إلي فقلت: نعم ما قلت.
فلمــا كــان الغــد خرجنــا علــى بــاب الحصــن وحجــب عنــا العيــون مــن أمــره إذا أراد شيئــاً أن يقــول لــه
كــن فيكــون قــال: فمـــا رأيـــت أصبـــر منهـــا علـــى الصيـــام والقيـــام فجـــاورت بيـــت اللـــه الحـــرام سبعـــة
أعـوام ثـم قضـت نحبهــا وكانــت أرض مكــة تربتهــا أنــزل اللــه عليهــا الرحمــات ورحــم اللــه مــن قــال هــذه
الأبيات:
ولما أتوني بالطبيب وقد بدت دلائل من دم سفوح ومن سقم
نضا الثوب عن وجهي فلم ير تحته سوى نفس من غير روح ولا جسم
فقـال لهـم ذا قـد تعــذر بــرؤه وللحب سر ليس يدرك بالوهم
فقالوا إذا لـم يعلـم النـاس مابـه ولم يك تعريف بحد ولا رسـم
فكيف يكون الطب فيه مؤثراً دعوني فإني لست أحكم بالوهم
===
وممــا يحكــى أن رجــلاً مــن خيـــار بنـــي إسرائيـــل كـــان كثيـــر المـــال ولـــه ولـــد صالـــح مبـــارك فحضـــرت
الرجـل الوفـاة فقعـد ولـده عنـد رأسـه وقــال: ياسيــدي أوصنــي فقــال: يــا بنــي لا تحلــف باللــه بــاراً ولا
فاجــراً ثــم مــات الرجــل وبقــي الولــد بعــد أبيــه فتسامــع بــه فســاق بنـــي إسرائيـــل فكـــان الرجـــل يأتيـــه
فيقـول لـي: عنـد والـدك كـذا وكـذا وأ ت تعلـم بذلـك أعطنـي مـا فـي ذماتــه وإلا فاحلــف فيقــف الولــد
علـى الوصيـة ويعطيـه جميـع مـا طلبـه فمـا زالـوا بـه حتـى فنــي مالــه واشتــد إقلالــه وكــان للولــد زوجــة
صالحــة مباركــة ولــه منهــا ولــدان صغيــران فقــال لهـــا: إن النـــاس قـــد أكثـــروا طلبـــي ومـــادام معـــي مـــا
أدفـع بـه عـن نفسـي بذلتـه والـآن لـم يبـق لـي شـيء فـإن طالبنـي مطالـب امتحنـت أنـا وأنـت فالأولـى أن
نفــوز بأنفسنــا ونذهــب إلــى موضــع لا يعرفنــا فيــه أحــد ونتعيــش بيــن أظهــر النـــاس قـــال: فركـــب بهـــا
البحر وبولديه وهو لا يعرف أين يتوجه والله يحكم ولا معقب لحكمه ولسان الحال يقول:
يا خارجاً خوف العدا من داره واليسـر قـد وافـاه عنـد فـراره
لا تجزعـــن مـــن البعـــاد فربمـــا عز الغريـب يطـول بعـد مـراره
لو قد أقام الدر فـي أصدافـه ما كان تاج الملـك بيـت قـراره
قــال: فانكســرت السفينــة وخــرج الرجــل علــى لــوح وخرجــت المــرأة علــى لــوح وخـــرج كـــل ولـــد علـــى
لــوح وفرقتهــم الأمــواج فحصلــت المـــرأة علـــى بلـــدة وحصـــل أحـــد الولديـــن علـــى بلـــدة أخـــرى والتقـــط
===
الولــد الآخــر أهــل سفينــة فــي البحــر وأمــا الرجــل فقذفتـــه الأمـــواج إلـــى جزيـــرة منقطعـــة فخـــرج إليهـــا
وتوضأ من البحر وأذن وأقام الصلاة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الرجـــل لمـــا خـــرج إلـــى الجزيـــرة وتوضـــأ مـــن البحـــر وأذن وأقـــام
الصلـاة. فـإذا قـد خـرج مـن البحـر أشخـاص بألــوان مختلفــة فصلــوا معــه ولمــا فــرغ قــام إلــى شجــرة فــي
الجزيـة فأكـل مـن ثمرهـا فـزال عنـه جوعـه ثـم وجـد عيـن مــاء فشــرب منهــا وحمــد اللــه عــز وجــل وبقــي
ثلاثـة أيـام يصلــي وتخــرج أقــوام يصلــون مثــل صلاتــه وبعــد مضــي الأيــام الثلاثــة سمــع مناديــاً يناديــه: يــا
أيهـا الرجـل الصالـح البـار بأبيــه المجــل قــدر ربــه لا تحــزن إن اللــه عــز وجــل مخلــف عليــك مــا خــرج مــن
يـدك فـإن فـي هـذه الجزيـة كنـوزاً وأمـوالاً ومنافــع يريــد اللــه أن تكــون لهــا وارثــاً وهــي فــي موضــع كــذا
وكــذا مــن هــذه الجزيــرة فاكشــف عنهــا وإنــا لنســوق إليــك السفــن فأحســـن إلـــى النـــاس وادعهـــم إليـــك
فـإن اللـه عـز وجـل يميـل قلوبهـم إليـك فقصـد ذلـك الموضـع مـن الجزيــرة وكشــف اللــه تعالــى لــه عــن تلــك
الكنــوز وصــارت أهــل السفــن تــرد عليــه فيحســن إليهــم إحسانـــاً عظيمـــاً ويقـــول لهـــم: لعلكـــم تدلـــون
علــي النــاس. فإنــي أعطيكــم كــذا وكــذا واجعــل لهــم كـــذا وكـــذا فصـــار النـــاس يأتـــون مـــن الأقطـــار
===
والأماكــن. ومــا مضــت عليــه عشــري سنيــن إلا والجزيـــرة قـــد عمـــرت والرجـــل صـــار ملكهـــا لا يـــأوي
إليه أحد إلا أحسن إليه.
وشــاع ذكــره فــي الـــأرض بالطـــول والعـــرض. وكـــان ولـــده الأكبـــر قـــد وقـــع عنـــد رجـــل علمـــه وأدبـــه
والآخـر قـد وقـع عنـد رجـل ربـاه وأحسـن تربيتـه وعلمـه طـرق التجـارة والمـرأة قـد وقعــت عنــد رجــل
مــن التجــار ائتمنهــا علــى مالــه وعاهدهــا علــى أن لا يخونهـــا وأن يعينهـــا علـــى طاعـــة اللـــه عـــز وجـــل
وكـان يسافـر بهـا فـي السفينـة إلـى البلـاد ويستصحبهـا فـي أي موضــع أراد فسمــع الولــد الأكبــر بصيــت
ذلـك الملـك فقصـده وهـو لا يعلـم مـن هـو. فلمـا دخـل عليــه أخــذه وائتمنــه علــى ســره وجعلــه كاتبــاً لــه
وسمـع الولـد الآخـر بذلـك الملـك العـادل الصالــح فقصــده وســار إليــه وهــو لا يعلــم مــن هــو أيضــاً. فلمــا
دخـل عليـه وكلـه علـى النظـر فـي أمــوره وبقــي مــدة مــن الدهــر فــي خدمتــه وكــل واحــد منهــم لا يعلــم
بصاحبـه وسمـع الرجـل التاجـر الـذي عنـد المـرأة بذلــك الملــك وبــره للنــاس وإحسانــه إليهــم فأخــذ جانبــاً
مـــن الثيـــاب الفاخـــرة وممـــا يستظـــرف مـــن تحـــف البلـــاد وأتـــى بسفينـــة والمـــرأة معـــه حتـــى وصـــل إلـــى
شاطـئ الجزيـرة ونـزل إلـى الملــك وقــدم لــه هديتــه فنظرهــا الملــك وســر بهــا ســروراً كبيــراً وأمــر للرجــل
بجائـزة سنيـة وكــان فــي الهديــة عقاقيــر أراد الملــك مــن التاجــر أن يعرفهــا لــه بأسمائهــا ويخبــره بمصالحهــا
فقال الملك للتاجر: أقم الليلة عندنا.
===
وفي الليلة الرابعة والستين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن التاجــر لمــا قــال لـــه الملـــك: أقـــم الليلـــة عندنـــا قـــال: إن لـــي فـــي
السفينـة وديعـة عاهدتهـا أن لا أوكـل أمرهـا إلـى غيـري وهـي امـرأة صالحـة تمنيـت بدعائهـا وظهــرت لــي
البركـة فـي آرائهـا فقـال الملــك: سأبعــث لهــا أمنــاء يبيتــون عليهــا ويحرســون كــل مــا لديهــا قــال: فأجابــه
لذلــك وبقــي عنــد الملــك ووجــه الملــك كاتبــه ووكيلــه إليهــا وقــال لهمــا: اذهبـــا واحرســـا سفينـــة هـــذا
الرجـل الليلـة إن شـاء اللـه تعالــى قــال: فســارا وصعــدا إلــى السفينــة وقعــد هــذا علــى مؤخرهــا وذاك
علــى مقدمهــا وذكــر اللــه عــز وجــل برهــة مــن الليــل ثــم قــال أحدهمـــا للآخـــر: يـــا فلـــان إن الملـــك قـــد
أمرنــا بالحراســة ونخــاف النــوم فتعالــى نتحــدث بأخبــار الزمــان ومــا رأينــا مــن الخيـــر والامتحـــان فقـــال
الآخــر: يــا أخــي أمــا أنــا فمــن امتحانــي أن فـــرق الدهـــر بينـــي وبيـــن أبـــي وأمـــي وأخ لـــي كـــان اسمـــه
كاسمـــك والسبـــب فـــي ذلـــك أنـــه ركـــب والدنـــا البحـــر مـــن بلــــد كــــذا وكــــذا فهاجــــت علينــــا الريــــاح
واختلفت فكسرت السفينة وفرق الله شملنا.
فلمــا سمــع الآخــر بذلــك قــال: ومــا كــان اســم والدتــك يــا أخــي قـــال: فلانـــة قـــال: ومـــا اســـم والـــدك
قـــال: فلـــان فترامـــى الـــأخ علـــى أخيـــه وقـــال لـــه: أنـــت أخـــي. واللـــه حقـــاً وجعـــل كـــل واحـــد منهمـــا
===
يحــدث أخــاه بمــا جــرى عليــه فــي صغــره والـــأم تسمـــع الكلـــام ولكنهـــا كتمـــت أمرهـــا وصبـــرت نفسهـــا
فلمــا طلــع الفجــر قــال أحدهمــا للآخــر: ســر يــا أخــي نتحــدث فـــي منزلـــي قـــال: نعـــم فســـارا وأتـــى
الرجــل فوجــد المــرأة فــي كــرب شديــد فقــال لهــا: مــا دهــاك ومــا أصابــك قالـــت: وبعثـــت إلـــي الليلـــة
مــن أرادنــي بالســوء وكنــت منهمــا فــي كــرب عظيــم فغضــب التاجــر وتوجــه للملــك وأخبــره بمـــا فعـــل
الأمينـــان فأحضرهمـــا الملـــك بسرعـــة وكــــان يحبهمــــا لمــــا تحقــــق فيهمــــا مــــن الأمانــــة والديانــــة ثــــم أمــــر
بإحضــار المــرأة حتــى تذكــر مــا كــان منهمــا مشافهـــة. فجـــيء بهـــا وأحضـــرت فقـــال لهـــا: أيتهـــا المـــرأة
مــاذا رأيــت مــن هذيــن الأمينيــن فقالــت: أيهــا الملـــك أسألـــك باللـــه العظيـــم رب العرشـــي الكريـــم. إلا
مــا أمرتهمــا يعيــدا كلامهمــا الــذي تكلمــا بــه البارحــة فقــال لهمــا الملــك: قــولا مــا قلتمــا ولا تكتمــا منـــه
شيئـاً فأعـادا كلامهمـا. وإذا بالملـك قـد قـام مــن فــوق السريــر وصــاح صيحــة عظيمــة وترامــى عليهمــا
واعتنقهمـــا. وقـــال: واللـــه أنتمـــا ولـــداي حقـــاً فكشفـــت المـــرأة عـــن وجههـــا وقالـــت: أنــــا واللــــه أمهمــــا
فاجتمعـوا جميعـاً وصـاروا فـي ألـذ عيـش وأهنـأه إلـى أن أتاهــم المــوت فسبحــان مــن إذا قصــده العبــد
نجا ولم يخب ما أمله فيه ورجا وما أحسن ما قيل في المعنى:
لكل شيء من الأشياء ميقات والأمـر فيـه أخـي محـو واثبــات
لا تجز عن لامر قد دهيـت بـه فقـد أتانـا بيسـر العســر آيــات
===
وكم مبهان عيان الناس تشنؤه مـن الهـوان تغشيــة الكرامــات
هـذا الـذي نالـه كـرب وكابـده ضر وحلت به في الوقت آفات
وفـرق الدهـر منـه شمـل الفتــه فكلهم بعد طول الجمع اشتات
أعطاه مولاه خيرا ثم جاء بهـم وفي الجميع إلى المولى اشـارات
سبحان من عمت الأكوان قدرته وأخبـــرت بتدانيــــه الدلالــــات
فهــو القريــب ولكــن لا يكيفــه عقل وليست تدانيه المسافات
حكاية حاسب كريم الدين
وممـا يحكـى أنـه كـان فـي قديـم الزمـان وسالــف العصــر والــأوان حكيــم مــن حكمــاء اليونــان وكــان ذلــك
الحكيــم يسمــى دانيــال وكــان لــه تلامــذة وجنــود وكانــت حكمــاء اليونــان يذعنــون لأمــره ويعولــون علــى
علومــه ومــع هــذا لــم يــرزق ولــداً ذكــراً فبينمــا هــو ذات ليلــة مــن الليالــي يتفكــر فــي نفســه علــى عــدم
إنجــاب ولــد يرثــه فــي علومــه مــن بعــده إذ خطــر ببالــه أن اللــه سبحانــه وتعالــى يجيــب دعــوة مــن إليـــه
أنـاب وأنـه ليـس علـى بـاب فضلـه أبـواب ويــرزق مــن يشــاء بغيــر حســاب ولا يــرد سائــلاً إذا سألــه بــل
يجـــزل الخيـــر والإحســـان لـــه فســـأل اللـــه تعالـــى الكريــــم أن يرزقــــه ولــــداً يخلفــــه مــــن بعــــده ويجــــزل لــــه
===
الإحسـان مـن عنـده ثـم رجـع إلـى بيتـه وواقـع زوجتـه فحملــت منــه فــي تلــك الليلــة. وأدرك شهــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والستين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الحكيــم اليونانــي رجــع إلـــى بيتـــه وواقـــع زوجتـــه فحملـــت منـــه
تلـك الليلـة ثـم بعـد أيـام سافـر إلـى مكـان فـي مركـب فانكســرت بــه المركــب وراحــت كتبــه فــي البحــر
وطلـع هـو علـى لـوح مـن تلـك السفينــة وكــان معــه خمــس ورقــات بقيــت مــن الكتــب التــي وقعــت منــه
فــي البحــر فلمــا رجــع إلــى بيتــه وضــع تلــك الــأوراق فــي صنــدوق وقفــل عليهــا وكانــت زوجتــه قــد
ظهــر حملهــا فقــال لهــا: اعلمــي أنــي قــد دنـــت وفاتـــي وقـــرب انتقالـــي مـــن دار الفنـــاء إلـــى دار البقـــاء
وأنــت حامــل فربمــا تلديــن بعــد موتــي صبيــاً ذكــراً فــإذا وضعتيــه فسميــه حاسبــا كريـــم الديـــن وربيـــه
أحسـن التربيـة فـإذا كبـر وقـال لـك: مـا خلـف لـي أبـي مـن الميــراث فأعطيــه هــذه الخمــس ورقــات فــإذا
قرأهــا وعــرف معناهــا يصيــر أعلــم أهــل زمانــه ثــم إنــه ودعهــا وشهــق شهقــة ففــارق الدنيــا ومــا فيهــا
رحمــة اللــه تعالــى عليــه فبكــت عليــه أهلــه وأصحابــه ثــم غسلــوه وأخرجـــوه خرجـــة عظيمـــة ودفنـــوه
ورجعوا.
===
ثــم إن زوجتــه بعــد أيــام قلائــل وضعــت ولــداً مليحــاً فسمتـــه حاسبـــا كريـــم الديـــن كمـــا أوصاهـــا بـــه
ولمـا ولدتـه أحضــرت لــه المنجميــن فحسســوا طالعــه وناظــره مــن الكواكــب ثــم قالــوا لهــا: اعلمــي أيتهــا
المــرأة أن هــذا المولــود يعيــش أيامــاً كثيــرة ولكــن بعــد شــدة تحصــل لــه فــي مبتــدا عمــره فــإذا نجــا منهــا
فإنــه يعطــى بعــد ذلــك علــم الحكمــة ثــم مضــى المنجمــون إلــى حــال سبيلهــم فأرضعتــه اللبــن سنتيــن
وفطمته.
فلمـا بلـغ خمـس سنيــن حطتــه فــي المكتــب ليتعلــم شيئــاً مــن العلــم فلــم يتعلــم فأخرجتــه مــن المكتــب
وحطتـه فـي الصنعـة فلـم يتعلـم شيئـاً مـن الصنعـة ولـم يطلـع مـن يـده شـيء مــن الشغــل فبكــت أمــه مــن
أجـل ذلــك فقــال لهــا النــاس: زوجيــه لعلــه يحمــل هــم زوجتــه ويتخــذ لــه صنعــة فقامــت وخطبــت لــه
بنتــاً وزوجتــه بهــا ومكــث علــى ذلــك الحــال مــدة مــن الزمــان وهــو لــم يتخــذ لــه صنعــة أبــداً ثــم إنهــم
كـان لهـم جيـران حطابـون فأتـوا أمـه وقالـوا لهـا: اشتـري لابنـك حمـاراً وحبـلاً وفأســاً ويــروح معنــا إلــى
الجبل فنحتطب نحن وإياه ويكون ثمن الحطب له ولنا وينفق عليكم مما يخصه.
فلمــا سمعــت أمــه ذلــك مــن الحطابيــن فرحــت فرحــاً شديــداً واشتــرت لابنهـــا حمـــاراً وحبـــلاً وفأســـاً
وأخذتــه وتوجهــت بــه إلــى الحطابيــن وسلمتــه إليهــم وأوصتهــم عليــه فقالــوا لهــا: لا تحملــي هـــم هـــذا
الولــد ربنــا يرزقــه وهــذا ابــن شيخنــا ثــم أخــذوه معهــم وتوجهــوا إلــى الجبــل فقطعــوا الحطــب وأنفقـــوا
===
على عيالهم ثـم إنهـم شـدوا حميرهـم ورجعـوا إلـى الاحتطـاب فـي ثانـي يـوم وثالـث يـوم ولـم يزالـوا علـى
هذه الحالـة مـدة مـن الزمـان فاتفـق أنهـم ذهبـوا إلـى الاحتطـاب فـي بعـض الأيـام فنـزل عليهـم مطـر عظيـم
فهربــوا إلــى مغــارة عظيمــة ليــداروا أنفسهـــم فيهـــا مـــن ذلـــك المطـــر فقـــام مـــن عندهـــم حاســـب كريـــم
الديـــن وجلـــس وحـــده فـــي مكـــان مـــن تلـــك المغـــارة وصـــار يضــــرب الــــأرض بالفــــأس فسمــــع حــــس
الــأرض خاليــة مـــن تحـــت الفـــأس فلمـــا عـــرف أنهـــا خاليـــة مكـــث يحفـــر ساعـــة فـــرأى بلاطـــة مـــدورة
وفيهــا حلقــة فلمــا رأى ذلــك فــرح ونــادى جماعتـــه الحطابيـــن وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن
الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والستين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن حاسبـــا كريـــم الديـــن لمـــا رأى البلاطـــة التـــي فيهـــا الحلقـــة فـــرح
ونـــادى جماعتـــه فحضـــروا إليـــه فـــرأوا تلـــك البلاطـــة فتسارعـــوا إليهـــا وقلعوهـــا فوجـــدوا تحتهـــا بابـــاً
ففتحــوا البــاب الــذي تحــت البلاطــة فــإذا هــو جــب ملــآن عســل نحــل فقــال الحطابــون لبعضهــم: هــذا
جـــب ملـــآن عســـلاً ومـــا لنـــا إلا أن نـــروح المدينـــة ونأتـــي بظـــروف ونعبـــي هـــذا العســـل فيهـــا ونبيعــــه
ونقتسم حقه وواحد منا يقعد ليحفظه من غيرنا.
===
فقـــال حاسبـــك أنـــا أقعـــد وأحرســـه حتــــى تروحــــوا وتأتــــوا بالظــــروف فتركــــوا حاسبــــا كريــــم الديــــن
يحــرس لهـــم الجـــب وذهبـــوا إلـــى المدينـــة وأتـــوا بظـــروف وعبوهـــا مـــن ذلـــك العســـل وحملـــوا حميرهـــم
ورجعـوا إلـى المدينـة وباعـوا ذلـك العسـل ثــم عــادوا إلــى الجــب ثانــي مــرة ومــا زالــوا علــى هــذه الحالــة
مـدة مـن الزمـان وهـم يبيعـون فـي المدينـة ويرجعـون إلــى الجــب يعبــون مــن ذلــك العســل وحاســب كريــم
الدين قاعد يحرس لهم الجب.
فقالــوا لبعضهــم يومــاً مــن الأيــام إن الــذي لقــي جــب العســل حاســب كريــم الديــن وفــي غـــد ينـــزل إلـــى
المدينـة ويدعــي علينــا ويأخــذ ثمــن العســل ويقــول: أنــا الــذي لقيتــه ومالنــا خلــاص مــن ذلــك إلا أن ننزلــه
فـي الجـب ليعبـئ العسـل الـذي بقـي فيـه ونتركـه هنـاك فيمـوت كمـداً ولا يـدري بـه أحــدا فاتفــق الجميــع
علــى هــذا الأمــر ثــم ســاروا ومــا زالــوا سائريــن حتـــى أتـــوا إلـــى الجـــب فقالـــوا لـــه: يـــا حاســـب انـــزل
الجـب وعبـئ لنـا العسـل الـذي بقــي فيــه فنــزل حاســب فــي الجــب وعبــأ لهــم العســل الــذي بقــي فيــه
وقـال لهـم اسحبونـي فمـا بقـي فيـه شــيء فلــم يــرد عليــه أحــد منهــم جوابــاً وحملــوا حميرهــم وســاروا
إلـى المدينـة وتركـوه فــي الجــب وحــده وصــار يستغيــث ويبكــي ويقــول: لاحــول ولا قــوة إلا باللــه العلــي
العظيم قد مت كمداً هذا ما كان من أمر حاسب كريم الدين.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر الحطابيــن فإنهــم لمــا وصلــوا إلــى المدينــة باعــوا العســل وراحــوا إلـــى أم حاســـب
===
وهـم يبكـون وقالــوا لهــا: يعيــش رأســك فــي ابنــك حاســب فقالــت لهــم: مــا سبــب موتــه قالــوا لهــا:
كنــا قاعديــن فــوق الجبــل فأمطــرت علينــا السمــاء مطــراً عظيمــاً فآوينــا إلــى مغــارة لنتــدارى فيهــا مـــن
ذلـك المطـر فلـم نشعــر إلا وحمــار ابنــك هــرب فــي الــوادي فذهــب خلفــه ليــرده مــن الــوادي وكــان فيــه
ذئــب عظيــم فافتــرس ابنــك وأكــل الحمــار. فلمــا سمعــت أمــه كلــام الحطابيــن لطمــت وجههـــا وحثـــت
التـراب علـى رأسهـا وأقامـت عــزاءه وصــار الحطابــون يجيئــون لهــا بالأكــل والشــرب فــي كــل يــوم هــذا
ما كان من أمر أمه.
وأمـا مـا كـان مـن أمـر الحطابيـن فإنهــم فتحــوا لهــم دكاكيــن وصــاروا تجــاراً ولــم يزالــوا فــي أكــل وشــرب
وضحك ولعب.
وأمـا مــا كــان مــن أمــر حاســب كريــم الديــن فإنــه صــار يبكــي وينتحــب فبينمــا هــو قاعــد فــي الجــب
علـى هـذه الحالـة وإذا بعقـرب كبيـر وقـع إليـه فقـام وقتلـه ثـم تفكـر فـي نفسـه وقـال: إن الجـب كـان ملآنـاً
عســلاً فمــن أيــن أتــى هــذا العقــرب فقــام ينظــر المكــان الـــذي وقـــع منـــه العقـــرب وصـــار يلتفـــت يمينـــاً
وشمـالاً فــي الجــب فــرأى المكــان الــذي وقــع منــه العقــرب يلــوح منــه النــور فأخــرج سكينــاً كانــت معــه
ووســع ذلــك المكــان حتــى صــار قــدر الطاقــة وخــرج منــه وتمشــى ساعــة فــي داخلــه فـــرأى دهليـــزاً
عظيمـاً فمشـى فيـه فــرأى بابــاً عظيمــاً مــن الحديــد الأســود وعليــه قفــل مــن الفضــة وعلــى ذلــك القفــل
===
مفتــاح مــن الذهــب فتقــدم إلــى البــاب ونظــر مــن خلالـــه فـــرأى نـــوراً عظيمـــاً يلـــوح مـــن داخلـــه فأخـــذ
المفتـاح وفتـح البـاب وعبـر إلـى داخلـه وتمشـى ساعـة حتــى وصــل إلــى بحيــرة عظيمــة فــرأى فــي تلــك
البحيـرة شيئـاً يلمـع مثـل المـاء فلـم يـزل يمشـي حتــى وصــل إليــه فــرأى تــلاً عاليــاً مــن الزبرجــد الأخضــر
وعليــه تخــت منصـــوب مـــن الذهـــب مرصـــع بأنـــواع الجواهـــر وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن
الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والستين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيـــد أن حاسبـــا الديـــن كريـــم لمـــا وصـــل إلـــى التـــل وجـــده مـــن الزبرجـــد
الأخضــر وعليـــه تخـــت منصـــوب مـــن الذهـــب مرصـــع بأنـــواع الجواهـــر وحـــول ذلـــك التخـــت كراســـي
منصوبــة بعضهــا مــن الذهــب وبعضهــا مــن الفضــة وبعضهــا مــن الزمـــرد الأخضـــر فلمـــا أتـــى إلـــى تلـــك
الكراسـي تنهـد ثـم عدهـا فرآهـا اثنـي عشـر كرســي فطلــع علــى ذلــك التخــت المنصــوب فــي وســط
تلــك الكراســي وقعــد عليــه وصــار يتعجــب مـــن تلـــك البحيـــرة وتلـــك الكراســـي المنصوبـــة ولـــم يـــزل
متعجبــاً حتــى غلــب عليــه النــوم فنــام ساعــة وإذا هـــو يسمـــع نفخـــاً وصفيـــراً وهرجـــاً عظيمـــاً ففتـــح
عينيــه وقعــد فــرأى علــى الكرســي حيــات عظيمــة طــول كــل حيــة منهـــن مائـــة ذراع فحصـــل لـــه مـــن
===
ذلـك فــزع عظيــم ونشــف ريقــه مــن شــدة خوفــه ويئــس مــن الحيــاة وخــاف خوفــاً عظيمــاً ورأى عيــن
كـل حيــة تتوقــد مثــل الجمــر وهــي فــوق الكراســي والتفــت إلــى البحيــرة فــرأى فيهــا حيــات صغــار لا
يعلــم عددهــا إلا اللــه تعالــى. وبعــد ساعــة أقبلــت عليــه حيــة عظيمــة مثــل البغــل وعلــى ظهـــر تلـــك
الحيـة طبـق مـن الذهـب وفـي وسـط ذلـك الطبـق حيـة تضـيء مثـل البلـور ووجههــا وجــه إنســان وهــي
تتكلم بلسان فصيح فلما قربت من حاسب الدين سلمت عليه فرد عليها السلام.
ثــم أقبلــت حيــة مــن تلــك الحيــات التــي فــوق الكراســي إلــى ذلــك الطبـــق وحملـــت الحيـــة التـــي فوقـــه
وحطتهـا علـى كرسـي مـن تلـك الكراسـي ثـم إن تلــك الحيــة زعقــت فــي تلــك الحيــات بلغاتهــا فخــرت
جميــع الحيــات مــن فــوق كراسيهــا ودعــون لهــا وأشــارت إليهــن بالجلـــوس فجلســـن ثـــم إن الحيـــة قالـــت
لحاســـب كريـــم الديـــن لا تخـــف منـــا يـــا أيهـــا الشـــاب فإنـــي أنـــا ملكـــة الحيـــات وسلطانتهـــن فلمـــا سمــــع
حاســب كريــم الديــن ذلــك الكلــام مــن الحيــة اطمــأن قلبــه ثــم إن الحيــة أشـــارت إلـــى تلـــك الحيـــات أن
يأتـوا بشـيء مـن الأكـل فأتــوا بتفــاح وعنــب ورمــان وفستــق وبنــدق وجــوز ولــوز ومــوز وحطــوه قــدام
حاســب كريــم الديــن ثــم قالــت لــه ملكــة الحيــات: مرحبــاً بــك يــا شــاب مــا اسمــك فقــال لهــا: اسمـــي
حاســب كريــم الديــن فقالــت لــه: يــا حاســب كــل مــن هــذه الفواكــه فمــا عندنــا طعــام غيرهــا ولاتخــف
منا أبداً فلما سمع حاسب هذا الكلام من الحية أكل حتى اكتفى وحمد الله تعالى.
===
فلمــا اكتفــى مــن الأكــل رفعــوا السمــاط مــن قدامــه ثــم بعــد ذلــك قالــت لــه ملكــة الحيــات: أخبرنــي يــا
حاسـب مـن أيـن أنـت ومـن أيـن أتيـت إلـى هــذا المكــان ومــا جــرى لــك فحكــى لهــا حاســب مــا جــرى
لأبيـه وكيـف ولدتـه أمـه وألحقتـه فـي المكتـب وهـو ابـن خمـس سنيـن ولـم يتعلـم شيئـاً مـن العلــم وكيــف
حطتـه فـي الصنعــة وكيــف اشتــرت أمــه لــه الحمــار وصــار حطابــاً وكيــف لقــي جــب العســل وكيــف
تركـه رفقـاؤه الحطابـون فـي الجـب وراحـوا وكيـف نــزل عليــه العقــرب وقتلــه وكيــف وســع الشــق الــذي
نزل منـه العقـرب وطلـع مـن الجـب وأتـى إلـى البـاب الحديـدي وفتحـه حتـى وصـل إلـى ملكـة الحيـاة التـي
يكلمها ثم قال لها: وهذه حكايتي من أولها إلى آخرها والله أعلم بما يحصل لي بعد هذا كله.
فلمــا سمعــت ملكــة الحيــات حكايــة حاســب كريــم الديــن مــن أولهــا إلــى آخرهـــا قالـــت لـــه مـــا يحصـــل
لك إلا كل خير وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والستين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن ملكــة الحيــات لمــا سمعــت حكايــة حاســب كريــم الديــن مــن أولهــا
إلـى آخرهـا قالـت لـه مــا يحصــل لــك إلا كــل خيــر ولكــن أريــد منــك يــا حاســب أن تقعــد عنــدي مــدة
مـن الزمـن حتــى أحكــي لــك حكايتــي وأخبــرك بمــا جــرى لــي مــن العجائــب فقــال لهــا: سمعــاً وطاعــة
===
فيمـا تأمرينـي بـه فقالـت لـه: اعلــم يــا حاســب أنــه كــان بمدينــة مصــر ملــك مــن بنــي إسرائيــل وكــان لــه
ولـد اسمـه بولقيـا وكـان هــذا الملــك عالمــاً عابــداً مكبــاً علــى قــراءة كتــب العلــم فلمــا ضعــف وأشــرف
علـى المـوت طلعـت لـه أكابـر دولتـه ليسلمـوا عليـه فلمــا جلســوا عنــده وسلمــوا عليــه قــال لهــم. يــا قــوم
اعلمـوا أنـه قـد دنـا رحيلـي مـن الدنيـا إلـى الآخـرة ومـا لـي عندكــم شــيء أوصيكــم بــه إلا ابنــي بلوقيــا
فاستوصـــوا بـــه ثـــم قـــال أشهـــد أن لا إلـــه إلا اللـــه وشهـــق شهقــــة ففــــارق ال دنيــــا رحمــــة اللــــه عليــــه
فجهــزوه وغسلــوه ودفنــوه وأخرجــوه خرجــة عظيمــة وجعلــوا ولــده سلطانــاً عليهـــم وكـــان ولـــده عـــادلاً
في الرعيـة واستراحـت النـاس فـي زمانـه فاتفـق فـي بعـض الأيـام أنـه فتـح خزائـن أبيـه ليتفـرج فيهـا ففتـح
خزانــة مــن تلــك الخزائــن فوجــد فيهــا صــورة بــاب ففتحــه فــإذا هــي خلــوة صغيـــرة وفيهـــا عامـــود مـــن
الرخــام الأبيــض وفوقــه صنــدوق مــن الأبنــوس فأخــذه بلوقيــا وفتحــه فوجــد فيـــه صندوقـــاً آخـــر مـــن
الذهــب ففتحــه فــرأى فيــه كتابــاً ففتحــه وقــرأه فــرأى فيــه صفــة محمــد صلــى اللـــه عليـــه وسلـــم وأنـــه
يبعث في آخر الزمان وهو سيد الأولين والآخرين.
فلمـا قـرأ بلوقيـا هـذا الكتــاب وعــرف صفــات سيدنــا محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم تعلــق قلبــه بحبــه
ثــم إن بلوقيــا جمــع أكابــر بنــي إسرائيــل مــن الكهــان والأحبــار والرهبــان وأطلعهــم علــى ذلــك الكتـــاب
وقــرأه عليهــم وقـــال لهـــم: يـــا قـــوم ينبغـــي أن أخـــرج أبـــي مـــن قبـــره وأحرقـــه وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح
===
وفي الليلة التاسعة والستين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن بلوقيــا قــال لقومــه لابــد أن أخــرج أبــي مــن قبــره وأحرقــه فقــال لــه
قومـه: لـأي شـيء تحرقــه فقــال لهــم بلوقيــا: لأنــه أخفــى عنــي هــذا الكتــاب ولــم يظهــره لــي وقــد كــان
استخرجـه مـن التـوراة ومــن صحــف إبراهيــم ووضــع هــذا الكتــاب فــي خزانــة مــن خزائنــه ولــم يطلــع
عليـه أحـد مــن النــاس فقالــوا لــه يــا ملكنــا إن أبــاك قــد مــات وهــو الــآن فــي التــراب وأمــره مفــوض إلــى
ربـه ولا تخرجـه مـن قبـره فلمـا سمـع بلوقيــا هــذا الكلــام مــن أكابــر بنــي إسرائيــل عــرف أنهــم لا يمكنونــه
مــن أبيــه فتركهــم ودخــل علــى أمــه وقــال لهــا: يــا أمــي إنــي رأيــت فــي خزائــن أبــي كتابــاً صفـــة محمـــد
صلى الله عليـه وسلـم وهـو نبـي يبعـث فـي آخـر الزمـان وقـد تعلـق قلبـي بحبـه وأنـا أريـد أن أسيـح فـي
البلاد حتى أجتمع بـه فإننـي إن لـم أجتمـع بـه مـت غرامـاً فـي حبـه ثـم نـزع ثيابـه ولبـس عبـاءة وزربونـاً
وقــال لا تنسينــي يــا أمــي مــن الدعــاء فبكــت عليــه أمــه وقالــت لـــه: كيـــف يكـــون حالنـــا بعـــدك قـــال
بلوقيا: ما بقي لي صبر أبداً وقد فوضت أمري وأمرك إلى الله تعالى.
ثـم خـرج سائحـاً نحـو الشـام ولـم يـدر بـه أحـد مـن قومـه وسـار حتــى وصــل إلــى ساحــل البحــر فــرأى
مركبـاً فنـزل فيهــا مــع الركــاب وســارت بهــم إلــى أن أقبلــوا علــى جزيــرة فطلــع الركــاب مــن المركــب إلــى
===
تلـك الجزيـرة وطلـع معهـم ثـم انفـرد عنهـم فـي الجزيـرة وقعـد تحـت شجـرة فغلـب عليـه النـوم فنــام ثــم إنــه
أفــاق مــن نومــه وقــام إلــى المركــب لينــزل فيــه فــرأى المركــب أقلــع ورأى فـــي تلـــك الجزيـــرة حيـــات مثـــل
الحمـــال ومثـــل النخـــل وهـــم يذكـــرون اللـــه عـــز وجـــل ويصلـــون علـــى محمـــد صلـــى اللـــه عليــــه وسلــــم
ويصيحــــون بالتهليــــل والتسسبيــــح فلمــــا رأى ذلــــك بلوقيــــا تعجــــب غايــــة العجـــــب وأدرك شهـــــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السبعين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن بلوقيـــا لمـــا رأى الحيـــات يسبحـــون ويهللـــون تعجـــب مــــن ذلــــك
غايــة العجــب ثــم إن الحيــات لمــا رأوا بلوقيــا اجتمعــوا عليــه وقالــت لـــه حيـــة منهـــم: مـــن تكـــون أنـــت
ومــن أيــن أتيــت ومــا اسمــك وإلــى أيــن رائــح فقــال لهــا اسمــي بلوقيــا وأنــا مــن بنــي إسرائيــل وخرجـــت
هائمــاً فــي حــب محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم وفــي طلبــه فمــن تكونــون أنتــم أيتهـــا الخليقـــة الشريفـــة
فقالـت لـه الحيـات نحـن مـن سكـان جهنـم وقـد خلقنــا اللــه تعالــى نقمــة علــى الكافريــن فقــال لهــم بلوقيــا
ومــا الــذي جــاء بكــم إلــى هــذا المكــان فقالــت لــه الحيــاة اعلــم يـــا بلوقيـــا أن جهنـــم مـــن كثـــرة غليانهـــا
تتنفـس فـي السنـة مرتيـن مـرة فـي الشتـاء ومـرة فـي الصيـف واعلـم أن كثـرة الحـر مـن شــدة قيحهــا ولمــا
===
تخـرج نفسهـا ترمينـا مـن بطنهـا ولمــا تسحــب نفسهــا تردنــا إليهــا فقــال لهــم بلوقيــا: هــل فــي جهنــم أكبــر
منكـم فقالـت لـه الحيــات إننــا مــا نخــرج إلا مــع تنفسهــا لصغرنــا فــإن فــي جهنــم كــل حيــة لــو عبــر أكبــر
ما فينا في أنفها لم تحس به.
فقــال لهــم بلوقيــا: أنتــم تذكــرون اللــه وتصلــون علــى محمــد ومــن أيــن تعرفــون محمــداً صلـــى اللـــه عليـــه
وسلــم فقالــوا يــا بلوقيــا: إن اســم محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم مكتــوب علــى بــاب الجنــة ولولـــاه مـــا
خلــق اللــه المخلوقــات ولا جنــة ولا نــار ولا سمـــاء ولا أرضـــاً لـــأن اللـــه لـــم يخلـــق جميـــع الموجـــودات إلا
مــن أجــل محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم وقــرن اسمــه فــي كــل مكــان ولأجــل هــذا نحـــن نحـــب محمـــداً
صلى الله عليه وسلم.
فلمـا سمـع بلوقيـا هـذا الكلـام مـن الحيـات زاد غرامـه فـي حــب محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم وعظيــم
اشتياقـه إليـه ثــم إن بلوقيــا ودعهــم وســار حتــى وصــل إلــى شاطــئ البحــر فــرأى مركبــاً راسيــاً فــي
جنــب الجزيــرة فنــزل فيــه مــع ركابــه وســار بهــم ومــا زالــوا سائريـــن حتـــى وصلـــوا إلـــى جزيـــرة أخـــرى
فطلـع عليهـا وتمشـى ساعــة فــرأى فيهــا حيــات كبــاراً وصغــاراً لا يعلــم عددهــا إلا اللــه تعالــى وبينهــم
حيـة بيضــاء أبيــض مــن البلــور وهــي جالســة علــى طبــق مــن الذهــب وذلــك الطبــق علــى ظهــر حيــة
مثــل الفيــل وتلــك الحيــة ملكــة الحيــات وهــي أنــا يــا حاســب ثــم إن حاسبــا ســأل ملكــة الحيــات وقــال
===
فقالــت الحيــة يــا حاســب اعلــم أنــي لمــا نظــرت إلــى بلوقيــا سلمــت فــرد علــي السلــام وقلـــت لـــه: مـــن
أنــت ومــا شأنــك ومــن أيــن أقبلــت وإلــى أيــن تذهــب ومــا اسمــك فقــال أنــا مــن بنـــي إسرائيـــل واسمـــي
بلوقيـا وأنـا سائـح فـي حـب محمـد صلـى اللـه عليـه وسلـم وفـي طلبـه فإنـي رأيــت صفاتــه فــي الكتــب
المنزلــة ثــم إن بلوقيــا سألنــي وقـــال لـــي أي شـــيء أنـــت ومـــا شأنـــك ومـــا هـــذه الحيـــات التـــي حولـــك
فقلـت لـه يـا بلوقيـا أنـا ملكـة الحيـات وإذا اجتمعـت بمحمـد صلــى اللــه عليــه وسلــم فأقــرأه منــي السلــام
ثم إن بلوقيا ودعني ونزل في المركب حتى وصل إلى بيت المقدس.
وكـــان فـــي بيـــت المقـــدس رجـــل تمكـــن مـــن جميـــع العلـــوم وكـــان متقنـــاً لعلــــم الهندســــة وعلــــم الفلــــك
والحســاب والكيميــاء والروحانــي وكــان يقــرأ التــوراة والإنجيــل والزبـــور وصحـــف إبراهيـــم وكـــان يقـــال
لــه عفــان وقــد وجــد فــي كتــاب عنـــده أن كـــل مـــن لبـــس خاتـــم سيدنـــا سليمـــان انقـــادت لـــه الإنـــس
والجــن والطيــر والوحــوش وجميــع المخلوقــات ورأى فــي بعــض الكتــب أنـــه لمـــا توفـــي سيدنـــا سليمـــان
وضعـوه فـي تابـوت وعـدوا بـه سبعـة أبحـر وكـان الخاتـم فـي اصبعـه ولا يقـدر أحــد مــن الإنــس ولا مــن
الجــن أن يأخــذ ذلــك الخاتــم ولا يقــدر أحــد مــن أصحــاب المراكــب أن يــروح بمركــب إلــى ذلــك المكــان
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن عفــان وجــد فــي بعــض الكتــب أنــه لا يقــدر أحــد مــن الإنــس ولا
مـــن الجـــن أن يأخـــذ الخاتـــم مـــن اصبـــع سيدنـــا سليمـــان ولا يقـــدر أحــــد مــــن أصحــــاب المراكــــب أن
يسافـر بمركبـه فـي السبعـة أبحـر التـي عدوهـا بتابوتـه ووجـد فـي بعـض الكتـب أيضـاً أن بيـن الأعشـاب
عشبـاً كـل مـن أخـذ منـه شيئـاً وعصـره وأخـذ مــاءه ودهــن بــه قدميــه فإنــه يمشــي علــى أي بحــر خلقــه
اللـه تعالـى ولا تبتـل قدمــاه ولا يقــدر أحــد علــى تحصيــل ذلــك إلا إذا كانــت معــه ملكــة الحيــات ثــم إن
بلوقيـا لمـا دخـل بيـت المقـدس جلـس فـي مكـان يعبـد اللـه تعالـى فبينمــا هــو جالــس يعبــد اللــه إذ أقبــل
عليــه عفــان وسلــم عليــه فــرد عليــه السلــام ثــم إن عفــان نظــر إلــى بلوقيــا فــرآه يقــرأ فــي التـــوراة وهـــو
جالـــس يعبـــد اللـــه تعالـــى فتقـــدم إليـــه وقـــال لـــه: أيهـــا الرجـــل مـــا اسمـــك ومـــن أيـــن أتيــــت وإلــــى أيــــن
تذهــب فقــال لــه: اسمــي بلوقيــا وأنــا مــن مدينــة مصــر خرجــت سائحــاً فــي طلــب محمــد صلـــى اللـــه
عليه وسلم.
فقــال عفــان لبلوقيــا: قــم معــي إلــى منزلــي حتــى أستضيفــك فقــال سمعــاً وطاعــة فأخـــذ عفـــان بيـــد
بلوقيــا وذهــب إلــى منزلــه وأكرمــه غايــة الإكــرام وبعــد ذلــك قــال لــه أخبرنـــي يـــا أخـــي بخبـــرك مـــن أيـــن
عرفـت محمـد صلـى اللـه عليـه وسلـم حتـى تعلـق قلبـك بحبـه وذهبـت فـي طلبـه ومـن دلـك علــى هــذا
الطريق فحكى له بلوقيا حكايته من الأول إلى الآخر.
===
فلمــا سمــع عفــان كلامـــه كـــاد أن يذهـــب عقلـــه وتعجـــب مـــن ذلـــك غايـــة العجـــب ثـــم إن عفـــان قـــال
لبلوقيـا اجمعنـي علـى ملكـة الحيـات وأنـا أجمعـك علـى محمـد صلـى اللـه عليــه وسلــم لــأن زمــان مبعــث
محمـد صلـى اللـه عليـه وسلـم بعيـد وإذا ظفرنـا بملكـة الحيـات نحطهــا فــي قفــص ونــروح إلــى الأعشــاب
التـي فـي الجبـال وكـل عشـب جزنـا عليـه وهـي معنـا ينطـق ويخبـر بمنفعتــه بقــدرة اللــه تعالــى فإنــي قــد
وجـدت عنـدي فـي الكتـب أن فـي الأعشـاب عشبـاً كـل مـن أخـذه ودقـه وأخـذ مـاءه ودهـن بـه قدميـه
ومشــى علــى أي بحــر خلقــه اللــه تعالــى لــم يبتــل لــه قــدم فــإذا أخذنــا ملكــة الحيــات تدلنــا علــى ذلـــك
العشــب وإذا وجدنــاه نأخــذه وندقــه ونأخــذ مـــاءه ثـــم نطلقهـــا إلـــى حـــال سبيلهـــا وندهـــن بذلـــك المـــاء
أقدامنـا ونعـدي السبعـة أبحـر ونصـل إلـى مدفـن سيدنـا سليمـان ونأخـذ الخاتـم مـن اصبعــه ونحكــم كمــا
حكـم سيدنـا سليمـان ونصـل إلـى مقصودنــا وبعــد ذلــك ندخــل بحــر الظلمــات فنشــرب مــن مــاء الحيــاة
فيمهلنا الله إلى آخر الزمان نجتمع بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فلمـا سمــع بلوقيــا هــذا الكلــام مــن عفــان قــال يــا عفــان أنــا أجمعــك بملكــة الحيــات وأريــك مكانهــا فقــام
عفـان وصنـع لـه قفصـاً مــن حديــد وأخــذ معــه قدحيــن ومــلأ أحدهمــا خمــراً ومــلأ الآخــر لبنــاً وســار
عفان هو وبلوقيا أياماً وليالي حتـى وصـلا إلـى الجزيـرة التـي فيهـا ملكـة الحيـات فطلـع عفـان وبلوقيـا إلـى
الجزيـــرة وتمشيـــا فيهـــا وبعـــد ذلـــك وضـــع عفـــان القفـــص ونصـــب فيـــه فخـــاً وأدرك شهـــرزاد الصبــــاح
===
وفي الليلة الثانية والسبعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن عفـــان وضـــع القفـــص ونصـــب فيـــه فخـــاً ووضـــع فيـــه القدحيـــن
المملوءيــن خمــراً ولبنــاً ثــم تباعــدا عــن القفــص واستخفيــا ساعــة فأقبلــت ملكــة الحيـــات علـــى القفـــص
حتـى قربـت مـن القدحيـن فتأملـت فيهمـا ساعــة فلمــا شمــت رائحــة اللبــن نزلــت مــن فــوق ظهــر الحيــة
التـي هـي فوقهـا وطلعـت مـن الطبـق ودخلـت القفـص وأتـت إلـى القـدح الــذي فيــه الخمــر وشربــت منــه
فلما شربت من ذلك القدح داخت رأسها ونامت.
فلمــا رأى ذلــك عفــان تقــدم إلــى القفــص المقفــل علــى ملكــة الحيــات ثـــم أخذهـــا هـــو وبلوقيـــا وســـارا
فلمـا أفاقـت رأت روحهـا فــي القفــص مــن حديــد والقفــص علــى رأس رجــل وبجانبــه بلوقيــا فلمــا رأت
ملكـة الحيـات بلوقيـا قالـت هـذا جـزاء مـن لا يـؤذي بنـي آدم فـرد عليهـا بلوقيـا وقـال لهــا: لا تخافــي منــا
يـــا ملكـــة الحيـــات فإننـــا لا نؤذيـــك أبـــداً ولكـــن نريـــد أن تدلينـــا علـــى العشــــب كــــل مــــن أخــــذه ودقــــه
واستخـرج مـاءه ودهـن بــه قدميــه ومشــى علــى أي بحــر خلقــه اللــه تعالــى لا تبتــل قدمــاه فــإذا وجدنــا
ذلـك العشــب أخذنــاه ونرجــع بــك إلــى مكانــك ونطلقــك إلــى حــال سبيلــك ثــم إن عفــا وبلوقيــا ســارا
بملكــة الحيــات نحــو الجبــال التــي فيهــا الأعشــاب ودارا بهــا علــى جميــع الأعشــاب فصــار كــل عشـــب
===
فبينمـا همــا فــي هــذا الأمــر والأعشــاب تنطــق يمينــاً وشمــالاً وتخبــر بمنافعهــا وإذا بعشــب نطــق وقــال
أنـا العشـب الـذي كــل مــن أخذنــي ودقنــي وأخــذ مائــي ودهــن قدميــه وجــاز علــى أي بحــر خلقــه اللــه
تعالى لا تبتل قدماه.
فلمــا سمــع عفــان كلــام العشــب حــط القفــص مــن فــوق رأســه وأخـــذا مـــن ذلـــك العشـــب مـــا يكفيهمـــا
ودقـاه وعصـراه وأخـذا مـاءه وجعلــاه فــي قزازتيــن وحفظاهمــا والــذي فضــل منهمــا دهنــا بــه أقدامهمــا
ثـم إن بلوقيـا وعفـان أخـذا ملكـة الحيـات وسـارا بهـا ليالـي وأيامـاً حتـى وصـلا إلـى الجزيــرة التــي كانــت
فيهــا وفتــح عفــان بــاب القفــص فخرجــت منــه ملكــة الحيــات فلمــا خرجــت قالــت لهمــا: مــا تصنعــان
بهــذا المـــاء قـــالا لهـــا: مرادنـــا أن ندهـــن بـــه أقدامنـــا حتـــى نتجـــاوز السبعـــة أبحـــر ونصـــل إلـــى مدفـــن
سيدنا سليمان ونأخذ الخاتم من اصبعه.
فقالـــت لهمـــا ملكـــة الحيـــات: هيهـــات أن تقـــدرا علـــى أخـــذ الخاتـــم فقـــالا لهـــا: لــــأي شــــيء فقالــــت
لهمــا: لــأن اللــه تعالــى مــن علــى سيدنــا سليمــان بإعطائــه ذلــك الخاتــم وخصــه بذلــك لأنــه قــال: رب
هـب لـي ملكـاً لا ينبغـي لأحـد مـن بعـدي إنـك أنــت الوهــاب فمــا لكمــا وذلــك الخاتــم ثــم قالــت لهمــا:
لـو أخذتمـا مـن العشـب الــذي كــل مــن أكــل منــه لا يمــوت إلــى النفخــة الأولــى وهــو بيــن تلــك الأعشــاب
لكــان أنفــع لكمــا مـــن هـــذا الـــذي أخذتمـــاه فإنـــه لا يحصـــل لكمـــا منـــه مقصودكمـــا فلمـــا سمعـــا كلامهـــا
===
ندمــــا ندمــــاً عظيمــــاً وســــارا إلــــى حــــال سبيلهمــــا وأدرك شهــــرزاد الصبــــاح فسكتــــت عــــن الكلـــــام
المباح.
وفي الليلة الثالثة والسبعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيــا وعفــان لمــا سمعــا كلــام ملكــة الحيــات ندمـــا ندمـــاً عظيمـــاً
وسارا إلى حال سبيلهما هذا ما كان من أمرهما.
وأمـــا مـــا كـــان مـــن أمـــر ملكـــة الحيـــات فإنهـــا أتــــت إلــــى عساكرهــــا فرأتهــــم قــــد ضاعــــت مصالحهــــم
وضعــف قويهــم وضعيفهـــم مـــات فلمـــا رأت الحيـــات ملكتهـــم بينهـــم فرحـــوا واجتمعـــوا حولهـــا وقالـــوا
لهـا: مـا خبـرك وأيـن كنــت فحكــت لهــم جميــع مــا جــرى لهــا مــع عفــان وبلوقيــا ثــم بعــد ذلــك جمعــت
جنودهــا وتوجهــت بهــم إلــى جبــل قــاف لأنهــا كانــت تشتــي فيـــه وتصيـــف المكـــان الـــذي رآهـــا فيـــه
حاسب كريم الدين.
ثــم إن الحيــة قالــت: يــا حاســب هــذه حكايتــي ومــا جــرى لــي فتعجــب حاســب مــن كلــام الحيــة ثــم
قــال لهــا: أريــد مــن فضلــك أن تأمــري أحــداً مــن أعوانــك أن يخرجنــي إلــى وجـــه الـــأرض وأروح إلـــى
أهلــي فقالــت لــه ملكــة الحيــات: يــا حاســب ليــس لــك رواح مــن عندنــا حتــى يدخــل الشتــاء وتـــروح
===
معنـا إلـى جبـل قـاف وتتفــرج فيــه علــى تلــال ورمــال وأشجــار وأطيــار تسبــح الواحــد القهــار وتتفــرج
على مردة وعفاريت وجان ما يعلم عددهم إلا الله تعالى.
فلمــا سمـــع حاســـب كريـــم الديـــن كلـــام ملكـــة الحيـــات صـــار مهمومـــاً مغمومـــاً ثـــم قـــال لهـــا: اعلمينـــي
بعفـان وبلوقيـا لمـا فارقــاك وســارا هــل عديــا السبعــة بحــور ووصــلا إلــى مدفــن سيدنــا سليمــان أو لا
وإذا كانـا وصـلا إلـى مدفـن سيدنـا سليمـان هــل قــدرا علــى أخــذ الخاتــم أو لا. فقالــت لــه: اعلــم أن
عفــان وبلوقيــا لمــا فارقانــي وســارا دهنــا أقدامهمــا مــن ذلـــك المـــاء ومشيـــا علـــى وجـــه البحـــر حتـــى
عديـا السبعـة أبحـر فلمـا عديــا تلــك البحــار وجــدا جبــلاً عظيمــاً شاهقــاً فــي الهــواء وهــو مــن الزمــرد
الأخضـر وفيـه عيـن تجـري وترابـه كلـه مـن المسـك فلمـا وصـلا إلـى ذلـك المكـان فرحــا وقــالا: قــد بلغنــا
مقصودنـا ثـم ســارا حتــى وصــلا إلــى جبــل عــال فمشيــا فيــه فرأيــا مغــارة مــن بعيــد فــي ذلــك الجبــل
وعليهــا قبــة عظيمــة والنــور يلــوح منهــا فلمــا رأيــا تلــك المغـــارة قصداهـــا حتـــى وصـــلا إليهـــا فدخـــلا
فرأيــا فيهــا تختــاً منصوبــاً مــن الذهــب مرصعــاً بأنــواع الجواهــر وحولــه كراســـي منصوبـــة لايحصـــي لهـــا
عــدد إلا اللــه تعالــى ورأيــا السيــد سليمــان نائمــاً فــوق ذلــك التخــت وعليــه حلــة مــن الحريـــر الأخضـــر
مزركشـة بالذهـب مرصعـة بنفيـس المعـادن مـن الجوهـر ويـده اليمنـى علـى صـدره والخاتــم فــي اصبعــه
ونــور الخاتــم يغلــب علــى نــور تلــك الجواهــر التــي فــي ذلــك المكــان ثــم إن عفــان علــم بلوقيــا أقسامـــاً
===
وعزائـم وقـال لـه: اقـرأ هـذه الأقسـام ولا تتـرك قراءتهـا حتـى آخــذ الخاتــم ثــم تقــدم عفــان إلــى التخــت
حتـى قـرب منــه وإذا بحيــة عظيمــة طلعــت مــن تحــت التخــت ورعقــت زعقــة عظيمــة فارتعــد ذلــك
المكــان مــن زعقتهــا وصــار الشــرر يطيــر مــن فمهــا ثــم إن الحيــة قالــت لعفــان: إن لــم ترجـــع أهلكتـــك
فاشتغـل عفـان بالأقسـام ولـم ينزعــج مــن تلــك الحيــة فنفخــت عليــه الحيــة نفخــة عظيمــة كــادت تحــرق
ذلك المكان وقالت: ويلك إن لم ترجع أحرقتك.
فلمـا سمـع بلوقيـا هـذا الكلـام مـن الحيـة طلـع مـن المغــارة وأمــا عفــان فإنــه لــم ينزعــج مــن ذلــك ثــم تقــدم
إلـى السيـد سليمــان ومــد يــده ولمــس الخاتــم وأراد أن يسحبــه مــن اصبــع السيــد سليمــان وإذا بالحيــة
نفخــت علــى عفــان فأحرقتــه وصــار كــوم رمــاد. وهــاذ مــا كــان مــن أمــر هــؤلاء. وأمــا مـــا كـــان مـــن
أمـــر بلوقيـــا فإنـــه وقـــع مغشيـــاً عليـــه مـــن هـــذا الأمـــر وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن الكلـــام
المباح.
وفي الليلة الرابعة والسبعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيـــا لمـــا رأى عفـــان احتـــرق وصـــار كـــوم رمـــاد وقـــع مغشيـــاً
عليـه وأمـر الـرب جـل جلالـه جبريـل أن يهبـط إلــى الــأرض قبــل أن تنفــخ الحيــة علــى بلوقيــا فهبــط إلــى
===
الــأرض بسرعــة فــرأى بلوقيــا مغشيــاً عليـــه ورأى عفـــان احتـــرق مـــن نفخـــة الحيـــة فأتـــى جبريـــل إلـــى
بلوقيـا وأيقظـه مــن غشيتــه. فلمــا أفــاق سلــم عليــه جبريــل وقــال لــه: مــن أيــن أتيتمــا إلــى هــذا المكــان
ف حكـى لـه بلوقيــا جميــع حكايتــه مــن الــأول إلــى الآخــر ثــم قــال لــه: اعلــم أننــي مــا أتيــت إلــى هــذا
المكــان إلا بسبــب محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم فــإن عفــان أخبرنــي أنــه يبعــث فــي آخـــر الزمـــان ولا
يجتمــع بــه إلا مــن يعيــش إلــى ذلــك الوقــت إلا مــن شــرب مــن مـــاء الحيـــاة ولايمكـــن ذلـــك إلا بالحصـــول
علـى خاتـم سليمـان عليـه السلـام فصحبتـه إلـى هـذا المكـان وحصـل لـه مـا حصـل وهاهـو قــد احتــرق
وأنا لم أحترق ومرادي أن تخبرني بمحمد أين يكون.
فقــال لــه جبريــل: يــا بلوقيــا اذهــب إلــى حــال سبيلــك فــإن زمــان محمــد بعيـــد ثـــم ارتفـــع جبريـــل إلـــى
السمـاء مـن وقتـه وأمــا بلوقيــا فإنــه صــار يبكــي بكــاء شديــداً ونــدم علــى مــا فعــل وتفكــر قــول ملكــة
الحيات: هيهـات أن يقـدر أحـد علـى أخـذ الخاتـم فتجبـر بلوقيـا فـي نفسـه وبكـى ثـم إنـه نـزل مـن الجبـل
وسـار ولـم يـزل سائـراً حتـى قـرب مـن شاطـئ البحــر وقعــد هنــاك يتعجــب مــن تلــك الجبــال والبحــار
والجزائر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والسبعين بعد الأربعمائة
===
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيــا تعجــب مــن تلــك الجبــال والبحــار والجزائــر ثــم بــات تلــك
الليلــة فــي ذلــك الموضــع ولمــا أصبــح الصبــاح دهـــن قدميـــه مـــن الـــذي كانـــا أخـــذاه مـــن العشـــب ونـــزل
البحــر وصــار ماشيــاً فيــه أيامــاً وليالـــي وهـــو يتعجـــب مـــن أهـــوال البحـــر وعجائبـــه وغرائبـــه ومـــازال
ماشيــاً علــى وجــه المــاء حتــى وصــل إلــى جزيــرة كأنهــا الجنــة فطلـــع بلوقيـــا إلـــى تلـــك الجزيـــرة وصـــار
يتعجـب منهــا ومــن حسنهــا وســاح فيهــا فرآهــا جزيــرة عظيمــة ترابهــا زعفــران وحصاهــا مــن الياقــوت
والمعــادن الفاخــرة وسياجهــا الياسميــن وزرعهــا مــن أحســن الأشجــار وأبهــج الرياحيــن وأطيبهــا وفيهـــا
عيـــون جاريـــة وحطبهـــا مـــن العـــود القمـــاري والعـــود القاقلــــي وبوصهــــا مــــن قصــــب السكــــر وحولهــــا
الــورد والنرجــس والغبهــر والقرنفــل والأقحـــوان والسوســـن والبنفســـج وكـــل ذلـــك فيهـــا أشكـــال وألـــوان
وأطيارهــا تناغــي علــى تلــك الأشجــار وهــي مليحــة الصفـــات واسعـــة الجهـــات كثيـــرة الخيـــرات قـــد
حــــوت جميــــع الحســــن والمعانــــي وتغريــــد أطيارهــــا ألطــــف مــــن رنــــات المثانــــي وأشجارهــــا باسقـــــة
وأطيارهـــا ناطقـــة وأنهارهـــا دافقـــة وعيونهــــا جاريــــة ومياههــــا خاليــــة وفيهــــا الغزلــــان تمــــرح والجــــآذر
تسنــح الأطيــار علــى تلــك الأغصــان تسلــي العاشــق الولهــان فتعجــب بلوقيــا مــن هــذه الجزيــرة وعلــم
أنـه قـد تـاه عـن الطريـق التـي قـد أتـى منهـا أول مـرة حيـن كـان معـه عفـان فسـاح فـي تلـك الجزيـرة وتفــرج
فيها إلى وقت المساء.
===
فلمــا أمســى عليــه الليــل طلــع علــى شجــرة عاليــة لينــام فوقهــا وصــار يتفكــر فــي حســن تلــك الجزيـــرة
فبينمـا هـو فــوق الشجــرة علــى تلــك الحالــة إذا بالبحــر قــد اختبــط وطلــع منــه حيــوان عظيــم وصــاح
صياحــاً عظيمــاً حتــى انزعجــت حيوانــات تلــك الجزيــرة مــن صياحــه فنظــر إليــه بلوقيـــا وهـــو جالـــس
علــى الشجــرة فــرآه حيوانــاً عظيمــاً فصــار يتعجــب منــه فلــم يشعــر بعــد ساعـــة إلا وطلـــع خلفـــه مـــن
البحــر وحــوش مختلفــة الألــوان وفــي يــد كــل وحــش منهــا جوهــرة تضــيء مثــل الســراج حتــى صـــارت
الجزيرة مثل النهار من ضياء الجواهر.
وبعــد ساعــة أقبلـــت مـــن الجزيـــرة وحـــوش لا يعلـــم عددهـــا إلا اللـــه تعالـــى فنظـــر إليهـــا بلوقيـــا فرآهـــا
وحـوش الفلـاة مـن سبـاع ونمـور وفهـود وغيـر ذلـك مـن حيوانـات البــر ولــم تــزل وحــوش البــر مقبلــة حتــى
اجتمعـت مـع وحـوش البحـر فـي جانــب الجزيــرة وصــاروا يتحدثــون إلــى الصبــاح فلمــا أصبــح الصبــاح
افترقوا عن بعضهم ومضى كل واحد منهم إلى حال سبيله.
فلمــا داهــم بلوقيــا خــاف ونــزل مــن فــوق الشجــرة وســار إلــى شاطــئ البحــر ودهــن قدميــه مــن المــاء
الــذي معــه ونــزل البحــر الثانــي وســار علــى وجــه المــاء ليالـــي وأيامـــاً حتـــى وصـــل إلـــى جبـــل عظيـــم
وتحــت ذلـــك الجبـــل واد مـــا لـــه مـــن آخـــر وذلـــك الـــوادي حجارتـــه مـــن المغناطيـــس ووحوشـــه سبـــاع
وأرانــب ونمــور فطلــع بلوقيــا إلــى ذلــك الجبــل وســاح فيــه مــن مكــان إلـــى مكـــان حتـــى أمســـى عليـــه
===
المسـاء فجلـس تحـت قنـة مـن قنـن ذنـك الجبــل بجانــب البحــر وصــار يأكــل مــن السمــك الناشــف الــذي
يقذفه البحر.
فبينمـــا هـــو جالـــس يأكـــل مـــن ذلـــك السمـــك وإذ بنمـــر عظيــــم أقبــــل علــــى بلوقيــــا وأراد أن يفترســــه
فالتفــت بلوقيــا إلــى ذلــك النمــر فــرآه هاجمــاً عليــه ليفترســه فدهــن قدميــه مـــن المـــاء الـــذي معـــه ونـــزل
البحـر الثالـث هربـاً مـن ذلــك النمــر وســار علــى وجــه المــاء فــي الظلــام وكانــت ليلــة ســوداء ذات ريــح
عظيــم ومـــا زال سائـــراً حتـــى أقبـــل علـــى جزيـــرة فطلـــع عليهـــا فـــرأى فيهـــا أشجـــاراً رطبـــة ويابســـة
فأخــذ بلوقيــا مــن ثمــر تلــك الأشجــار وأكــل وحمــد اللــه تعالــى ودار فيهــا يتفـــرج إلـــى وقـــت المســـاء.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والسبعين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن بلوقيـا دار يتفـرج فــي تلــك الجزيــرة ولــم يــزل دائــراً يتفــرج فيهــا إلــى
وقـت المسـاء فنـام فـي تلـك الجزيـرة ولمــا أصبــح الصبــاح صــار يتأمــل فــي جهاتهــا ولــم يــزل يتفــرج فيهــا
مـدة عشـرة أيـام وبعـد ذلــك توجــه إلــى شاطــئ البحــر ودهــن قدميــه ونــزل البحــر الرابــع ومشــى علــى
المـاء ليـلاً ونهـاراً حتــى وصــل إلــى جزيــرة فــرأى أرضهــا مــن الرمــل الناعــم الأبيــض وليــس فيهــا شــيء
===
مــن الشجــر ولا مــن الــزرع فتمشــى فيهــا ساعــة فوجـــد وحشهـــا الصقـــور وهـــي معششـــة فـــي ذلـــك
الرمــل فلمــا رأى ذلــك دهــن قدميــه ونــزل فــي البحــر الخامــس وســار فـــوق المـــاء ومـــازال سائـــراً ليـــلاً
ونهــاراً حتــى أقبــل علــى جزيــرة صغيــرة أرضهــا وجبالهــا مثــل البلــور وفيهــا العــروق التــي يصنــع منهـــا
الذهـب وفيهـا أشجـار غريبـة مـا رأى مثلهـا فـي سياحتـه وأزهارهـا كلــون الذهــب فطلــع منهــا بلوقيــا
إلى تلك الجزيرة وصار يتفرج فيها إلى وقت المساء.
فلمـا جــن عليــه الظلــام صــارت الأزهــار تضــيء فــي تلــك الجزيــرة كالنجــوم فتعجــب بلوقيــا مــن هــذه
الجزيـرة وقـال: أن الأزهـار التـي فـي هـذه الجزيـرة هـي التـي تيبـس مــن الشمــس وتسقــط علــى الــأرض
فتضربهــا الريــاح فتجتمــع تحــت الحجــارة وتصيــر أكسيــراً فيأخذونهـــا ويصنعـــون منهـــا الذهـــب ثـــم إن
بلوقيـا نـام فـي تلـك الجزيـرة إلـى وقـت الصبـاح وعنـد طلــوع الشمــس دهــن قدميــه مــن المــاء الــذي معــه
ونــزل البحــر الســادس وســار ليالــي وأيامــاً حتــى أقبــل علــى جزيــرة فطلــع عليهــا وتمشــى فيهـــا ساعـــة
فــرأى فيهــا جبليــن وعليهمــا أشجــار كثيــرة وأثمــار تلــك الشجـــرة كـــرؤوس الآدمييـــن وهـــي معلقـــة مـــن
شعورهـا ورأى فيهـا أشجـاراً أخـرى أثمارهــا طيــور خضــر معلقــة مــن أرجلهــا وفيهــا أشجــار تتوقــد
مثــل النــار ولهــا فواكــه مثــل الصبــر وكــل مــن سقطــت عليــه نقطــة مــن تلــك الفواكـــه احتـــرق بهـــا ورأى
بهـا فواكـه تبكـي وفواكـه تضحــك ورأى بلوقيــا فــي تلــك الجزيــرة عجائــب ثــم إنــه تمشــي إلــى شاطــئ
===
فلمـا أظلـم الظلـام طلـع فــوق الشجــرة وصــار يتفكــر فــي مصنوعــات اللــه تعالــى فبينمــا هــو كذلــك إذا
بالبحـر قــد اختلــط وطلــع منــه نبــات البحــر وفــي يــد كــل واحــدة منهــن جوهــرة تضــيء مثــل المصبــاح
وسـرن حتـى أتيـن تلـك الشجـرة وجلسـن ولعبـن ورقصـن وطربـن فصـار بلوقيـا يتفـرج عليهـن وهــن فــي
هذه الحالة ولم يزلن في لعب إلى الصباح.
فلمــا أصبحــن نزلــن إلــى البحــر فتعجــب منهــن بلوقيــا ونــزل مــن فــوق الشجــرة ودهــن قدميــه مــن المــاء
الـذي معـه ونــزل البحــر السابــع وســار ولــم يــزل سائــراً مــدة شهريــن وهــو لا ينظــر جبــلاً ولا جزيــرة ولا
بــراً ولا واديــاً ولا ساحــلاً حتــى قطــع ذلــك البحــر وقاســى فيــه جوعــاً عظيمــاً حتــى صــار يخطـــف
السمـــك مـــن البحـــر ويأكلـــه نيئـــاً مـــن شـــدة جوعـــه. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن الكلــــام
المباح.
وفي الليلة السابعة والسبعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن بلوقيـــا لمـــا قاســـى فـــي البحـــر الجـــوع العظيـــم وصـــار يخطـــف
السمــك مــن البحــر ويأكلــه نيئــاً مــن شــدة جوعــه ولــم يــزل سائــراً علــى هــذه الحالـــة حتـــى انتهـــى إلـــى
جزيــرة أشجارهــا كثيــرة وأنهارهـــا غزيـــرة فطلـــع إلـــى تلـــك الجزيـــرة وصـــار يمشـــي فيهـــا ويتفـــرج يمينـــاً
===
وشمــالاً وكــان ذلــك فــي وقــت الضحــى ومــا زال يتمشــى حتـــى أقبـــل علـــى شجـــرة تفـــاح فمـــد يـــده
ليأكــل مــن تلــك الشجــرة إذا بشخــص صــاح عليــه مــن تلـــك الشجـــرة وقـــال لـــه: إن تقربـــت إلـــى هـــذه
الشجــرة وأكلـــت منهـــا شيئـــاً قسمتـــك نصفيـــن فنظـــر بلوقيـــا إلـــى ذلـــك الشخـــص فـــرآه طويـــلاً طولـــه
أربعـــون ذراعـــاً بـــذراع أهـــل الزمـــان فلمـــا رآه بلوقيـــا خـــاف منـــه خوفـــاً شديــــداً وامتنــــع عــــن تلــــك
الشجرة.
ثــم قــال بلوقيــا: لــي شــيء تمنعنــي مــن الأكــل مــن هــذه الشجــرة فقــال لــه: لأنــك ابــن آدم وأبــوك نســي
عهــد اللــه فعصهــا وأكــل مــن الشجــرة فقــال لــه بلوقيــا: أي شــيء أنـــت ولمـــن هـــذه الجزيـــرة والأشجـــار
ومــا اسمــك فقــال لــه الشخــص: أنــا اسمــي شراهيــا وهــذه الأشجــار والجزيــرة للملــك صخــر وأنـــا مـــن
أعوانه وقد وكلني على هذه الجزيرة.
ثــم أن شراهيــا ســأل بلوقيــا وقــال لــه: مــن أنــت ومــن أيــن أتيـــت إلـــى هـــذه البلـــاد فحكـــى لـــه بلوقيـــا
حكايتــه مــن الــأول إلــى الآخــر فقــال لــه شراهيــا: لاتخــف ثــم جــاء لــه بشــيء مــن الأكـــل فأكـــل بلوقيـــا
حتـى اكتفـى ثـم ودعـه وسـار ولـم يـزل سائــراً مــدة عشــرة أيــام فبينمــا هــو سائــر فــي جبــال ورمــال إذ
نظـر غبـرة عاقـدة فـي الجـو فقصــد بلوقيــا صــوب تلــك الغبــرة فسمــع صياحــاً وضربــاً وهرجــاً عظيمــاً
فمشـى بلوقيـا نحـو تلـك الغبـرة حتـى وصــل إلــى واد عظيــم طولــه مسيــرة شهريــن ثــم تأمــل بلوقيــا فــي
===
جهـة ذلـك الصيـاح فــرأى أناســاً راكبيــن علــى خيــل وهــم يقتتلــون مــع بعضهــم وقــد جــرى الــدم بينهــم
حتـى صـار مثـل النهـر ولهـم أصـوات الرعـد وفـي أيديهــم رمــاح وسيــوف وأعمــدة مــن الحديــد وقســى
ونبال وهم في قتال عظيم فأخذه خوف شديد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والسبعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيـــا لمـــا رأى هـــؤلاء النـــاس بأيديهـــم السلـــاح وهـــم فـــي قتـــال
عظيـــم أخـــذه الخـــوف الشديـــد وتحيـــر فـــي أمـــره فبينمـــا هـــو كذلـــك إذ رأوه فلمـــا رأوه امتنعـــوا عــــن
بعضهــم وتركــوا الحــرب ثــم أتــت إليــه طائفــة منهــم فلمــا قربــوا منــه تعجبــوا مــن خلقتــه ثـــم تقـــدم إليـــه
فـــارس منهـــم وقـــال لـــه: أي شـــيء أنـــت ومـــن أيــــن أتيــــت وإلــــى أيــــن رائــــح ومــــن دلــــك علــــى هــــذا
الطريــق حتــى وصلــت إلــى بلادنــا فقــال لــه بلوقيــا: أنــا مــن بنــي آدم وجئــت هائمـــاً فـــي حـــب محمـــد
صلــى اللــه عليــه وسلــم ولكنــي تهــت عــن الطريــق فقــال لــه الفــارس: نحــن مـــا رأينـــا ابـــن آدم قـــط ولا
أتى إلى هذه الأرض وصاروا يتعجبون منه ومن كلامه.
ثــم إن بلوقيــا سألهــم وقــال لهــم أي شــيء أنتــم أيتهــا الخلقــة قــال لــه الفــارس: نحــن مــن الجــان فقــال لــه
===
بلوقيــا: يــا أيهــا الفــارس مــا سبــب القتــال الــذي بينكــم وأيــن مسكنكــم ومــا اســم هــذا الــوادي وهــذه
الأراضــي فقــال لــه الفــارس نحــن مسكننــا الــأرض البيضــاء وفــي كــل عــام يأمرنـــا اللـــه تعالـــى أن نأتـــي
إلــى هــذه الــأرض ونغــزو الجــان الكافريــن. فقــال لــه بلوقيــا: وأيــن الــأرض البيضــاء فقـــال لـــه الفـــارس:
خلـف جبـل قـاف بمسيـرة خمســة وسبعيــن سنــة وهــذا الــأرض يقــال لهــا: أرض شــاد بــن عــاد ونحــن
أتينــا إليهــا لنغزوهــا ومــا لنــا شغــل ســوى التسبيــح والتقديــس ولنــا ملــك يقــال لـــه: الملـــك صخـــر ومـــا
يمكن إلا أن تروح معنا إليه حتى ينظرك ويتفرج عليك.
ثــم إنهــم ســاروا وبلوقيــا معهــم حتــى أتـــوا منزلهـــم فنظـــر بلوقيـــا خيامـــاً مـــن الحريـــر الأخضـــر لا يعلـــم
عددهــا إلا اللــه تعالــى ورأى بينهـــا خيمـــة منصوبـــة مـــن الحريـــر الأحمـــر واتساعهـــا مقـــدار ألـــف ذراع
وأطنابهـا مـن الحريــر الــأزرق وأوتادهــا مــن الذهــب والفضــة فتعجــب بلوقيــا مــن تلــك الخيمــة ثــم إنهــم
سـاروا بـي حتـى أقبلـوا علـى الخيمـة فــإذا هــي خيمــة الملــك صخــر. ثــم دخلــوا بــه حتــى أتــوا قــدام
الملــك صخــر فنظــر بلوقيــا إلـــى الملـــك فـــرآه جالســـاً علـــى تخـــت عظيـــم مـــن الذهـــب الأحمـــر مرصـــع
بالــدر والجواهــر وعلــى يمينــه ملــوك الجــان وعلــى يســاره الحكمــاء والأمــراء وأربـــاب الدولـــة وغيرهـــم
فلمــا رآه الملــك صخــر أمــر أن يدخلــوا بــه عنــده فدخلــوا بــه عنـــد الملـــك فتقـــدم بلوقيـــا وسلـــم عليـــه
وقبــل الــأرض بيــن يديــه فــرد عليــه السلــام الملــك صخــر ثــم قــال لــه: ادن منــي أيهــا الرجـــل فدنـــا منـــه
===
بلوقيــا حتــى صــار بيــن يديــه فعنــد ذلــك أمــر الملــك صخــر أن ينصبــوا لــه كرسيــاً بجانبــه فنصبـــوا لـــه
كرسياً بجانب الملك ثم أمره الملك صخر أن يجلس على ذلك الكرسي فجلس بلوقيا عليه.
ثـــم إن الملـــك صخـــر ســـأل بلوقيـــا وقـــال لـــه: أي شـــيء أنـــت فقـــال لـــه: أنـــا مــــن بنــــي آدم مــــن بنــــي
إسرائيـل فقـال لــه الملــك صخــر: احــك لــي حكايتــك وأخبرنــي بمــا جــرى لــك وكيــف أتيــت إلــى هــذه
الــأرض فحكــى لــه بلوقيــا جميــع مــا جــرى لـــه فـــي سياحتـــه مـــن الـــأول إلـــى ا لآخـــر فتعجـــب الملـــك
صخر من كلامه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والسبعين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيــا لمــا أخبــر الملــك صخــر بجميــع مــا جــرى لــه فــي سياحتــه
مــن الــأول إلــى الآخــر تعجــب مــن ذلــك ثــم أمــر الفراشيــن أن يأتــوا بسمــاط فأتــوه بــه ومـــدوه ثـــم إنهـــم
أتــوا بصوانــي مــن الذهــب الأحمــر وصوانــي مــن الفضــة وصوانــي مـــن النحـــاس وبعـــض الصوانـــي فيهـــا
خمسـون جمــلاً مسلوقــة وبعضهــا فيهــا عشــرون جمــلاً وبعضهــا فيهــا خمســون رأســاً مــن الغنــم وعــدد
الصوانـي ألــف وخمسمائــة صينيــة. فلمــا رأى بلوقيــا ذلــك تعجــب غايــة العجــب ثــم إنهــم أكلــوا وأكــل
===
بلوقيــا معهــم حتــى اكتفــى وحمــد اللــه تعالــى وبعــد ذلــك رفعــوا الطعــام وأتــوا بفواكــه فأكلــوا ثـــم بعـــد
ذلــك سبحــوا اللــه وصلـــوا علـــى نبيـــه محمـــد صلـــى اللـــه عليـــه وسلـــم فلمـــا سمـــع بلوقيـــا ذكـــر محمـــد
تعجــب وقـــال للملـــك صخـــر: أريـــد أن أسألـــك بعـــض مسائـــل فقـــال لـــه الملـــك صخـــر: ســـل ماتريـــد
فقــال لــه بلوقيــا: يــا ملــك أي شــيء أنتــم ومــن أيــن أصلكــم ومــن أيــن تعرفــون محمــداً صلــى اللـــه عليـــه
وسلــم حتــى تصلــون عليــه وتحبونــه فقــال لــه الملــك صخــر: يــا بلوقيــا إن اللــه تعالــى خلــق النــار سبــع
طبقــات بعضهــا فــوق بعــض وبيـــن كـــل طبقـــة مسيـــرة ألـــف عـــام وجعـــل اســـم الطبقـــة الأولـــى جهنـــم
وأعدهــا لعصــاة المؤمنيــن الذيـــن يموتـــون مـــن غيـــر توبـــة واســـم الطبقـــة الثانيـــة لظـــى وأعدهـــا للكفـــار
واسـم الطبقــة الثالثــة الجحيــم وأعدهــا ليأجــوج ومأجــوج واســم الرابعــة السعيــر وأعدهــا لقــوم إبليــس
واســم الخامســة سقــر وأعدهــا لتــارك الصلـــاة واســـم السادســـة الحطمـــة وأعدهـــا لليهـــود والنصـــارى
واسم السابعة الهاوية وأعدها للمنافقين.
فهـــذه السبـــع طبقـــات فقـــال لـــه بلوقيـــا: لعــــل جهنــــم أهــــون عذابــــاً مــــن الجميــــع لأ هــــا هــــي الطبقــــة
الفوقانيـة قـال الملـك صخـر: نعـم هــي أهــون الجميــع عذابــاً ومــع ذلــك فيهــا ألــف جبــل مــن النــار وفــي
كــل جبــل سبعــون ألــف واد مــن النــار وفــي كــل واد سبعــون ألــف مدينــة مــن النـــار وفـــي كـــل مدينـــة
سبعـون ألـف قلعـة مـن النـار وفـي كـل قلعـة سبعـون ألـف بيـت مـن النـار وفـي كــل بيــت سبعــون ألــف
===
تخـت مـن ال نـار وفـي كـل تخـت سبعـون ألـف نـوع مـن العــذاب ومــا فــي جميــع طبقــات النــار يــا بلوقيــا
أهــون عذابــاً مــن عذابهــا لأنهــا هــي الطبقــة الأولــى وأمـــا الباقـــي فـــلا يعلـــم عـــدد مـــا فيهـــا مـــن أنـــواع
العــذاب إلا اللــه تعالــى فلمــا سمــع بلوقيــا هــذا الكلــام مــن الملــك صخــر وقــع مغشيــاً عليــه فلمـــا أفـــاق
مـــن غشيتـــه بكـــى وقـــال: يـــا ملـــك كيـــف يكـــون حالنـــا فقـــال لـــه الملـــك صخـــر: يـــا بلوقيـــا لا تخــــف
والعـم أن مـن كـان يحـب محمـد لـم تحرقـه النــار وهــو معتــوق لأجــل محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم وكــل
مـــن كـــان علـــى ملتـــه تهـــرب منـــه النـــار وأمـــا نحـــن فخلقنـــا اللـــه تعالـــى مـــن النـــار وأول مـــا خلـــق اللـــه
المخلوقـات فـي جهنـم خلـق شخصيـن مـن جنــوده أحدهمــا اسمــه خليــت والآخــر اسمــه مليــت وجعــل
خليت على صورة أسد ومليت على صورة ذئب.
وكــان ذنــب مليــت علــى صــورة لأنثــى ولونهــا أبلــق وذنــب خليــت علــى صــورة ذكــر وهـــو فـــي هيئـــة
حيــة وذنــب مليــت فــي هيئــة سلحفــاة وطــول ذنــب خليــت مسيــرة عشريــن سنــة ثــم أمــر اللــه تعالــى
ذنبيهمـــا أن يجتمعـــا مـــع بعضيهمـــا ويتناكحـــا فتوالـــد منهمـــا حيـــات وعقـــارب ومسكنهمــــا فــــي النــــار
ليعذب الله بها من يدخلها.
ثـم إن تلـك الحيــات والعقــارب تناسلــوا وتكاثــروا ثــم بعــد ذلــك أمــر اللــه تعالــى ذنبــي خليــت ومليــت
أن يجتمعــــا ويتناكحــــا ثانــــي مــــرة فاجتمعــــا وتناكحــــا فحمــــل ذنــــب مليــــت مــــن ذنــــب خليــــت فلمـــــا
===
وضعـــت ولـــدت سبعـــة ذكـــور وسبـــع إنـــاث فتربـــوا حتـــى كبـــروا فلمـــا كبـــروا تـــزوج الإنـــاث بالذكـــور
وأطاعــوا والدهــم إلا واحــداً منهـــم عصـــى والـــده فصـــار دودة وتلـــك الـــدودة هـــي إبليـــس لعنـــه اللـــه
تعالــى وكــان مــن المقربيــن فإنــه عبــد اللــه تعالــى حتــى ارتفــع إلــى السمــاء وتقــرب مــن الرحمــن وصـــار
رئيس المقربين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثمانين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الملــك قــال لــه: إن إبليــس كــان عبــد اللــه تعالـــى وصـــار رئيـــس
المقربيــن ولمــا خلــق اللــه تعالــى آدم عليــه السلــام أمــر إبليــس بالسجــود لــه فامتنــع مــن ذلــك فطــرده اللـــه
تعالى ولعنه فلما تناسل جاء ت منه الشياطين.
وأمــا الستــة ذكــور الذيــن قبلهــم فهــم الجــان المؤمنــون ونحــن مــن نسلهــم وهــذا أصلنــا يــا بلوقيــا فتجــب
بلوقيـا مـن كلــام الملــك صخــر ثــم إنــه قــال: يــا ملــك أريــد منــك أن تأمــر واحــداً مــن أعوانــك ليوصلنــي
إلـى بلـادي فقـال لــه الملــك صخــر: مــا نقــدر أن نفعــل شيئــاً مــن ذلــك إلا إذا أمرنــا اللــه تعالــى ولكــن يــا
بلوقيــا إن شئـــت الذهـــاب مـــن عندنـــا فإنـــي أحضـــر لـــك فرســـاً مـــن خيلـــي وأركبـــك علـــى ظهرهـــا
وآمرهـا أن تسيــر بــك إلــى آخــر حكمــي فــإذا وصلــت إلــى آخــر حكمــي يلاقيــك جماعــة ملــك اسمــه
===
براخيــا فينظــرون الفــرس فيعرفونهــا وينزلونــك مــن فوقهـــا ويرسلونهـــا إلينـــا وهـــذا الـــذي نقـــدر عليـــه لا
غير.
فلمـا سمـع بلوقيـا هـذا الكلــام بكــى وقــال للملــك: افعــل مــا تريــد فأمــر الملــك أن يأتــوا لــه بالفــرس فأتــوا
لــه بالفــرس وأركبــوه علــى ظهرهــا وقالــوا لــه: احــذر أن تنــزل مــن فــوق ظهرهـــا أو تضربهـــا أو تصيـــح
فـي وجههـا فـإن فعلـت ذلـك أهلكتـك بـل استمـر راكبـاً عليهـا مـع السكـون حتـى تقــف بــك فانــزل عــن
ظهرهـا ورح إلـى حـال سبيلــك فقــال لهــم بلوقيــا: سمعــاً وطاعــة ثــم ركــب الفــرس وســار فــي الخيــام
مدة طويلة ولم يمـر فـي سيـره إلا علـى مطبـخ الملـك صخـر فنظـر بلوقيـا إلـى قـدور معلقـة فـي كـل قـدر
خمســون جمــلاً والنــار تلتهــب مــن تحتهــا فلمــا رأى بلوقيــا تلــك القــدور وكبرهـــا تأملهـــا وتعجـــب منهـــا
وأكثـر التعجـب والتأمـل فيهـا فنظـر إليـه الملـك فـرآه متعجبـاً مـن المطبـخ فظـن الملــك فــي نفســه أنــه جائــع
فأمـر أن يجيئــوا لــه بجمليــن مشوييــن وربطوهمــا خلفــه علــى ظهــر الفــرس ثــم إنــه ودعهــم وســار حتــى
وصـل إلـى آخـر حكـم الملـك صخـر فوقفـت الفــرس فنــزل عنهــا بلوقيــا ينفــض تــراب السفــر مــن ثيابــه.
وإذا برجــال أتــوا إليــه ونظــروا الفــرس فعرفوهــا فأخذوهــا وســاروا وبلوقيـــا معهـــم حتـــى وصلـــوا إلـــى
الملـك براخيـا فلمـا دخـل بلوقيـا علـى الملـك براخيـا سلـم عليـه فـرد عليـه السلـام ثــم إن بلوقيــا نظــر إلــى
الملـك فـرآه جالسـاً فـي صيـوان عظيـم وحولـه عساكـر وأبطــال وملــوك الجــان علــى يمينــه وشمالــه ثــم إن
===
الملـك أمـر بلوقيـا أن يدنــو منــه فتقــدم بلوقيــا إليــه فأجلســه الملــك بجانبــه وأمــر أن يأتــوا بالسمــاط فنظــر
بلوقيـا إلـى حــال الملــك براخيــا فــرآه مثــل حــال الملــك صخــر ولمــا حضــرت الأطعمــة أكلــوا وأكــل بلوقيــا
حتــى اكتفــى وحمــد اللــه تعالــى ثــم إنهــم رفعــوا الأطعمـــة وأتـــوا بالفاكهـــة فأكلـــوا ثـــم إن الملـــك براخيـــا
ســـأل بلوقيـــا وقـــال لـــه: متـــى فارقـــت الملـــك صخـــر فقـــال لـــه: مـــن مـــدة يوميـــن فقـــال الملـــك براخيــــا
لبلوقيا: أتدري مسافة كم يوم سافرت في هذين اليومين قال: لا قال: مسيرة سبعين شهراً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة الثمانين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيـــد أن الملـــك براخيـــا قـــال لبلوقيـــا: إنـــك سافـــرت فـــي هذيـــن اليوميـــن
مسيــرة سبعيــن شهــراً ولكنــك لمــا ركبــت الفــرس فزعـــت منـــك وعلمـــت منـــك أنـــك ابـــن آدم وأرادت
أن ترميـــك عـــن ظهرهـــا فأثقلوهـــا بهذيـــن الجمليـــن فلمـــا سمـــع بلوقيـــا هـــذا الكلـــام مـــن الملــــك براخيــــا
تعجــب وحمــد اللــه تعالــى علــى السلامــة ثــم إن الملـــك براخيـــا قـــال لبلوقيـــا: أخبرنـــي بمـــا جـــرى لـــك
وكيــف أتيــت إلــى هــذه البلــاد فحكــى لــه بلوقيــا جميــع مــا جـــرى لـــه وكيـــف ســـاح وأتـــى إلـــى هـــذه
البلاد فلما سمع الملك كلامه تعجب منه ومكث عنده شهرين.
===
فلمـــا سمـــع حاســـب كلـــام ملكـــة الحيـــات تعجــــب غايــــة العجــــب ثــــم قــــال لهــــا: أريــــد مــــن فضلــــك
وإحسانـك أن تأمـري أحـداً مـن أعوانـك أن يخرجنــي إلــى وجــه الــأرض حتــى أروح إلــى أهلــي فقالــت
لـه ملكـة الحيـات: يـا حاسـب كريـم الديـن اعلـم أنــك متــى خرجــت إلــى وجــه الــأرض تــروح أهلــك ثــم
تدخــل الحمــام وتغتســل وبمجــرد مــا تفــرغ مــن غسلــك أمــوت أنـــا لـــأن ذلـــك يكـــون سببـــاً لموتـــي فقـــال
حاسـب: أنـا أحلـف لـك مـا أدخـل الحمـام طــول عمــري وإذا وجــب علــي الغســل أغتســل فــي بيتــي.
فقالـت لــه ملكــة الحيــات: لــو حلفــت لــي مائــة يميــن مــا أصدقــك أبــداً فــإن هــذا لا يكــون واعلــم أنــك
ابـن آدم مالـك عهـد فــإن أبــاك آدم قــد عاهــد اللــه ونقــض عهــده وكــان اللــه تعالــى خمــر طينتــه أربعيــن
صباحاً وأسجد له ملائكته وبعد ذلك الكلام نسي العهد ونسيه خالقه.
فلمـــا سمـــع حاســــب ذلــــك الكلــــام سكــــت وبكــــى ومكــــث يبكــــي مــــدة عشــــرة أيــــام ثــــم قــــال لهــــا
حاســب: أخبرينــي بالــذي جــرى لبلوقيــا بعــد قعــوده شهريــن عنــد الملــك براخيــا فقالــت لــه: اعلــم يــا
حاســب أن بلوقيــا بعــد قعــوده عنــد الملــك بارخــاي ودعـــه وســـار فـــي البـــراري ليـــلاً ونهـــاراً حتـــى
وصـل إلـى جبـل عـال فطلـع ذلـك الجبـل فـرأى فوقـه ملكـاً عظيمــاً جالســاً علــى ذلــك الجبــل وهــو يذكــر
اللـه تعالـى ويصلـي علـى محمـد وبيــن يــدي ذلــك الملــك لــوح مكتــوب فيــه شــيء أبيــض وشــيء أســود
وهـو ينظـر فـي اللـوح ولـه جناحـان أحدهمـا ممـدود بالمشـرق والآخـر ممـدود بالمغـرب فأقبـل عليــه بلوقيــا
===
وسلــم عليــه فــرد عليــه السلــام ثــم إن الملــك ســأل بلوقيــا وقــال لــه: مـــن أنـــت ومـــن أيـــن أتيـــت وغلـــى
أين رائح وما اسمك.
فقـال بلوقيـا: أنـا مـن بنـي آدم مـن قـوم بنـي إسرائيـل وأنـا سائـح فـي حـب محمـد صلـى اللـه عليــه وسلــم
واسمـي بلوقيـا فقـال الملـك: مـا الـذي جـرى لـك فـي مجيئـك إلــى هــذه الــأرض فحكــى لــه بلوقيــا جميــع
ما جرى له وما رأى في سياحته.
فلمــا سمــع الملــك مــن بلوقيــا ذلــك الكلــام تعجــب منــه ثــم إن بلوقيــا ســأل الملـــك وقـــال: أخبرنـــي أنـــت
الآخـــر بهـــذا اللـــوح وأي شـــيء مكتـــوب فيـــه ومـــا هـــذا الأمـــر الـــذي فيـــه ومـــا اسمـــك فقـــال لـــه: أنـــا
اسمي ميخائيل وأنا موكل بتصريف الليل والنهار وهذا شغلي إلى يوم القيامة.
فلمـا سمـع بلوقيــا ذلــك الكلــام تعجــب منــه ومــن صــورة ذلــك الملــك ومــن هيبتــه وعظــم خلقتــه ثــم إن
بلوقيـا ودع ذلـك الملـك وسـار ليـلاً وهـاراً حتـى وصـل إلـى مـرج عظيـم فتمشـى فـي ذلــك المــرج فــرأى
فيـه سبعـة أنهـر ورأى أشجـاراً كثيـرة فتعجـب بلوقيـا مـن ذلـك المـرج العظيـم وســار فــي جوانبــه فــرأى
فيـه شجـرة عظيمـة وتحـت تلــك الشجــرة أربعــة ملائكــة فتقــدم إليهــم بلوقيــا ونظــر إلــى خلقتهــم فــرأى
واحــداً منهــم صورتــه صــورة بنــي آدم والثانــي صورتــه صــورة وحــش والثالــث صورتــه صــورة طيــر
والرابـع صورتـه صـورة ثـور وهـم مشغولـون بذكـر اللــه تعالــى ويقــول كــل منهــم: إلهــي وسيــدي ومولــاي
===
بحقـك وبجـاه نبيـك محمـد صلـى اللـه عليـه وسلــم أن تغفــر لكــل مخلــوق خلقتــه علــى صورتــي وتسامحــه
إنك على كل شيء قدير.
فلمــا سمــع بلوقيــا منهــم ذلــك الكلــام تعجــب وســار مــن عندهــم ليــلاً ونهــاراً حتــى وصــل إلــى جبـــل
قــاف فطلــع فوقــه فــرأى هنــاك ملكــاً عظيمــاً وهــو جالــس يسبــح اللــه تعالـــى ويقدســـه ويصلـــي علـــى
محمـد صلـى اللـه عليـه وسلـم ورأى ذلـك الملـك فـي قبـض وبسـط أو طـي ونشـر فبينمــا هــو فــي هــذا
الأمــر إذ أقبــل عليــه بلوقيــا وسلــم عليــه فــرد الملــك عليــه السلــام وقــال لـــه: أي شـــيء أنـــت ومـــن أيـــن
أتيــت وإلــى أيــن رائــح ومــا اسمــك فقـــال بلوقيـــا: أنـــا مـــن بنـــي إسرائيـــل مـــن بنـــي آدم واسمـــي بلوقيـــا
وأنــا سائــح فلــي حــب محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم ولكــن تهــت فــي طريقــي وحكــى لـــه جميـــع مـــا
جرى.
فلمـــا فـــرغ بلوقيـــا مـــن حكايتـــه ســـأل الملـــك وقـــال لـــه: مـــن أنـــت ومـــا هـــذا الجبـــل ومـــا هـــذا الشغـــل
الــذي أنــت فيــه فقــال لــه: اعلــم يــا بلوقيــا أن هــذا جبــل قــاف المحيــط بالدنيـــا وكـــل أرض خلقهـــا اللـــه
فـي الدنيـا فقبضتهـا فـي يـدي فـإذا أراد اللـه تعالـى بتلـك الـأرض شيئـاً مـن زلزلــة أو قحــط أو خصــب
أو قتــال أو صلــح أمرنــي أن أفعلــه فأفعــل وأنــا فــي مكانـــي وأعلـــم أن يـــدي قابضـــة بعـــروق الـــأرض.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
===
قالـت: بلغنـي أيهــا الملــك السعيــد أن الملــك قــال لبلوقيــا: واعلــم أن يــدي قابضــة بعــروق الــأرض فقــال
بلوقيـا للملـك: هـل خلـق اللـه فـي جبـل قـاف أرضـاً غيـر هـذه الـأرض التـي أنـت فيهــا قــال الملــك: نعــم
خلــق اللــه ارضـــاً بيضـــاء مثـــل الفضـــة ومـــا يعلـــم قـــدر اتساعهـــا إلا اللـــه سبحانـــه وتعالـــى وأسكنهـــا
ملائكــة أكلهــم وشربهــم التسبيــح والتقديــس والإكثــار مــن الصلــاة علــى محمــد صلــى اللــه عليــه وسلـــم
وفـي كـل ليلـة جمعـة يأتـون إلـى هـذا الجبـل ويجتمعـون ويدعـون اللـه تعالـى طـول الليـل إلـى وقـت الصبـاح
ويهــدون ثــواب ذلــك التسبيــح والتقديــس والعبــادات للمذنبيــن مــن أمــة محمــد صلــى اللـــه عليـــه وسلـــم
ولكن من اغتسل غسل الجمعة وهذا حالهم إلى يوم القيامة.
ثـم إن بلوقيـا ســأل الملــك وقــال لــه: هــل خلــق اللــه جبــالاً خلــف جبــل قــاف فقــال الملــك: نعــم خلــف
جبـل قـاف قـدره مسيـرة خمسمائـة عــام وهــو مــن الثلــج والبــرد وهــو الــذي منــع حــر جهنــم عــن الدنيــا
ولــولا ذلــك الجبــل لاحترقــت الدنيــا مــن حــر نــار جهنــم وخلــف جبــل قـــاف أربعـــون أرضـــاً فـــي كـــل
منهــا قــدر الدنيــا أربعــون مــرة منهــا مــا هــو مــن الذهــب ومنهــا مــا هــو مــن الفضــة ومنهـــا مـــا هـــو مـــن
الياقـوت ولكــل أرض مــن تلــك الأراضــي لــون وأسكــن اللــه فــي تلــك الأراضــي ملائكــة لا شغــل لهــم
ســوى التسبيــح والتقديــس والتهليــل والتكبيــر ويدعـــون اللـــه لأمـــة محمـــد صلـــى اللـــه عليـــه وسلـــم ولا
يعرفـــون حـــواء ولا آدم ولا ليـــلاً ولا نهــــاراً واعلــــم يــــا بلوقيــــا أن الــــأرض سبــــع طبــــاق بعضهــــا فــــوق
===
وفي الليلة الثالثة والثمانين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الملــك قــال لبلوقيـــا: واعلـــم يـــا بلوقيـــا أن الـــأرض سبـــع طبقـــات
بعضهــا فــوق بعــض وخلــق اللــه ملكــاً مــن الملائكــة لا يعلــم أوصافــه ولا قــدره إلا اللــه عــز وجـــل وهـــو
حامــل السبــع أراضــي علــى كاهلــه وخلـــق اللـــه تعالـــى تحـــت ذلـــك الملـــك صخـــرة وخلـــق اللـــه تعالـــى
تحــت تلــك الصخــرة نــوراً. وخلــق اللــه تعالــى تحــت ذلــك النــور حوتــاً وخلــق اللــه تعالـــى تحـــت ذلـــك
الحـوت بحـراً عظيمـاً وقـد أعلـم اللـه تعالـى عيسـى عليـه السلــام بذلــك الحــوت. فقــال لــه: يــارب أرنــي
ذلـك الحـوت حتـى أنظـر إليـه فأمـر اللـه تعالـى ملكـاً مـن الملائكـة أن يأخـذ عيسـى ويـروح بـه إلــى الحــوت
حتـى ينظــره. فأتــى ذلــك الملــك إلــى عيســى عليــه السلــام وأخــذه وأتــى بــه البحــر الــذي فيــه الحــوت
وقـال لـه: انظـر يـا عيسـى إلـى الحـوت فنظـر عيسـى إلـى الحـوت فلـم يـره فمـر الحـوت علـى عيســى مثــل
البرق.
فلمــا رأى ذلــك عيســى وقــع مغشيــاً عليــه فلمــا أفــاق أوحــى اللــه إليــه وقــال: يــا عيســـى هـــل رأيـــت
الحــوت وهــل علمــت طولـــه وعرضـــه فقـــال عيســـى: وعزتـــك وجلالـــك يـــا رب مـــا رأيتـــه ولكـــن مـــر
علـى ثـور عظيـم قـدره مسافــة ثلاثــة أيــام ولــم أعــرف مــا شــأن ذلــك الثــور فقــال اللــه لــه: يــا عيســى
===
ذلـك الـذي مـر عليـك وقـدره ثلاثـة أيـام إنمـا هـو رأس الثـور. واعلـم يـا عيسـى أننـي فـي كـل يـوم أخلــق
أربعين حوتاً مثل ذلك الحوت.
فلمــا سمــع ذلــك الكلــام تعجــب مــن قــدرة اللــه تعالــى ثــم إن بلوقيــا ســأل الملـــك وقـــال لـــه: أي شـــيء
خلـق اللـه تحـت البحـر الــذي فيــه الحــوت فقــال لــه الملــك: خلــق اللــه تحــت البحــر هــواء عظيمــاً وخلــق
اللــه تحــت الهــواء نــاراً وخلــق تحــت النــار حيــة عظيمــة اسمهــا فلــق ولــولا خــوف تلــك الحيــة مـــن اللـــه
تعالـــى لابتلعـــت جميـــع مـــا فوقهـــا مـــن الهـــواء والنـــار والملـــك ومــــا حملــــه ولــــم تحــــس بذلــــك. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والثمانين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن الملـك قـال لبلوقيــا فــي وصــف الحيــة ولــولا خوفهــا مــن اللــه تعالــى
لابتلعــت جميــع مــا فوقهــا مــن الهــواء والنــار والملــك ومــا حملــه ولــم تحــس بذلــك ولمــا خلــق اللــه تعالــى
الحيــة أوحــى إليهــا: إنــي أريــد منــك أن أودع عنـــدك أمانـــة فاحفظيهـــا فقالـــت الحيـــة: افعـــل مـــا تريـــد
فقــال اللــه تعالــى لتلــك الحيــة: افتحــي فــاك ففتحــت فاهــا فأدخــل اللــه جهنــم فــي بطنهــا وقـــال لهـــا:
احفظــي جهنــم إلــى يــوم القيامــة فـــإذا جـــاء يـــوم القيامـــة يأمـــر اللـــه ملائكتـــه أن يأتـــوا ومعهـــم سلاســـل
===
يقــودون بهــا جهنــم إلــى المحشــر ويأمــر اللــه تعالــى جهنــم أن تفتــح أبوابهـــا فتفتحهـــا ويطيـــر منهـــا شـــرر
كبار أكبر من الجبال فلما سمع بلوقيا ذلك الكلام من ذلك الملك بكى بكاء شديداً.
ثـم إنـه ودع الملــك وســار إلــى ناحيــة الغــرب حتــى أقبــل علــى شخصيــن فرآهمــا جالسيــن وعندهمــا
بــاب عظيــم مقفــول فلمــا قــرب منهمــا رأى أحدهمـــا صورتـــه صـــورة أســـد والآخـــر صورتـــه صـــورة
ثــور فسلــم عليهمــا بلوقيــا فــردا عليــه السلــام ثــم إنهمــا قــالا لــه: أي شــيء أنــت ومــن أيــن أتيــت وإلــى
أيــن رائــح فقــال لهمــا بلوقيــا: أنــا مــن بنــي آدم وأنـــا سائـــح فـــي حـــب محمـــد صلـــى اللـــه عليـــه وسلـــم
ولكــن تهــت عــن طريقــي ثــم إن بلوقيــا سألهمــا وقــال لهمـــا: أي شـــيء أنتمـــا ومـــا هـــذا البـــاب الـــذي
عندكمــا فقــالا لـــه: نحـــن حـــراس هـــذا البـــاب. الـــذي تـــراه ومالنـــا شغـــل ســـوى التسبيـــح والتقديـــس
والصلــاة علــى محمــد صلــى اللــه عليــه وسلــم. فلمــا سمــع بلوقيــا هــذا الكلــام تعجــب وقــال لهمــا: أي
شـيء داخـل هـذا البــاب فقــالا: لا نــدري فقــال لهمــا: بحــق ربكمــا الجليــل أن تفتحــا لــي هــذا البــاب
حتــى أنظــر شيئــاً داخلــه فقــالا لــه: مــا نقــدر أن نفتــح هــذا البـــاب ولا يقـــدر علـــى فتحـــه أحـــد مـــن
المخلوقيـن إلا الأميـن جبريـل عليــه السلــام فلمــا سمــع بلوقيــا ذلــك تضــرع إلــى اللــه تعالــى وقــال: يــا رب
ائتنــي بالأميــن جبريــل ليفتــح لــي هــذا البــاب حتــى أنظــر مــا داخلــه فاستجــاب اللــه أمــر دعائـــه وأمـــر
الأميــن جبريــل أن ينــزل إلــى الــأرض ويفتــح بــاب مجمــع البحريــن حتـــى ينظـــر بلوقيـــا فنـــزل جبريـــل إلـــى
===
بلوقيـا وسلـم عليـه وأتـى إلــى ذلــك البــاب وفتحــه ثــم إن جبريــل قــال لبلوقيــا: ادخــل إلــى هــذا البــاب
فـإن اللـه أمرنــي أن أفتحــه لــك فدخــل بلوقيــا وســار فيــه ثــم إن جبريــل قفــل البــاب. وأدرك شهــرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والثمانين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيــا لمــا دخــل قفـــل جبريـــل البـــاب وارتفـــع إلـــى السمـــاء ورأى
بلوقيـا داخـل البـاب بحـراً عظيمــاً نصفــه مالــح ونصفــه حلــو وحــول ذلــك البحــر جبلــان وهــذان الجبلــان
مــن الياقــوت الأحمــر وســار بلوقيـــا حتـــى أقبـــل علـــى هذيـــن الجبليـــن فـــرأى فيهمـــا ملائكـــة مشغوليـــن
بالتسبيــح والتقديــس فلمــا رآهــم بلوقيــا سلــم عليهــم فـــردوا عليـــه السلـــام فسألهـــم عـــن البحـــر وعـــن
هذيـن الجبليـن فقـال لـه الملائكـة: إن هـذا مكـان تحـت العـرش وإن هــذا البحــر يمــد كــل بحــر فــي الدنيــا
ونحــن نقســم هــذا المــاء ونسوقــه إلــى الأراضــي المالـــح للـــأرض المالحـــة والحلـــو للـــأرض الحلـــوة وهـــذان
الجبلان خلقهما الله ليحفظا هذا الماء وهذا أمرنا إلى يوم القيامة.
ثــم إنهــم سألــوه وقالـــوا لـــه: مـــن أيـــن أقبلـــت وإلـــى أيـــن رائـــح فحكـــى لهـــم بلوقيـــا حكايتـــه مـــن الـــأول
إلـى الآخـر ثـم إن بلوقيـا سألهـم عـن الطريــق فقالــوا لــه: اطلــع هنــا علــى ظهــر هــذا البحــر ليــلاً ونهــاراً
===
فبينمــا هــو سائــر وإذا هــو بشــاب مليــح سائــر علــى ظهــر البحــر فأتــى إليــه وسلـــم عليـــه فـــرد عليـــه
السلــام ثــم إن بلوقيــا لمــا فــارق الشــاب رأى أربعــة ملائكــة سائريــن علــى وجــه البحــر وسيرهـــم مثـــل
البـرق الخاطــف فتدقــم بلوقيــا ووقــف فــي طريقهــم فلمــا وصلــوا إليــه سلــم عليهــم بلوقيــا وقــال لهــم:
أريـــد أن أسألكـــم بحـــق العزيـــز الجليـــل مـــا اسمكـــم ومـــن أيـــن أنتـــم وإلــــى أيــــن تذهبــــون فقــــال واحــــد
منهـــم: أنـــا اسمـــي جبريـــل والثانـــي اسمـــه إسرافيـــل والثالـــث اسمــــه ميكائيــــل والرابــــع اسمــــه عزرائيــــل
وقــد ظهــر فــي المشــرق ثعبــان عظيــم وذلــك الثعبــان خــرب ألــف مدينــة وأكــل أهلهــا وقــد أمرنـــا اللـــه
تعالـى أن نـروح إليـه ونمسكـه ونرميـه فـي جهنـم فتعجـب منهـم بلوقيـا ومـن عظمهـم وسـار علـى عادتــه
ليــلاً ونهـــاراً حتـــى وصـــل إلـــى جزيـــرة فطلـــع عليهـــا وتمشـــى فيهـــا ساعـــة. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والثمانيني بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهـا الملــك السعيــد أن بلوقيــا طلــع إلــى الجزيــرة وتمشــى فيهــا ساعــة فــرأى شابــاً مليحــاً
والنـور يلـوح مـن وجهــه فلمــا قــرب منــه بلوقيــا رآه جالســاً بيــن قبريــن مبنييــن وهــو ينــوح ويبكــي فأتــى
إليـــه بلوقيـــا وسلـــم عليـــه فـــرد عليـــه السلـــام ثـــم إن بلوقيــــا ســــأل الشــــاب وقــــال لــــه: ماشأنــــك ومــــا
===
اسمـــك ومـــا هـــذان القبـــران المبنيـــان اللـــذان أنـــت جالـــس بينهمـــا ومـــا هـــذا البكـــاء الـــذي أنـــت فيـــه
فالتفــت الشــاب إلــى بلوقيــا وبكــى بكــاء شديــد حتــى بــل ثيابــه مــن دموعــه وقــال لبلوقيــا: اعلـــم يـــا
أخـي أن حكايتـي عجيبـة وقصتـي غريبــة وأحــب أن تجلــس عنــدي حتــى تحكــي لــي مــا رأيــت فــي
عمــرك ومـــا سبـــب مجيئـــك إلـــى هـــذا المكـــان ومـــا اسمـــك وإلـــى أيـــن رائـــح واحكـــي لـــك أنـــا الآخـــر
بحكايتــي فجلــس بلوقيــا عنــد الشــاب وأخبــره بجميــع مــا وقــع لــه فــي سياحتــه مــن الــأول إلــى الآخـــر
وأخبـــره كيـــف مـــات والـــده وخلفـــه وكيـــف فتـــح الخلـــوة ورأى فيهـــا الصنـــدوق وكيـــف رأى الكتــــاب
الـذي فيـه صفـة محمـد صلـى اللـه عليــه وسلــم وكيــف تعلــق قلبــه بــه وطلــع سائحــاً فــي حبــه وأخبــره
بجميـع مـا وقـع لـه إلـى أن وصـل إليـه ثـم قـال لـه: وهــذه حكايتــي بتمامهــا واللــه أعلــم ومــا أدري بالــذي
يجــري علــي بعــد ذلــك فلمــا سمــع الشــاب كلامــه تنهــد وقـــال لـــه: يـــا مسكيـــن أي شـــيء رأيـــت فـــي
عمــــرك اعلــــم يــــا بلوقيــــا أننــــي رأيــــت السيــــد سليمــــان زمانــــه ورأيـــــت شيئـــــاً لا يعـــــد ولا يحصـــــى
وحكايتـــي عجيبـــت وقصتـــي غريبـــة وأريـــد منـــك أن تقعــــد عنــــدي حتــــى أحكــــي لــــك حكايتــــي
وأخبرك بسبب قعودي هنا.
فلمــا سمــع حاســب هــذا الكلــام مــن الحيــة تعجــب وقــال: يــا ملكــة الحيــات باللـــه عليـــك أن تعتقينـــي
وتأمــري أحــد خدمــك أن يخرجنــي إلــى وجــه الــأرض واحلــف لــك يمينــاً أننــي لا أدخــل الحمــام طــول
===
عمــري فقالــت: إن هــذا الأمــر لا يكــون ولا أصدقــك فــي يمينــك فلمــا سمــع منهـــا ذلـــك الكلـــام بكـــى
وبكـــت الحيـــات جميعـــأً لأجلـــه وصـــارت تتشفـــع لـــه عنـــد الملكـــة وتقـــول لهـــا: نريـــد منـــك أن تأمـــري
إحدانـــا أن يخرجنـــه إلـــى وجـــه الـــأرض ويحلـــف لـــك يمينـــاً أنـــه لا يدخـــل الحمـــام طـــول عمـــره وكانـــت
ملكــة الحيــات اسمهــا يمليخــا فلمــا سمعــت يلميخــا منهــن ذلـــك الكلـــام أقبلـــت علـــى حاســـب وحلفتـــه
فحلف لها ثم أمرت حية أن تخرجه إلى وجه الأرض فأتته وأرادت أن تخرجه.
فلمــا أتــت تلــك الحيــة لتخرجــه قــال لملكــة الحيــات: أريــد منــك أن تحكــي لــي حكايـــة الشـــاب الـــذي
قعــد عنــده بلوقيــا ورآه جالســاً بيــن القبريــن فقالــت: اعلــم يــا حاســب أن بلوقيــا جلــس عنــد الشــاب
وحكـى لـه حكايتـه مـن أولهــا إلــى آخرهــا لأجــل أن يحكــي لــه الآخــر قصتــه ويخبــره بمــا جــرى لــه فــي
عمره ويعرفه بسبب قعوده بين القبرين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والثمانين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن بلوقيــا لمــا حكــى للشــاب حكايتــه قــال لــه الشـــاب: وأي شـــيء
رأيـــت مـــن العجائـــب يـــا مسكيـــن أنـــا رأيـــت السيـــد سليمـــان فـــي زمانــــه ورأيــــت عجائــــب لا تعــــد
ولاتحصـى واعلـم يـا أخـي أن أبـي كــان يقــال لــه: الملــك طيغمــوس وكــان يحكــم علــى بلــاد كابــل وعلــى
===
بنـي شهلـان وهـم عشـرة آلـاف بهلـوان كـل بهلـوان منهـم يحكــم علــى مائــة مدينــة ومائــة قلعــة بأسوارهــا
وكـان يحكـم علـى سبعـة سلاطيـن ويحمــل لــه المــال مــن المشــرق إلــى المغــرب وكــان عــادلاً فــي حكمــه
وقـد أعطـاه اللـه تعالـى كـل هـذا ومـن عليـه بذلـك الملـك العظيـم ولـم يكـن لـه ولـد وكـان مـراده فـي عمـره
أن يرزقه الله ولداً ذكراً ليخلفه في ملكه بعد موته.
فاتفــق أنــه طلــب العلمــاء والمنجميــن والحكمــاء وأربــاب المعرفـــة والتقويـــم يومـــاً مـــن الأيـــام وقـــال لهـــم:
انظـروا طالعـي وهـل يرزقنـي اللـه فـي عمـري ولـداً ذكـراً فيخلفنـي فــي ملكــي ففتــح المنجمــون الكتــب
وحسبـوا طالعـه وناظــره مــن الكواكــب ثــم قالــوا لــه: اعلــم أيهــا الملــك أنــك تــرزق ولــداً ذكــراً ولا يكــون
ذلـك الولـد إلا مـن بنـت ملـك خراسـان. فلمـا سمـع طيغمـوس ذلــك منهــم فــرح فرحــاً شديــداً وأعطــى
المنجميـــن والحكمـــاء مـــالاً كثيـــراً لا يعـــد ولا يحصـــى وذهبـــوا إلـــى حـــال سبيلهـــم وكـــان عنــــد الملــــك
طيغمــوس وزيــراً كبيــراً وكــان بهلوانــاً عظيمــاً مقومــاً بألــف فــارس وكــان اسمــه عيــن زار فقـــال لـــه: يـــا
وزيــر أريــد مــن ك أن تتجهــز للسفــر إلــى بلــاد خراســان وتخطــب بنــت الملـــك بهـــروان ملـــك خراســـان
وحكــى الملــك طيغمــوس لوزيــره عيــن زار مــا أخبــره بــه المنجمــون فلمــا سمــع الوزيــر ذلــك الكلـــام مـــن
الملــك طيغمــوس ذهــب مــن وقتـــه وساعتـــه وتجهـــز للسفـــر. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن
الكلام المباح.
===
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الوزيــر عيــن زار قــام وتجهــز للسفــر ثــم بــرز إلــى خـــارج المدينـــة
بالعساكر والأبطال والجيوش. هذا ما كان من أمر الوزير.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر الملــك طيغمــوس فإنـــه جهـــز ألفـــاً وخمسمائـــة حمـــل مـــن الحريـــر والجواهـــر واللؤلـــؤ
واليواقيـت والذهـب والفضـة والمعـادن وجهـز شيئــاً كثيــراً مــن آلــة العــرش وحملهــا علــى الجمــال والبغــال
وسلمهـا إلـى وزيـره عيـن زار وكتـب لـه كتابـاً مضمونـه: أمـا بعـد فالسلـام علــى الملــك بهــروان اعلــم أننــا
قـد جمعنـا المنجميـن والحكمـاء وأربـاب التقاويــم فأخبرونــا أننــا نــرزق ولــداً ذكــراً ولا يكــون ذلــك الولــد
إلا مـن بنتــك. وهــا أنــا جهــزت لــك الوزيــر عيــن زار ومعــه أشيــاء كثيــرة مــن آلــة العــرس وإنــي أقمــت
وزيـري مقامـي فـي هـذه المسألـة ووكلتـه فـي قبــول العقــد وأريــد مــن فضلــك أن تقضــي للوزيــر حاجتــه
فإنهـا حاجتـي ولا تبـدي فـي ذلـك إهمـالاً ولا إمهـالاً. ومـا فعلتـه مـن الجميــل فهــو مقبــول منــك والحــذر
مـن المخالفـة فــي ذلــك واعلــم يــا ملــك بهــروان أن اللــه قــد مــن علــي بمملكــة كابــل وملكنــي علــى بنــي
شهلـان وأعطانـي ملكـاً عظيمــاً وإذا تزوجــت بنتــك أكــون أنــا وأنــت فــي الملــك شيئــاً واحــداً وأرســل
إليـك فـي كـل سنـة مـا يكفيــك مــن المــال. وهــذا قصــدي منــك ثــم إن الملــك طيغمــوس ختــم الكتــاب
وناولـه لوزيـره عيـن زار وأمـره بالسفـر إلـى بلــاد خراســان فسافــر الوزيــر حتــى وصــل إلــى قــرب مدينــة
الملك بهروان فأعلموه بقدوم وزير الملك طيغموس.
===
فلمــا سمــع الملــك بهــروان بذلـــك الكلـــام جهـــز أمـــراء دولتـــه للملاقـــاة وجهـــز معهـــم أكـــلاً وشربـــاً وغيـــر
ذلــك وأعطاهــم عليقــاً لأجــل الخيــل وأمرهــم بالمسيــر إلــى ملاقــاة الوزيــر عيــن زار. فحملـــوا الأحمـــال
وســاروا حتــى أقبلــوا علــى الوزيــر وحطــوا الأحمــال ونزلــت الجيـــوش والعساكـــر وسلـــم بعضهـــم علـــى
بعـض ومكثـوا فـي ذلـك المكـان مـدة عشـرة أيـام وهــم فــي أكــل وشــرب ثــم بعــد ذلــك ركبــوا وتوجهــوا
إلـى المدينـة وطلـع الملـك بهـروان إلـى مقابلــة وزيــر الملــك طيغمــوس وعانقــه وسلــم عليــه وأخــذه وتوجــه
بــه إلــى القلعــة ثــم إن الوزيــر قــدم الأحمـــال والتحـــف وجميـــع الأمـــوال للملـــك بهـــروان وأعطـــاه الكتـــاب
فأخــذه الملــك بهــروان وقــراه وعــرف مــا فيــه وفهــم معنــاه وفــرح فرحــاً شديــداً ورحــب بالوزيــر وقـــال
لـه: أشـر بمـا تريـد ولـو طلـب الملـك طيغمــوس روحــي لأعطيتــه إياهــا وذهــب الملــك بهــروان مــن وقتــه
وساعتـه إلـى بنتـه وأمهـا وأقاربهـا وأعلمهـم بذلـك الأمـر واستشارهـم فيـه فقالـوا لـه: افعـل مـا شئــت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الملـــك استشـــار البنـــت وأمهـــا وأقاربهـــا فقالـــوا لـــه: افعــــل مــــا
شئـت ثــم إن الملــك بهــروان رجــع إلــى الوزيــر عيــن زار وأعلمــه بقضــاء حاجتــه ومكــث الوزيــر عنــد
===
الملـك بهــروان مــدة شهريــن ثــم بعــد ذلــك قــال الوزيــر للملــك: إننــا نريــد أن تنعــم علينــا بمــا أتينــاك فيــه
ونـروح إلـى بلادنـا. فقـال الملـك للوزيـر: سمعـاً وطاعـة ثــم أمــر بإقامــة العــرس وتجهيــز الجهــاز ففعلــوا مــا
أمرهــم بــه وبعــد ذلــك أمــر بإحضــار وزرائــه وجميــع الأمــراء وأكابــر دولتـــه فحضـــروا جميعـــاً ثـــم أمـــر
بإحضـار الرهبـان والقسيـس فحضـروا وعقـدوا عقـد البنــت للملــك طيغمــوس وهيــأ الملــك بهــروان آلــة
السفـر وأعطـى بنتـه مــن الهدايــا والتحــف والمعــادن ومــا يكــل عنــه الوصــف وأمــر بفــرش أزقــة المدينــة
وزينها بأحسن زينة وسافر الوزير عين زار ببنت الملك بهروان إلى بلاده.
فلمـا وصـل الخبـر إلـى الملـك طيغمـوس أمــر بإقامــة الفــرح وزينــت المدينــة ثــم إن الملــك طيغمــوس دخــل
علــى بنــت الملــك بهــروان وأزال بكارتهــا فمــا مضــت عليــه أيــام قلائــل حتـــى علقـــت منـــه ولمـــا أتمـــت
شهرهـا وضعـت ذكـراً مثـل البـدر فـي ليلـة تمامـه فلمـا علــم الملــك طيغمــوس أن زوجتــه وضعــت ولــداً
ذكـراً مليحـاً فـرح فرحـاً شديـداً وطلـب الحكمـاء والمنجميــن وأربــاب التقاويــم وقــال لهــم: أريــد منكــم
أن تنظــروا طالــع هــذا المولــود وناظــره مــن الكواكــب وتخبرونــي بمــا يلقــاه فــي عمـــره فحســـب الحكمـــاء
والمنجمــون طالعــه وناظــره فــرأوا الولــد سعيـــداً ولكنـــه يحصـــل لـــه فـــي أول عمـــره تعـــب وذلـــك عنـــد
بلوغـه خمــس عشــرة سنــة فــإن عــاش بعدهــا رأى خيــراً كثيــراً وصــار ملكــاً عظيمــاً أعظــم مــن أبيــه
وعظم سعده وهلك ضده وعاش عيشاً هنيئاً وإن مات فلا سبيل إلى ما فات والله أعلم.
===
فلمــا سمــع الملــك ذلــك الخبــر فــرح فرحــاً شديــداً وسمــاه جانشــاه وسلمــه للمراضــع والدايـــات وأحســـن
تربيتـه فلمـا بلـغ مـن العمـر خمـس سنيـن علمـه أبـوه القـراءة وصـار يقـرأ فـي الإنجيـل وعلمــه فنــون الحــرب
والطعــن والضــرب فــي أقــل مـــن سبـــع سنيـــن وجعـــل يركـــب للصيـــد والقنـــص وصـــار بهلوانـــاً عظيمـــاً
كامـلاً فـي جميـع آلـات الفروسيـة وصـار أبـوه كلمـا سمــع بفروسيتــه فــي جميــع آلــات الحــرب يفــرح فرحــاً
شديـــداً فاتفــــق فــــي يــــوم مــــن الأيــــام أن الملــــك طيغمــــوس أمــــر عسكــــره أن يركبــــوا للصيــــد والقنــــص
فطلعـت العسكــر والجيــوش فركــب الملــك هــو وابنــه جانشــاه وســاروا إلــى البــراري والقفــار واشتغلــوا
بالصيـد والقنـص إلـى عصـر اليـوم الثالـث فسنحـت لجانشـاه غزالــة عجيبــة اللــون وشــردت قدامــه فلمــا
نظــر جانشــاه إلــى تلــك الغزالــة وهــي شــاردة قدامــه تبعهــا وأســرع فــي الجــري وراءهــا وهــي هاربـــة
فانتبـذ سبعــة مماليــك مــن مماليــك الملــك طيغمــوس وذهبــوا فــي اثــر جانشــاه فلمــا نظــروا إلــى سيدهــم
وهـــو مســـرع وراء تلـــك الغزالـــة راحـــوا مسرعيـــن وراءه وهـــم علـــى خيـــل سوابـــق ومازالـــوا سائريــــن
حتــى وصلــوا إلــى بحــر فتهاجــم الجميــع علـــى الغزالـــة ليمسكوهـــا قنصـــاً ففـــرت منهـــم الغزالـــة وألقـــت
نفسها في البحر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التسعين بعد الأربعمائة
===
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن جانشـــاه هـــو ومماليكـــه لمــــا هجمــــوا علــــى الغزالــــة ليمسكوهــــا
قنصـــاً ففـــرت منهـــم ورمـــت نفسهـــا فـــي البحـــر وكـــان فـــي ذلـــك البحـــر مركـــب صيـــاد فنطـــت فيـــه
الغزالــة فنــزل جانشــاه ومماليكــه عــن خيولهــم إلــى المركــب وقنصــوا الغزالــة وأرادوا أن يرجعــوا إلــى البــر
وإذا بجانشـــاه ينظـــر إلـــى جزيـــرة عظيمـــة فقـــال للماليـــك الذيـــن معـــه: إنـــي أريـــد أن أذهـــب إلـــى هـــذه
الجزيـرة فقالـوا لــه سمعــاً وطاعــة وســاروا بالمركــب إلــى ناحيــة الجزيــرة حتــى وصلــوا إليهــا فلمــا وصلــوا
إليهــا طلعــوا فيهــا وســاروا يتفرجــون عليهــا. ثــم بعــد ذلــك عــادوا إلــى المركــب ونزلــوا فيهـــا وســـاروا
والغزالـة معهـم قاصديـن البــر الــذي أتــوا منــه فأمســى عليهــم المســاء وتأهبــوا فــي البحــر فهبــت عليهــم
الريـح وأجـرت المركـب فـي وسـط البحـر ونامــوا إلــى وقــت الصبــاح ثــم انتبهــوا لا يعرفــون الطريــق وهــم
لا يزالوا سائرين في البحر. هذا ما كان من أمرهم.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر الملــك طيغمــوس والــد جانشــاه فإنــه تفقــد ابنــه فلــم يــره فأمــر العسكـــر أن يـــروح
جماعـة منهـم إلـى طريـق فصـاروا دائريـن يفتشـون علـى ابــن الملــك طيغمــوس وذهــب جماعــة منهــم إلــى
البحــر فــرأوا المملــوك الــذي خلــوه عنــد الخيــل فأتــوه وسألــوه عــن سيــده وعــن الستــة مماليــك فأخبرهــم
المملـوك بمـا جـرى لهـم فأخـذوا المملـوك والخيـل ورجعــوا إلــى الملــك طيغموصــس وأخبــروه بذلــك الخبــر
فلمــا سمــع الملــك ذلــك الكلــام بكــى بكــاء شديــداً ورمـــى التـــاج مـــن فـــوق رأســـه وعـــض يديـــه ندمـــاً
===
وقــام مــن وقتــه وكتــب كتبـــاً وأرسلهـــا إلـــى الجزائـــر التـــي فـــي البحـــر وجمـــع مائـــة مركـــب وأنـــزل فيهـــا
عساكـر وأمرهـم أن يـدوروا فــي البحــر ويفتشــوا علــى ولــده جانشــاه ثــم إن الملــك أخــذ بقيــة العساكــر
والجيــوش ورجــع إلــى المدينـــة وصـــار فـــي نكـــد شديـــد ولمـــا علمـــت والـــدة جانشـــاه بذلـــك. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والتسعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن والــدة جانشــاه لمــا علمــت بذلــك لطمـــت علـــى وجههـــا وأقامـــت
عزاءه. هذا ما كان من أمرهم.
وأمـا مــا كــان مــن أمــر جانشــاه والمماليــك الذيــن معــه فإنهــم لــم يزالــوا تائهيــن فــي البحــر ولــم يــزل الــرواد
دائريـن يفتشـون عليهـم فـي البحـر مـدة عشـرة أيـام فمـا وجدوهـم فرجعـوا إلـى الملــك وأعلمــوه بذلــك ثــم
إن جانشــاه والمماليــك الذيــن معــه هــب عليهــم ريـــح عاصـــف وســـاق المركـــب الـــذي هـــم فيـــه حتـــى
أوصلـه إلـى جزيـرة فطلـع جانشـاه والستـة مماليـك مـن المركـب وتمشـوا فـي تلـك الجزيـرة حتـى وصلــوا إلــى
عيـن مـاء فـي وسـط تلـك الجزيـرة فـرأوا رجـلاً جالسـاً علــى بعــد قريبــاً مــن العيــن فأتــوه وسلمــوا عليــه
فرد عليهم السلام ثم إن الرجل كلمهم بكلام مثل صفير الطير.
===
فلمــا سمــع جانشــاه كلــام الرجــل تعجــب ثــم إن الرجــل التفــت يمينــاً وشمــالاً وبينمــا هــم يتعجبـــون مـــن
ذلـك الرجـل إذ هـو انقسـم إلـى نصفيـن وراح كــل نصــف فــي ناحيــة وبينمــا هــم كذلــك إذ أقبــل عليهــم
أصنـاف رجـال لا تحصـى ولا تعــد وأتــوا مــن جانــب الجبــل وســاروا حتــى وصلــوا إلــى العيــن وصــار
كل واحد منهم منقسماً نصفين ثم إنهم أتوا جانشاه والمماليك ليأكلوهم.
فلمــا رآهــم جانشــاه يريــدون أكلهــم هــرب منهــم وهربــت معــه المماليــك فتبعهــم هـــؤلاء الرجـــال فأكلـــوا
مــن المماليــك ثلاثـــة وبقـــي ثلاثـــة مـــع جانشـــاه ثـــم إن جانشـــاه نـــزل فـــي المركـــب ومعـــه الثلاثـــة مماليـــك
ودفعـوا المركـب إلــى وســط البحــر وســاروا ليــلاً ونهــاراً وهــم لا يعرفــون أيــن تذهــب بهــم المركــب ثــم
إنهـم ذبحـوا الغزالـة وصـاروا يقتاتـون منهـا فضربتهـم الريــاح فألقتهــم إلــى جزيــرة أخــرى فنظــروا إلــى تلــك
الجزيـرة فـرأوا فيهـا أشجـاراً وأنهـاراً وأثمـاراً وبساتيـن وفيهــا مــن جميــع الفواكــه والأنهــار تجــري مــن تحــت
تلك الأشجار وهي كأنها الجنة.
فلمـــا رأى جانشـــاه تلـــك الجزيـــرة أعجبتـــه وقـــال للماليـــك: مـــن فيكـــم يطلـــع هـــذه الجزيـــرة وينظــــر لنــــا
خبرهــا فقــال مملــوك منهــم: أنــا أطلــع وأكشــف لكـــم عـــن خبرهـــا وأرجـــع إليكـــم فقـــال جانشـــاه: هـــذا
أمـر لايكـون وإنمـا تطلعـون أنتـم الثلاثـة وتكشفـون خبـر هـذه الجزيـرة وأنـا قاعـد لكــم فــي المركــب حتــى
ترجعـــوا ثـــم إن جانشـــاه أنـــزل الثلاثـــة مماليـــك ليكشفــــوا عــــن خبــــر هــــذه الجزيــــرة فطلــــع الثلاثــــة إلــــى
===
وفي الليلة الثانية والتسعين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهــا الملــك السعيــد أن المماليــك الثلاثــة لمــا طلعــوا إلــى الجزيــرة داروا فيهــا شرقــاً وغربــاً
فلـم يجـدوا فيهـا أحـداً ثـم مشـوا فيهـا إلــى وسطهــا فــرأوا علــى بعــد قلعــة مــن الرخــام الأبيــض وبيوتهــا
مـن البلـور الصافـي وفـي وســط تلــك القلعــة بستــان فيــه جميــع الفواكــه اليابســة والرطبــة مــا يكــل عنــه
الوصــف وفيــه جميــع المشمــوم ورأوا فـــي تلـــك القلعـــة أشجـــاراً وأثمـــاراً وأطيـــاراً تناغـــي علـــى تلـــك
الأشجــار وفيهــا بحيــرة عظيمــة وبجانــب البحيــرة إيــوان عظيــم وعلــى ذلـــك الإيـــوان كراســـي منصوبـــة
وفي وسط تلك الكراسي تخت منصوب من الذهب الأحمر مرصع بأنواع الجواهر واليواقيت.
فلمــا رأى المماليــك حســن تلــك القلعــة وذلــك البستــان داروا فــي تلــك القلعـــة يمينـــاً وشمـــالاً فمـــا رأوا
فيهـا أحـداً ثـم طلعـوا مـن القلعــة ورجعــوا إلــى جانشــاه وأعلمــوه بمــا رأوه فلمــا سمــع جانشــاه ابــن الملــك
منهــم هــذا الخبــر قــال: إنــه لابــد لــي مــن أن أتفــرج فــي هــذه القلعــة ثــم إن جانشـــاه طلـــع مـــن المركـــب
وطلعــت معــه المماليــك وســاروا حتــى أتــوا القلعـــة ودخلـــوا فيهـــا فتعجـــب جانشـــاه مـــن حســـن ذلـــك
المكـان ثـم داروا يتفرجــون فــي البستــان ويأكلــون مــن تلــك الفواكــه ولــم يزالــوا دائريــن إلــى وقــت المســاء
ولمـا أمسـى عليهـم المســاء أتــوا إلــى الكراســي المنصوبــة وجلــس جانشــاه علــى التخــت المنصــوب فــي
===
الوسـط وصـارت الكراسـي منصوبــة عــن يمينــه وشمالــه ثــم إن جانشــاه لمــا جلــس علــى ذلــك التخــت
صـار يتفكـر ويبكــي علــى فــراق تخــت والــده وعلــى فــراق بلــده وأهلــه وأقاربــه وبكــت حولــه الثلاثــة
مماليك.
فبينمـا هـم فـي ذلـك الأمـر إذا بصيحـة عظيمـة مـن جانـب البحـر فالتفتـوا إلـى تلــك الصيحــة فــإذا هــم
قــردة كالجــراد المنتشــر وكانــت تلــك القلعــة والجزيــرة للقــردة ثــم إن هــؤلاء القــردة لمـــا رأوا المركـــب الـــذي
أتـى فيـه جانشـاه خسفـوه علـى شاطـئ البحـر وأتـوا إلـى جانشــاه وهــو جالــس فــي القلعــة قالــت ملكــة
الحيات كل هذا يا حاسب مما يحكيه الشاب الجالس بين القبرين لبلوقيا.
فقـــال لهـــا حاســـب: ومـــا فعـــل جانشـــاه مـــع القــــردة بعــــد ذلــــك قالــــت لــــه ملكــــة الحيــــات: لمــــا طلــــع
جانشــاه جلــس علــى التخــت والمماليــك عــن يمينــه وشمالــه أقبــل عليهــم القــردة فأفزعوهــم وأخافوهـــم
خوفـاً عظيمـاً ثـم دخلـت جماعـة مــن القــردة وتقدمــوا إلــى أن قربــوا مــن التخــت الجالــس عليــه جانشــاه
وقبلـوا الــأرض بيــن يديــه ووضعــوا أيديهــم علــى صدورهــم ووقفــوا قدامــه ساعــة وبعــد ذلــك أقبلــت
جماعـة منهـم ومعهـم غزلـان فذبحوهــا وأتــوا بهــا إلــى القلعــة وسلخوهــا وقطعــوا لحمهــا وشووهــا حتــى
طابــت للأكــل وحطوهــا فــي صيـــوان مـــن الذهـــب والفضـــة ومـــدوا السمـــاط وأشـــاروا إلـــى جانشـــاه
وجماعتــه أن يأكلــوا فنــزل جانشــاه مــن فــوق التخــت وأكــل وأكلــت معــه القــرود والمماليــك حتــى اكتفـــوا
===
مــن الأكــل ثــم إن القــرود رفعــوا سمــاط الطعــام وأتـــوا بفاكهـــة فأكلـــوا منهـــا وحمـــدوا اللـــه تعالـــى ثـــم إن
جانشـــاه أشـــار إلـــى أكابـــر القـــرود بالإشـــارة وقـــال لهـــم: ماشأنكـــم ولمــــن هــــذا المكــــان فقــــال القــــردة
بالإشـارة اعلـم أن هـذا المكـان كـان لسيدنـا سليمــان بــن داود عليهمــا السلــام وكــان يأتــي إليــه فــي كــل
سنة مرة يتفرج فيه ويروح من عندنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملـــك السعيـــد أن جانشـــاه أخبرتـــه القـــرود عـــن القلعـــة وقالـــوا لـــه أن هـــذا المكـــان
لسيدنــا سليمــان بــن داود وكــان يأتــي إليــه فــي كــل سنــة مــرة يتفــرج ويــروح مـــن عندنـــا ثـــم قالـــت لـــه
القـرود: اعلـم أيهـا الملـك أنـك بقيـت علينـا سلطانـاً ونحـن فـي خدمتـك وكـل واشـرب وكـل مــا أمرتنــا بــه
نفعلـــه ثـــم قـــام القـــرود وقبلـــوا الـــأرض بيـــن يديـــه وانصـــرف كـــل واحـــد منهـــم إلـــى حـــال سبيلـــه ونـــام
جانشـاه فـوق التخـت ونــام المماليــك حولــه علــى الكراســي إلــى وقــت الصبــح ثــم دخــل عليــه الأربعــة
وزراء الرؤسـاء علـى القـرود وعساكرهــم حتــى امتــلأ ذلــك المكــان وصــاروا حولــه صفــاً بعــد صــف
وأتـــت الـــوزراء واشـــاروا إلـــى جانشـــاه أن يحكـــم بينهـــم بالصـــواب ثـــم صـــاح القـــرود علـــى بعضهــــم
وانصرفـوا وبقـي منهــم جانــب قــدام الملــك جانشــاه مــن أجــل الخدمــة ثــم أقبــل قــردة وهــم معهــم كلــاب
===
فـي صـورة الخيـل وفـي راس كـل كلـب منهـم سلسلـة فتعجــب جانشــاه مــن هــؤلاء الكلــاب ومــن عظــم
خلقتهــــا ثــــم إن وزراء القــــرود أشــــاروا لجانشــــاه أن يركــــب ويسيــــر معهــــم فركــــب جانشــــاه والثلاثـــــة
المماليــك وركــب معهــم عسكــر القــرود وصــاروا مثــل الجــراد المنتشــر بعضهــم راكـــب وبعضهـــم مـــاش
فتعجــب مــن أمورهــم ولــم يزالــوا سائريــن إلــى شاطــئ البحــر. فلمــا رأى جانشــاه المركــب الــذي كــان
راكبـــاً فيـــه قـــد خســـف التفـــت إلـــى وزرائـــه مـــن القـــرود وقـــال لهـــم: أيـــن المركـــب الــــذي كــــان هنــــا
فقالــوا لــه: اعلــم أيهــا الملــك أنكــم لمــا أتيتــم إلــى جزيرتنــا علمنــا بأنــك تكــون سلطانــاً علينــا وخفنــا أن
تهربوا منا إذا أتينا عندكم وتنزلوا المركب فمن أجل ذلك خسفناه.
فلمـا سمـع جانشـاه هـذا الكلـام التفـت إلـى المماليـك وقـال لهـم: مـا بقــي لنــا حيلــة فــي الــرواح مــن عنــد
هـؤلاء القـرود ولكـن نصبـر لمـا قـدر اللـه تعالـى ثـم سـاروا ومازالــوا سائريــن حتــى وصلــوا إلــى شاطــئ
نهـر وفـي جانـب ذلـك النهـر جبـل عـال فنظـر جانشـاه إلـى ذلــك الجبــل فــرأى غيلانــاً كثيــرة فالتفــت إلــى
القـــرود وقـــال لهـــم: مـــا شـــأن هـــؤلاء الغيلـــان فقـــال لـــه القـــرود: اعلــــم أيهــــا الملــــك أن هــــؤلاء الغيلــــان
أعداءنــا ونحــن أتينــا لنقاتلهــم فتعجــب جانشــاه مــن هــؤلاء الغيلــان ومــن عظــم خلقتهـــم وهـــم راكبـــون
على الخيل ورؤوس بعضهم على صورة رؤوس البقر وبعضهم على صورة الجمال.
فلمـــا رأى الغيلـــان عسكـــر القـــرود هجمـــوا عليهـــم ووقفـــوا علـــى شاطــــئ النهــــر وصــــاروا يرجمونهــــم
===
بشـي مـن الحجـارة فـي صـورة العواميـد وحصـل بينهـم حـرب عظيــم فلمــا رأى جانشــاه الغيلــان غلبــوا
لاقـرود زعـق علـى المماليـك وقـال لهـم: اطلعـوا القسـي والنشـاب وارمـوا عليهـم بالنبــال حتــى تقتلوهــم
وتردوهم عنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن جانشـــاه قـــال لمماليكـــه: ارمـــوا الغيلـــان بالنبـــال وردوهـــم عنـــا
ففعــل المماليـــك مـــا أمرهـــم بـــه جانشـــاه حتـــى حصـــل للغيلـــان كـــرب عظيـــم وقتـــل منهـــم خلـــق كثيـــر
وانهزموا وولوا هاربين.
فلمــا رأى القــرود مــن جانشـــاه هـــذا الأمـــر نزلـــوا فـــي النهـــر وعبـــروه وجانشـــاه معهـــم وطـــردوا الغيلـــان
حتـى غابـوا عـن أعينهـم وانهزمـوا وقتـل منهـم كثيـر ولـم يـزل جانشـاه والقـرود سائريــن حتــى وصلــوا إلــى
جبـل عـال فنظـر جانشـاه إلـى ذلـك الجبـل فوجـد فيـه لوحـاً مــن المرمــر مكتوبــاً فيــه: اعلــم يــا مــن دخــل
هـــذه الـــأرض إنـــك تصيـــر سلطانـــاً علـــى هـــؤلاء القـــرود ومـــا يتأتـــى لـــك رواحـــاً مـــن عندهــــم إلا إن
رحــت مــن الــدرب الشرقــي بناحيــة الجبــل وطولــه ثلاثــة أشهــر وأنـــت سائـــر بيـــن الوحـــوش والغيلـــان
والمـردة والعفاريـت وبعـد ذلـك تنتهـي إلــى البحــر المحيــط بالدنيــا أو رحــت مــن الــدرب الغربــي وطولــه
===
أربعــة أشهــر وفــي رأســه وادي النمــل حتــى تنتهــي إلــى جبـــل عـــال وذلـــك الجبـــل يتوقـــد مثـــل النـــار
ومسيــرة عشــرة أيــام فلمــا رأى جانشـــاه ذلـــك اللـــوح. وأدرك شهـــرزاد الصبـــاح فسكتـــت عـــن الكلـــام
المباح.
وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن جانشـــاه لمـــا رأى ذلـــك اللـــوح قـــرأه ورأى فيـــه مـــا ذكرنـــاه ورأى
فـي آخـر الكلـام ثـم تنتهـي إلـى نهـر عظيـم وهــو يجــري وجريانــه يخطــف البصــر مــن شــدة عزمــه وذلــك
النهـر فـي كـل يـوم سبـت ييبـس وبجانبـه مدينـة أهلهـا كلهــم يهــود ولــد بــن محمــد جحــود مــا فيهــم مسلــم
ومــا فــي هــذه الــأرض إلا هــذه المدينــة ومــا دمــت مقيـــم عنـــد القـــرود هـــم منصـــورون علـــى الغيلـــان
واعلم أن هذا اللوح كتبه السيد سليمان بن داود عليه السلام.
فلمــا قــرأه جانشــاه بكــى بكــاء شديــداً ثــم التفــت إلــى مماليكــه وأعلمهــم بمــا هــو مكتــوب علــى اللـــوح
وبعــد ذلــك ركــب وركــب حولــه عساكــر القــرود وصــاروا فرحانيــن بالنصـــر علـــى أعدائهـــم ورجعـــوا
إلـى قلعتهـم ومكـث جانشـاه فـي القلعـة سلطانـاً علـى القــرود سنــة ونصــف ثــم بعــد ذلــك أمــر جانشــاه
عساكـــر القـــرود أن يركبـــوا للصيـــد والقنــــص فركبــــوا وركــــب معهــــم جانشــــاه ومماليكــــه وســــاروا فــــي
===
البــراري والقفـــار ولـــم يزالـــوا سائريـــن مـــن مكـــان إلـــى مكـــان حتـــى عـــرف وادي النمـــل ورأى الإمـــارة
المكتوبة في اللوح المرمر.
فلمــا رأى ذلــك أمرهــم أن ينزلـــوا فـــي ذلـــك المكـــان فنزلـــوا ونزلـــت عساكـــر القـــرود ومكثـــوا فـــي أكـــل
وشـرب مـدة عشــرة أيــام ثــم اختلــى جانشــاه بمماليكــه ليــة مــن الليالــي وقــال لهــم: إنــي أريــد أن نهــرب
ونـروح إلـى وادي النمـل ونسيــر إلــى مدينــة اليهــود لعــل اللــه ينجينــا مــن هــؤلاء القــرود ونــروح إلــى حــال
سبيلنـا فقالـوا لـه سمعـاً وطاعـة. ثـم إنــه صبــر حتــى مضــى مــن الليــل شــيء قليــل وقــام وقامــت معــه
المماليـــك وتسلحـــوا بأسلحتهـــم وحزمـــوا أوساطهـــم بالسيـــوف والخناجـــر ومـــا أشبـــه ذلـــك مـــن آلـــات
الحرب وخرج جانشاه هو ومماليكه وساروا من أول الليل إلى وقت الصبح.
فلمـا انتبـه القــرود مــن نومهــم لــم يــروا جانشــاه ولا مماليكــه فعلمــوا أنهــم هربــوا منهــم فقالمــت جماعــة مــن
القــرود وركبــوا وســاروا ناحيــة الــدرب الشرقــي وجماعــة ركبــوا وســـاروا إلـــى وادي النمـــل. فبينمـــا
القــــرود سائريــــن إذ نظــــروا جانشــــاه والمماليــــك معــــه وهــــم مقبلــــون علــــى وادي النمــــل فلمــــا رأوهـــــم
أسرعـــوا وراءهـــم فلمـــا نظرهـــم جانشــــاه هــــرب وهربــــت معــــه المماليــــك ودخلــــوا وادي النمــــل فمــــا
مضــت ساعـــة مـــن الزمـــان إلا والقـــرود قـــد هجمـــت عليهـــم وأرادوا أن يقتلـــوا جانشـــاه هـــو ومماليكـــه
وإذا هم بنمل قد خرج من تحت الأرض مثل الجراد المنتشر كل نملة منه قدر الكلب.
===
فلمـا رأى النمــل القــرود هجــم عليهــم وأكــل منهــم جماعــة وقتــل مــن النمــل جماعــة كثيــرة ولكــن حصــل
النصـر للنمــل وصــارت النملــة تأتــي إلــى القــرد وتضربــه فتقسمــه نصفيــن وصــار العشــرة قــرود يركبــون
النملــة الواحــدة ويمسكونهـــا ويقسمونهـــا نصفيـــن ووقـــع بينهـــم حـــرب عظيـــم إلـــى وقـــت المســـاء. ولمـــا
أمسـى الوقـت هـرب جانشـاه هـو والمماليـك فـي بطـن الـوادي. وأدرك شهــرزاد الصبــاح فسكتــت عــن
الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والتسعين بعد الأربعمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أنــه لمــا أقبــل المســاء هــرب جانشــاه هــو ومماليكــه فــي بطـــن الـــوادي
إلــى الصبــاح فلمــا أصبــح الصبــاح أقبــل القــرود علــى جانشــاه فلمـــا رآهـــم زعـــق علـــى مماليكـــه وقـــال
لهـم: اضربوهـم بالسيـوف فسحـب المماليــك سيوفهــم وجعلــوا يضربــون القــرود يمينــاً وشمــالاً. فتقــدم
قـرد عظيـم لـه أنيـاب مثـل أنيـاب الفيـل وأتـى إلـى واحـد مـن المماليـك وضربـه فقسمـه نصفيــن وتكاثــرت
القــرود علــى جانشــاه فهــرب إلــى أسفــل الــوادي ورأى هنــاك نهــراً عظيمــاً وبجانبـــه نمـــل عظيـــم. فلمـــا
رأى النمـل جانشــاه مقبــلاً عليــه احتــاط بــه وإذا بمملــوك ضــرب نملــة بالسيــف فقسمهــا نصفيــن. فلمــا
رأت عساكـر النمـل ذلـك تكاثـروا علـى المملـوك وقتلـوه فبينمـا هـم فـي هـذا الأمـر إذا بالقـرود قـد أقبلــوا
===
فلمـا رأى جانشـاه اندفاعهـم عليـه نــزع ثيابــه ونــزل فــي النهــر ونــزل معــه المملــوك الــذي بقــي وعامــا فــي
المــاء إلــى وســط النهــر ثــم إن جانشــاه رأى شجــرة علــى شاطــئ النهــر مــن الجهـــة الأخـــرى فمـــد يـــده
إلـى غصـن مـن أغصانهـا وتناولـه وتعلـق بـه وطلـع إلـى البـر وأمـا المملــوك فإنــه غلــب عليــه التيــار فأخــذه
وقطعـه فـي الجبـل وصـار جانشـاه واقفـاً وحـده فـي البـر يعصـر ثيابــه وينشفهــا فــي الشمــس ووقــع بيــن
القرود والنمل قتال عظيم ثم رجع القرود إلى بلادهم. هذا ما كان من أمر القرود والنمل.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر جانشــاه فإنــه صــار يبكــي إلــى وقــت المســـاء ثـــم دخـــل مغـــارة واستكـــن فيهـــا
وقـد خـاف خوفـاً شديـداً واستوحـش لفقـد مماليكــه ثــم ســار ولــم يــزل سائــراً ليالــي وأيامــاً وهــو يأكــل
مـن الأعشـاب حتـى وصـل إلـى الجبـل الـذي يتوقـد مثـل النـار. فلمــا أتــى إليــه ســار فيــه حتــى وصــل
إلـى النهـر الـذي ينشـف كـل يـوم سبــت فلمــا وصــل إليــه رآه نهــراً عظيمــاً وبجانبــه مدينــة عظيمــة وهــي
مدينــة اليهــود التــي رآهــا مكتوبــة فــي اللــوح فأقــام هنــاك إلــى أن أتــى يــوم السبـــت ونشـــف النهـــر ثـــم
مشـى مـن النهـر حتـى وصـل إلـى مدينـة اليهـود فلـم يـر فيهـا أحــداً فمشــى فيهــا حتــى وصــل إلــى بــاب
بيـت ففتحـه ودخلــه فــرأى أهلــه ساكتيــن لا يتكلمــون أبــداً فقــال لهــم: إنــي رجــل غريــب جائــع فقالــوا
لـــه بإشـــارة: كـــل واشـــرب ولا تتكلـــم فقعـــد عندهـــم وأكـــل وشـــرب ونـــام تلـــك الليلــــة فلمــــا أصبــــح
الصباح سلم عليه صاحب البيت ورحب به وقال له: من أين أنت وإلى أين رائح
===
فلمــا سمــع جانشــاه كلــام ذلــك اليهــودي بكـــى بكـــاء شديـــداً وحكـــى لـــه قصتـــه وأخبـــره بمدينـــة أبيـــه
فتعجــب اليهــودي مــن ذلــك وقــال لــه: مــا سمعنــا بهـــذه المدينـــة قـــط غيـــر أننـــا كنـــا نسمـــع مـــن قوافـــل
التجــار أن هنــاك بلــاداً تسمــى بلــاد اليمــن فقــال جانشــاه لليهــودي: هــذه البلــاد التــي تخبــر بهــا التجــار
كــم تبعــد عــن هــذا المكــان فقــال لـــه اليهـــودي: إن تجـــار تلـــك القوافـــل يزعمـــون أن مـــدة سفرهـــم مـــن
بلادهــم إلــى هنــا سنتــان وثلاثــة أشهــر فقــال جانشــاه لليهــودي: ومتــى تأتــي القافلـــة فقـــال لـــه: تأتـــي
في السنة القابلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والتسعين بعد الأربعمائة
قالـت: بلغنـي أيهــا الملــك السعيــد أن جانشــاه لمــا ســأل اليهــودي عــن مجــيء القافلــة قــال لــه: تأتــي فــي
السنـة القابلـة فلمـا سمــع جانشــاه كلامــه بكــى بكــاء شديــداً وحــزن علــى نفســه وعلــى مماليكــه وعلــى
فــراق أمــه وأبيــه وعلــى مــا جــرى لــه فــي سفــره فقــال لــه اليهـــودي: لا تبـــك يـــا شـــاب واقعـــد عندنـــا
حتى تأتي القافلة ونحن نرسلك معها إلى بلادك.
فلمـا سمـع جانشــاه ذلــك الكلــام قعــد عنــد اليهــودي مــدة شهريــن وصــار فــي كــل يــوم يخــرج إلــى أزقــة
المدينــة ويتفـــرج فيهـــا فاتفـــق أنـــه خـــرج علـــى عادتـــه يومـــاً مـــن الأيـــام ودار فـــي شـــوارع المدينـــة يمينـــاً
===
وشمــالاً فسمــع رجــلاً ينــادي ويقــول: مــن يأخــذ ألــف دينــار وجاريــة حسنــاء بديعـــة الحســـن والجمـــال
ويعمـل لــي شغــلاً مــن وقــت الصبــاح إلــى الظهــر فلــم يجبــه أحــد فلمــا سمــع جانشــاه كلــام المنــادي قــال
فـي نفسـه: لـولا أن هـذا الشغـل خطـر مـا كـان صاحبـه يعطـي ألـف دينــار وجاريــة حسنــاء فــي شغــل
من الصبح إلى الظهر ثم إن جانشاه تمشى إلى المنادي وقال له: أنا أعمل هذا الشغل.
فلمــا سمــع المنــادي مــن جانشــاه هــذا الكلــام أخــذه وأتــى بــه إلــى بيـــت التاجـــر فدخـــل هـــو وجانشـــاه
هـذا البيـت فوجـده بيتـاً عظيمــاً ووجــد هنــاك رجــلاً يهوديــاً آخــراً جالســاً علــى كرســي مــن الأبنــوس
فوقف المنادي قدامـه وقـال لـه: أيهـا التاجـر إن لـي ثلاثـة شهـور وأنـا أنـادي فـي المدينـة فلـم يجبنـي أحـد
إلا هـذا الشـاب. فلمـا سمـع التاجـر كلـام المنــادي رحــب بجانشــاه وأخــذه ودخــل بــه إلــى مكــان نفيــس
وأشـــار إلـــى عبيـــده أن يأتـــوا لـــه بالطعـــام فمـــدوا لـــه السمــــاط وأتــــوا بأنــــواع الأطعمــــة فأكــــل التاجــــر
وجانشـاه وغسـلا أيديهمـا وأتــوا بالمشــروب فشربــا ثــم إن التاجــر قــام وأتــى لجانشــاه بكيــس فيــه ألــف
دينــار وأتــى لــه بجاريــة بديعــة الحســن والجمــال وقــال لــه: خــذ هــذه الجاريــة وهـــذا المـــال فـــي الشغـــل
الــذي تعملــه فأخــذ جانشــاه الجاريــة والمــال وأجلــس الجاريــة بجانبــه وقــال لــه التاجــر: فــي غـــد اعمـــل
لنا الشغل ثم ذهب التاجر من عنده ونام جانشاه هو والجارية في تلك الليلة.
ولمـا أصبـح الصبــاح راح إلــى الحمــام فأمــر التاجــر عبيــده أن يأتــوا لــه ببدلــة مــن الحريــر فأتــوا لــه ببدلــة
===
نفيســة مــن الحريــر وصبــروا حتــى خــرج مــن الحمــام وألبســوه البدلــة وأتــوا بــه إلــى البيــت فأمــر التاجـــر
عبيــده أن يأتــوا بالجنــك والعــود والمشــروب فأتــوا إليهمــا بذلــك فشربــا ولعبــا وضحكــا إلــى أن مضــى
مـن الليـل نصفـه وبعـد ذلـك ذهـب التاجــر إلــى حريمــه ونــام جانشــاه مــع الجاريــة إلــى وقــت الصبــاح ثــم
راح إلى الحمام.
فلمــا رجــع مــن الحمــام جــاء إليــه التاجــر وقــال: إنــي أريــد أن تعمــل لنــا الشغــل فقـــال جانشـــاه: سمعـــاً
وطاعـة فأمـر التاجـر عبيـده أن يأتـوا ببغلتيـن فأتــوا ببغلتيــن فركــب بغلــة وأمــر جانشــاه أن يركــب البغلــة
الثانيــة فركبهــا ثــم إن جانشــاه والتاجــر ســارا مــن وقــت الصبــاح إلــى وقــت الظهــر حتـــى وصـــلا إلـــى
جبـل عـال مـا لـه حـد فـي العلـو فنـزل التاجـر مـن فـوق ظهـر البغلــة وأمــر جانشــاه أن ينــزل فنــزل جانشــاه
ثـم إن التاجـر نـاول جانشـاه سكينـاً وحبـلاً وقـال لــه: أريــد منــك أن تذبــح هــذه البغلــة فشمــر جانشــاه
ثيابه وأتى إلى البغلـة ووضـع الحبـل فـي أربعتهـا ورماهـا علـى الـأرض وأخـذ السكيـن وذبحهـا وسلخهـا
وقطــع أربعتهــا ورأسهــا وصــارت كـــوم لحـــم فقـــال لـــه التاجـــر: أمرتـــك أن تشـــق بطنهـــا وتدخـــل فيـــه
وأخيــط عليــك وتقعــد هنــاك ساعــة مــن الزمــان ومهمــا تــراه فـــي بطنهـــا فأخبرنـــي بـــه فشـــق جانشـــاه
بطــن البغلــة ودخلــه وخيطهــا عليــه التاجــر ثــم تركــه وبعــد عنــه. وأدرك شهــرزاد الصبـــاح فسكتـــت
عن الكلام المباح.
===
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن التاجــر لمــا خيــط بطــن البغلــة علــى جانشـــاه وتركـــه وبعـــد عنـــه
واستخفـى فـي ذيـل الجبـل بعـد ساعـة نـزل علـى البغلـة طائـر عظيـم فاختطفهـا وطـار ثــم حطهــا علــى
أعلــى الجبــل وأراد أن يأكلهــا فأحــس جانشـــاه بالطائـــر فشـــق بطـــن البغلـــة وخـــرج منهـــا فجفـــل الطائـــر
لمـا رأى جانشـاه وطــار وراح إلــى حــال سبيلــه فقــام جانشــاه علــى قدميــه وصــار ينظــر يمينــاً وشمــالاً
فلـم يـر أحـداً إلا رجــالاً يابســة مــن الشمــس فلمــا رأى ذلــك قــال فــي نفســه: لا حــول ولا قــوة إلا باللــه
العلي العظيم.
ثـم إنـه نظـر إلـى أسفـل الجبـل فـرأى التاجـر واقفـاً تحــت الجبــل ينظــر إلــى جانشــاه فلمــا رآه قــال لــه: ارم
لي من الحجارة نحو مائتي حجر وكانت الحجارة من الياقوت والزبرجد والجواهر الثمينة.
ثـم إن جانشـاه قـال للتاجـر: دلنــي علــى الطريــق وأنــا أرمــي لــك مــرة أخــرى فلــم التاجــر تلــك الحجــارة
وحملهــا علــى البغلــة التــي كــان راكبهــا وســار ولــم يـــرد لـــه جوابـــاً وبقـــي جانشـــاه فـــوق الجبـــل وحـــده
فصـار يستغيـث ويبكـي ثـم مكـث فـوق الجبــل ثلاثــة أيــام فقــام وســار فــي عــرض الجبــل مــدة شهريــن
وهـو يأكـل مـن أعشـاب الجبـل ومـا زال سائـراً حتـى وصـل فـي سيـره إلـى طـرف الجبـل فلمـا وصـل إلـى
الجبـــل رأى واديـــاً علـــى بعـــد وفيـــه أشجـــار وأثمـــار وأطيـــار تسبـــح اللــــه الواحــــد القهــــار فلمــــا أرى
جانشـاه ذلـك الـوادي فـرح فرحـاً شديـداً فقصــده ولــم يــزل ماشيــاً ساعــة مــن الزمــان حتــى وصــل إلــى
===
شــرم فــي الجبــل ينــزل منــه السيــل فنــزل منــه وســار حتـــى وصـــل إلـــى الـــوادي الـــذي رآه وهـــو علـــى
الجبــل فنــزل الــوادي وصــار يتفــرج فيــه يمينــاً وشمــالاً ومــا زال يمشــي ويتفــرج حتــى وصــل إلـــى قصـــر
عــال شاهــق فــي الهــواء فتقــرب جانشــاه مــن ذلــك القصــر حتــى وصــل إلــى بابــه فــرأى شيخــاً مليـــح
الهيئــة يلمــع وجهــه وبيــده عكــاز مــن الياقــوت وهــو واقــف علــى بــاب القصــر فتمشــى جانشــاه حتــى
قــرب منــه وسلــم عليــه فــرد عليــه السلــام ورحــب بـــه وقـــال لـــه: اجلـــس يـــا ولـــدي فجلـــس جانشـــاه
علــى بــاب ذلــك القصــر ثــم إن الشيــخ سألــه وقــال لــه: مــن أيــن أتيــت إلــى هــذه الــأرض وابـــن آدم مـــا
داسها قط وإلى أين رائح
فلمـــا سمـــع جانشـــاه كلـــام الشيـــخ بكـــى بكـــاء شديـــداً مـــن كثـــرة مـــا قاســـاه وخنقـــه البكـــاء فقـــال لـــه
الشيـخ: يـا ولـدي اتـرك البكـاء فقــد أوجعــت قلبــي ثــم قــام الشيــخ وأتــى لــه بشــيء مــن الأكــل وحطــه
قدامـه وقـال لـه: كـل مــن هــذا فأكــل جانشــاه حتــى اكتفــى وحمــد اللــه تعالــى ثــم إن الشيــخ بعــد ذلــك
سـأل جانشـاه وقـال لـه: يـا ولــدي أريــد منــك أن تحكــي لــي حكايتــك وتخبرنــي بمــا جــرى لــك فحكــى
لـه حكايتـه وأخبـره بجميـع مـا جـرى لـه مـن أول الأمــر إلــى أن وصــل إليــه فلمــا سمــع كلامــه تعجــب منــه
عجبـــاً شديـــداً فقـــال جانشـــاه للشيـــخ: أريـــد منــــك أن تخبرنــــي بصاحــــب هــــذا الــــوادي ولمــــن هــــذا
القصــر العظيــم فقــال الشيـــخ لجانشـــاه: اعلـــم يـــا ولـــدي أن هـــذا الـــوادي ومـــا فيـــه وذلـــك القصـــر ومـــا
===
حــواه للسيــد سليمــان بــن داود عليــه السلــام وأنــا اسمـــي الشيـــخ نصـــر ملـــك الطيـــو واعلـــم أن السيـــد
سليمان وكلني بهذا القصر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد الأربعمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الشيـــخ نصـــر ملـــك الطيـــور قــــال لجانشــــاه: واعلــــم أن السيــــد
سليمــان وكلنــي بهــذا القصــر وعلمنــي منطــق الطيــر وجعلنــي حاكمــاً علــى جميــع الطيـــور الذيـــن فـــي
الدنيــا وفــي كــل سنــة تأتــي الطيــور إلــى هــذا القصــر تنظــره وتــروح وهــذا سبــب قعــودي فـــي هـــذا
المكان.
فلمــا سمــع جانشــاه كلــام الشيــخ نصــر بكــى بكــاء شديــداً وقــال لــه: يــا والـــدي كيـــف تكـــون حيلتـــي
حتــى أروح إلــى بلــادي فقــال لـــه الشيـــخ: اعلـــم يـــا ولـــدي أنـــك بالقـــرب مـــن جبـــل قـــاف وليـــس لـــك
رواح مـــن هــــذا المكــــان إلا أذا أتــــت الطيــــور وأوصــــي عليــــك واحــــداً منهــــا فيوصلــــك إلــــى بلــــادك
فاقعـد عنــدي فــي هــذا المكــان وكــل واشــرب وتفــرج فــي هــذه المقاصيــر حتــى تأتــي الطيــور فقعــد
جانشـــاه عنـــد الشيـــخ نصـــر وصـــار يـــدور فـــي الـــوادي ويأكــــل مــــن تلــــك الفواكــــه ويتفــــرج ويضحــــك
===
ويلعـب ولـم يـزل مقيمـاً فـي ألـذ عيـش مـدة منالزمـان حتـى قـرب مجـيء الطيــور قــام علــى قدميــه وقــال
لجانشـاه يـا جانشـاه خـذ هـذه المفاتيـح وافتـح المقاصيــر التــي فــي هــذا القصــر وتفــرج علــى مــا فيهــا إلا
المقصــورة الفلانيــة فاحــذر أن تفتحهـــا ومتـــى خالفتنـــي وفتحتهـــا ودخلتهـــا لا يحصـــل لـــك خيـــر أبـــداً
ووصـى جانشـاه بهـذه الوصيــة وأكــد عليــه فيهــا وســار مــن عنــده لملاقــاة الطيــور فلمــا نظــرت الطيــور
الشيخ نصر أقبلت عليه وقبلت يديه جنساً بعد جنس. هذا ما كان من أمر الشيخ نصر.
وأمــا مــا كــان مــن أمــر جانشــاه فإنــه قــام علــى قدميــه وصــار سائــراً يتفــرج علــى القصــر يمينــاً وشمـــالاً
وفتـح جميـع المقاصيـر التـي فـي القصـر حتـى وصـل إلـى المقصـورة التـي حـذره الشيـخ نصــر مــن فتحهــا
فنظــر إلــى بــاب تلــك المقصـــورة فأعجبـــه ورأى عليـــه قفـــلاً مـــن الذهـــب فقـــال فـــي نفســـه: إن هـــذه
المقصــورة أحســن مــن جميــع المقاصيــر التــي فــي القصــر يــا تــرى مــا يكـــون فـــي هـــذه المقصـــورة حتـــى
منعنــي الشيــخ نصــر مــن الدخــول فيهــا فلابــد أن أدخــل هــذه المقصـــورة وأنظـــر الـــذي فيهـــا ومـــا كـــان
مقدراً على العبد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخمسمائة
===
قالـت: بلغنـي أيهـا الملـك السعيـد أن جانشــاه قــال: ومــا كــان مقــدراً علــى العبــد لابــد أن يستوفيــه ثــم
مـد يـده وفتـح المقصـورة ودخلهــا فــرأى فيهــا بحيــرة عظيمــة وبجانــب البحيــرة قصــر صغيــر وهــو مبنــي
مـــن الذهـــب والفضـــة والبلـــور وشبابيكـــه مـــن الياقـــوت ورخامــــه مــــن الزبرجــــد الأخضــــر والبلخــــش
والزمــرد واجلواهــر مرصعــة فـــي الـــأرض علـــى هيئـــة الرخـــام وفـــي وســـط ذلـــك القصـــر فسقيـــة مـــن
الذهــب ملآنــة بالمــاء وحــول تلــك الفسقيــة وحـــوش وطيـــور متنوعـــة مـــن الذهـــب والفضـــة يخـــرج مـــن
بطونهــا المــاء وإذا هــب النسيــم يدخــل فــي آذانهــا فتصفــر كـــل صـــورة بلغتهـــا وبجانـــب الفسقيـــة ليـــوان
عظيـم وعليـه تخـت عظيــم مــن الياقــوت مرصــع بالــدر والجواهــر وعلــى ذلــك التخــت خيمــة منصوبــة
مــن الحريــر الأخضــر مزركشــة بالفصــوص والمعـــادن الفاخـــرة ومقـــدار سعتهـــا خمســـون ذراعـــاً وداخـــل
تلك الخيمة مخدع فيه البساط الذي كان للسيد سليمان عليه السلام.
ورأى جانشـــاه حـــول ذلـــك القصـــر بستانـــاً عظيمـــاً وفيـــه أشجـــار وأثمـــار وأنهـــار وفـــي دائــــرة القصــــر
مـــزارع مـــن الـــورد والريحـــان والنسريـــن ومـــن كـــل مشمـــوم وإذا هبـــت الريـــاح علــــى الأشجــــار تمايلــــت
تلــك الأغصــان ورأى جانشــاه فــي ذلــك البستــان مــن جميــع الأشجــار رطبــاً ويابســاً وكـــل ذلـــك فـــي
تلــك المقصــورة. فلمــا رأى جانشــاه هــذا الأمــر تعجــب منـــه غايـــة العجـــب وصـــار يتفـــرج فـــي ذلـــك
البستـان وفـي ذلـك القصــر علــى مــا فيهمــا مــن العجائــب والغرائــب ونظــر إلــى البحيــرة فــرأى حصاهــا
===
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة بعد الخمسمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن جانشــاه رأى فــي تلــك المقصــورة شيئــاً كثيــراً فتعجــب منــه ثــم
تمشـى حتـى دخـل القصـر الـذي فـي تلـك المقصـورة وطلـع علـى التخـت المنصـوب علــى الليــوان بجانــب
الفسقيــة ودخــل الخيمــة المنصوبــة فوقــه ونــام فــي تلــك الخيمــة مــدة مــن الزمــان ثــم أفــاق وقــام يتمشــى
حتـى خـرج مــن بــاب القصــر وجلــس علــى كرســي قــدام بــاب القصــر وهــو يتعجــب مــن حســن ذلــك
المكـان فبينمـا هـو جالـس إذ أقبـل عليـه مـن الجـو ثلاثـة طيــور فــي صفــة الحمــام ثــم إن الطيــور حطــوا
بجانــب البحيــرة ولعبــوا ساعــة وبعــد ذلــك نزعـــوا مـــا عليهـــم مـــن الريـــش فصـــاروا ثلـــاث بنـــات كأنهـــن
الأقمار ليس لهن في الدنيا شبيه ثم نزلن البحيرة وسبحن فيها ولعبن وضحكن.
فلمـــا رآهـــن جانشـــاه تعجـــب مـــن حسنهـــن وجمالهـــن واعتـــدال قدودهـــن ثـــم طلعـــن إلـــى البـــر ودرن
يتفرجــن فــي البستــان فلمــا رآهــن جانشــاه طلعــن إلــى البــر كـــاد عقلـــه أن يذهـــب وقـــام علـــى قدميـــه
وتمشــى حتــى وصــل إليهــن فلمــا قــرب منهــن سلــم عليهــن فــرددن عليــه السلــام ثـــم إنـــه سألهـــن وقـــال
لهــن: مــن أنتــن أيتهــا السيــدات الفاخــرات ومــن أيــن أقبلتــن فقالــت لــه الصغيــرة: نحــن أتينــا مــن ملكـــوت
===
اللـه تعالـى لنتفـرج فـي هـذا المكـان فتعجـب مــن حسنهــن ثــم قــال للصغيــرة: ارحمينــي وتعطفــي علــي
وارثـي لحالـي ومـا جـرى لـي فـي عمـري فقالـت لـه: دع عنــك هــذا الكلــام واذهــب إلــى حــال سبيلــك
فلما سمع الكلام بكى بكاء شديداً واشتدت به الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
بدت لي في البستان بالحلل الأخضر مفككة الأزرار محلولة الشعـر
فقلت لها ما الاسم قالت أنا التي كويت قلوب العاشقين على الجمر
شكوت إليها ما ألاقي من الهوى فقالت إلى صخر شكوت ولم تدر
فقلت لها إن كان قلبك صخر فقد أنبع الله الزلال من الصخر
فلمـا سمـع البنــات هــذا الشعــر مــن جانشــاه ضحكــن ولعبــن وغنيــن وطربــن ثــم إن جانشــاه أتــى إليهــن
بشــيء مــن الفواكـــه فأكلـــن وشربـــن ونمـــن مـــع جانشـــاه تلـــك الليلـــة إلـــى الصبـــاح فلمـــا أصبـــح الصبـــاح
لبســت البنــات ثيابهــن الريــش وصــرن هيئـــة الحمـــام وطـــرن ذاهبـــات إلـــى حـــال سبيلهـــن فلمـــا رآهـــن
جانشـاه طائـرات وقـد غبـن عــن عيونــه كــاد عقلــه أن يطيــر معهــن وزعــق زعقــة عظيمــة ووقــع مغشيــاً
عليه ومكث في غشيته طوال ذلك اليوم.
فبينمـا هـو طريــح علــى الــأرض وإذا بالشيــخ نصــر قــد أتــى مــن ملاقــاة الطيــور وفتــش علــى جانشــاه
ليرسلـه مـع الطيـور ويــروح إلــى بلــاده فلــم يــره فعلــم الشيــخ نصــر أنــه دخــل المقصــورة وقــد كــان الشيــخ
===
نصـر قــد قــال للطيــور: إن عنــدي ولــداً صغيــراً جــاءت بــه المقاديــر مــن بلــاد بعيــدة إلــى هــذه الــأرض
وأريــد منكــم أن تحملــوه وتوصلــوه إلــى بلــاده فقالــوا لـــه: سمعـــاً وطاعـــة ولـــم يـــزل الشيـــخ نصـــر يفتـــش
علــى جانشــاه حتــى أتــى إلــى بــاب المقصـــورة التـــي نهـــاه عـــن فتحهـــا فوجـــده مفتوحـــاً فدخـــل فـــرأى
جانشــاه مرميــاً تحــت شجــرة وهــو مغشــي عليــه فأتــاه بشــيء مــن الميــاه العطريــة ورشـــه علـــى وجهـــه
فأفاق من غشيته وصار يلتفت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية بعد الخمسمائة
قالــت: بلغنــي أيهــا الملــك السعيــد أن الشيــخ نصــر لمــا رأى جانشــاه مرميـــاً تحـــت شجـــرة أتـــاه بشـــيء
مــن الميــاه العطريــة ورشــه علــى وجهــه فأفــاق مــن غشيتــه وصــار يلتفــت يمينــاً وشمــالاً فلــم يــر عنـــده
أحداً سوى الشيخ نصر فزادت به الحسرة وأنشد هذه الأبيات:
فبدت كبدر التم في ليلة السعد منعمـة الأطـراف ممشوقـة القـد
لها مقلة تسبي العقول بسحرها وثغر حكى الياقوت في حمرة الورد
تحدر فوق الردف أسود شعرها فإياك إياك الحباب مـن السعـد
===
وترسل سهم اللحظ من قوس حاجب يصيب ولم يخطئ ولو كان من بعد
فيا حسنها قد فاق كل ملاحة وليـس لهـا بيـن البريـة مــن نــد
فلمــا سمــع الشيــخ نصــر مــن جانشــاه هــذه الأشعــار قـــال لـــه: يـــا ولـــدي أمـــا قلـــت لـــك لا تفتـــح هـــذه
المقصـــورة ولا تدخلهـــا ولكـــن أخبنـــي يـــا ولـــدي بمـــا رأيـــت فيهـــا واحـــك لـــي حكايتـــك وعرفنـــي مـــا
جــرى لــك فحكـــى لـــه جانشـــاه حكايتـــه وأخبـــره بمـــا جـــرى لـــه مـــع الثلـــاث بنـــات وهـــو جالـــس فلمـــا
سمـع الشيـخ نصـر كلامـه قـال لـه: يـا ولــدي إن هــذه البنــات مــن بنــات الجــان وفــي كــل سنــة يأتيــن إلــى
هــذا المكــان فيلعبــن وينشرحــن إلــى وقــت العصــر ثـــم يذهبـــن إلـــى بلادهـــن فقـــال لـــه جانشـــاه: وأيـــن
بلادهن فقال له الشيخ نصر: والله يا ولدي ما أعلم أين بلادهن.
ثـم إن الشيـخ نصـر قـال لــه: قــم معــي وقــو نفســك حتــى أرسلــك إلــى بلــادك مــع الطيــور وخــل عنــك
هــذا العشــق فلمــا سمــع جانشــاه كلــام الشيــخ نصـــر صـــرخ صرخـــة عظيمـــة ووقـــع مغشيـــاً عليـــه ولمـــا
أفـاق قــال لــه: يــا والــدي أنــا لا أريــد الــرواح إلــى بلــادي حتــى أجتمــع بهــؤلاء البنــات واعلــم يــا والــدي
أنــي مــا بقيــت أذكــر أهلــي ولــو أمــوت بيــن يديــك ثــم بكــى وقـــال: أنـــا رضيـــت بـــأن أنظـــر وجـــه مـــن
عشقتها ولو في السنة مرة واحدة ثم صعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
ليت الخيال على الأحباب ما طرقا وليت هذا الهوى للناس ما خلقا
===
أصبر القلـب فـي يومـي وليلتـه وصار جسمي بنار الحب محترقا
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة بعد الخمسمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن جانشـــاه لمـــا فـــرغ مـــن شعـــره وقـــع علـــى رجلـــي الشيـــخ نصـــر
وقبلهمـا وبكـى بكـاء شديـداً وقــال لــه: ارحمنــي يرحمــك اللــه وأعيننــي علــى بلوتــي يعينــك اللــه فقــال
لـــه الشيـــخ نصـــر: يـــا ولـــدي واللـــه لا أعـــرف هـــؤلاء البنـــات ولا أدري أيـــن بلادهـــن ولكـــن يــــا ولــــدي
حيث تولعـت بإحداهـن فاقعـد عنـدي إلـى مثـل هـذا العـام لأنهـن يأتيـن فـي السنـة القابلـة فـي مثـل هـذا
اليـوم فـإذا قربـت الأيـام التـي يأتيـن فيهـا فكـن فـي البستـان تحــت شجــرة حيــن ينزلــن البحيــرة ويسبحــن
فيهـا ويلعبـن ويبعـدن عـن ثيابهـن فخـذ ثيـاب التـي تريدهـا منهـن فـإذا نظرتـك يطلعــن علــى البــر ليلبســن
ثيابهــن وتقــول لــك التــي أخــذت ثيابهــا بعذوبــة كلــام وحســن ابتســام: أعطنــي ثيابــي يـــا أخـــي حتـــى
ألبسهــا وأستتــر بهــا ومتــى قبلــت كلامهــا وأعطيتهــا ثيابهــا فإنــك لا تبلــغ مــرادك منهــا أبـــداً بـــل تلبـــس
ثيابهــا وتــروح إلــى أهلهــا ولا تنظرهــا بعــد ذلــك أبــداً فــإذا ظفــرت بثيابهــا فاحفظهــا تحــت إبطـــك ولا
تعطهــا إياهــا حتــى أرجــع مــن ملاقــاة الطيــور وأوفــق بينــك وبينهــا وأرسلــك إلــى بلــادك وهــي معـــك
===
وفي الليلة الرابعة بعد الخمسمائة
قالـــت: بلغنـــي أيهـــا الملـــك السعيـــد أن الشيـــخ نصـــر قـــال لجانشـــاه: احفــــظ ثيــــاب التــــي تريدهــــا ولا
تعطهــا إياهــا حتــى أرجــع مــن ملاقــاة الطيــور وأوفــق بينــك وبينهــا وأرسلــك إلــى بلــادك وهــذا الــذي
أقدر عليه يا ولدي لاغير.
فلمــا سمــع جانشــاه كلــام الشيــخ نصــر اطمــأن قلبــه وقعــد عنــده إلــى ثانــي عــام وصـــار يعـــد الماضـــي
مــن الأيــام التــي تأتــي الطيــور عقبهــا فلمــا جــاء ميعــاد مجــيء الطيــور أتــى الشيـــخ نصـــر إلـــى جانشـــاه
وقـال لـه: اعمـل بالوصيـة التـي أوصيتــك بهــا مــن أمــر ثيــاب البنــات فإننــي ذاهــب إلــى ملاقــاة الطيــور
فقــال جانشــاه: سمعــاً وطاعـــة لأمـــرك يـــا والـــدي ثـــم ذهـــب الشيـــخ نصـــر إلـــى ملاقـــاة الطيـــور وبعـــد
ذهابــه قــام جانشــاه وتمشــى حتــى دخــل البستــان واختفــى تحــت شجــرة بحيـــث لا يـــراه أحـــد وقعـــد
أول يـوم وثانـي يـوم وثالـث يـوم فلــم يأتيــن إليــه البنــات فقلــق وصــار فــي بكــاء وأنيــن ناشــيء عــن قلــب
حزيـن ولـم يـزل يبكــي حتــى أغمــي عليــه ثــم بعــد ساعــة أفــاق وجعــل ينظــر تــارة إلــى السمــاء وتــارة
ينظــر إلــى الــأرض وتــارة ينظــر إلــى البحيــرة وتـــارة ينظـــر إلـــى البـــر وقلبـــه يرتجـــف مـــن شـــدة العشـــق
فبينمـا هـو علـى هــذه الحالــة إذ أقبــل عليــه مــن الجــو ثلــاث طيــور فــي صفــة الحمــام ولكــن كــل حمامــة
===
قــدر النســر ثــم إنهــن نزلــن بجانــب البحيــرة وتلفتـــن يمينـــاً وشمـــالاً فلـــم يريـــن أحـــداً مـــن الإنـــس ولا مـــن
الجــن فنزعــن ثيابهــن ونزلــن البحيــرة وصــرن يلعبــن ويضحكــن وينشرحــن وهــن كسبائــك الفضـــة ثـــم إن
الكبيــرة منهــن قالــت لهــن: أخشــى يـــا أخواتـــي أن يكـــون أحـــداً مختفيـــاً لنـــا فـــي هـــذا القصـــر فقالـــت
الوسطـــى منهـــن: يـــا أختـــي إن هـــذا القصـــر مــــن عهــــد سليمــــان مــــا دخلــــه إنــــس ولا جــــان فقالــــت
الصغيـرة منهـن وهـي تضحـك: واللـه يـا أخواتـي إن كـان أحـد مختفيـاً فـي هـذا المكــان فإنــه لا يأخــذ إلا
أنــا ثـــم إنهـــن لعبـــن وضحكـــن وقلـــب جانشـــاه يرتجـــف مـــن فـــرط الغـــرام وهـــو مختـــف تحـــت الشجـــرة
ينظر وهن لا ينظرنه ثم إنهن سبحن في الماء حتى وصلن إلى وسط البحيرة وبعدن عن ثيابهن.
فقــام جانشــاه علــى قدميــه وهــو يجــري كالبـــرق الخاطـــف وأخـــذ ثيـــاب البنـــت الصغيـــرة وهـــي التـــي
تعلــق قلبــه بهــا وكــان اسمهــا شمســة فلمــا التفتــت رأت جانــاه فارتجفــت قلوبهـــن واستتـــرن منـــه بالمـــاء
وأتيـن إلـى قـرب البـر ثـم نظـرن إلـى وجـه جانشـاه فرأينـه كأنــه البــدر فــي ليلــة تمامــه فقلــن لــه: مــن أنــت
وكيـــف أتيـــت إلـــى هـــذا المكـــان وأخـــذت ثيـــاب السيـــدة شمســـة فقـــال لهـــن: تعاليـــن عنـــدي حتــــى
أحكـي لـك حكايتــي وأخبــرك بمــا جــرى لــي وأعلمــك بسبــب معرفتــي بــك فقالــت: يــا سيــدي وقــرة
عينــي وثمــرة فــؤادي أعطنــي ثيابــي حتــى ألبسهــا وأستتــر بهــا وأطلـــع عنـــدك فقـــال لهـــا جانشـــاه: يـــا
سيــدة الملــاح مــا يمكــن أن أعطيـــك ثيابـــك وأقتـــل نفـــس مـــن الغـــرام فـــلا أعطيـــك إلا إذا أتـــى الشيـــخ
===
نصــر ملــك الطيــور فلمــا سمعــت السيــدة شمســة كلــام جانشــاه قالــت لــه: إن كنــت لا تعطينــي ثيابـــي
فتأخــر عنــا قليــلاً حتــى يطلــع أخواتــي إلـــى البـــر ويلبســـن ثيابهـــن ويعطيننـــي شيئـــاً أستتـــر بـــه فقـــال
جانشاه: سمعاً وطاعة.
ثــم تمشــى مــن عندهــن إلــى القصــر ودخلــه فطلعــت السيــدة شمســة هــي وأخواتهــا إلـــى البـــر ولبســـن
ثيابهـن ثـم إن أخـت السيــدة شمســة الكبيــرة أعطتهــا ثيابــاً مــن ثيابهــن لا يمكنهــا الطيــران بهــا وألبستهــا
إياهـــا ثـــم قامـــت السيـــدة شمســـة وهـــي كالبـــدر الطالـــع والغـــزال الرائـــع وتمشـــت حتـــى وصلـــت إلـــى
جانشــاه فرأتــه جالســاً فــوق التخــت فسلمــت عليــه وجلســت قريبــاً منــه وقالــت لـــه: يـــا مليـــح الوجـــه
أنت الذي قتلتني وقتلت نفسك ولكن أخبرنا بما جرى لك حتى ننظر ما خبرك.
فلمــا سمــع جانشـــاه كلـــام السيـــدة شمســـة بكـــى حتـــى بـــل ثيابـــه مـــن دموعـــه فلمـــا علمـــت أنـــه مغـــرم
بحبهــا قامــت علــى قدميهــا وأخذتــه مــن يــده وأجلستــه بجانبهــا ومسحــت دموعــه بكمهـــا وقالـــت لـــه:
يـا مليـح الوجـه دع عنـك هـذا البكـاء واحـك لـي مــا جــرى لــك فحكــى لهــا مــا جــرى لــه وأخبرهــا بمــا
رآه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.